05 من قوله: (قال القشيري: وسئل ذو النون المصري عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}..)

قال القُشيرِي: وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمِصْرِيّ عَن قَوْله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فَقَالَ: أثْبَتَ ذَاته، وَنفى مَكَانَهُ، فَهُوَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ، والأشياء مَوْجُودَة بِحكمِهِ كَمَا شَاءَ.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا عَن ذِي النُّون، وَفِي هَذِه الكتب من الحكايات المسندة شيء كثير لَا أصلَ لَهُ، فَكيف بِهَذِهِ المنقطعة المسيئة الَّتِي تَتَضَمَّن أَن يُنْقل عَن الْمَشَايِخ كَلَامٌ لَا يَقُوله عَاقلٌ؟! فَإِنَّ هَذَا الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ مُنَاسبَة لِلْآيَةِ، بل هُوَ مُنَاقِضٌ لَهَا، فَإِنَّ هَذِه الْآيَة لم تَتَضَمَّن إِثْبَات ذَاته وَنفي مَكَانه بِوَجْهٍ من الْوُجُوه، فَكيف تُفسر بذلك؟!

وَأما قَوْله: (هُوَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ، والأشياء مَوْجُودَة بِحكمِهِ) فَهُوَ حقٌّ، لَكِن لَيْسَ هَذَا معنى الْآيَة.

..........

قال: وسُئل الشِّبلي عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.

الشيخ: والمقصود من هذا قوله: (أثبت وجوده ولم يُبين مكانه) وهذا هو وجه الغلط؛ لأنه جلَّ وعلا قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، فقد بيَّن الوجود والمكان، وأنه في العلو ، وأنه فوق العرش.

قال: وَسُئِلَ الشِّبلي عَن قَوْله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، فَقَالَ: الرَّحْمَن لم يزل، وَالْعَرش مُحدث، وَالْعَرش بالرحمن اسْتَوَى.

قلتُ: هَذَا الْكَلَام أَيْضًا لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ عَن الشِّبلي، وَهُوَ يتَضَمَّن من الْبَاطِل مَا هُوَ تَحْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ.

أما قَوْله: (الرَّحْمَن لم يزل، وَالْعَرش مُحدث) فَحقٌّ.

وَأما قَوْله: (الْعَرْش بالرحمن اسْتَوَى) فَهُوَ أَوَّلًا خلاف الْقُرْآن، فَإِنَّ الله أخبر أَنَّه هُوَ الَّذِي اسْتَوَى على الْعَرْش، فَكيف يُقَال: إِنَّ المستوي إِنَّمَا هُوَ الْعَرْش؟!

وَأما ثَانِيًا: فَإِنَّهُ إِذا قال: (الْعَرْش اسْتَوَى بِهِ) فَهَذَا لَيْسَ أبلغ من قَوْله: (إِنَّه اسْتَوَى على الْعَرْش).

كَمَا فِي حَدِيث ابن عمر: أَنَّ رَسُول الله ﷺ أهلَّ حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون الْعَرْشُ اسْتَوَى بِاللَّه واستقلَّ بِهِ وَحمله، وَإِن لم يُرد هَذَا الْمَعْنى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْعَرْشَ اعتدل واستوى بقُدرة الله، فَهَذَا لَيْسَ هُوَ معنى الْآيَة، بل تَحْرِيفٌ صَرِيحٌ يَسْتَحقّ قَائِله الْعُقُوبَة البليغة، وَلَا يصلح أن يُحْكى مثل هَذا عَن قُدوةٍ فِي الدّين، بل وَلَا عَن أَطْرَاف النَّاس.

قال: وَسُئِلَ جَعْفَر بن نصير عَن قَوْله تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فَقَالَ: اسْتَوَى علمه بِكُلِّ شيءٍ، فَلَيْسَ شيءٌ أقرب إِلَيْهِ من شيءٍ.

وَهَذَا من نمط الَّذِي قبله، وأردى، وَهُوَ أسخف من تأويلات القرامطة الباطنية؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على ذَلِك أصلًا، وجعفر بن نصير أجلّ من أَن يَقُول هَذَا التَّحريف الَّذِي لَا يصدر مثله إِلَّا عَن بعض غُلاة الرَّافضة، والقرامطة، والملحدين الطاعنين فِي الْقُرْآن.

قال: وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِق: مَن زعم أَنَّ الله فِي شيءٍ، أَو من شيءٍ، أَو على شيءٍ فقد أشرك؛ إِذْ لَو كَانَ على شيءٍ لَكَانَ مَحْمُولًا، أَو كَانَ فِي شيءٍ لَكَانَ محصورًا، أَو كَانَ من شيءٍ لَكَانَ مُحدَثًا.

قال: وَقَالَ جَعْفَرُ الصَّادِق فِي قَوْله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8]: مَن توهم أَنَّه بِنَفسِهِ دنا جعل ثمَّ مسافة، وإنما التَّدني أَنه كلما قرب مِنْهُ بعَّده عَن أَنْوَاع المعارف، إِذْ لَا دُنُوَّ وَلَا بُعْدَ.

قلتُ: هَذَا الْكَلَامُ وأشباهه مِمَّا اتَّفق أهلُ المعرفَة على أَنه مَكْذُوبٌ على جَعْفَر، مثل كثير من الإشارات الَّتِي ذكرهَا عَنهُ أَبُو عبدالرَّحْمَن فِي حقائق التَّفْسِير، وَالْكَذب على جَعْفَر كثيرٌ مُنتشر.

الشيخ: وهذا يُكذب الرافضة وغير الرافضة، ولكن أكثرهم هم الرافضة، يكذبون عليه كثيرًا، وعلى أبيه -أبي جعفر.

والله جلَّ وعلا فوق العرش، فوق جميع خلقه ، وهو أخبر عن نفسه بذلك، لا كما يُخبر عن جعفر، أو عن أبيه، فهو مصادمٌ للقرآن، وهو من أجلِّ العلماء، وأفضل العلماء، جعفر من خيرة العلماء، ولكن الرافضة -قبَّحهم الله- كذبوا عليه في أشياء كثيرةٍ، وشوَّهوا سمعته، وشوَّهوا سمعةَ أبيه، وسمعة جده، وسمعة الحسن والحسين، كله من كذبهم، قبَّحهم الله.

وَالْكَذب على جَعْفَر كثير مُنتشر، وَالَّذِي نَقله الْعُلمَاء الثِّقَات عَنهُ مَعْرُوف، يُخَالِف رِوَايَة المفترين عَلَيْهِ.

قال: وَرَأَيْتُ بِخَط الأستاذ أبي عليّ أَنه قيل لصوفيٍّ: أَيْن الله؟ فَقَالَ: أسحقك الله! تطلب مَعَ الْعَين أثرًا!

قلتُ: هَذَا كَلَامٌ مُجمل، قد يَعْنِي بِهِ الصّديقُ معنًى صَحِيحًا، وَيَعْنِي بِهِ الزِّنديق معنًى فَاسِدًا، فَإِنَّ السَّائِل: أَيْن الله؟ قد يكون سُؤَاله عَن شكٍّ عَن معرفَة مَا يسْتَحقّهُ الله من الْعُلُوّ، وَقد يكون الاستعلامُ عَن حَال الْمَسْؤُول، كَمَا سَأَلَ النَّبِي ﷺ الْجَارِيَةَ: أَيْن الله؟ فَالَّذِي سَأَلَ الصُّوفِي: أَيْن الله؟ إِن كَانَ شاكًّا فِي نعت ربِّه، أَو جَاهِلًا بِحَال الْمَسْؤُول فَهُوَ نَاقصٌ، فَيُحْتَمل أَنَّ الصُّوفِيَّ كَانَ عَارِفًا بِاللَّه، وَقد عاين السَّائِل من حَاله مَا عرف بِهِ صدقه، فَقَالَ: سؤالك سُؤال مَن يُرِيد أَن يسْتَدلّ بالأثر على حَالٍ، وَأَنتَ قد عَايَنتَ مَا يُغْنِيك عَن ذَلِك. فَقَالَ: أتطلب مَعَ الْعَين أثرًا أَو هدًى؟!

كَمَا أَنَّ المعروفين بِالْإِيمَان من الصَّحَابَة لم يكن النَّبِي ﷺ يَقُول لأَحَدهم: أَيْن الله؟ وَإِنَّمَا قال ذَلِك لمن شكَّ فِي إيمَانه، كالجارية.

وَهَذَا كَمَا يُذكر فِي حِكَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ بَعضَهم لقي شخصًا فَقَالَ: أَيْن رَبك؟ فَقَالَ: لَا تقل: أَيْن رَبك؟ وَلَكِن قل: أَيْن مَحل الْإِيمَان من قَلْبك؟ أَي: إنَّ مثلي لَا يُقَال لَهُ: أَيْن رَبك؟ وَإِنَّمَا أُسأَل عَمَّا يَلِيق بمثلي أَن يُسْأَل عَنهُ.

بل كَمَا فِي الْحِكَايَة الْمَعْرُوفَة عَن يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ، وَنَحْوهَا أَيْضًا لِأَحْمَد بن حَنْبَل: أَنَّ مُنْكرًا أَو نكيرًا لما أَتَيَاهُ وسألاه: مَن رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمَن نبيك؟ فَقَالَ: أتقولان لي هَذَا وَأَنا يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ أُعلم النَّاس السُّنة سِتِّينَ سنةً؟! فَقَالَا: اعذرنا؛ فَإنَّا بِهَذَا أُمرنَا. وانصرفا وتركاه.

وَظَاهر الْأَمر فِي حَال الصُّوفِي الَّذِي ذكره الْأُسْتَاذُ أبو عليٍّ أَنه قصد هَذَا؛ لِأَنَّهُ قال للسَّائِل: أسحقك الله! أتطلب مَعَ الْعَين أثرًا؟! وَهَذَا الْعَين الَّذِي أغناه عَن الْأَثر: إِمَّا أَن يكون فِي مَعْرفَته بربِّه، أَو مَعْرفَته بِحَال الْمَسْؤُول، فَلَو كَانَ الأولُ لم يَكُ جَاهِلًا فَيُسْأَل: أَيْن الله؟ وَلم يُجب عَلَيْهِ الصُّوفِي حَتَّى يَقُول لَه:ُ أسحقك الله! فَعلم أَنه كَانَ عَارِفًا بِحَال الصُّوفِي وَطلب مِنْهُ زِيَادَةَ امتحانٍ لَهُ عَن مَعْرفَته بربِّه، فَقَالَ: أتطلب مَعَ الْعَين أثرًا؟!

وَأمَّا الْعَين الَّذِي يعنيه الزِّنديق فَأن يكون من أهل الِاتِّحَاد الْمُعين، فيعتقد أَنه عاين الله بِعَين بَصَره فِي الدُّنْيَا، فَيَقُول: أتطلب مَعَ الْعَين أثرًا؟!

