أجوبة على استشكالات للدكتور محمد سعيد البوطي

من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى فضيلة الأخ المكرم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد تأملت ما ذكرتم في رسالتيكم المؤرختين في 20 ربيع الآخر سنة 1406 هـ، وفي 7 / 6 / 1406 هـ، وقد سرني كثيرا حرصكم على البحث عن الحق الذي هو ضالة المؤمن، ولا شك أن الحق لا يرتبط بالمذهبية، كما أنه لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به.
أما الملاحظات التي استشكلتموها وهي:
(الملاحظة الأولى):
ما ذكرتم في (ص 144) من الكتاب وهو: (لا مانع من أن نلتمس منهم البركة والخير) وقصدكم بذلك أحمد البدوي وأحمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وأمثالهم، وقد أشكل عليكم أن يكون هذا من الشرك الأكبر وذكرتم ما فعلته أم سليم وأم سلمة وأبو أيوب الأنصاري من التماس البركة في جسد النبي، ولا شك أن هذا تبرك خاص بالنبي ﷺ ولا يقاس عليه غيره؛ لأمرين:
الأول: ما جعله الله سبحانه في جسده وشعره من البركة التي لا يلحقه فيها غيره.
الثاني: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يفعلوا ذلك مع غيره كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من كبار الصحابة، ولو كان غيره يقاس عليه لفعله الصحابة مع كبارهم الذين ثبت أنهم من أولياء الله المتقين بشهادة النبي ﷺ لهم بالجنة، وهذا يكفي، دليلا على ولايتهم وصدقهم.
وقد اجتمعت الأمة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر -رضي الله عنه، كما أن من عقيدة أهل السنة والجماعة عدم الشهادة لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له النبي - ﷺ، لأنهم لا يعلمون حقيقة أمره وخاتمة عمله، وما دام لا يدري ما يفعل الله به كيف يطلب منه البركة والخير؟! كما أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يفعلوا ذلك مع النبي ﷺ بعد وفاته مع أنه سيد ولد آدم وجاء بالخير كله من الله سبحانه.
ولمزيد الفائدة أذكر بعض ما قاله أهل العلم في هذه المسألة، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله في " فتح المجيد ": (وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه: منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي ﷺ لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وقد شهد لهم رسول الله ﷺ فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة ولا فعله التابعون مع سادتهم في العلم والدين وهم الأسوة، فلا يجوز أن يقاس على رسول الله ﷺ أحد من الأمة، وللنبي ﷺ في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره، ومنها: أن في المنع من ذلك سدًّا لذريعة الشرك كما لا يخفى). اهـ.
ولا شك أن الشرك خطره عظيم والنفوس ضعيفة والشيطان حريص على التلبيس عليها وجرها إلى الشرك كما ذكر الله سبحانه ذلك عنه في آيات كثيرة، ولذلك دعا إبراهيم -عليه السلام- ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام لما يعلم من عظيم خطره ودقته وضعف النفس أو غفلتها، وأنه يحبط العمل مع أن الله سبحانه برأه منه وشهد له بالإخلاص واتخذه خليلا واختار ملته لهذه الأمة وهي إخلاص العبادة لله وحده والبراءة من الشرك بأنواعه، كما أن الشرك أول ما نشأ في قوم نوح -عليه السلام- هو بسبب التبرك بالصالحين، ففي صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله سبحانه: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا الآية [نوح:23] قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت).
وقد روى الترمذي رحمه الله وغيره بسند صحيح من حديث أبي واقد الليثي قال: (خرجنا مع رسول الله ﷺ قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي ﷺ: الله أكبر إنها السنن قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] لتركبن سنن من كان قبلكم قال ابن القيم -رحمه الله- في تعليقه على هذا الحديث في كتابه "إغاثة اللهفان": (فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون) انتهى بحروفه. وهذا هو الأصل الأصيل في منع التبرك بالمخلوقات إلا ما استثناه الشارع - ومن ذلك التبرك بشعر النبي ﷺ وعرقه وغيرهما مما مس جسده استثناء - من هذا.
وقد سمى الله سبحانه وتعالى الذين يطيعون من جادلهم من أهل الباطل في حل ما لم يذكر اسم الله عليه مشركين وذلك في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] وليس هذا عبادة لهم ولا دعاء لهم من دون الله ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم الله فكانوا بذلك من المشركين، فكيف بمن يرجو البركة من الأموات ويدعوهم من دون الله أو مع الله سبحانه، والمقصود أن الشرك بالله أمره عظيم وخطره جسيم ولذلك جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة إليه من أي باب، مثل: نهي النبي ﷺ عن الصلاة في المقبرة، وشد الرحال لزيارة المقابر، وتجصيص القبور واتخاذها عيدا - أي زيارتها في أوقات محددة متكررة كما يتكرر العيد - واتخاذ السرج عليها إلى غير ذلك.
