60- باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..)

 
عن ابن مسعود قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر رضي الله عنها مرفوعا: يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟.
وروى عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله ﷺ: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
وقال: قال أبو ذر سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض.

الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الباب في بيان تفسير قوله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67] أراد المؤلف أن يختم هذا الكتاب العظيم بهذه الأحاديث المتعلقة بالصفات وتقدم جملة من ذلك، تقدم في الأبواب جملة من أحاديث الصفات وهذا الكتاب عقد لبيان توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والمقصود الأعظم بيان توحيد العبادة الذي وقع فيه الشرك، أما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات فقد أقر به المشركون، ولكن لا بدّ من بيانه حتى يعرفه المؤمن وحتى يؤمن بأسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله لا شبيه له ولا كفء له ولا ند له، وحتى يعلم يقينًا أن الله هو الخلاق العليم ورب كل شيء ومليكه وحتى يعتقد أنه سبحانه هو المستحق للعبادة حتى يخالف جميع الطوائف المشركة فإن توحيد العبادة هو الفارق بين الأمم، والله هو الخلاق العليم وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلا لا شريك له ولا شبيه له وهو مع هذا سبحانه هو المستحق لأن يعبد وهذا هو معنى لا إله إلا الله وهذا هو توحيد العبادة الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا [النحل: 36]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ۝ ألا تعبدوا إلا الله [هود:1-2].
وفي هذا أن حِبرًا من الأحبار يقال حِبر بكسر الحاء، ويقال حَبر وهو العالم، الحِبر والحَبر هو العالم، والأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد، جاء حبر من الأحبار إلى النبي ﷺ يقول: إنا نجد يعني في كتبنا وما عندنا من التوراة وغيرها أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، وفي رواية: والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، يعني خمسة أصابع، فضحك النبي ﷺ تصديقًا لقول الحبر يعني أن هذا حق، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] ذكر اليمين اليمين فيها الأصابع والشمال فيها الأصابع وهو سبحانه له يمين ذات أصابع وله شمال ذات أصابع، كلها تليق به جل وعلا لا يشابه خلقه في شيء كما أنه أخبر عن نفسه باليدين: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] كذلك الأصابع كما في هذا الحديث وكما في قوله ﷺ: القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء فأصابعه حق تليق به لا يشابه خلقه فيها، كما أن يده وقدمه حق لا يشابه خلقه في صفاته، كما أن عينه حق وسمعه حق وبصره حق لا يشابه خلقه وكلامه حق لا يشابه خلقه كل صفة هذا بابها، بابها واحد توقيفي على العباد أن يؤمنوا بما ورد في القرآن والسنة الصحيحة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل عملاً بقوله جل وعلا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4]، وقوله سبحانه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] يعني لا سمي له، استفهام إنكار، وقوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وهكذا حديث ابن عمر: يطوي الله السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الجبار، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ويقول: أنا الله، أين الجبارون أين المتكبرون؟ الباب واحد كما نص عليه القرآن، كل هذا حق فالواجب على جميع المؤمنين التصديق بما أخبر الله به ورسوله، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل جمعًا بين النصوص.
وهكذا أهل السنة والجماعة درجوا على هذا.
وكذلك قول ابن عباس: ما السماوات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم يعني أنها صغيرة بالنسبة إليه جل وعلا وهذا موقوف وله حكم الرفع، قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله أنه لا بأس بسنده، فهذا موقوف له حكم الرفع فالله جل وعلا لا يقدر قدره شيء، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، والكبير الذي لا أكبر منه، ولهذا قال في هذا الأثر ما السماوات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم، وهكذا ما تقدم يطوي السماوات بيمينه ويقول: أين الجبارون، أين المتكبرون، كل هذا يدل على أنها مع عظمتها وسعتها ليست بيده في شيء.
وهكذا ما رواه ابن جرير عن الكرسي والعرش السند ضعيف؛ لأنه من طريق ابن زيد وابن زيد ضعيف، لكن هذا من الأخبار التي تروى والله أعلم بحقيقتها، فالكرسي عظيم والعرش عظيم، أما تحديد ذلك يحتاج إلى أحاديث صحيحة، أما رواية ابن جرير هذه فهي رواية ضعيفة: ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وهكذا: الكرسي في العرش كحلقة في ظهر فلاة من الأرض، كل هذا يحتاج إلى أحاديث صحيحة، لكن العرش هو أعظم المخلوقات، وهو سقف المخلوقات، وهو أعلاها وهو سقف الجنة، فالكرسي دونه، والسماوات دونه، والبحر دونه، كلها دونه ولا يعلم مقدار الكرسي، ولا مقدار البحر الذي تحت العرش ولا مقدار العرش إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى، فهذه أمور تحتاج إلى أدلة من القرآن والسنة ما يكفيها رواية ابن جرير وغيره، إنما ذكره المؤلف لبيان ما ورد فقط،ـ أما الحقيقة فالله الذي يعلم عظم الكرسي وعظم العرش لا يعلم عظمه وسعته ومقداره إلا الذي خلقه سبحانه وتعالى ولا يقول قائل أنه كذا وأنه كذا إلا بأدلة صحيحة من السنة عن رسول الله ﷺ.
وفق الله الجميع.