أَو يَعْتَقد أَنَّ الْوُجُود المعاين هُوَ عين وجود الْحقِّ، كَمَا تَقوله الاتحادية -أهل الِاتِّحَاد الْمُطلق- أَو نَحْو ذَلِك من مقالات الزَّنَادِقَة الْمُنَافِقين.

وَلَكِن ظَاهر الْحِكَايَة لَا يُوَافق هَذَا؛ فَإِنَّهُ عِنْد هَؤُلَاءِ الْعَين والأثر وَاحِد، والصُّوفي قال: أتطلب مَعَ الْعَين أثرًا؟! وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّائِل بأين يَصحّ مِنْهُ طلب الْأَثر بعد الْعَين.

وَلَيْسَ فِي الْحِكَايَة مَقْصُودٌ لأبي الْقَاسِم من نفي كَون الله على الْعَرْش، وَلَا يَقُول أبو الْقَاسِم بِأَنَّ الْعَارِفَ حصل لَهُ فِي الدُّنْيَا من مُعَاينَة الله تَعَالَى مَا يُغْنِيه عَن الْأَثر.

قال أبو الْقَاسِم: حَدَّثنَا الشَّيْخُ أَبُو عبدالرَّحْمَن: سَمِعتُ أَبَا الْعَبَّاس ابن الخشاب الْبَغْدَادِيّ: سَمِعتُ أَبَا الْقَاسِم ابن مُوسَى: سَمِعتُ مُحَمَّد بن أَحْمد: سَمِعتُ الأنصاري: سَمِعتُ الخرَّاز يَقُول: حَقِيقَة الْقُرب فقد حُسن الْأَشْيَاء من الْقَلب، وهدوء الضَّمِير إِلَى الله.

قلتُ: هَذِه الْحِكَايَة فِي إسنادها مَن لَا يُعرف حَاله، وَإِن صَحَّ هَذَا الْكَلَام عَن أبي سعيدٍ الخراز فَلَيْسَ مَقْصُوده أَنَّ الْقُرب من الله لَيْسَ إِلَّا مُجَرّد ذَلِك، وَلَكِن أَرَادَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُحَقّق الْقُرب، وَحَقِيقَة الشيء عِنْدهم مَا يُحققه، فَيكون عِلّةً لوُجُوده، ودليلًا على صِحَّتِه.

كَمَا يروون فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِر مُرْسلًا، ورُوي مُسْندًا من وَجهٍ ضَعِيفٍ لَا يثبت: أَنَّ النَّبِي ﷺ قال لحارثة بْن سراقَة: كَيفَ أَصبَحتَ يَا حَارِثَة؟ قال: أَصبَحتُ مُؤمنًا حَقًّا. قال: فَمَا حَقِيقَة إيمانك؟ فَقَالَ: عزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا، فاستوى عِنْدِي حجرها وذهبها، وَكَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزًا، وَكَأَنِّي أنظر إِلَى أهل الْجنَّة يتمتعون فِيهَا، وَإِلَى أهل النَّار يُعَذَّبُونَ فِيهَا. فَقَالَ: عرفتَ فالزم، عبدٌ نوَّر اللهُ قلبَه.

فَقَوْلهم فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي يَرْوُونَهُ: مَا حَقِيقَة إيمانك؟ أَي: مَا يُحققه ويُصدقه؟ فَذكر مَا يُصدقهُ ويُحققه من الْيَقِين والزُّهد، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: "نجا أول هَذِه الْأُمة بِالْيَقِينِ والزُّهد".

فَقَوْل أبي سعيدٍ: (حَقِيقَة الْقُرب) أَي: الَّذِي يُحققه هُوَ خلو الْقَلب مِمَّا سوى الله، وسكونه إِلَى الله، وَهَذَا تَحْقِيق الْإِخْلَاص والتوحيد الَّذِي مَن حَقَّقَهُ كَانَ أقربَ الْخلق إِلَى الله، وَهُوَ تَحْقِيق كلمة الْإِخْلَاص: "لَا إِلَه إِلَّا الله"، وَهَذَا على دَرَجَتَيْنِ: فَأهل الفناء يفقدون إِدْرَاك الْأَشْيَاء ومعرفتها، مصطلمين فِي ذكر الله والملائكة وأولو العلم، وهو سبحانه شهد وحدانيَّتهم.

الشيخ: لعلها: مصطلمين فيما ذكره الله والملائكة وأولو العلم، من التوحيد يعني.

فيما ذكره الله وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعِلم، وَهُوَ سُبْحَانَهُ شهد وحدانيّتهم فِي إلهيته، مُتضمنة شَهَادَته لجَمِيع خلقه، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، عليم، لَيْسَ عَن الْمَخْلُوقَات بغائبٍ، فأولو الْعِلم الشَّاهدون أَن لا إِلَه إِلَّا هُوَ إِذا لم يكن فيهم عجزٌ يُوجِب الفناء يُعْطَون من الْقُوَّة على مَا يَشْهدُونَ بِهِ الْأَمر، وَتلك شَهَادَة كَامِلَة، أكمل من شَهَادَة أهل الفناء، فيفقدون تأله قُلُوبهم للأشياء، ووجدهم، وطُمأنينتهم إِلَيْهَا، مُعتاضين بتأله قُلُوبهم لله، ووجدهم بِهِ، وطُمأنينة قُلُوبهم بِذكرِهِ، لَا يفقدون الشَّهَادَة الَّتِي تزيد فِي عِلمهمْ وَإِيمَانهمْ من شُهُود الربوبية المحيطة جملَةً وتفصيلًا، والإلهية الْوَاجِبَة جملَةً وتفصيلًا، وَمَا يَدْخل فِي ذَلِك من أَصْنَاف الْمَخْلُوقَات والمأمورات.

الشيخ: وهذا عجبٌ، يعني: عناية المؤلف بكتاب أبي القاسم هذا على ما فيه من الخرافات والضَّلالات والأخطاء، فكأنه رحمه الله إنما أراد بهذا التَّنبيه على ما غلط فيه أبو القاسم فيما يذكره عن هؤلاء الصُّوفية وأصحاب الزهد من حكايات باطلة، وحكايات مُنقطعة، وحكايات محتملة، أراد بهذا التَّنبيه على ما فيه من الأخطاء والأغلاط، ولا شكَّ أنَّ الصوفية عندهم أخطاء كثيرة وأغلاط؛ لأنَّ علمهم ليس مُقيدًا بالكتاب والسنة كما قال الجنيد: إنَّ هؤلاء أخذوا عن أفهامهم، وعن أذواقهم، وعن مُشاهداتهم أشياء غلطوا فيها، ولو تقيَّدوا كما قال الجنيد بالكتاب والسنة لسلموا من هذه الأخطاء التي وقعت لهم، فإنَّ الطريق الوحيد الذي هو طريق السَّلامة وطريق النَّجاة هو التَّقيد بالكتاب والسنة، وأن ينقل الإنسانُ عن ربِّه، وعن دينه ما جاء بالكتاب والسنة، فإنَّ هذه الأمور ليست مما تُحققها العقول، وتُدركها العقول، بل هذه أمور توقيفية فيما يتعلق بالله وصفاته وحقِّه على عباده، وما يكون في الغيب، كل هذا إنما يُتلقَّى عن الكتاب والسنة، ولا طريقَ إلى الإيمان بالله وإلى معرفة صفاته وأسمائه إلا ما قاله الله ورسوله، ومَن خرج عن هذا الطريق: كالصُّوفية، والمبتدعة من الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وغيرهم، كل مَن خرج عن هذا الطريق وقع في الأخطاء والأغلاط الكثيرة، والإلحاد والفساد.

فطريق العصمة، وطريق النَّجاة هو التَّقيد بالكتاب والسنة، وأن تكون معلوماتك عن الله وعن رسوله مُتلقاةً عن الله ورسوله فقط، أما عن الآراء التي يقولها الناسُ والاجتهادات التي يقولها الناسُ فهي مُنقسمة إلى حقٍّ وباطلٍ، ولا طريقَ إلى تحقيقها وبيان حقِّها من فاسدها إلا عرضها على الكتاب والسُّنة: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].

س: ...............؟

ج: مصطلمين يعني: قد أخذت عقولهم، اصطلموا حتى فنوا، يعني: أخذت عقولهم، فهم مُصطلمون، والمصطلم: الذي قد قُضي عليه، وأُخذ ما لديه من الفكر؛ لشهودهم لهذه الأشياء التي غير الله ..... صاروا مُصطلمين، يعني: قد صُودروا فلم يشهدوا إلا الله وحده فقط، وهم فنوا عمَّا سواه؛ ولهذا قالوا: إنَّ الفناء هو الغاية في التَّحقيق. وهذا غلطٌ، ليس الفناء هو الغاية، لا بدَّ من فناءٍ معه فرق، ..... فالمؤمن يجمع قلبه على أنَّ الله خالق الخلق، ومُدبر الأمور، وهو الإله الحقّ ، ثم يكتشف قلبه الفرق، وأنه فرقٌ بين الله وبين عباده، فرقٌ بين الله وبين المعبودات الأخرى، فيُحقق التوحيد بإبطال ما سوى الله من الآلهة، وإثبات العبادة لله وحده، وأنه الإله الحقّ ، ويطمئن أيضًا عند الفرق بين ما شرعه الله وأمر به، وما نهى عنه، وفرق بين ما يجب لله من أسمائه وصفاته، إلى غير ذلك، لا بدَّ من جمعٍ مع فرقٍ، يجمع قلبه على الإيمان بالله، وأنه ربُّ الجميع، وأنه الخلَّاق، وأنه الرزاق، وأنه المستحق العبادة، ويكون عنده فرقٌ، يعني: يُفرق بين الحقِّ والباطل، وبين الشِّرك والتوحيد، بين المعصية والطاعة، بين الإيمان والكفر، بين الخالق والمخلوق، هؤلاء هم أهل السنة والجماعة، عندهم الجمع والفرق.

أما كونه يفنى عن الفرق، ولا يُشاهد إلا وجود الربّ فقط، وينسى المخلوقات، فهذا هو الذي جرَّ أهلَ الوحدة إلى القول بوحدة الوجود: ابن عربي وأشباهه، حتى اعتقدوا ما هو أبطل الباطل، وأضل الضَّلال من اتِّحاد الخالق بالمخلوق، فهذا لا يقوله مَن يعقل، لا يقوله إلا المجانين وأشباه المجانين، نسأل الله العافية.

س: ................؟

ج: ما سمعت هذه العبارة، لكن معناها فيما يظهر صحيح؛ لأنه أحكم الحاكمين سبحانه، وأرحم الراحمين، وأعلم العالمين، لا أحدَ أعلم منه ، وهو أحكم الحاكمين، لا أحدَ أحكم منه، وهو أرحم الرَّاحمين، لا أحدَ أرحم منه، لكن ما أتذكر أني سمعتُ هذا عن أحدٍ، لكن معناه في الجملة صحيح.

