شروط المفتي والأخلاق التي يجب أن يتصف بها

ولا ريب أن المقام يحتاج إلى أهلية وبصيرة بما قاله الله ورسوله، وبما قاله أهل العلم، وأوضحوه، وبينوه، وبالآثار الواردة عن الصحابة ، وعن غيرهم من التابعين وأتباعهم، وعن علم واسع بالقياس، حتى يصير إليه عند الضرورة، وقد قال أحمد رحمه الله وغيره من أهل العلم: إن من شرائط الفتوى أن يكون المفتي على علم وبصيرة بأحكام الله وشرعه حتى لا يقول على الله بغير علم، وأن تكون له نية صالحة، وألا يكون ذلك عن رياء ولا سمعة، ولا طلب حمد الناس وثنائهم، ولا لطلب الدنيا، ولكن تكون له نية صالحة حتى يكون له نور، وعلى كلامه نور، وعلى ما يقوله نور، وقال أحمد رحمه الله: ينبغي أن يتخلق المفتي بصفات خمس، وهذا يؤخذ من كلام غيره أيضًا من أهل العلم، وهي: أن يكون ذا نية صالحة، وإخلاص لله في فتواه، وتحر للحق. الثانية: أن يكون لديه علم وأهلية بأحكام الله ، فمن كانت بضاعته مزجاة فليس له أن يفتي، وليس له أن يضل الناس، بل يجب عليه أن يتبصر، وأن يعنى بكلام الله، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ينظر في كلام أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم حتى تكون فتواه عن أساس متين، وعلى صراط مستقيم، وسبق الحديث المشهور المرسل: «أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار»، فلا بد من علم من أعظم الشرائط العلم، ومن أعظم الأخلاق التي يتخلق بها المفتي العلم والبصيرة، وأن يكون لديه معلومات كافية من كلام الله وكلام رسوله، حتى يستطيع أن يفتي الناس وأن يوجه الناس إلى الخير،  وأن يعلمهم أحكام الله عز وجل، ومعلوم أن من أهم الشرائط أن يكون ذا علم بأصول الفقه، ومصطلح الحديث، حتى يعرف كيف يجمع بين الأدلة عند التعارض، فإن الأدلة قد تشتبه على المفتي والحاكم، فيحتاج الحاكم والمفتي إلى أن يجمع بينها، فتارة يمكن الجمع وتارة لا يمكن الجمع، وماذا يفعل ومعلوم ما ذكره العلماء في هذا، وأن الواجب عند اختلاف الأدلة أن ينظر أولًا في الجمع، فإن أمكن الجمع بحمل العام على الخاص أو المطلق على المقيد أو غير هذا، من وجوه الجمع تعين ذلك، فإن لم يتيسر ذلك نظر في التاريخ هل نسخ المتقدم بالمتأخر، فإن لم يعلم التاريخ ولم تتوافر شروط النسخ نظر في الترجيح، ولا بد من العلم بوجوه، فإن لم يتيسر ذلك انتقل إلى الحال الرابعة وهي: التوقف حتى يتضح له أحد الأمور الثلاثة السابقة من جمع أو نسخ أو ترجيح، وهذا المقام يحتاج إلى علم واسع وبصيرة، حتى يتمكن من الجمع أو النسخ أو الترجيح.

قال: والأمر الثالث قال رحمة الله عليه: الأمر الثالث الحلم والصبر والتحمل، فالمفتي يحتاج إلى هذا كما يحتاجه القاضي، يحتاج إلى حلم ورفق وصبر وتحمل، حتى لا يغضب وحتى لا يتأذى بالناس، ويتبرم بالناس.

قال وهناك أمر رابع وهو: أن تكون له كافية لأن المقام يحتاج إلى تفرغ وإلى عناية، فلا بد من كفاية من بيت المال، أو من كسب له يقوم بحاله حتى يستغني عن الناس، وحتى لا يحتاج إلى الناس، فإنه قد يحتاج إلى الناس، وقد تحمله الحاجة إلى أن يميل إلى من أحسن إليه، وإلى أن يفتيه بما يناسبه فيهلك، فلا بد من كفاية تغنيه عن الناس، وتعينه على التفرغ بالنظر في أحكام الله، والاجتهاد في إصدار الفتوى على الوجه الذي يرضي الله، ويوافق منهجه وشرعه المطهر، وهذا الشرط الرابع؛ هذا الخلق الرابع، قد يحصل للمؤمن من أي جهة من بيت المال، من وقف من وصية من كسب له يعينه الله عليه، من إنفاق والد أو ولد إلى غير هذا، وقد يقوم به أهل البلد وأهل القرية ويتبرعون بذلك، فلا يترتب عليه خطر لأنهم فيه سواء، وبكل حال ينبغي أن يكون له ما يغنيه عن الحاجة إلى الناس بأي طريقة ممكنة، من بيت المال أو من الأوقاف التي على أمثاله، أو من كسب يقوم به أو غير ذلك من الجهات التي تغنيه عن الحاجة إلى الناس، ولاسيما ما قد يحمله على التساهل بالنسبة إلى بعض من يهدي إليه.

قالوا وهناك أمر خامس مهم، ينبغي أن يكون من خلقه ومن صفته، وأن يعنى به، وهو أن يكون بصيرًا بأحوال الناس، عارفًا بلغاتهم وأعرافهم واصطلاحاتهم، حذرًا من خداعهم ومكرهم، له دراية تامة بما هم عليه من أخلاق وأعمال وأعراف وحيل ومكر وغير ذلك، حتى لا يخدع وحتى لا يلبس عليه أمر الاستفتاء، فالبصيرة بالناس لها شأن عظيم، ومعلوم أن الفتوى تختلف وتتغير بحسب أحوال الناس وأعرافهم واصطلاحاتهم، فمن أخذ الفتوى من الكتب وأفتى على غير بصيرة بأحوال الناس غلط كثيرًا، وأخطأ كثيرًا، وقد نبه ابن القيم رحمه الله في كتابه الإعلام على هذا المعنى، ونبه غيره، فمن الأوصاف التي ينبغي أن يتخلق بها المفتي، بل يجب أن يكون بصيرًا بها علمه بأحوال الناس، علمه بأحوال مجتمعه وأعرافهم واصطلاحاتهم وما هم عليه من ديانة واستقامة أو ضد ذلك، حتى يتحرز في فتواه، وحتى يتثبت في فتواه، وحتى يتبصر في معاني ألفاظهم، وحتى يسألهم عن مرادهم، ويسأل غيرهم ممن له دراية بأعراف البلاد واصطلاحاتهم فيما يقولون وما يعملون، ومعلوم أن المفتي والحاكم والمدرس والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى الله يحتاج إلى هذه الأمور حتى تكون كلماته في محلها، وإنكاره في محله، وقضاؤه في محله، وفتاواه في محله، وقد يصطلح بعض الناس على ألفاظ تدل على معنى مغاير كثيرًا إلى المعنى الذي في الألفاظ الشرعية والألفاظ المعروفة في لغة العرب، فيغلط كثيرًا ممن يعتمد على الألفاظ الشرعية، ويطبقها على هؤلاء الذين لهم عرف آخر، ولهم اصطلاحات أخرى، وهكذا الألفاظ اللغوية، المقصود أن هذا الأمر عظيم جدًا وخطير جدًا بالنسبة إلى المفتي وغيره، المفتي والحاكم والمدرس والداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومعلم الأولاد إلى غير ذلك.