5- باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108].
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. -وفي رواية: إلى أن يوحِّدوا الله. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجابأخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها: فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه فأُتي به، فبصق في عينيه؛ ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع. فأعطاه الراية فقال: أُنفُذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه. فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم يدوكون أي: يخوضون.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فالمؤلف رحمه الله بعدما ذكر كتاب التوحيد وحق الله على العبيد وبيّن الأدلة وذكر فضل التوحيد وتحقيقه وذكر الخوف من ضده، ذكر بابًا آخر مؤكدًا لما مضى (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) وما تقدم كله في الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، ولكن هذا من باب التأكيد، المعنى: باب وجوب الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، والإيمان به وبرسوله عليه الصلاة والسلام، ذاك بيان وهذا بيان بوجوب الدعوة إلى الله وهذا واجب العلماء؛ لأنهم خلفاء الرسل، فالواجب على أهل العلم الدعوة إلى الله وتبصير الناس بحق الله ودين الله وإرشادهم إلى ما خلقوا له وتحذيرهم مما نهى الله عنه، هذا هو واجب أهل العلم ووجوب كل مؤمن على حسب طاقته أن يدعو إلى الله وأن يرشد إلى دينه وأن يحذر من ضد ذلك، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] يعني قل يا محمد قل يا أيها الرسول للناس: هَذِهِ سَبِيلِي يعني هذه الطريقة التي أنا عليها من توحيد الله والإخلاص له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير هذا والجهاد في سبيل الله هذه هي سبيل الله قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يعني هذه طريقي ومحجتي التي أسير عليها وهي الدعوة إلى الله وهي الصراط المستقيم وتوحيد الله وطاعته والدعوة إلى ذلك أَدْعُو إِلَى اللَّهِ لا إلى غيره، لا إلى مُلك ولا إلى قبيلة ولا إلى مذهب معين من مذاهب الناس، ولكني أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يعني أدعو إلى توحيد الله وطاعة الله واتباع شريعته كما دعت الرسل، الرسل كلهم بُعثوا بهذا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] كل الرسل من أولهم إلى آخرهم، من أولهم نوح لما أرساله الله إلى أهل الأرض وقبله آدم إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم أرسلوا إلى الناس بهذه الدعوة يدعون الناس إلى توحيد الله وطاعته والإيمان به وبرسله وبكل ما أخبر الله به ورسوله عن الآخرة والجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك، ويأمرون بما أوجب الله، وينهونهم عما حرم الله، هذه دعوة الرسل.

عَلَى بَصِيرَةٍ على علم ما هو عن جهل، الداعي إلى الله لا بدّ أن يدعو إلى الله على بصيرة، وعما قاله الله ورسوله لا بالرأي والتخريص لا ولكن بالعلم قال الله قال الرسول كذا قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] وقال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [الحج:67].

وفي الصحيحين أن معاذًا لما بعثه الرسول ﷺ إلى اليمن قال له: إنك تأتي كما في حديث ابن عباس أن الرسول ﷺ بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب وهم أهل اليمن، وكان سكانه ذلك الوقت من العرب ومن اليهود: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي الرواية الأخرى: وأني رسول الله وفي اللفظ الآخر: فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وفي رواية البخاري: فادعهم إلى أن يوحدوا الله، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، معناها: توحيد الله والإخلاص له، «فإن هم أطاعوك لذلك» يعني تركوا الشرك واستقاموا على التوحيد وآمنوا بالرسول محمد ﷺ؛ فإنهم يؤمرون بعد هذا بالصلاة والزكاة وبقية أمور الإسلام، قال: فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرد في  فقرائهم هذا يبين أنهم لا يُدعون إلى الصلاة والزكاة وغيرها إلا بعد التوحيد، بعد أن يدعوا الشرك، بعد أن يوحدوا الله وينقادوا للشريعة ويؤمنوا بالله بأنه ربهم وإلههم ومعبودهم الحق، ويدعون عبادة الأوثان والأصنام ويؤمنوا بمحمد ﷺ وأنه رسول الله، إذا آمنوا بالله ورسوله وتركوا عبادة الأصنام والأوثان بعد ذلك يُدعون إلى الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك، فأول شيء يدعى إليه توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وبرسوله عليه الصلاة والسلام وبالإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، فالتوحيد أول شيء ثم الدعوة إلى الصلاة والزكاة والصيام والحج وترك المعاصي وفعل كل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، هذا كله بعد إيمانهم بالله ورسوله، بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، تكون الدعوة بعد ذلك إلى بقية أركان الإسلام وإلى بقية أمور الإسلام وإلى ترك ما نهى الله عنه. هذا هو واجب الدعاة على هذا التفصيل البدء بالأهم فالأهم.