س: ..... والرحمة من المخلوق هي الشَّفقة، ومن الله الرِّضا وإرادة إيصال النِّعمة إلى خلقه؟

ج: هذا قول الأشعرية، الرحمة من الله غير الرضا وغير الإرادة، الرحمة غير هذا، رحمته سبحانه بعباده تقتضي إحسانه إليهم، وإكرامه لأوليائه، وإنجاؤه لهم، وما يُسدي إليهم من النِّعَم، كل هذا من رحمته، فالرحمة وصفٌ مُستقلٌّ غير الإرادة، وغير الإنعام، وغير الرِّضا، وصفٌ مُستقلٌّ، (الرحمن الرحيم) وصفٌ مُستقلٌّ.

س: يكون هذا تأويلًا؟

ج: نعم، هذا من التَّأويل الذي ابتُلي به الأشاعرة وغيرهم.

س: ...............؟

ج: أصله جيد، لكن بعض ألفاظه قال: "استوى عندي الذهب والخشب"، ما أتذكر صحّة رواية هذه الزِّيادة ..... جيدة ذكرها النَّووي في "رياض الصالحين"، وذكرها غيره.

س: ...............؟

ج: فيهم المعاند، وفيهم الجاهل، في أئمَّتهم والمقتدى بهم الغالب عليهم العناد، وأما العامَّة فأكثرهم جهلة.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم: سَمِعتُ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن: سَمِعتُ مُحَمَّد بن عَليّ الْحَافِظ: سَمِعتُ أبا معَاذٍ الْقَزْوِينِي: سَمِعتُ أَبَا عَليٍّ الدَّلال: سَمِعتُ أَبَا عبدالله ابن قهرمان: سَمِعتُ إِبْرَاهِيم الْخَواص يَقُول: انْتَهَيْتُ إِلَى رجلٍ وَقد صرعه الشَّيْطَانُ، فَجعلتُ أُؤذِّن فِي أُذُنه، فناداني الشَّيْطَانُ من جَوْفه: دَعْنِي أَقتلهُ؛ فَإِنَّهُ يَقُول: الْقُرْآن مَخْلُوقٌ.

قلتُ: هَذِه الْحِكَايَة مُوَافقَة لأصول السُّنة، وَقد ذكرُوا نَحْوهَا حكايات، وَاعْترض فِي ذَلِك الْغَزالِيّ وَغَيره بِأَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَال بِكَلَام الشَّيَاطِين فِي أصُول الدِّين. وَذكر عَن الإِمَام أَحْمد فِي ذَلِك حِكَايَةً بَاطِلَةً ذكرهَا فِي "المنخول"، فَقَالَ: رُبَّ رجلٍ يَعْتَقد الشَّيء دَلِيلًا، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ كَمَا يذكر.

وَجَوَاب هَذَا: أَنَّ الْجِنَّ فيهم الْمُؤمن وَالْكَافِر، كَمَا دلَّ على ذَلِك الْقُرْآنُ، وَيُعرف ذَلِك بِحَال المصروع، وَيُعرف بِأَسْبَابٍ قد يَقْضِي بهَا أهلُ الْمَعرفَة.

الشيخ: وهذا من الدَّلائل أنَّ هذا الجني مؤمن، صاحب سُنَّة؛ ولهذا لما قرأ في أذن المصروع قال الجنيُّ على لسان المصروع: دعني أقتله؛ فإنه يقول: القرآن مخلوق. فالجني الصَّارع يُريد أن يقتل الإنسيَّ لأنه مُبتدع يقول: إنَّ القرآن مخلوق. والجن مثلما قال الله : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، فهم أقسام: فيهم الجهمي، وفيهم السني، وفيهم المعتزلي، وفيهم الرافضي، وفيهم الطيب، وفيهم الخبيث.

فَإِذا عرف أنَّ الجنيَّ من أهل الْإِيمَان كَانَ هَذَا مثلمَا قصَّه الله فِي الْقُرْآن من إِيمَان الْجِنِّ بِالْقُرْآنِ، وكما فِي السِّيرَة من أَخْبَار الهواتف.

وَإِبْرَاهِيم الْخَواص من أكبر الرِّجَال الَّذين لَهُم خوارق، فَلهُ علمه بِأَنَّ هَذَا الجنيَّ من الْمُؤمنِينَ لما ذكر هَذِه الْحِكَايَة على سَبِيل الذَّم لمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن.

فصلٌ

قال أَبُو الْقَاسِم: وَقَالَ ابْنُ عَطاء: لما خلق اللهُ الأحرفَ جعلهَا سرًّا، فَلَمَّا خلق آدمَ بَثَّ ذَلِك السِّرَّ فِيهِ، وَلم يبث ذَلِك السِّرّ فِي أحدٍ من الْمَلَائِكَة، فجرت الأحرفُ على لِسَان آدم بفنون الجريان، وفنون المعارف، فَجَعلهَا الله صورًا لَهَا.

قال أَبُو الْقَاسِم: صرَّح ابْنُ عَطاء رَحمَه الله بِأَنَّ الْحُرُوف مخلوقة.

قلتُ: لم يذكر لهَذِهِ الْحِكَايَة إِسْنَادًا، وَمثل هَذَا لَا تقوم بِهِ حُجَّة، وَلَا يحلّ لأحدٍ أَن يدل الْمُسلمين فِي أصُول دينهم بِكَلَامٍ لم تُعرف صِحَّة نَقله، مَعَ مَا عُلم من كَثْرَة الْكَذِب على الْمَشَايِخ المقتدَى بهم، فَلَا يثبت بِمثل هَذَا الْكَلَام قَولٌ لِابْنِ عَطاء، وَلَا مَذْهَب، بل قد ظهر على هَذِه الْحِكَايَة من كذب ناقلها، وَجَهل قَائِلهَا مَا لَا يصلح مَعَه أَن يُحمد الِاعْتِقَاد بهَا، فَلَو فرض أنَّ هَذِه الْحِكَايَة قَالَهَا بعضُ الْأَعْيَان لَكَانَ فِيهَا من الْغَلَط مَا يردّهَا على قَائِلهَا.

وَكَذَلِكَ أَنَّ الله لم يخصّ آدم بالأحرف، وَإِنَّمَا خصَّه بتعليم الْأَسْمَاء كلهَا، كَمَا قال تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ [البقرة:31].

وَقد تنَازع النَّاسُ: هَل المُرَاد بهَا أَسمَاء مَن يعقل؛ لقَوْله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ، أَو أَسمَاء كل شيءٍ؟

على قَوْلَيْنِ:

وَالْأوَّل: اخْتِيَار ابْن جريرٍ الطَّبَرِيّ، وَأبي بكر عبدالْعَزِيز صَاحب الْخلَّال، وَغَيرهمَا.

وَالثَّانِي أصحّ؛ لِأَنَّ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" فِي حَدِيث الشَّفَاعَة عَن النَّبِي ﷺ: يَا آدم، أَنْت أَبُو الْبَشَر، خلقك اللهُ بِيَدِهِ، وَنفخ فِيكَ من روحه، وأسجد لَك مَلَائكَته، وعلَّمك أَسمَاء كل شيءٍ، وَيُبين ذَلِك أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ قبل أَن يُخْبِرهُمْ آدمُ بالأسماء، وَقد خاطبوا الله، وخاطبوا آدم قبل ذَلِك، قال الله تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً الْآيَة [البقرة:30].

قال: وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَن النَّبِي ﷺ أَنه قال: لما خلق اللهُ آدمَ قال: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ النَّفر من الْمَلَائِكَة فَسلِّم عَلَيْهِم، واسمع مَا يُحيونك بِهِ؛ فَإِنَّهَا تحيَّتك وتحيَّة ذُريتك من بَعْدك، فَذهب إِلَيْهِم فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، فَقَالُوا: وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، فزادوه.

وَأَيْضًا فآدم عَلَيْهِ السَّلَام تكلَّم قبل أَن يُعلمهُ اللهُ أَسمَاء كل شيءٍ، كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ": أَنَّ الله لما خلق آدمَ عطس فَقَالَ: الْحَمد لله ربّ الْعَالمين، فَقَالَ اللهُ لَهُ: يَرْحَمك رَبك.

وَأَيْضًا فَمن الْمَعْلُوم أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يُسبحون الله ويُمجدونه قبل خلق آدم، وَقبل إخْبَاره إيَّاهُم بالأسماء، فَكيف يظنّ ظانٌّ أنَّ النُّطْقَ كَانَ مُخْتَصًّا بِآدَم لما علم الْأَسْمَاء؟!

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِه الْحِكَايَة من قَائِلهَا الأول مُرْسَلَة، لَا إِسْنَادَ لَهَا، وَلم يأثرها عَن النَّبِي ﷺ، وَلَا عَن أحدٍ من أَصْحَابه، وَأحسن أحوالها أَن تكون من الإسرائيليات الَّتِي إِذا لم يُعرف أَنَّهَا حقٌّ أَو بَاطِلٌ لم يصدق بهَا، وَلم يكذب، وَمثل هَذِه لَا يُعْتَمد عَلَيْهَا فِي الدِّين بِحَالٍ.

وَالْمَعْرُوف عَن بعض الْمَشَايِخ حِكَايَة لَو ذكرهَا أَبُو الْقَاسِم لَكَانَ احتجاجه بهَا أمثل، وَهُوَ مَا أَنَّ الإِمَام أَحْمد ذكر لَهُ عَن السَّري السَّقطِي: أَنه ذكر عَن بكر بن حُبَيْش العابد أَنه قال: لما خلق اللهُ الْحُرُوفَ سجدت لَهُ إِلَّا الْأَلف، فَقالت: لَا أَسجد حَتَّى أُومر. فَقَالَ أحْمَد: هَذَا كفر.

وَهَذَا الْكَلَام لم يقلهُ بكرُ بن حُبَيْش، والسَّري، وَنَحْوه من الْعُبَّاد إِلَّا ليُبينوا الْفَرق بَين مَن لَا يفعل إِلَّا مَا أُمِرَ بِهِ، وَمن يَعْتَمد بِمَا لم يُؤمَر بِهِ من الْبِدَع، وَهَذَا مَقْصُودٌ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْعَمَل الصَّالح المقبول هُوَ مَا أَمر اللهُ بِهِ وَرَسُوله، دون ما شرع من الدِّين الَّذِي لم يَأْذَن بِهِ الله، لَكِن كثير من الْعُبَّاد لَا يحفظ الْأَحَادِيث، وَلَا أسانيدها، فكثيرًا مَا يغلطون فِي إِسْنَاد الحَدِيث أَو مَتنه؛ وَلِهَذَا قال يحيى بن سعيدٍ: مَا رَأينَا الصَّالِحين فِي شيءٍ أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث. يَعْنِي: على سَبِيل الْخَطَأ.

