18- باب قول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}

باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فأعاد عليه النبي ﷺ، فأعادا. فكان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي ﷺ: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي  [التوبة: 113].
وأنزل الله في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56].
الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب تأكيدًا لما تقدم لبيان أن التوحيد والإخلاص لله لا بدّ منه وأن أقرب قريب للأنبياء كالأب والعم ونحو ذلك لا تنفعه قراباته إذا لم يسلم ولهذا قال جل وعلا: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ  [القصص: 56]، وقال سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ  [البقرة: 272] فيبين من هذا الباب ما ذكر من الآية والحديث أن الأنبياء ليس في أيديهم هداية أحد وإنقاذهم من النار، وإن هذا بيد الله ، وإنما الذي بيد الأنبياء والعلماء والدعاة هو التبليغ والبيان والدعوة والإرشاد والنصيحة، أما هداية القلوب وتوفيق القلوب وردها إلى الصواب؛ فهذا بيد الله ، هو الذي يهدي من يشاء، ولهذا قال : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني يا محمد لا تهدي من أحببت هدايته كأبيه وأمه وعمه ونحو ذلك: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ  [القصص: 56].
وفي صحيح البخاري رحمه الله عن سعيد بن المسيب، المسيب هو ابن حزن يقال له: المسَّيب -بفتح السين، ويقال: المسِّيب، والمشهور بالفتح المسَّيب- ابن حزن المخزومي عن أبيه المسيب صحابي قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، أبو طالب عم النبي ﷺ وكان ينصر النبي ويحوطه ويحميه وهو على دين قومه، ومع هذا سخره الله ليحمي نبيه وينصره ويحميه من أعدائه طيلة حياته وهو ينصر النبي ﷺ ويحميه ويقول:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفين
وقد حصر هو وعمه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حصرهم المشركون ولم يزل يناضل عنه وينافح عنه ويدافع عنه حتى مات وهو على دين قومه، فالمقصود أن كونه نصره وحماه؛ ما يجعله مسلمًا حتى يؤمن بما جاء به حتى ينقاد للحق حتى يشهد أن لا إله إلا الله وفي شعره يقول:
ولقد علموا أننا ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطيل
ويقول في شعره:
ولقد صدقت فكنت ثم أمينًا
فهو مقر بصدقه، ولكنه لم ينقاد لما جاء به، فلما حضرته الوفاة جاءه النبي ﷺ يرجو أن الله يهديه على يديه فقال: يا عم، قل لا إله إلا الله وكان عنده أبو جهل ابن هشام من رؤوس الكفرة -قتل يوم بدر الخبيث، قتل كافرًا- وعنده عبدالله بن أبي أمية المخزومي- كان كافرًا ذلك الوقت، وقد أسلم عبدالله وهداه الله ومات على الإسلام- فقال: يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال له جلساء السوء: أترغب عن ملة عبدالمطلب، ملة عبدالمطلب الكفر بالله واتخاذ الأوثان والآلهة فأعاد عليه النبي ﷺ وقال: يا عم، قل لا إله إلا الله فأعادها عليه أبو جهل وعبد الله بن أمية يقولان له: أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فقال أبو طالب عند موته: هو على ملة عبدالمطلب، أنا على ملة عبدالمطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ختمت له بالشقاوة نسأل الله العافية، فقال النبي ﷺ: لأستغفر لك ما لم أُنه عنك من شدة حرصه على سلامته لأنه قد أحاطه ونصره وحماه وبذل جهودًا كبيرًا، فقال: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله في ذلك: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] فعند هذا ترك الاستغفار له. 
وأنزل أيضاً في تعزية النبي وتسليته: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] وفي هذا عبرة، فكل إنسان إذا خالفه أقاربه وعصوه قالوا: النبي ما هدى عمه، يعني لنا أسوة إذا بذلنا وسعنا واجتهدنا أن الله يهدي هذا الرجل وما هداه الله فلنا أسوة في محمد حيث دعا أبا طالب وهو عمه فلم يهتد ولم يقبل منه ولم يهده الله على يديه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] تسلية وتعزية، فهذا يدلنا على أن الأنبياء والرسل والملائكة والعلماء والأخيار لا يملكون شيئًا من هداية الناس، الهداية بيد الله لا يملكها نبي ولا مالك ولا عالم ولا عابد ولا غيرهم، فالهداية بيد الله هو الذي يهدي من يشاء، يعني هداية التوفيق والرضا بالحق وقبوله، هذه بيد الله جل وعلا وهي المرادة بقوله: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] وهي المرادة بقوله سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] يعني هداية التوفيق، هداية قذف النور في القلب، هداية الرضا بالحق هذه بيد الله لا يملكها أحد، أما هداية البلاغ والبيان فقد جعلها الله بيد الرسل، هو يهدي، والرسل يهدون بالبلاغ والبيان قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت: 17] يعني بلغناهم ودللناهم ولكن استمروا على كفرهم وضلالهم، وقال في حق نبيه ﷺ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم [الشورى: 52] يعني هداية البلاغ والبيان بيد الرسول وبيد أتباعه وبيد الرسل جميعًا، الهداية التي بمعنى البلاغ والبيان وهي المرادة بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم [الشورى: 52]، يعني تبلغ وترشد.
ففي هذه القصة عظة وذكرى ودلالة على أن النبي ﷺ لا يصلح أن يُعبد من دون الله، وأنه لم يستطع أن يهدي عمه فكيف يهدي غيره! وليس بيده ضر ولا نفع فكله بيد الله جل وعلا، ما أحد يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا كله بيد الله ، ولا أحد يملك لنفسه ولا أقاربه الهداية التي هي الرضا بالحق وقبوله فهذه بيد الله، فالواجب على المكلف أن يضرع إلى الله ويسأله الهداية، وأن ينطرح بين يديه وينكسر ويرجو رحمته ويخشى عقابه.

وفي هذه القصة من الفوائد: الحذر من جلساء السوء؛ فإن شرهم عظيم، فهؤلاء عبدالله وأبو جهل شجعاه على الباطل، شجعاه على البقاء على دين قومه فهما من جلساء السوء، لكن الله هدى عبدالله وأسلم بعد ذلك.
ففي هذه أنه ينبغي للمؤمن أن يحذر جلساء السوء وأن يبتعد عنهم؛ لأنهم يضرونه ويهدونه إلى الباطل، فالواجب الحذر منهم، ولهذا قال ﷺ: مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ومثل الجليس السوء، كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة، ويقول ﷺ: المرء على دين  خليله فلينظر أحدكم من يخالل، فالحزم والخير والواجب هو صحبة الأخيار، والبعد عن صحبة الأشرار في هذه الدار.
وفق الله الجميع.