16 من قوله: (وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد.. )

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: إنَّ الله ليرضى عَن العَبْد أن يَأْكُل الْأَكْلَة فيحمده عَلَيْهَا، وَيَشْرب الشَّربة فيحمده عَلَيْهَا.

الشيخ: هذا الحديث العظيم من نِعَم الله: أنَّ الله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلةَ فيحمده عليها، ويشرب الشَّربة فيحمده عليها. من نِعَم الله أن يأكل، ومع هذا يرضى عنه الربُّ جلَّ وعلا، من نِعَم الله أن يأكل ويحمد ربَّه، ما هو يتجرد ويبقى في جوعه يتلوى في الظمأ ويقول: هذه عبادة. هذا جهلٌ، لكن يأكل ويشرب ويستعين بذلك على طاعة الله، ويشكر الله على ما يسَّر له من نعمة الطعام والشَّراب والعافية واللِّباس، وغير ذلك، وكونه يأكل ويحمد الله، ويشكر نعمةَ الله، ويُرضي الله عنه ، رواه مسلم في "الصحيح": إنَّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلةَ فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها.

وَقَالَ النَّبِي ﷺ لسعدٍ: إنَّك لن تُنْفِق نَفَقَةً تبتغي بهَا وَجهَ الله إلا ازددتَ بهَا دَرَجَةً ورفعةً، حَتَّى اللُّقْمَة ترفعها إلى فِي امْرَأَتِك.

وَفِي الصَّحِيح أيضًا أنه إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبها فَهُوَ لَهُ صدقة.

فَكَذَلِك الأدعية، هَب أنَّ من النَّاس مَن يَسْأَل الله جلب الْمَنْفَعَة لَهُ، وَدفع الْمَضرَّة عَنهُ طبعًا وَعَادَةً، لَا شرعًا وَعبادَةً، فَلَيْسَ من الْمَشْرُوع لي أن أدعو الدُّعَاء مُطلقًا لأجل تَقْصِير هَذَا وتفريطه، بل أفعله أنا شرعًا وَعبادَةً.

ثمَّ اعْلَم أنَّ الَّذِي يَفْعَله شرعًا وَعبادَةً إنما يَسْعَى فِي مصلحَة نَفسه، وَطلب حظوظه المحمودة، فَهُوَ يَطْلب مصلحَة دُنْيَاهُ وآخرته، بِخِلَاف الَّذِي يَفْعَله طبعًا، فَإِنَّهُ إنما يَطْلب مصلحَة دُنْيَاهُ فَقَط، كَمَا قَالَ تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۝ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200- 202].

وَحِينَئِذٍ فطالب الْجنَّة والمستعيذ من النَّار إنما يَطْلب حَسَنَةَ الآخرة، فَهُوَ مَحْمُودٌ.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّهم فرُّوا من شيءٍ وهم واقعون فيه، فإنَّ مَن يعمل في طاعة الله إنما أراد مصلحتها أيضًا، هو يريد الجنة، ويريد النَّجاة من النار لمصلحة نفسه، فإذا كان مَن أكل أو شرب في الدنيا يريد متاعَ الدنيا مذمومًا، فإنما ذُمَّ لأنه ما أراد الآخرة، ولا قصد الآخرة، ولا طلبها، فإذا أكل وشرب وعمل يريد السَّعادة، يريد الآخرة، وهو يستعين على طاعة الله، ويريد النَّجاة من النار، فقد سعى لمصلحته، وسعى لنجاته، فهو مشكورٌ غير مذمومٍ، وإن كان إنما أراد سعادة نفسه ونجاتها من عذاب الله فهو مأمورٌ بهذا، مأمورٌ بأن يسعى لهذا الخلاص، مأمورٌ بأن يسعى لخلاصه ونجاته من النار.

فإذا أكل وشرب وحمد الله وشكره سبحانه، واستعان بنِعَمه على طاعته، واجتهد في أداء ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، والتَّهجد بالليل، والجهاد في سبيل الله، والصَّدقة على الفقراء، يريد النَّجاة، يريد السَّعادة، فهو ساعٍ لمصلحته، الله غنيٌّ عنه وعن عمله، وهو بهذا إنما سعى لخير الآخرة، والسَّعادة في الآخرة، وإنما ذلك الذي سعى للدنيا مذمومٌ؛ لأنه ما أراد الآخرة فاستحقَّ الذَّم.