الشيخ: يعني العُبَّاد الذين ليس لهم عناية بالرِّوايات يقع منهم الغلط بسبب قلَّة معرفتهم بالأحاديث، وغلبة العبادة عليهم، وعدم اشتغالهم بالأسانيد، تقع منهم الأخطاء والأغلاط في الرِّوايات؛ لأنَّ الحديثَ له رجال وقوم يُعنون به، ويعرفون طرقه؛ ولهذا يقع منهم الخطأ ويُسمَّى: كذبًا؛ لأنه خلاف الواقع، والكذب تارةً يتعمد فيكون صاحبه كذَّابًا، آثمًا. وتارةً يقع من غير تعمُّدٍ، لكن لجهلٍ وعدم بصيرةٍ بالرِّوايات، فيكون كذبًا من حيث أنه مخالفٌ للواقع، مثلما جاء في الحديث: كذب أبو السَّنابل لما قال في حقِّ المرأة الحامل: أنك لا تخرجي من العدَّة حتى تمرَّ عليك أربعةُ أشهرٍ وعشرًا. كذب يعني: قال خطأ، غلطًا، مخالفًا للواقع، مخالفًا للشرع؛ لأنَّ الحامل عدَّتها وضع الحمل.

وَقَالَ أَيُّوب السَّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ من جيراني لمن أرجو بركَة دُعَائِهِمْ فِي السَّحر، وَلَو شهد عِنْدِي على جزرة بقلٍ لما قبلتُ شَهَادَته.

وَلِهَذَا يُميزون فِي أهل الْخَيْر والزُّهد وَالْعِبَادَة بَين ثَابتٍ الْبُنانِيّ، والفُضيل بن عِيَاض، وَنَحْوهمَا، وَبَين مَالك بن دِينَار، وفرقد السَّبخي، وحبِيب العجمي، وطبقتهم. وكل هَؤُلَاءِ أهل خيرٍ وَفضلٍ وَدينٍ، والطَّبقة الأولى يَدْخل حَدِيثُهَا فِي الصَّحِيح.

وَقَالَ مَالكُ بن أنسٍ رَحمَه الله: أدركتُ فِي هَذَا الْمَسْجِد ثَمَانِينَ رجلًا لَهُم خيٌر وَفضلٌ وَصَلَاحٌ، كلٌّ يَقُول: حَدَّثنِي أبي، عَن جدِّي، عَن النَّبِي ﷺ. لم نَأْخُذ عَن أحدٍ مِنْهُم شَيْئًا. وَكَانَ ابْنُ شهَابٍ يأتينا وَهُوَ شَابٌّ فنزدحم على بَابه؛ لِأَنَّهُ كَانَ يعرف هَذَا الشَّأْن.

هَذَا وَابْنُ شهَابٍ كَانَ فِيهِ من مُداخلة الْمُلُوك وَقبُول جوائزهم مَا لَا يُحِبهُ أهلُ الزّهْد والنُّسك، وَالله يخْتَصُّ كل قومٍ بِمَا يختاره، فَأُولَئِك النُّساك رووا هَذَا الأثرَ ليُفرِّقوا بَين الْعَمَل الْمَشْرُوع الْمَأْمُور بِهِ، وَمَا لَيْسَ بمشروعٍ مَأْمُورٍ بِهِ.

وَجَاء فِي لفظٍ: (لما خلق اللهُ الْحُرُوفَ)، فاحتجَّ بِهَذَا مَن يَقُول من الْجَهْمِية: إِنَّ الْقُرْآنَ أَو حُرُوفه مخلوقة. فَقَالَ أَحْمد: (هَذَا كفرٌ)؛ لِأَنَّ فِيهِ القَوْلَ بِخلق مَا هُوَ من الْقُرْآن، وَذَلِكَ الْأَثرُ لَا يُعرف لَهُ إِسْنَادٌ، وَلَا يُعرف قَائِله، وَلَا ناقله.

الشيخ: وهذا من أسباب ما ذُكر عنهم أنهم يروون الغثَّ والسَّمين، ما عندهم بصيرة، العُبَّاد والزُّهاد الذين لم يُعنوا بالحديث، ولم يعرفوا طرقه، ولم يعرفوا الرجال تقع منهم الأخطاء والأغلاط فيما ينقلون.

وَذَلِكَ الْأَثرُ لَا يُعرف لَهُ إِسْنَادٌ، وَلَا يُعرف قَائِله وَلَا ناقله، وَلَا يُؤثر عَن صَاحبٍ، وَلَا تَابعٍ، وَلَعَلَّه من الْإسْرَائِيلِيات، فَردّ الِاحْتِجَاج بِهِ أسهل الْأُمُور.

وَأمَّا مَا تضمنه من الْفَرق بَين الْعَمَل الَّذِي يُؤمَر بِهِ، وَالَّذِي لَا يُؤمَر بِهِ، فَهَذَا الْفَرق ثَابتٌ بِالْكِتاب وَالسُّنة وَإِجْمَاع الْأُمَّة، مَتى كَانَ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي لَا تُعرف صِحَّتهَا وَالْأَحَادِيث الضَّعيفة مَا يُوَافق أصُول الْإِسْلَام، وَمَا لَا يُوَافق قبُول الْحقِّ وَترك الْبَاطِل.

الشيخ: يعني هذا أصلٌ، القاعدة الشَّرعية أنَّ العبادات بالأوامر، لا بالآراء، فما جاء به الأمرُ فهو عبادة، وما لم يأتِ به شيءٌ فليس بعبادةٍ، إنما تُتلقَّى العبادات من طريق الأوامر من كتاب الله وسُنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أما عن الآراء والاستحسانات فلا؛ لأنَّ الله قال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فعابهم على هذا، وأنكر عليهم، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ.

فالعُبَّاد الزُّهَّاد الذين ليس لهم بصيرة قد يتعبَّدون بأشياء ما لها أساس، وقد يقولون أشياء، ويتكلمون بأشياء ما لها أساس؛ لعدم البصيرة، فلا تُقبل منهم، ولا يُلتفت إليها منهم حتى تُوجد بالأدلة الصَّحيحة.

فنقبل من هَذِه الْحِكَايَة مَا وَافق الأصول، وَهُوَ الَّذِي أَخذه بكر بن حُبَيْش والسَّري وَغَيرهمَا، ونردّ مِنْهَا مَا خَالف الأصول، وَهُوَ الَّذِي ردّه الإِمَام أَحْمد وَغَيره من أَئِمَّة الْهُدى، مَعَ أَنَّ أَحْمد من أعظم النَّاس قولًا لما قَصده السَّري من الْفَرق بَين الْمَأْمُور وَغير الْمَأْمُور، وَهُوَ من أعظم النَّاس أمرًا بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوع، ونهيًا عَن غير الْمَشْرُوع.

ثمَّ حِكَايَة السَّري لَعَلَّه لم يُرد بالحروف إِلَّا المداد الَّذِي تُكْتَب بِهِ الْحُرُوف، فسجدت، فَإِنَّهُ قال: (فسجدت لَهُ إِلَّا الْأَلف فَقالت: لَا أَسجد حَتَّى أُومَر)، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى انتصاب الْأَلف، وانخفاض غَيرهَا، وَهَذَا صُورَة مَا يُكْتَب بِهِ من المداد، وَأما الْحُرُوف الَّتِي أنزلهَا اللهُ فِي كِتَابه فَلَا يخْتَلف حكمُهَا باخْتلَاف مَا يُكْتَب بِهِ من صُورَة المداد.

وَلَعَلَّ هَذَا أَيْضًا هُوَ الَّذِي قَصده فِي حِكَايَة ابْن عَطاء، إِن كَانَ لَهَا أصلٌ، فَإِنَّهُ قد ذكر ابنُ قُتَيْبَة فِي "المعارف" أَنَّ الله لما أهبط آدم أَنْزَل عَلَيْهِ حُرُوف المعجم فِي إِحْدَى وَعِشْرين صحيفَة، فَيكون ناقِلُها قصد أَنَّ آدم اخْتصَّ من بَين الْمَلَائِكَة بِأَنَّ عُلِّمَ الْكِتَابَة بهذه الْحُرُوف، كَمَا قال تَعَالَى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:4- 5].

وَالْمَلَائِكَة وَإِن كَانَ اللهُ قد وَصفَهم بِأَنَّهُم يَكْتُبُونَ، كَمَا قال تَعَالَى: كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:11- 12]، وَقَالَ: وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، فَلَا يجب أَن تكون حروفُهم الْمَكْتُوبَة مثل الْحُرُوف الَّتِي يَكْتُبهَا الآدميون؛ إِذْ يكون الَّذين قَالُوا: إِنَّه خلق الْحُرُوف أَرَادوا أَنَّه خلق أصوات الْعِباد، فَلَا ريبَ أَنَّ الله خَالق أصوات الْعِباد وأفعالهم، لَكِن هَذَا لَا يَقْتَضِي أنَّ حُرُوف الْقُرْآن أَو مُطلق الْحُرُوف مخلوقة، بل يجب التَّفْرِيقُ بَين مَا هُوَ من صِفَات الله تَعَالَى، وَمَا هُوَ من خَصَائِص المخلوقين.

والتَّأويل من المداد لَيْسَ هُوَ الظَّاهِر من الْحِكَايَة، فَإِنَّهُ قال: (فجرت الأحرفُ على لِسَان آدم)، وَلَا هُوَ أَيْضًا بِذَاكَ، وَلَكِن ذِكر أَمْثَال هَذِه الحكايات لبَيَان المعتقدات نوعٌ من ركُوب الجهالات والضَّلالات، فَإِذا تبين أَنَّهَا لَا تصحّ: لَا من ناقلها، وَلَا من قَائِلهَا، وَأَنَّهَا مُشْتَمِلَة على أَنْوَاع من الْبَاطِل، كَانَ بعد ذَلِك ذكر هَذِه التأويلات أحسن مِمَّا يذكرهُ المحتجُّون بهَا من تأويلاتهم لنصوص الْكِتاب وَالسُّنة الصَّحيحات الصَّريحات.

فَتبين بذلك أَنَّ أهل السُّنة فِي كل مقَامٍ أصحّ نقلًا وعقلًا من غَيرهم؛ لأنَّ ذَلِك من تَمام ظُهُور مَا أرسل اللهُ بِهِ رَسُوله من الْهُدى وَدين الْحقِّ؛ لِيُظْهرهُ على الدِّين كُلِّه، ظُهُوره بِالْحُجَّةِ، وظهوره بِالْقُدْرَةِ.