الأسئلة:

س: قول الرسول ﷺ: كلتا يديه يمين؟
الشيخ: يعني يمين في البركة له يمين وشمال وكل يديه يمين ما فيها نقص، المخلوق يده الشمال فيها نقص، أما الرب جل وعلا كل يديه يمن مبارك، وإن سميت شمال فهي كاملة.
 
وعن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله.
قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى. قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله ﷺ: هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض. والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم أخرجه أبو داود وغيره.

الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذان الحديثان، حديث ابن مسعود وحديث العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنهما كلاهما يدل على علو الله وفوقيته وأنه سبحانه فوق العرش كما دل عليه القرآن الكريم في سبعة مواضع من كتاب الله، كلها دالة على أنه سبحانه فوق العرش، فوق جميع الخلق، وهذان الحديثان يدلان على المسافات التي بين الأرض والسماء وبين كل سماء وسماء، وبين السماء السابعة والكرسي، وبين الكرسي والماء، وهي خمسمائة عام، وهذا يدل على بعد ما بين هذه المخلوقات وأن الله جل وعلا فوق الجميع سبحانه وتعالى فوق العرش، وحديث ابن مسعود هذا وإن كان ظاهره الوقف، فهو لا يقال من جهة الرأي، بل هذا في حكم المرفوع؛ لأن هذا لا يقال من جهة الرأي، ويعضده حديث العباس بن عبدالمطلب وحديث العباس فيه أيضا بعض المقال لكن يعضد أحدهما الآخر، ويشد أحدهما الآخر ويدلان على سعة ما بين السماء والأرض وكثافة كل سماء وأنها خمسمائة عام يعني غلظًا غلظ السماء، والله سبحانه هو الحكيم العليم القادر على كل شيء جل وعلا وقد يدل على هذا قوله جل وعلا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] يعني ما بين السماء والأرض خمسمائة صعود وخمسمائة نزول.
وقد أجمع أهل السنة والجماعة قاطبة على علو الله وفوقيته وأنه سبحانه فوق العرش بائن من خلقه ترفع الأعمال إليه جل وعلا، وهو سبحانه فوق جميع الخلق لا يعزب عن علمه شيء سبحانه وتعالى، وقد استوى على العرش استواء يليق بجلاله لا يعلم كيفيته إلا هو.
ويقول أهل العلم من أهل السنة والجماعة استوى بلا كيف، يعني ارتفع فوق العرش وعلا فوق العرش بلا كيف، فالله سبحانه فوق العرش وهو بصفاته لا يعلم كيفيتها إلا هو جل وعلا، فعلى المسلم أن يقر بما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وأن يؤمن بذلك وأن يعتقد أن الله سبحانه لا مثيل له ولا كفو له، وأما من قال من أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أنه في كل مكان؛ فهذا قول باطل وضلال وكفر بالله وتكذيب لآيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
وفق الله الجميع.