وَمِمَّا يُبين الأمر فِي ذَلِك أن يردّ قَول هَؤُلَاءِ بِأَنَّ العَبْد لَا يفعل مَأْمُورًا، وَلَا يَتْرك مَحْظُورًا، فَلَا يُصَلِّي، وَلَا يَصُوم، وَلَا يتَصَدَّق، وَلَا يحجّ، وَلَا يُجَاهد، وَلَا يفعل شَيْئًا من الْخَيْر، فإن ذَلِك إنما فَائِدَته حُصُول الثَّوَاب، وَدفع الْعقَاب، فإذا كَانَ هُوَ لَا يَطْلب حُصُول الثَّوَاب الَّذِي هُوَ الْجنَّة، وَلَا دفع الْعِقَاب الَّذِي هو النَّار، فَلَا يفعل مَأْمُورًا، وَلَا يَتْرك مَحْظُورًا، وَيَقُول: أنا رَاضٍ بِكُلِّ مَا يَفْعَله بِي، وإن كفرت وفسقت وعصيت، بل يَقُول: أنا أكفر وأفسق وأعصي حَتَّى يُعاقبني، وأرضى بعقابه، فأنال دَرَجَة الرِّضَا بِقَضَائِهِ!

وَهَذَا قَول مَن هُوَ أجهل الْخَلق وأحمقهم وأضلّهم وأكفرهم.

أما جَهله وحمقه فَلِأَنَّ الرِّضَا بذلك مُمْتَنعٌ، مُتَعَذِّرٌ؛ وَلِأَنَّ ذَلِك مُسْتَلْزمٌ الْجَمع بَين النَّقيضين.

وأما كفره فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزم لتعطيل دين الله الَّذِي بعث بِهِ رسله، وَأَنْزَلَ بِهِ كتبه، وَلَا ريبَ أنَّ مُلَاحظَة الْقَضَاء وَالْقَدر أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة فِي أن تركُوا من الْمَأْمُور، وفعلوا من الْمَحْظُور مَا صَارُوا بِهِ: إِمَّا ناقصين محرومين، وَإِمَّا عاصين، وَإِمَّا فاسقين، وَإِمَّا كَافِرين. وَقد رَأَيْتُ من ذَلِك ألوانًا: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

وَهَؤُلَاء والمعتزلة وَنَحْوهم من الْقَدَرِيَّة فِي طرفي نقيض.

هَؤُلَاءِ يُلاحظون الْقَدر، ويُعرضون عَن الأمر، وأولئك يُلاحظون الأمر، ويُعرضون عَن الْقَدر، والطَّائفتان تظنّ أنَّ مُلَاحظَة الأمر وَالْقَدر مُتَعَذر، كَمَا أنَّ طَائِفَةً تجْعَل ذَلِك مُخَالفًا للحكمة وَالْعَدْل.

وَهَذِه الأصناف الثَّلَاثَة هِيَ: الْقَدَرِيَّة الْمَجُوسِيَّة، والقدرية المشركية، والْقَدَرِيَّة الإبليسية.

وَقد بسطنا الْكَلَام على هَذِه الْفِرَق فِي غير هَذَا الْمَوضع.

وأكثر مَا يُبتلى بِهِ السَّالكون أهل الإرادة والعامَّة فِي هَذَا الزَّمَان هِيَ الْقَدَرِيَّة المشركية، فَيَشْهَدُونَ الْقَدر، ويُعرضون عَن الأمر، كَمَا قَالَ فيهم بعضُ الْعُلمَاء: أنت عِنْد الطَّاعَة قدري، وَعند الْمَعْصِيَة جبري. أَيّ مَذْهَبٍ وَافق هَوَاك تمذهبتَ بِهِ، وإنما الْمَشْرُوع الْعَكْس؛ وهو أن يكون عِنْد الطَّاعَة يَسْتَعِين الله عَلَيْهَا قبل الْفِعْل، ويشكره عَلَيْهَا بعد الْفِعْل، ويجتهد أن لَا يَعْصي، فَإِذا أذنب وَعصى بَادر إلى التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار، كَمَا فِي الحَدِيث: سيد الِاسْتِغْفَار أن يَقُول العَبْدُ: أبوء لَك بنعمتك عَليَّ، وأبوء بذنبي، فَاغْفِر لي.