ثم إنَّ هذه الحكاية المعروفة عن السَّري لما بلغت الإمامَ أحمد أنكرها غاية الإنكار، حتى توقف عن مدح السَّري، مع ما كان يذكر من فضله وورعه، ونهى عن أن يُذكر عنه مدحه حتى يظهر خطأه في ذلك، مع أنَّ السَّري اعترف بأنه لم يقلها ذاكرًا، وإنما قالها آثرًا، فذكر الخلال في كتاب "السنة": "ذِكر السَّري وما أحدث. أخبرني أحمد بن محمد، عن مطر وزكريا بن يحيى: أنَّ أبا طالب حدَّثهم أنه قال لأبي عبدالله: جاءني كتابٌ من طرسوس أنَّ سريًّا قال: لما خلق اللهُ الحروفَ سجدت إلا الألف فإنه قال: لا أسجد حتى أومر. فقال: هذا الكفر".

قال الخلال: فأخبرنا أبو بكر المروذي قال: جاءني كتابٌ من الثَّغر في أمر رجلٍ تكلم بكلامٍ، وعرضته على أبي عبدالله، فيه: "لما خلق اللهُ الحروفَ سجدت إلا الألف"، فغضب أبو عبدالله غضبًا شديدًا، حتى قال: "هذا كلامُ الزنادقة، ويله! هذا جهمي". وكان في الكتاب الذي كتب به أنَّ هذا الرجل قال: "لو أنَّ غلامًا من غلمان حارث -يعني المحاسبي- لخبَّر أهل طرسوس"، فقال أبو عبدالله: أشد ما هاهنا قوله: (لو أنَّ غلامًا من غلمان حارث لخبَّر أهل طرسوس) ما البليَّة إلا حارث، حذِّروا عنه أشدّ التَّحذير.

قال أبو بكر المروذي: جاءني حسن بن البزاز برقعةٍ فيها كلام هذا الرجل بخطِّه، قال: إنَّ هذا خطّه فيها مكتوب: إني إنما حكيتُ عن غيري، فلما قرأتُها قلتُ لحسن: قد أقرَّ. قال: إني أُقرُّ. قلت: فقوله: (حكيت عن غيري)، قلتُ لأبي عبدالله: بأي شيءٍ ترى؟ قال: دعه حتى يقرَّ. وبلغ أبا عبدالله عن حسن أنه قال بعد مجيئه إلى أبي عبدالله بالرقعة: ليس له عند أبي عبدالله إلا خيرًا. فقال: اذهب إليه فقل له: قد علمت ما في قلبي حتى على مثل هذا، قل له: لا تحكِ عني شيئًا مرةً. فلقيتُ حسنًا فقال: ليس أحكي عنه شيئًا.

ثم أيضًا قول القائل: (لما خلق اللهُ الأحرفَ جعلها سرًّا له، فلما خلق آدمَ عليه السلام بثَّ ذلك السِّرَّ فيه، ولم يبث ذلك السِّر في أحدٍ من ملائكته) فساده ظاهر من وجوهٍ:

أحدها: أنَّ فيه أنه خلق الحروفَ قبل خلق آدم، وهذا لم يقله أحدٌ من المسلمين، فإنَّ الذين يقولون بخلقها يقولون: إنما يخلقها إذا أراد إنزال كلامه على رسوله، فيخلق حروفًا في الهواء يسمعها جبريل أو غيره، ينزل بها ويُفهمه المعنى الذي أراده بتلك الحروف، فيكون جبريلُ أول مَن تكلم بتلك الحروف وعبَّر بها عن مُراد الله، وهو المعنى القائم بنفسه، كما يُعبِّر عن الأخرس مَن فهم معناه بإشارته. فأمَّا أن يُقال: (خُلقت الحروف قبل خلق آدم عليه السلام، ولم تُخاطب بها الملائكة) فهذا لم يقله أحدٌ.

الثاني: أنه جعل الحروفَ لآدم دون الملائكة، ومن المعلوم أنَّ الذي نزل بالقرآن وغيره من كلام الله هم الملائكة، وهم تلقّوا الحروف عن الله قبل أن يتلقّاها الأنبياء، فكيف يُسلبون ذلك؟!

الثالث: أنَّ قوله: (جعلها سرًّا له) كلامٌ لا حاصلَ له؛ لأنَّ السر ما أسره الله فأخفاه عن عباده، أو بعضهم، أو ما تضمن ما أسرّه، وهذه الحروف أظهر شيءٍ لبني آدم، حتى أنَّ النُّطق بها أظهر صفاته، وكذلك قال الله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23].

وإن قيل: إنَّ الحروف تتضمن من المعاني ما أسرّه الله. فلا ريبَ أنها تتضمن كلّ ما يُعبر عنه من المعاني: سرها وجهرها، فالاختصاص للسّر بها.

قال أبو القاسم: قال سهل بن عبدالله: إنَّ الحروف لسان فعلٍ، لا لسان ذاتٍ؛ لأنها فعل في مفعول. قال: وهذا أيضًا صريح؛ لأنَّ الحروف مخلوقة.

قلتُ: هذا الكلام ليس له إسنادٌ عن سهلٍ، وكلام سهل بن عبدالله وأصحابه في السُّنة والصِّفات والقرآن أشهر من أن يُذكر هنا، وسهل من أعظم الناس قولًا بأنَّ القرآنَ كله -حروفه ومعانيه- غير مخلوقةٍ، بل صاحبه أبو الحسن ابن سالم -أخبر الناس بقوله- قد عُرف قوله وقول أصحابه في ذلك.

وقد ذكر أبو بكر ابن إسحاق الكلاباذي في "التعرف في مذاهب التصوف" عن الحارث المحاسبي وأبي الحسن ابن سالم: أنهما كانا يقولان: إنَّ الله يتكلم بصوتٍ. ومذهب السَّالمية أصحاب سهل ظاهر في ذلك، فلا يُترك هذا الأمر المشهور المعروف الظاهر لحكايةٍ مُرسلةٍ لا إسنادَ لها.

ثم هذا الكلام في ظاهره من قلَّة المعرفة ما لا يصلح أن يُضاف إلى سهل بن عبدالله؛ لأنَّ قوله: (لأنها فعلٌ في مفعول) إن أراد: فعل قائم بذات الله، كما يُقال: تكلم، وخلق، ورزق، عند الجمهور الذين يقولون: هذه أمور قائمة بذاته. فقوله بعد ذلك: (في مفعول) لا يصلح؛ فإنه فعل قائم بذات الله، ليس في مفعولٍ.

وإن أراد بها: فعل مُنفصل عن الله، فكل متَّصل عن الله فهو مفعول، مثل قول القائل: مفعول في مفعول، وفعل في فعلٍ. وهذا لا يصلح أن يُحتجّ به؛ لأنه متى علم أنها مفعولة، وأنها فعل بمعنى مفعول، فسواء كانت في نظيرها أو لم تكن هي مخلوقة.

وإن قيل: إنه أراد: فعل في الآدمي الذي هو مفعول. فيُقال: كلاهما مفعول، وأيضًا فهذا إنما يدل على أنَّ أصوات العباد ومدادهم مخلوقٌ، لا يدل على أنَّ الحروف التي هي من كلام الله مخلوقة.

قال أبو القاسم: وقال الجُنيد في جوابات مسائل الشَّاميين: التَّوكل: عمل القلب، والتوحيد: قول القلب.

قال أبو القاسم: وهذا قول أهل الأصول: إنَّ الكلام هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنَّهي، والخبر والاستخبار.

قلتُ: هذه المقالة لما أسند موضعها من كلام أبي القاسم الجُنيد لم يكن فيها حُجَّة لمطلوبه، فالمذكور عن المشايخ الكبار ليس فيه صحيحٌ صريحٌ لمطلوبه الذي يُخالف به الأحاديث الصَّحيحة وإجماع السَّلف، بل إمَّا أن يفقد فيه الوصفان، أو أحدهما، وذلك أنَّ الجنيد ذكر أنَّ التوحيد: قول القلب، فأضاف القولَ إلى القلب، وهذا مما لا نزاعَ فيه: أن القول والحديث ونحوهما مع التَّقييد يُضاف إلى النَّفس والقلب.

كما في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الله تجاوز لأُمَّتي عمَّا حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل.

وقد قال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53].

وقال أبو الدَّرداء: ليحذر أحدُكم أن تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر.

وقال الحسن البصري: ما زال أهلُ العلم يوعدون.

الشيخ: لعلها: يعودون، يُكررون يعني.

يعودون بالتَّذكر على التَّفكر، وبالتَّفكر على التَّذَكُّر.

الشيخ: يعني يذكرون بها، تارةً يذكرون، وتارةً يُفكرون، يُفكر، ويذكر، حتى يستقيم له الطريق، يُفكر في طريق الحقِّ، ويأخذ به، ويذكر به، ويُفكر في طريق الباطل ليحذره، ويُحذره غيره، فتارةً مُفَكِّرًا، وتارةً مُذَكِّرًا.

ويُناطقون الْقُلُوب حَتَّى نطقت، فَإِذا لَهَا أسماع وأبصار، فنطقت بِالْعِلمِ، وأورثت الْحِكْمَة.

فوصف الْقَلب وَالنَّفس بِأَنَّهُ: يَقُول، وَيَأْمُر، ويتحدث، وينطق، وَنَحْو ذَلِك، يُسْتَعْمَل مَعَ التَّقْيِيد باتِّفاق الْمُسلمين، لَكِن النِّزاع فِي شَيْئَيْنِ:

أَحدهمَا: أَنَّ الْكَلَام على الْإِطْلَاق من غير إِضَافَةٍ إِلَى نفسٍ وقلبٍ أَو نَحْو ذَلِك، هَل هُوَ اسْمٌ لمُجَرّد المعنى، أَو لمُجَرّد الْحُرُوف، أَو لمجموع الْمعَانِي والحروف؟

هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

فالقُشيري وَطَائِفَة يَقُولُونَ بالأول.

وَطَائِفَةُ أُخْرَى من أهل الْكَلَام وَالْفِقْه والعربية تَقول بِالثَّانِي.

وَأما سلفُ الْأُمَّة وأئمّتها فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بالوسط، وَهُوَ الثَّالِث: أَنَّ الْكَلَام عِنْدَ الْإِطْلَاق يتَنَاوَل الْحُرُوف والمعاني جَمِيعًا.

وَقَول النَّبِي ﷺ: إِنَّ الله تجَاوز لأُمَّتي عَمَّا حدَّثت بِهِ أَنْفسهَا، مَا لم تتكلم أَو تَعْمَل بِهِ يُفرق بَين الحَدِيث الْمُقَيد بِالنَّفسِ، وَبَين الْكَلَام الْمُطْلَق.

الثَّانِي: أَنَّ معنى الْكَلَام الَّذِي تُطابقه الْعِبارَة هَل هُوَ من جنس الْعُلُوم والإرادات، أم لَيْسَ من هَذَا الْأَحْسَن، بل هُوَ حَقِيقَة أُخْرَى؟

وَهَذَا فِيهِ نزاعٌ بَين الطَّوائف المنتسبة إِلَى السُّنة، وَالَّتِي لَيست مُنتسبة إِلَيْهَا، فَفِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء مَن يَقُول بِهَذَا، وَفِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء مَن يَقُول بِهَذَا.

