أثر تطبيق الحدود على الفرد والمجتمع

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فقد سمعنا جميعًا هذه المحاضرة القيمة، وما تقدمها من التنبيه على فضل الاجتماع في بيوت الله؛ لتلاوة القرآن الكريم، ومدارسته، والاستفادة مما دل عليه، وكان موضوع المحاضرة أثر تطبيق الحدود في الفرد والمجتمع، ولقد أحسن فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الفريان في هذه المحاضرة وأجاد وأفاد، وبين الكثير من آثار تطبيق الحدود الشرعية وفوائدها العظيمة للفرد والمجتمع، فجزاه الله خيرًا، وضاعف مثوبته، وزادنا وإياكم وإياه علمًا وهدى وتوفيقًا.

لا ريب أن الأمر كما قال فضيلته، والله إنما شرع إقامة الحدود والتعزيرات الشرعية إنما شرعها لحكم عظيمة وفوائد جمة وعواقب حميدة لعباده للمكلف، ويتبع ذلك انتفاع غير المكلف، حتى الحيوانات، فإن بتطبيق الشريعة يحصل الأمن والخير وصلاح القلوب وانتشار الخير وكثرة النعم في الأرض، فيحصل بذلك انتفاع الجميع -المكلفين وغير المكلفين-، ويحصل بذلك أيضًا الدعوة إلى دين الله، وتوجيه العالم إلى الإسلام لما فيه من الخير العظيم لمن اعتنقه واستقام عليه ونفذ أوامره وانتهى عن نواهيه، فالكفار إذا رأوا آثار تطبيق الشريعة وفوائد ذلك رغبوا في الإسلام وعرفوا عظمته، عرفوا المصالح التي تترتب على دخولهم فيه إذا كانوا ليسوا أصحاب هوى ولا عناد، أما المعاند والضال على بصيرة فهذا لا حيلة فيه -نسأل الله العافية-؛ كما قال الله في كتابه العظيم: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس:96-97]، نسأل الله العافية.

لكن طالب الحق والجاهل الذي يريد الخير إذا رأى حال المسلمين المطبقين للشريعة المطبقين لأحكامها المطبقين لحدودها إذا رأى صلاحهم واستقامتهم وما عندهم من الخير والأمن والتعاون والتكاتف في كل خير وضد كل باطل إذا رأى ذلك انفتح قلبه للإسلام وبادر بالدخول فيه، كان في صدر الإسلام آمنت أمم بسبب ما ترى من حال المسلمين وصدقهم وإخلاصهم وحسن أخلاقهم وحسن معاملتهم، فعندما رأوا ذلك بادروا بالدخول في الإسلام من دون قتال ولا دعاة بالقول، بل بمجرد الفعل، لما رأوا أعمالهم وهم لا يفهمون لغاتهم، ولكن لما رأوا حالهم الحسنة وصدقهم في المعاملة وإخلاصهم وقيامهم بشرائع دينهم رأوا العجب العجاب، وهذا واقع في دول كثيرة وأقاليم كثيرة دخل الكثير من أهلها في الإسلام لما رأوا من حال المسلمين من التجار الذين عندهم وغيرهم ممن سار إليهم وممن اتصل بهم، فكيف بحال المسلمين في بلادهم إذا طبقوا الشريعة؟ ينشأ أولادهم على الإسلام، ويعرفون ثمراته ومصالحه وفوائده، وتطمئن قلوبهم لذلك، ويزداد إيمانهم وتقواهم، وينشطون في المبادرة والمسارعة إلى كل ما يرضي الله ويقرب لديه.

فالواجب على ولاة الأمور من الأمراء والعلماء والأعيان وشيوخ القبائل وكل من له كلمة وعلى كل من له نشاط في تطبيق الإسلام وتطبيق الحدود أن يبذل ما يستطاع في ذلك، وأن يهتم بهذا الأمر، وأن يعلم أن الخير كل الخير في ذلك، وأنه لا يردع السفيه والمجرم وضعيف الإيمان إلا الله سبحانه، ثم الوازع السلطاني؛ لأن الوازع الإيماني ضعيف في القلوب إلا من شاء الله،  فإذا جاء الوازع السلطاني ارتدع الفاسق وارتدع الكافر وقوي الإيمان في القلوب وزاد ونما، اشتهر عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وجاء ذلك أيضًا عن عمر ، والمعنى صحيح، فإن الكثير من الناس لا تهمهم مسألة النار، وربما لم يؤمنوا بها، وكثير من الناس لا يؤثر فيهم الوعظ والتذكير والترهيب والترغيب، لكن متى علموا أنهم متى فعلوا هذا الشيء جلدوا أو قتلوا أو قطعت أيديهم ارتدعوا خوفًا من الوازع، لا من الله، وربما هداهم الله بعد ذلك، ودخل الإيمان في قلوبهم، وانتفعوا بعد ذلك، ولهذا شرع الله الحدود الرادعة؛ لأنه أعلم بخلقه من الناس، هو أعلم بخلقه، وأعلم بمصالحهم، وأعلم بما ينفعهم، وبما يردعهم عن الباطل، وبما يعينهم على الخير، وأعلم بعباده ومصالحهم.