الشيخ: وهذا هو الواجب على أهل الإيمان: أن يشكروا الله على النِّعَم والطَّاعات، وأن يتوبوا إليه من المعاصي والمعايب، وليستمروا في هذا السَّبيل: يُؤدُّون الطَّاعات شاكرين لله ، ويحذرون المعاصي سائلين له أن يُعينهم على ذلك، وأن يُثبتهم على الحقِّ، هكذا كان الأنبياء والصَّالحون بين هذا وهذا: بين ترك المعاصي والسَّيئات والحذر منها، وبين فعل الطَّاعات وشكر الله عليها، وبين الخوف والرَّجاء، هكذا.

أما أهل الانحراف والفساد فهم عند الطَّاعات قدريون، يقولون: إننا ما نفعل إلا بالقدر، ما قدر الله لنا هذا، ما قدر لنا نُصلي، ما قدر لنا نُزكِّي. وهكذا، يحتجون بالقدر، ويتركون ما أوجب الله، وعند المعاصي يزعمون أنَّهم مجبورون، وأنه لا حيلةَ لهم، وأنَّ هذا قدر الله فيهم، فيحتجُّون بالقدر على المعاصي والسَّيئات، وعلى ترك الطاعات، نعوذ بالله.

وهذا هو الفساد العظيم، والكفر البواح، وهو عمل إبليس وجنوده، نسأل الله العافية، وعمل المشركين: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا [الأنعام:148].

فالحاصل أنَّ الواجب على أهل الإيمان الإيمانُ بالقدر؛ أنه قدَّر الأشياء وكتبها سبحانه، وملاحظة الأمر، لا هذا، ولا هذا، بل يؤمنون بالقدر، ويُلاحظون الأمر، ويسيرون إلى الله فاعلين للأوامر، تاركين للمعاصي، مُؤمنين بقدر الله، وأنه لن يُصيبهم إلا ما كتب الله لهم ، فهو حريصٌ على طاعة الله، كافٌّ عن معاصي الله، مؤمن بقدر الله، جادٌّ في طاعة الله جلَّ وعلا، والجهاد في سبيله، وجهاده جهاد النفس، مؤمن بأنه لن يكون له إلا ما كتب الله له .

وكما فِي الحَدِيث الصَّحِيح الإلهي: يَا عبَادي، إنما هِيَ أعمالكم أُحصيها لكم، ثمَّ أُوفيكم إيَّاها، فَمَن وجد خيرًا فليحمد الله، وَمَن وجد غير ذَلِك لَا يَلُومَنَّ إلا نَفسه.

وَمن هَذَا الْبَاب دخل قومٌ من أهل الإرادة فِي ترك الدُّعَاء، وآخرون جعلُوا التَّوَكُّل والمحبَّة وَنَحْو ذَلِك من مقامات الْعَامَّة، وأمثال هَذِه الأغاليط الَّتِي قد تكلمنا عَلَيْهَا فِي غير هذا الْمَوضع، وَبيَّنا الْفَرق بَين الصَّوَاب وَالْخَطَأ فِي ذَلِك.

وَلِهَذَا وأمثاله يُوجد فِي كَلَام أئمة هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الْوَصِيَّة بِاتِّبَاع الْعِلم والشَّريعة، كَقَوْل سهل بن عبدالله التّسترِي رَحمَه الله: الْعَمَل بِلَا اقْتِدَاءٍ عَيْش النَّفس، وَالْعَمَل بالاقتداء عَذَابٌ على النَّفس.

وَقَالَ: كل وجدٍ لَا يَشْهد لَهُ الْكِتاب وَالسُّنة فَهُوَ بَاطِل.

وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد: مَن لم يَقْرَأ الْقُرْآنَ وَيَكْتب الحَدِيث لَا يُقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْن؛ لِأَنَّ علمنَا هَذَا مُقَيّدٌ بِالْكِتاب وَالسُّنة.

وَقَالَ أحْمَد ابن أبي الْحوَاري: مَن عمل عملًا بِلَا اتِّبَاع سُنَّة رَسُول الله ﷺ فَبَاطِلٌ عمله.

فصلٌ فِي السُّكر وأسبابه وَأَحْكَامه

قد تَكَلَّمتُ فِيمَا مضى من الْقَوَاعِد على مَعَاني الفَنَاء الْمَوْجُود فِي كَلَام الْمَشَايِخ والصُّوفية، وأنه ثَلَاثَة أقسام: قسم كَامِل للسَّابقين، وَقسم نَاقصٌ لأَصْحَاب الْيَمين، وَقسمٌ ثَالِث للظالمين الْفَاسِقين والكافرين.