فَتبين أَنَّ مَا ذكره الْجُنَيْد من قَول الْقَلب لَيْسَ هُوَ قَول مَن يَقُول: إِنَّ الْكَلَام هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفْسِ.

وَأما قَول أبي الْقَاسِم: (إِنَّ هَذَا قَول أهل الْأُصُول بِالْعُمُومِ) فَلَا خلافَ بَين النَّاس أَنَّ أول مَن أحدث هَذَا القَوْل فِي الْإِسْلَام أَبُو مُحَمَّد عبدالله بن سعيد بن كلاب الْبَصْرِيّ، وَاتَّبعهُ على ذَلِك أَبُو الْحَسن الْأَشْعَرِيّ، وَمَن نصر طريقتهما، وَكَانَا يُخالفان الْمُعْتَزلَة، ويُوافقان أهل السُّنة فِي جمل أصُول السُّنة، وَلَكِن لتقصيرهما فِي علم السُّنة وتسليمهما للمُعتزلة أصولًا فَاسِدَة، صَار فِي مَوَاضِع من قوليهما مَوَاضِع فِيهَا من قَول الْمُعْتَزلَة مَا خالفا بِهِ السُّنة، وَإِن كَانَا لم يُوافقا الْمُعْتَزلَة مُطلقًا.

وَهَذِه الْمَسْأَلَة -مسألة حدِّ الْكَلَام- قد أنكرها عَلَيْهِمَا جَمِيعُ طوائف الْمُسلمين، حَتَّى الْفُقَهَاء والأصوليون، والمصنِّفون فِي أصول الْفِقْه على مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد يَذكرُونَ الْكَلَامَ وأنواعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر، وَمَا فِيهِ من الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَأَنَّ الصِّيغَة دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى ذَلِك عِنْد جَمِيع فِرَق الْأُمة: أصوليها، وفقيهها، ومُحدثها، وصوفيها.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الكلام عند أهل السنة يشمل اللَّفظ والمعنى، وليس خاصًّا بالمعنى الذي يقوم في النفس، وليس خاصًّا بالألفاظ الخارجة، بل الكلام عند أهل السنة والجماعة يشمل المعنى واللَّفظ، وقول ابن كلاب وقول الأشعري: أنه هو المعنى القائم بالله، وأنَّ هذه الألفاظ حكاية وعبارة عن كلام الله. ردَّ عليهم أهلُ السنة وغلَّطوهم، بل الصواب أنَّ القرآنَ هو كلام الله: حروفه ومعانيه، القرآن والتَّوراة والإنجيل وجميع كتب الله كلها كلامه، حروفها ومعانيها، لا الحروف وحدها، ولا المعاني وحدها، بل الحروف والمعاني هي كلام الله .

وهكذا إذا قلت لزيدٍ: قم، أو اجلس، أو افعل كذا وكذا. فكلامك يشمل اللَّفظ والمعنى جميعًا، لا يختصُّ بالمعنى، ولا يختصُّ باللَّفظ، فالكلام عند أهل اللغة العربية التي نطق بها القرآنُ يشمل المعنى، ويشمل اللَّفظ.

فقول الكلابية والأشعرية أنه يختصّ بالمعنى القائم بالله، وأنَّ هذه الألفاظ الموجودة حكاية وعبارة، وأنها مخلوقة. غلط، فجمعوا بين قول الجهمية، وبين أصلٍ ما قاله أهلُ السنة في أنَّ المعنى من الكلام، والصواب الجمع بينهما، وأنَّ الكلام يشملهما جميعًا، يشمل المعنى والحروف.

وَأَنَّ الصِّيغَة دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى ذَلِك عِنْد جَمِيع فِرق الْأُمَّة: أصوليها، وفقيهها، ومُحدثها، وصوفيها.

الشيخ: الصِّيغة اللَّفظ يعني.

إِلَّا عِنْدَ هَؤُلَاءِ، فَكيف يُضَاف هَذَا القَوْلُ إِلَى أهل الأصول عُمُومًا وإطلاقًا.

ثمَّ من الْعَجَب قَول أبي الْقَاسِم عَن أهل الْأُصُول: هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من معنى الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالْخَبَر، والاستخبار.

الشيخ: وقد ردَّ أبو العباس في "الواسطية" على اختصارها هذا القول، وقال: ولا يجوز أن يكون هذا القرآنُ عبارةً عن كلام الله، ولا حكاية. قصده الردّ على ابن كلاب والأشعري في "الواسطية" على اختصارها رحمه الله.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار أَنْوَاع الْكَلَام، وَالْجِنْس يَنْقَسِم إِلَى أَنْوَاعه، واسْمُه صَادِقٌ على كل نوعٍ من الأنواع، كَمَا إِذا قسمنا الْحَيَوَان إِلَى طيرٍ ودوابٍّ، يعمّهما، وَيصدق اسْمُه على كلٍّ مِنْهُمَا، فَيجب أَن يكون حدُّ الْكَلَام واسْمُه صَادِقًا على أَنْوَاعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار، فَإِن كَانَ الْكَلَامُ لَيْسَ إِلَّا مُجَرّد الْمَعْنى، فَهَذِهِ الْأَنْوَاع لَيست إِلَّا مُجَرّد معنى، فَإِذا قال: (إِنَّ الْكَلَام هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من معنى الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار) كَانَ قد جعل الْمَعْنى الَّذِي لِلْأَمْرِ غير الْأَمر، وَهَذَا يُطَابق قَول أهل الْجَمَاعَة، لَا يُطَابق قَوْله، بل كَانَ حَقّه أَن يَقُول: الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من الْأَمر وَالنَّهْي. لَا من معنى الْأَمر وَالنَّهْي. لكنه تكلم فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار.

فَأَمَّا فِي الْكَلَام فَتكلم فِيهِ بِمَا تَلقَّاهُ عَن أُولَئِكَ المتكلمة الَّذين أَحْسنُوا فِي مَوَاضِع كَثِيرَةٍ، وردّوا بهَا على الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم، وأساءوا فِي مَوَاضِع خالفوا بهَا السُّنة، وَإِن كَانُوا مُتأولين، وَالله يَغْفر لجَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

فصلٌ فِي الحَدِيث الَّذِي فِي "الصَّحِيحَيْنِ"

عَن جُوَيْرِية أم الْمُؤمنِينَ لما خرج النَّبِيُّ ﷺ من عِنْدهَا، ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا تُسبح بحصًى، فَقَالَ لَهَا: مَا زلتِ مُنْذُ الْيَوْم؟ قالت: نعم. قال النَّبِيُّ ﷺ: لقد قلتُ بَعْدك أَربع كَلِمَات ثَلَاث مَرَّات، لَو وُزنت بِمَا قلتيهن مُنْذُ الْيَوْم لوزنتهنَّ: سُبْحَانَ الله عدد خلقه، سُبْحَانَ الله زنةَ عَرْشه، سُبْحَانَ الله رضَا نَفسه، سُبْحَانَ الله مداد كَلِمَاته.

فِيهِ فَوَائِد تردّ على الْجَهْمِيَّة والمتفلسفة:

مِنْهَا قَوْله: زنة عَرْشه، وَذَلِكَ فِي معرض التَّعْظِيم لوزن الْعَرْش، وَأَنه أعظم الْمَخْلُوقَات وزنًا، وَذَلِكَ يدل على ثقله، كَمَا جَاءَت بعض الْأَحَادِيث بثقله، خلافًا لما يَقُوله مَن يَقُوله من المتفلسفة: إِنَّ الأفلاك وَمَا فَوْقهَا لَيْسَ بثقيلٍ وَلَا خَفِيفٍ، بِنَاءً على اصْطِلَاحٍ لَهُم: الثَّقيل: مَا تحرَّك إِلَى السّفل، والخفيف: مَا تحرَّك إِلَى فَوق. وَإِنَّ الأفلاك لَا تهبط وَلَا تصعد، وَذَلِكَ أَنَّ الله أمْسَكهَا بقُدرته، كَمَا أمسك الأرض فِي مقرِّها، مَعَ الْعِلم بِأَنَّ مقرَّ الْأَجْسَام أَمرٌ عدمي، لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِب اخْتِصَاص شيءٍ بِهِ دون الآخر.

وَمِنْهَا قَوْله: رضَا نَفسه فِيهِ إِثْبَات نَفسه، وَإِثْبَات رِضَاهُ، وَأَنَّ رِضَاهُ لَيْسَ هُوَ مُجَرّد إِرَادَته، فَإِنَّهُ قد قال: عدد خلقه، والمخلوق هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ وشاءه، فَلَو كَانَ رِضَاهُ هُوَ إِرَادَته لَكَانَ مُرَاده مَوْجُودًا، فَإِنَّ مُرَاده قد وُجِدَ قبل هَذَا الْكَلَام، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ الله كَانَ، وَهَذَا الْكَلَام يَقْتَضِي أَنَّ رضا نَفسه أعظم من ذَلِك، وَمن ذَلِك أَنه جمع بَين رضَا نَفسه ومداد كَلِمَاته، فَأثْبَت لَهُ الرِّضَا وَالْكَلَام، وَالرِّضَا مُسْتَلْزِم الْإِرَادَة، وَإِن لم يكن هُوَ عين الْإِرَادَة، فَفِيهِ إِثْبَات كَلَامه وَرضَاهُ الَّذِي يتَضَمَّن محبَّته ومشيئته.

وَهَاتَانِ الصِّفتان هما اللَّتَان أنكرهما الْجَعْدُ بن دِرْهَم -أول الْجَهْمِيَّة- لما زعم أَنَّ الله لم يتَّخذ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، إِذْ لَا محبَّةَ لَهُ، وَلَا رضَا، وَلم يُكلم مُوسَى تكليمًا، وَعَن ذَلِك نفت الْمُعْتَزلَةُ أَن يكون لَهُ فِي نَفسه إِرَادَة، أَو كَلَام، وَلم يجْعَلُوا ذَلِك إِلَّا مخلوقًا فِي غَيره.

وتقرَّب مِنْهُم طَائِفَةٌ من الأشعرية؛ فأثبتت الْإِرَادَة، وَلم يجْعَلُوا الْمحبَّة وَالرِّضَا صفةً إِلَّا الْإِرَادَة، وأثبتت الْكَلَامَ، وَلم يَجْعَلُوهُ إِلَّا معنًى وَاحِدًا قَائِمًا بِذَاتِهِ، فَوَافَقُوا أهلَ الْإِثْبَات فِي بعض الْحقِّ، والجهميَّة فِي بعض الْبَاطِل.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ أهل السُّنة والجماعة تلقّوا النصوصَ كما جاءت، وأثبتوا ما دلَّت عليه، ولم يحيدوا عنها، فأثبتوا الإرادةَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الأنعام:125]، وأثبتوا الرِّضا كما هنا .....، وكما في الحديث الآخر: أعوذ برضاك من سخطك، وفي القرآن الكريم: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] في آيات.