وهكذا في حديث سهل بن سعد لما بعث النبي ﷺ عليًا إلى خيبر، وكانت خيبر فيها اليهود وقد قاتلهم النبي ﷺ وفتح بعض حصونهم وطال حصارهم، وفي بعض الأيام دعا عليًا، في بعض الأيام قال: لأعطين الراية غدًا يقول للصحابة في الليل: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله فبات الناس يدوكون ليلتهم يخوضونها كل واحد لعلي أكون هذا الأمير الذي يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، محبة لهذا الوصف ما هو لأجل الإمارة، لأجل هذا الوصف العظيم أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كل مؤمن يحب الله ورسوله، وكل مؤمن يحبه الله ورسوله، ولكن الشهادة من الرسول ﷺ على التعيين بأن هذا الشخص يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله هذه منقبة عظيمة، ولهذا حرص عليها الصحابة، فلما أصبح غدوا إليه كل يرجى أن يعطى هذه الراية، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ ابن عمه ورابع الخلفاء، قيل له: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه وفي رواية قال: «فأرسلوا إليه» فلما جاء وقد كان قد رمدت عيناه تفل في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، لما وصل علي تفل النبي ﷺ في عينيه ودعا له بالشفاء فأبرأه الله في الحال، وهذه من علامات النبوة أن الله أبرأ بريقه الشريف ودعوته الطيبة هذا المرض العظيم في الساعة الراهنة في الحال فصار كأن لم يكن به وجع طيب العينين سليم العينين، فأعطاه الراية وقال: انفذ على رسلك يعني سر على مهلك، حتى تنزل بساحتهم يعني سر إلى اليهود في خيبر، ولا تكن جبانًا بعيدًا انزل بساحتهم لأن النزول بساحتهم أوهن لقلوبهم وأضعف لقلوبهم وأشجع للمسلمين بخلاف ما إذا نزل بعيدًا عنهم، فإنهم قد يتقوون وقد ينشطون، لكن إذا نزل قريبًا منهم صار هذا أوهن لقلوبهم وأضعف لهم وأشجع للمؤمنين، وأدعا لهم إلى الحزم والقوة.

ثم ادعهم إلى الإسلام يعني بعد النزول بساحتهم يعني بقربهم لا تعجل، وإن كانوا قد دُعوا قبل هذا أراد أن يكرر عليهم إعذارًا وإنذارًا ادعهم إلى الإسلام يعني مرة أخرى بعدما دعاهم النبي ﷺ في السابق، وهذا يدل على استحباب كثرة تكرار الدعوة إذا رآها ولي الأمر أن يكرر، وإن رأى أن يغير عليهم غرة فلا بأس، كما أغار النبي ﷺ على بني المصطلق وهم غارون؛ لأنهم قد دُعوا وأُنذروا فأبوا فأغار عليهم النبي ﷺ وهم غارون، فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم، وهنا اليهود ما غار عليهم وهم غارون بل كرر الدعوة فدل على أن ولي الأمر بالخيار إن شاء كرر الدعوة وإن رأى المصلحة في عدم التكرار أغار عليهم اكتفاء بالدعوة السابقة.

قال: وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه من صلاة وغيرها، فو الله لأن يهدي الله حلف وهو الصادق وإن لم يحلف عليه الصلاة والسلام ولكن للتأكيد، وهذا يدل على أنه لا بأس بالحلف بل يُشرع الحلف إذا كان المقام يقتضي ذلك من حث على الجهاد والصبر وتنفيذ أوامر الله: فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم يعني خير لك من جميع النوق الحمر التي على الأرض، كانت العرب تعظمها وتحبها، والمعنى أن هذا خير لك من الدنيا وما عليها، هذا مثال، والمراد أن هداية واحد خير لك من الدنيا وما عليها، فهذا فيه الحث على الدعوة والترغيب فيها، وأن الإنسان يحرص على هدايتهم لا يكون همه قتالهم، يكون أكبر همه أن الله يهديهم هذا هو المطلوب الأول، فإن أصروا وأبوا إلا القتال قاتلهم، كما أمر النبي ﷺ عليًا بذلك.
وفيه منقبة لعلي وأنه ممن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وهو رابع الخلفاء الراشدين الصديق الأول، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، هؤلاء هم أفضل الصحابة وهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم.
وفي هذا الحديث والذي قبله الحث على الدعوة إلى الله، وأن على أهل العلم وعلى ولاة الأمور أن يحرصوا على الدعوة إلى الله وتبليغ الناس دين الله لعلهم يهتدون، ثم الجهاد بعد ذلك إذا لم يستجيبوا وجب الجهاد مع القدرة