ومن محاسن الشريعة: أن شرع الله فيها إقامة الحدود، ومن رحمة الله لعباده أن شرع لذلك إقامة الحدود، فالسارق يقطع، وقطاع الطريق يقتلون، أو يصلبون، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، والقاتل يقتل إلا أن يعفو صاحب الحق، والذي يتعدى على الناس بلسانه ويقذفهم بالفواحش يجلد ثمانين جلدة حد القاذف؛ حتى يرتدع الناس، حتى يمسكوا ألسنتهم عن الوقوع في أعراض الناس، والذي يتعاطى ما يفسد عقله من المسكرات يقام عليه الحد؛ حفظًا لعقله وحفظًا لدينه، فيجلد ردعا له عن هذه الجريمة التي تفسد عقله، وترض المجتمع فردًا وجماعة، فالمسكرات لها خطر عظيم وشر كبير في إفساد الناس، فمن رحمة الله أن حرمها، ومن رحمة الله أن جعل فيها العقوبة، فالتساهل بها ممن له قدرة جريمة عظيمة وخطر كبير.

ولما أخلت الحكومات المنتسبة للإسلام بهذا الأصل الأصيل انتشر في بلادها الشر والفساد، والشرك بالله، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، وانتشار الفساد في الأرض جهرة بدون مبالاة، وهذا غير مستنكر؛ لأن الناس إذا أهملوا وصاروا كالبهائم ليس لهم رادع عثوا في الأرض فسادًا، وأظهروا المنكر، وسعوا وراء تحصيل شهواتهم بكل ما يستطيعون؛ لما يغلب عليهم من الجهل، وقلة النظر في العواقب، وقلة البصيرة في الدين، فلهذا تقع منهم المنكرات والشرور، ويفسدون في الأرض بجميع أنواع الفساد، والله يقول سبحانه: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف:56].

قال كثير من السلف: إصلاحها ببعث النبي عليه الصلاة والسلام، فالله أصلحها ببعثه ﷺ، وما نشر من الدين، وما جاء به من الهدى، هذا صلاح الأرض، طاعة الله ورسوله ونشر دين الله وإقامة أمر الله والكف عن محارم الله وجهاد من خالف ذلك هذا هو صلاحها، فمن أراد إظهار الشر في الأرض فقد سعى فيها فسادًا، إما بفعله، وإما بقوله، وإما بعدم قيامه بما يردع عن ذلك وهو قادر، ولهذا يقول : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، ليس هناك حكم أحسن من حكم الله .

وكما سمعتم أن المعاصي قسمان: قسم له حدود عاجلة في الدنيا مقدرة؛ كالزنا والخمر والسرقة واللواط فإن الصحيح أن صاحبه حده القتل، اللواط هو إتيان الذكور، الذي عليه المحققون من أهل العلم وقامت عليه الأدلة أن اللائط يقتل والملوط يقتل، كلاهما يقتل إذا كانا مكلفين، وثبت ذلك بالإقرار والبينة، هذه حدود مقدرة. أما المعاصي الأخرى ففيها اجتهاد، ولي الأمر عليه أن يجتهد ويعاقب بما يراه رادعًا؛ كالعقوق للوالدين أو أحدهما يعاقب الولد على العقوق بما يراه ولي الأمر الأمير أو الحاكم الشرعي بما يردع الولد عن عقوقه، وهكذا آكل الربا، والمعامل بالربا، وهكذا من عرف بالغيبة والنميمة، وهكذا بقية المعاصي؛ كالتأخر عن صلاة الجماعة، والإفطار في رمضان بغير عذر، والتأخر عن حج الفريضة بدون عذر، وما أشبه ذلك، فيها العقوبات الرادعة التي يراها ولي الأمر، إما بنفسه، وإما بتفويض ذلك إلى مجلس من العلماء أو إلى المحاكم الشرعية حتى تقدر هذه العقوبات الرادعة، تنظر في ذلك وتجتهد في ذلك، وكلما كثر الفساد وجب أن تزاد العقوبة، فإذا عوقب العاق مثلا بعشرين جلدة ثم عاد يعاقب بثلاثين، وإذا عاد يعاقب بأكثر، وهكذا يعاقب أهل المعاصي بما يردعهم، وكلما عادوا زيدت العقوبة التي لم يقدرها الشارع، أما المقدرة فيوقف عندها، والمقصود من هذا ليس إيلامهم، وليس إدخال الضرر عليهم، وإنما المقصود إصلاحهم وتوجيههم إلى الخير وكف شرهم عن الناس، وتعلمون أن العضو من الإنسان إذا رأى الأطباء أن قطعه أصلح لبقية الجسد قطعوه، وهو عضو الإنسان نفسه  يقطع حتى يسلم بقية الجسد، فكيف بالمجتمع؟ فالمجتمع تعاقب أفراده بما يردعها عن الفساد، حتى يصلح المجتمع، وحتى يسلم من شر أولئك الأفراد المفسدين، وهكذا إذا كانوا جماعات تواطؤ على الشر يعاقبون أيضًا حتى يردعوا عما تواطؤا عليه من أنواع الشر والفساد.

فالشريعة العظيمة الإسلامية كاملة -والحمد لله-، جاءت بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وجاءت بكل ما يقطع دابر الفساد، ويقضي على أسباب الشر، ويعين على أسباب الخير.

فنسأل الله أن يوفق جميع المسلمين للالتزام بها، والفقه فيها، والاستقامة عليها، وأن يوفق ولاة الأمر للفقه فيها، وتنفيذ أحكامها، وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان وولاتهم للقيام بحقه، وتحكيم شريعته، وإيثار ذلك على ما سوى ذلك، وأن يعيذهم من طاعة الهوى والشيطان، ومن تقليد أعداء الله المجرمين، وأن يرزقهم البصيرة والفقه في الدين، وإيثار الحق على ما سواه.