56- باب في ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

باب في ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91].
وعن بريدة قال: "كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال-، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يُجرى عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فاسألهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنْزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا رواه مسلم.

الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الباب عقده المؤلف فيما يتعلق بذمة الله وذمة نبيه، وقتال الكفار وجهادهم من أعظم واجبات الإسلام ومهمات الإسلام الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله؛ كما قال جل وعلا: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]، وقال سبحانه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39]، وقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف: 11] فالجهاد من أعظم واجبات الإيمان مع القدرة، والمجاهدون قد يضطرون إلى المعاهدة مع الكفار وإنزالهم على الذمة وعلى الحكم وبين لهم النبي ﷺ كيف الجهاد، والله يقول جل وعلا: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل: 91]، وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] فالمسلمين إذا رأوا المصلحة وأن يعطوا العهد فلم أن يعطوا العهد ولهم أن يقاتلوا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال: 39] فإذا دعت المصلحة الشرعية إلى المعاهدة فلا بأس كما عاهد النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش يوم الحديبية وكما عاهد قبائل كثيرة من العرب .

وقال: كان ﷺ إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاهم بتقوى الله في نفسه وفيمن معه من المسلمين خيرًا، يوصي الأمراء بتقوى الله ويوصيهم بمن معهم من الجيوش والسرايا، فيقول لهم: اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، فهذا من وصاياه لهم عليه الصلاة والسلام: أن لا يغلوا تؤدى الغنيمة كما هي، لا يغل أحد منها شيئًا حتى توزع بين الجميع.
ولا تغدروا إذا عاهدتم أعطيتهم العهود لا تغدروا، فالغدر ليس من شيم المسلمين، بل هو من شيم الكفار، فإذا أعطى المسلم عهدًا فالواجب أن يوفي به ولا يغدر.
ولا تمثلوا كذلك التمثيل قطع اليد أو الأنف أو الأذن لا، لا يمثلوا يقتلوا قتلاً إذا تمكنوا من الكافر ولم يسلم ولم يؤد الجزية يقتل قتلاً شرعيًا بالسيف إذا تمُكن منه، أما إذا أصابه السهم من بعيد أصابه وجهه أو أصاب رأسه أو أصاب بيده فلا حرج من بعيد، لكن بعد القدرة عليه لا يمثل به، يقتل القتل الشرعي، الرسول ﷺ قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة.
ولا تقتلوا وليدًا الوليد الصغير يعني الولدان دون البلوغ لا يقتلون إذا لم يقاتلوا، ولا النساء لا يقتلوا إذا لم يقاتلوا، نهى عن قتل النساء والولدان في الجهاد إلا إذا قاتلوا.
وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، إذا قابل العدو فالمسلم يدعوه إلى ثلاث خصال:
أولاً: دعوتهم إلى الإسلام يدعوهم إلى الدخول في الإسلام، وهو بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويلتزموا بشرع الله. فإذا دخلوا في الإسلام وهم أعراب أُمروا أن ينتقلوا إلى ديار المهاجرين، فإن أبوا وأحبوا الجلوس في بلادهم جلسوا فيها، لكن لا يكون لهم حظ في الغنيمة ولا في الفيء إذا جلسوا في بلادهم إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.
والخصلة الثانية: إذا أبوا الإسلام يدعون إلى الجزية، وهذا عند جمهور أهل العلم خاص باليهود والنصارى والمجوس  هم من يدعون إلى الجزية كما قال جل وعلا: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] وأمر بأن يسن بالمجوس سن اليهود والنصارى، كان النبي ﷺ أخذ منهم الجزية من المجوس عباد النار. أما بقية الكفار فإن الواجب قتالهم حتى يسلموا ولا تؤخذ منهم الجزية فقوله عليه الصلاة والسلام: فإن أبوا فاسألهم الجزية، يعني إذا كانوا من أهل الكتاب أو من المجوس فإن النصوص يفسر بعضها بعضًا.
فإن أبوا الجزية فخصلة الثالثة: القتال، استعن بالله وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن يعني يقول للأمير إذا حاصرت أهل حصن، أهل قرية أو أهل مدينة فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، يقولون: ننزل نفتح لكم الأبواب لكن تعطونا ذمة الله وذمة نبيه أنكم ما تغدروا أو ما تفعلون كذا وكذا، فلا تقل: لكم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن قل لهم: لكم ذمتي وذمة أصحابي، وعلى الإنسان أن يوفي بالعهد ولا يغدر، فإن إعطاءه ذمة الله وذمة نبيه خطر، قد يخل بشيء فيكون الإثم أعظم، ولهذا قال: فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه إذا وقع إخفار وكانوا في ذمة العبد وذمة الجيش أهون من كونهم في ذمة الله وذمة نبيه.
وهكذا إذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله، قل: أنزلكم على حكمي وحكم أصحابي أنظر فيما يوافق حكم الله لكن لا أجزم لكم بحكم الله قد أخطئ قد أغلط أنا أجتهد: فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا فقد تغلط فقل: أنا أنزلكم على حكمي وأنا أنظر وأحكم فيكم إن شاء الله بما يظهر لي من الشرع ولا أظلمكم؛ لأن الإنسان قد يقول لهم: حكم الله أو لكم ذمة الله فيخفر أو يغلط فيكون قد غلط عليهم في حكم الله وقد أخفر ذمة الله.
وفق الله الجميع.