وأثبتوا الكلامَ، وأنه كلام يُسْمَع ويُتْلَى ويُكْتَب، بخلاف الجهميَّة فإنهم نفوا الصِّفات، وبخلاف المعتزلة، كذلك بخلاف الأشعرية والكلابية؛ فإنهم أثبتوا الإرادةَ، وأثبتوا جنس الكلام، لكن قالوا: إنه معنى قائم بالله، وما يوجد من الكلام تعريض عن ذلك، وحكاية، وجعلوه مخلوقًا، وهذا أيضًا باطل، فهم أثبتوا السَّبع الصِّفات المشهورة، وبعضهم زاد عليها بعض الشيء.

وأما أهل السنة والجماعة فلم يُحددوا عددًا مُعينًا، بل كل ما جاء في الكتاب والسُّنة من أسماء الله وصفاته فإنَّ أهل السنة والجماعة يُثبتونه لله على الوجه اللائق بالله، من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، والضَّابط في هذا ما صحَّت به السنة، أو جاء به الكتابُ العزيز فقط، ولا يحدون ذلك بحدٍّ: لا بعشرين، ولا بمئة، ولا بأكثر، ولا بأقلّ، بل كل ما جاء في القرآن العظيم من صفات الله فهو حقٌّ، ومعانيها قائمة بالله على الوجه اللائق بالله: كالعزيز، والحكيم، والرؤوف، والقدير، والسَّميع، والبصير، وغير ذلك، وهكذا ما ثبت في السُّنة من أسماء الله وصفاته كله حقّ.

وَمن ذَلِك أَنه انْتَقَل من صفة الْمَخْلُوق إِلَى صفة الْخَالِق، فَذكر عدد الْمَخْلُوقَات، وَذكر وزن سقفها، وَأَعْظَمهَا، كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: قال النَّبِيُّ ﷺ: إِذا سَأَلْتُم اللهَ فسلوه الفردوس؛ فَإِنَّهَا وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة، وسقفها عرش الرَّحْمَن.

فصلٌ يتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ

قال أَبُو الْقَاسِم الْقُشيرِي فِي بَاب السَّماع: قال الله تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبَادِ ۝ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17- 18].

قال أَبُو الْقَاسِم: اللَّام فِي قَوْله: (القَوْل) تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه مدحهم باتِّباع الْأَحْسَن.

قلتُ: وَهَذَا يذكرهُ طَائِفَةٌ مِنْهُم أَبُو عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ وَغَيره، وَهُوَ غلطٌ باتِّفاق الْأُمَّة وأئمّتها لوجوهٍ:

أحدها: أَنَّ الله لَا يَأْمُر باستماع كل قَولٍ بِإِجْمَاع الْمُسلمين حَتَّى يُقَال: اللَّام للاستغراق والعموم، بل من القَوْل مَا يحرم استماعه، وَمِنْه مَا يُكره، كَمَا قال النَّبِي ﷺ: مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيث قومٍ وهم لَهُ كَارِهُون صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنك يَوْمَ الْقِيَامَة، وَقد قال تَعَالَى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:68- 69].

س: حال الحديث الذي مرَّ؟

ج: حديثٌ صحيحٌ رواه البخاري: مَن استمع حديثَ قومٍ وهم له كارهون صُبَّ في أذنيه الآنك يوم القيامة الرصاص المذاب، نعوذ بالله، نسأل الله العافية. هذا لهؤلاء الصُّوفية، وأهل السَّماع يقولون: القول يعمّ الأغاني والملاهي وأشعارهم الخبيثة، حتى يدعوا الناس إلى استماع ما يقولون من رقصٍ وأغانٍ وشعرٍ باطلٍ بزعمهم بعموم: يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [الزمر:18]، والمؤلف يردّ عليهم رحمه الله.

وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.

فقد أَمر سُبْحَانَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَن كَلَام الخائضين فِي آيَاته، وَنهى عَن الْقُعُود مَعَهم، فَكيف يكون اسْتِمَاعُ كلِّ قَولٍ مَحْمُودًا.

وَقَالَ تَعَالَى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140].

فَجعل اللهُ المستمعَ لهَذَا الحَدِيثِ مثل قَائِله، فَكيف يمدح كل مُستمعٍ كل قَولٍ؟!

وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1- 3].

وَقَالَ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا إِلَى قَوْله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:63- 72].

ورُوي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سمع صَوتَ لَهوٍ فَأَعْرض عَنهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِن كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لكريمًا، فَإِذا كَانَ اللهُ تَعَالَى قد مدح وَأَثْنى عَلى مَن أعرض عَن اللَّغْو وَمرَّ بِهِ كَرِيمًا لم يستمعه، كَيفَ يكون اسْتِمَاعُ كل قَولٍ ممدوحًا؟!

وَقد قال تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، فقد أخبر أَنَّه يسْأَل العَبْد عَن سَمعه وبصره وفُؤاده، وَنَهَاهُ أَن يَقُول مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علمٌ.

وَإِذا كَانَ السَّمع وَالْبَصَر والفُؤاد كل ذَلِك مُنقسمٌ إِلَى مَا يُؤمَر بِهِ، وَإِلَى مَا يُنْهَى عَنهُ، وَالْعَبْدُ مسؤولٌ عَن ذَلِك كُلِّه، كَيفَ يجوز أَن يُقَال: كل قَولٍ فِي الْعَالم كَانَ فَالْعَبْدُ مَحْمُودٌ على استماعه؟! هَذَا بِمَنْزِلَة أَن يُقَال: كل مرئيٍّ فِي الْعَالم فَالْعَبْد ممدوحٌ على النَّظر إِلَيْهِ.

وَلِهَذَا دخل الشَّيْطَانُ من هَذَيْن الْبَابَيْنِ على كثيرٍ من النُّساك، فتوسَّعوا فِي النَّظر إِلَى الصُّور المنهي عَن النّظر إِلَيْهَا، وَفِي اسْتِمَاع الْأَقْوَال والأصوات الَّتِي نهوا عَن استماعها، وَلم يكتفِ الشَّيْطَانُ بذلك حَتَّى زيَّن لَهُم أَن جعلُوا مَا نُهوا عَنهُ عبَادَةً وقُربةً وَطَاعَةً، فَلم يُحرِّموا مَا حرَّم اللهُ وَرَسُولُه، وَلم يدينوا دين الْحقِّ.

الشيخ: يعني لم يكتفوا بأنَّه مباحٌ ليستمعوا، بل جعلوه قُربةً وطاعةً، يستمعون للأغاني والملاهي، والخوض بالباطل، فهذا وقع فيه كثيرٌ من أهل التَّصوف؛ لجهلهم وقلَّة علمهم.

كَمَا رُوي عَن أبي سعيدٍ الخرَّاز أَنه قال: رَأَيْتُ إِبْلِيسَ فِي النَّوم وَهُوَ يمرّ عني نَاحيَةً، فَقلتُ لَهُ: تعالَ، مَا لك؟ فَقَالَ: بقي لي فِيكُم لَطِيفَة السَّماع، وصُحبة الْأَحْدَاث.

وَأَصْحَاب ذَلِك وَإِن كَانَ فيهم من ولَايَة الله وتقواه ومحبَّته والقُرب إِلَيْهِ مَا فاقوا بِهِ على مَن لم يُساوهم فِي مقامهم، فليسوا فِي ذَلِك بأعظم من أكَابِر السَّلف المقتتلين فِي الْفِتْنَة، وَالسَّلَف المستحلّين لطائفةٍ من الْأَشْرِبَة المسكرة، والمستحلين لربا الْفَضل والمتعة، والمستحلين للحشوش، كَمَا قال عبدُالله بن الْمُبَارك: رُبَّ رجلٍ فِي الْإِسْلَام لَهُ قدمٌ حسنٌ، وآثارٌ صَالِحَةٌ، كَانَت مِنْهُ الهفوة والزَّلة، لَا يُقْتَدى بِهِ فِي هفوته وزلَّته.

والغلط يَقع تَارَةً فِي استحلال الْمُحرم بالتَّأويل، وَفِي ترك الْوَاجِب بالتَّأويل، وَفِي جعل الْمُحرم عبَادَةً بالتَّأويل: كالمقتتلين فِي الْفِتْنَة، حَيْثُ رَأَوْا ذَلِك وَاجِبًا ومُستحبًّا، وكما قال طَائِفَةٌ -مثل: عبدالله بن دَاوُد الْحَرْبِيّ وَغَيره- إِنَّ شُرب النَّبِيذ الْمُخْتَلف فِيهِ أفضل من تَركه.

فالتَّأويل يتَنَاوَل الْأَصْنَاف الْخَمْسَة، فَيَجْعَل الْوَاجِبَ مُسْتَحبًّا، ومباحًا، ومكروهًا، ومُحرَّمًا. وَيجْعَل المحرَّم مَكْرُوهًا، ومُباحًا، ومُستحبًّا، وواجبًا، وَهَكَذَا فِي سائرها.

وَمِمَّا يُعْتَبر بِهِ أَنَّ النُّساك وَأهلَ الْعِبَادَة والإرادة توسَّعوا فِي السَّمع وَالْبَصَر، وَتوسَّع الْعُلمَاء وَأهلُ الْكَلَام وَالنَّظَر فِي الْكَلَام وَالنَّظَر بِالْقَلْبِ، حَتَّى صَار لهؤُلَاء الْكَلَام الْمُحدث، ولهؤلاء السَّماع الْمُحدث، هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوف، وَهَؤُلَاء فِي الصَّوْت.

وتجد أهلَ السَّماع كثيري الْإِنْكَار على أهل الْكَلَام، كَمَا صنَّف الشَّيْخُ أبو عبدالرَّحْمَن السّلمِيّ مُصنَّفًا فِي ذمّ الْكَلَام وَأَهله، وهما من أَئِمَّة أهل السَّماع.

ونجد أهلَ الْعِلم وَالْكَلَام مُبالغين فِي ذمِّ أهل السَّماع، كَمَا نجده فِي كَلَام أبي بكر ابن فورك، وَكَلَام الْمُتَكَلِّمين فِي ذمِّ السَّماع وَأَهله والصُّوفية مَا لَا يُحْصى كَثْرَةً.

وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فيهم انحرافٌ يُشبه انحراف الْيَهُود: أهل الْعِلم وَالْكَلَام. وَهَؤُلَاء فيهم انحرافٌ يُشبه انحراف النَّصَارَى: أهل الْعِبَادَة والإرادة.

وَقد قال الله فِي الطَّائِفَتَيْنِ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113].