(الملاحظة الثانية): أما ما يتعلق بعلم الغيب فلا شك أن المراقبين حين انتقدوا ما ذكره فضيلتكم عن الغيب لم يكن لهم هوى أو قصد سيئ، لأنا نعلم نزاهتهم -بحمد الله- وبعدهم عن أن يقصدوا أحدا بضرر أو سوء ظن وإنما هو ظاهر عبارتكم حين قلتم ما نصه: (فلنلاحظ كيف أن القرآن سلب الإنسان الوصول إلى مفاتح الغيب، ولكنه لم يسلب عنه معرفة الغيب ذاته) إلخ، ولم توضحوا بعد ذلك أن الغيب في الجملة علمه إلى الله وحده، وإنما الإنسان يستخرج بعض الغيب بالطرق التي أباحها الله كالتنقيب عن كنوز الأرض، وما في البحار، وكالحساب للكسوفات ونحوها حتى تبرءوا مما نسبه إليكم المراقبون، ولا يخفى أن الله سبحانه كما أنه جعل مفاتح الغيب عنده نفى علم الغيب عن غيره فقال سبحانه في سورة النمل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65] وقال عز وجل في آخر سورة هود: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123] فاتضح من الآيتين وما جاء في معناهما في الكتاب والسنة أن علم الغيب على الإطلاق إلى الله وحده، وإنما يعلم منه ما نص عليه الكتاب العزيز أو صحت به السنة أو استخرجه الإنسان في الطرق التي علمه إياها مولاه سبحانه وهداه إليها مما وقع في هذا العصر أو قبله ومما سيقع في المستقبل مما لا يعلمه الناس اليوم، فأرجو تأمل ما ذكرته لكم ليتضح لكم خطأ عبارتكم ودلالتها على ما ذكره المراقبون، ولعلكم في المستقبل توضحون ما يزيل الشك ويوضح الحق، والهدف هو التناصح والتعاون على الخير والتحذير مما يخالف الكتاب والسنة، والحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها.
وأما ما ذكرتم عن الفناء بشهود المكون عن الأكوان، وما نقلتموه عن شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك من ذم هذه الحال لكنها لا تصل إلى الكفر البواح فقد فهمته، ولكن ما ذكرته الرقابة في ذلك من أنه كفر بواح وجيه وصحيح إذا كان الفاني معه عقله ونطق بمثل ما نقل عن أبي يزيد البسطامي (ما في الجبة إلا الله) وكقول بعضهم: (أنا الحق أو سبحاني)، أما إذا كان الناطق لمثل هذان محكوما عليه بزوال العقل كما أشار إليه أبو العباس بما نقلتم عنه فإن عذره وجيه لرفع القلم عن من زال عقله. وقد ذكر هذا المعنى العلامة ابن القيم رحمه الله في المجلد الأول من " مدارج السالكين " من ص 155 إلى 158، وأسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه والبصيرة في حقه وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه خير مسئول.
وأما ما أشرتم إليه من جهة الاحتفال بالموالد، وأنه لا شك أنها بدعة إذا فهمت أنها عبادة... إلخ فأقول: لا ريب أن المقيمين لحفلات الموالد يعتقدون أنها عبادة ويتقربون إلى الله بذلك، وبذلك يعلم أنها بدعة بلا شك. لأن المصطفى ﷺ لم يفعلها ولم يأذن فيها ولم يقرها ولم يفعلها أصحابه -رضي الله عنهم- وهم خير القرون وأكمل الناس حبا لرسول الله ﷺ وأعلم الناس بالشرع المطهر، وهكذا من بعدهم في القرون المفضلة، هذا لو سلمت من المنكرات الأخرى وأنى لها السلامة مع ما غلب على أكثر النفوس من الجهل والغلو، وقد يقع فيها من الشرك الأكبر وكبائر الذنوب ما لا يخفى على مثلكم. ولو فرضنا أن المحتفلين بالموالد لم يقصدوا بها القربة فإنها بذلك تعتبر تشبها باليهود والنصارى في إقامة الأعياد لأنبيائهم وعظمائهم، والتشبه بهم ممنوع بالنص والإجماع كما أوضح ذلك أبو العباس ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لا عملا بالأحاديث الصحيحة ومنها: ما خرجه الإمام أحمد بسند جيد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: من تشبه بقوم فهو منهم فأرجو تدبر هذا الموضوع كثيرا طلبا للحق وحرصا على براءة الذمة، وحذرا من الوقوع فيما حرمه الله. والله المستعان.