وَلِهَذَا تَجِد تنافُرًا بَين الْفُقَهَاء والصُّوفية، وَبَين الْعُلمَاء والفُقراء من هَذَا الْوَجْهِ.

وَالصَّوَاب أَن يُحمد من حَال كل قومٍ مَا حَمده اللهُ وَرَسُوله، كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتابُ وَالسُّنة، ويُذمّ من حَال كلِّ قومٍ مَا ذمَّه الله وَرَسُوله، كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتاب وَالسُّنة، ويجتهد الْمُسلم فِي تَحْقِيق قَوْله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7].

قال النَّبِي ﷺ: الْيَهُود مغضوبٌ عَلَيْهِم، وَالنَّصَارَى ضالُّون، وَقد تكلَّمنا على بعض مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْأُمُور فِي غير هَذَا الْمَوضع فِي مَوَاضِع.

الشيخ: والخلاصة من هذا الوجه أنَّ الواجبَ على طالب العلم أن يُميز بين الخبيث والطيب، والحقِّ والباطل، والهُدى والضَّلال، فمَن وُجِدَ منه ضلالٌ أُنكر عليه، وحُذِّرَ من اتِّباعه فيه، ومَن وُجِدَ منه حقٌّ أُثني عليه بالحقِّ الذي وُجد منه، وجازت مُوافقته عليه، ولا يُجمع له الذَّم أو المدح، بل يُفصل فيُقال: أصاب في هذا، وأخطأ في هذا، حتى يكون المستمعون والمقتدون على بصيرةٍ؛ فإنَّ مدح مَن له أخطاء معروفة -كانحرافٍ في الدِّين- بأنه أصاب في كذا، قد يُوهِم الغير أنه مُصيب دائمًا، وذمّه وعدم إنصافه فيما أصاب فيه كذلك، لكن عند ترجمته وعند الكلام في حاله يُبين مع القُدرة ما أصاب فيه، وأنه أصاب في كذا، وأخطأ في كذا، فلا يجوز اتِّباعه فيما أخطأ فيه، ولا يجوز غمطه فيما أصاب فيه.

الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ المُرَاد بالْقَوْل فِي هَذَا الْمَوضع الْقُرْآن، كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي قَوْله: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:51]، فَإِنَّ القَوْلَ الَّذِي أُمِرُوا بتدبره هُوَ الَّذِي أُمِرُوا باستماعه والتَّدبر بِالنَّظرِ وَالِاسْتِدْلَال وَالِاعْتِبَار وَالِاسْتِمَاع، فَمَن أمرنَا باستماع كل قَولٍ، أَو باستماع القَوْل الَّذِي لم يُشرع استماعه؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَة مَن أَمر بتدبر كل قَولٍ وَالنَّظَر فِيهِ، أَو بالتَّدبر للْكَلَام الَّذِي لم يُشرع تدبره وَالنَّظَر فِيهِ، فالمنحرفون فِي النَّظر وَالِاسْتِدْلَال بِمثل هَذِه الْأَقْوَال من أهل الْكَلَام المبتدع.

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّام فِي لُغَة الْعَرَب هِيَ للتَّعريف، فتنصرف إِلَى الْمَعْرُوف عِنْد الْمُتَكَلّم والمخاطَب، وَهِي تعمّ جَمِيع الْمَعْرُوف، فَاللَّام فِي القَوْل تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق، لَكِن عُمُوم مَا عَرفته، وَهُوَ القَوْل الْمَعْهُود الْمَعْرُوف بَين الْمُخَاطِب والمخاطَب، وَمَعْلُومٌ أنَّ ذَلِك هُوَ القَوْل الَّذِي أثنى اللهُ عَلَيْهِ، وأمرنا باستماعه والتَّدبر لَهُ واتِّباعه، فَإِنَّهُ قال فِي أول هَذِه السُّورَة: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۝ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:1- 3]، فَذكر فِي السُّورَة كَلَامَه وَدينه: الْكَلم الطّيب، وَالْعَمَل الصَّالح.

وَخير الْكَلَام كَلَام الله، وأصل الْعَمَل الصَّالح عبَادَة الله وَحده، لَا شريكَ لَهُ، كَمَا فِي قَوْله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ۝ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۝ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ۝ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ۝ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:14- 18].

ثمَّ قال بعد ذَلِك: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ۝ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22- 23].

فَأثْنَى على أهل السَّماع والوجد للْحَدِيث الَّذِي نزَّله، وَهُوَ أحسن الحَدِيث، وَلم يُثْنِ على مُطلَق الحَدِيث ومُستمعه، بل تضمن السِّيَاق الثَّنَاء على أهل ذكره وَالِاسْتِمَاع لحديثه، كَمَا جمع بَينهمَا فِي قَوْله: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16]، وَفِي قَوْله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2].

وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۝ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف:204- 205].

ثمَّ قال بعد ذَلِك: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ۝ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر:27- 28].

فَذكر الْقُرْآنَ وَبَيَّن أَنه قدر فِيهِ من جَمِيع المقاييس والأمثال المضروبة لأجل التَّذكر، فدعا هُنَا إِلَى التَّذكر وَالِاعْتِبَار بِمَا فِيهِ من الْأَمْثَال، وَذَلِكَ يتَضَمَّن النَّظر وَالِاسْتِدْلَال وَالْكَلَام الْمَشْرُوع، كَمَا أَنَّه فِي الْآيَة الأولى أثنى على أهل السَّماع لَهُ والوجد، وَذَلِكَ يتَضَمَّن السَّماع والوجد الْمَشْرُوع.

ثمَّ قال بعد ذَلِك: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ۝ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:32- 33].

ذكر البُخَارِيّ فِي "صَحِيحه" تَفْسِير مُجَاهِد -وَهُوَ أصحّ تَفْسِير التَّابِعين- قال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْقُرْآن، وَصَدَّقَ بِهِ الْمُؤمن يجِيء يَوْم الْقِيَامَة يَقُول: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتنِي عملتُ بِمَا فِيهِ.

فَذكر الصِّدْق والمصدِّق بِهِ، مُثْنِيًا عَلَيْهِ، وَذكر الْكَاذِب والمكذِّب للحقِّ، وهما نَوْعَانِ من القَوْل ملعونان هما وَأَهْلهما، فَكيف يكون مُثْنِيًا على مَن استمعهما؟!

وَلَا ريبَ أَنَّ الْبِدْعَة الكلامية والسَّماعية الْمُخَالفَة للْكِتاب وَالسُّنة تَتَضَمَّن الْكَذِبَ على الله، والتَّكذيب بِالْحَقِّ: كالجهمية الَّذين يصفونَ الله بِخِلَاف ما وصف بِهِ نَفسَه، فيفترون عَلَيْهِ الْكَذِبَ، أَو يروون فِي ذَلِك آثَارًا مُضَافَةً إِلَى الله، أَو يَضْربُونَ مقاييس ويُسندونها إِلَى الْعُلُوم الضَّرورية، والمعقول الصَّحِيح الَّذِي هُوَ حقٌّ من الله، وكل ذَلِك كذبٌ، ويُكذِّبون بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم، وَهُوَ مَا ورد بِهِ الْكِتاب وَالسُّنة من الْخَبَر بِالْحَقِّ، والأمثال المضروبة لَهُ، وَكَذَلِكَ كثيرٌ من الأشعار التي يَسْمعهَا أهل السَّماع قد يتَضَمَّن من الْكَذِب على الله والتَّكذيب بِالْحَقِّ أنواعًا.

وَنَفس الِانْتِصَار لما خَالف الشَّرِيعَة من السَّماع وَغَيره يتَضَمَّن الْكَذِبَ على الله، مثل: أَن يَقُول الْقَائِل: إِنَّ الله أَرَادَ بقوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [الزمر:18] مُستمع كل قَولٍ فِي الْعَالم. فَهَذَا كذبٌ على الله، وَإِن كَانَ قَائِله منا؛ وَلِأَنَّهُم يُكذِّبُون بِالْحَقِّ الْمُخَالِف لأهوائهم.

ثمَّ قال تَعَالَى بعد ذَلِك: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر:41].

فَأخْبر أَنه أنزل القَوْلَ الَّذِي هُوَ الْكِتاب بِالْحَقِّ، وَأنَّ المهتدي لنَفسِهِ هداه، وضلاله على نَفسه، وَالرَّسُول لَيْسَ بوكيلٍ عَلَيْهِم، يُحْصي أَعْمَالهم، ويجزيهم عَلَيْهَا، بل إِلَى الله إيابهم، وعَلى الله حسابهم.

ثمَّ قال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِلَى قَوْله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:53- 55]، وَفِي قَوْله لمُوسَى عَن التَّوْرَاة: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]، كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله.

ثمَّ قال: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى إِلَى قَوْله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا إِلَى قَوْله: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:71- 74]، مَعَ قَوْله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]، فَجعل الْفُرْقَان بَين أهل الْجنَّة وأهل النَّار هَؤُلَاءِ الْآيَات الَّتِي تلتها الرُّسُل عَلَيْهِم، فَمَن استمعها واتَّبعها كَانَ من الْمُؤمنِينَ -أهل الْجنَّة- وَمَن أعرض عَنْهَا كَانَ من الْكَافرين -أهل النَّار.

الشيخ: ومعنى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18] مثلما صرَّح العلماء، يعني: ما أُمروا به، فالأحسن هو ما أُمِرُوا به، فيأخذون به، وما نُهوا عنه تركوه واجتنبوه، فهم أهل الإيمان، يتدبرون القرآن، ويستمعون القول فيأخذون بالأحسن: من فعل الأوامر، والاعتبار من القصص والأمثال، وترك النَّواهي التي نُهوا عنها، هذا هو الأحسن، بخلاف المنحرف الكافر الزَّائغ؛ فإنه يترك الأوامر، ويأخذ بالنَّواهي، ويتبع هواه، فيكون قد خالف الأوامر، ووقع في الباطل الذي نهاه الله عنه.

وَالْكِتاب هُوَ الَّذِي جعله اللهُ حَاكمًا بَين النَّاس، كَمَا قال: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213].

فَهَذَا كُله إِذا تدبَّره الْمُؤمن علم علمًا يَقِينيًّا أَنَّ الْكِتاب وَالْقَوْلَ والْحَدِيثَ وآيات الله، كلّ ذَلِك وَاحِدٌ، والمحمودون الَّذين أثنى اللهُ عَلَيْهِم هم المتَّبعون لذَلِك استماعًا وتدبُّرًا وإيمانًا وَعَملًا.

أما مدح الِاسْتِمَاع لكل قَولٍ فَهَذَا لَا يَقْصِدهُ عَاقلٌ، فضلًا عَن أن يُفَسّر بِهِ كَلَام الله، وَهَذَا يتوكّد بِالْوَجْهِ الثَّالِث، وهو أنَّ الله ...

الشيخ: قف على هذا، رحمه الله.