أما دراسة سيرته ﷺ في المدارس والمعاهد والكليات وفي الخطب فلا بأس بذلك بل ذلك من القربات ومن نشر العلم، وهكذا وعظ الناس وتذكيرهم بسيرته وسنته بين وقت وآخر كل ذلك مما يعلم من الدين بالضرورة أنه مطلوب ومشروع، رزقني الله وإياكم وسائر إخواننا المزيد من العلم النافع والعمل الصالح مع حسن الفهم عن الله وعن رسوله ﷺ إنه خير مسئول.
 خاتمة:
اطلعت على الفصل الذي أشرتم إليه في رسالتكم وقرأته بتدبر فوجدته فصلا مفيدا نافعا، ضاعف الله مثوبتكم وزادني وإياكم من العلم والهدى وقد لاحظت عليه بالإضافة إلى ما سبق ما يلي:
  1. قلتم في ص 218 (وقد أجمعت الأمة على أن الإكثار من الصلاة على سيدنا محمد خير جلاء للقلب وأفضل طهور للنفس) إلخ، اهـ هذا القول فيه نظر، ولو قلت: (على أن الإكثار من الصلاة على سيدنا محمد ﷺ من خير جلاء للقلب ومن أفضل طهور للنفس) إلخ لكان أولى، أما كون ذلك (خير جلاء) فلا يظهر لي وجهه، والصواب: أن خير جلاء للقلوب هو ذكر الله سبحانه وتلاوة كتابه الكريم، وإذا انضم إلى ذلك الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ كان خيرا إلى خير، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وقوله ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله ... الحديث، رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم، وهكذا حديث عبدالله بن عمرو: ... وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله .. الحديث، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وإنما القصد الإشارة والتذكير.
  2. قولكم في الهامش ص 219 ذكر ابن حجر الهيثمي في كتابه: "الدر المنضود" نقلا عن بعض أهل العلم: (أن المسلم إذا فقد المرشد الكامل ...) إلخ. ليس بجيد بل وليس بصحيح، فإن الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ لا يغني عن طلب العلم، بل ولا الإكثار من ذكر الله لا يغني عن طلب العلم، فالواجب على من فقد المرشد أن لا يخضع للكسل وترك طلب العلم بل يجب عليه أن يطلب العلم من مظانه مع الإكثار من ذكر الله والصلاة على النبي ﷺ، لأن الله سبحانه يعينه بهذا الإكثار على تحصيل المطلوب، وسبق أن نبهنا أنه ليس هناك مرشد كامل على الحقيقة سوى الرسل -عليهم الصلاة والسلام، بل كل عالم وكل داع إلى الله لا بد فيه من نقص والله المستعان، وبهذا يعلم فضيلتكم أن الأولى حذف هذا التعليق.
  3. يظهر من سياق كلامكم في (ص 220) التعليق: وهو: (قلت لواحد من هؤلاء بعد أن انتهينا ذات ليلة من صلاة التراويح فلندع الله في ختام صلاتنا هذه...) إلخ، أنكم أردتم الدعاء الجماعي ولهذا رفض ذلك الشخص الذي أشرتم إليه، والذي يظهر لي أن الصواب معه في هذا الشيء، لأنه لم يحفظ عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم فيما أعلم أنهم دعوا بعد الصلوات الخمس أو بعد التراويح دعاء جماعيا. أما الدعاء بين العبد وبين ربه بعد صلاته أو في آخر التحيات قبل السلام فهذا مما جاءت به السنة، ولكنه قبل السلام أفضل، لكثرة الأحاديث في ذلك كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم -رحمة الله عليهما- والدعاء الذي ذكرتم عن سعد أخبر -رضي الله عنه- أن الرسول ﷺ كان يدعو به في دبر كل صلاة فيحتمل أنه كان قبل السلام ويحتمل أنه بعد السلام، وعلى كل حال فليس فيه حجة على الدعاء الجماعي، فأرجو تدبر الموضوع ومراجعة كلام أهل العلم في ذلك.
هذا ما تيسر لي من الجواب عما أشكل عليكم رغم كثرة المشاغل وضيق الوقت.
وأسأل الله أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، إنه خير مسئول[1].

  1. صدرت من مكتب سماحته بالرياض في 26/ 11/ 1406هـ برقم 3127/ 1. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 353).