فَالْأوَّل الفناء عَن عبَادَة مَا سوى الله، والاستعانة بِهِ، بِحَيْثُ لَا يعبد إلا الله، وَلَا يَسْتَعِين إلا بِاللَّه، وَهَذَا هُوَ دين الإسلام.

وَالثَّانِي الفناء عَن شُهُود مَا سوى الله، بِحَيْثُ يغيب بمشهوده عَن شُهُوده، وَهَذَا لمن لم يقدر على الْجَمع بَين شُهُود الْحَقَائِق وَعبادَة الْخَالِق، بل مَا شهده عِنْدَه ومعبوده وَاحِد، فمشهوده وَاحِد، وَهَذَا يعتري كثيرًا: كالعيسوية من هَذِه الأمة الَّذين لَهُم وصفُ الْعِبَادَة دون الشَّهَادَة، فَلهم قُوَّة فِي الْعِبَادَة والإنابة والمحبَّة، يجتذبهم ذَلِك إلى معبودهم ومقصودهم ومحبوبهم، وَلَيْسَ لَهُم قُوَّة مَعَ ذَاك على شُهُود سَائِر مَا يقوم بِهِ من الكائنات، وَمَا يسْتَحقّهُ من الأسماء وَالصِّفَات.

فَهَؤُلَاءِ إذا لم يَتْركُوا وَاجِبًا لم يضرّهم، وإن تركُوا مُسْتَحبًّا مُشتغلين عَنهُ بِمَا هُوَ أفضل مِنْهُ لم ينقلوا عَن مقامهم، وإن اشتغلوا عَمَّا تَرَكُوهُ من الْمُسْتَحبّ بِمَا لَيْسَ مثله، فانتقالهم إلى ذَلِك الأفضل أفضل إذا أمكن، وإلا فَفعل الْمَقْدُور عَلَيْهِ من الصَّالِحَات خيرٌ من الاهتمام بِمَا يعجز عَنهُ ويصدّ عَن غَيره، وإن تركُوا وَاجِبًا أو فعلوا مُحرَّمًا مَعَ إمكان الْعِلم وَالْقُدْرَة فهم مُؤاخذون على ذَلِك، وإن كَانَ مَعَ سُقُوط التَّمْيِيز لسَبَبٍ يُعذرُونَ بِهِ، مثل: زَوَال عقلٍ بِسَبَب غير مَحْظُورٍ، أو سُكْرٍ بِسَبَب غير مَحْظُورٍ، أو عجز لَا تَفْرِيطَ فِيهِ، فَلَا ذمّ عَلَيْهِم، وإن كَانَ مَعَ التَّكْلِيف فسبب الذَّم قَائِم.

ثمَّ لَهُم حكم الله فيهم، كَمَا لسَائِر الْمُؤمنِينَ: من كَون الذَّنب صَغِيرًا أو كَبِيرًا مَقْرُونًا بحسنات ماحية، أو غير ذَلِك من أحكام السَّيِّئَات، ما لم يخرجُوا إلى الْقِسم الثَّالِث، وَهُوَ فنَاء الْكَافرين، وَهُوَ جعل وجود الأشياء هُوَ عين وجود الْحقِّ، أو وجود نَفسه عين وجوده -كَمَا بَيَّناهُ من مَذَاهِب أهل الْحُلُول والاتِّحاد فِي غير هَذَا الْمَوضع- فإنَّ هَذَا كفرٌ، وَصَاحبه كَافِر بعد قيام الْحُجَّة عَلَيْهِ، وإن كَانَ جَاهِلًا أو متأوِّلًا لم تقم عَلَيْهِ الْحُجَّة، كَالَّذي قَالَ: إذا أنا متّ فأحرقوني، ثمَّ ذروني فِي اليَمِّ. فَهَذَا أمره إلى الله تعالى، كَمَا قَالَ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فَجعل الْغَايَة الَّتِي يَزُول بهَا حكمُ السُّكر أن يعلم مَا يَقُول، فَمَتَى كَانَ لَا يعلم مَا يَقُول فَهُوَ فِي السُّكر، وإذا علم مَا يَقُول خرج عَن حكمه، فَهَذَا أصلٌ يجب اعْتِمَاده، وَهَذَا هُوَ حدّ السَّكْرَان عِنْد جُمْهُور الْعُلمَاء.

قَالَ أحمد بن حَنْبَل بِمَا نَقله عَن سعيد بن جُبَير أنه قَالَ: إذا لم يعلم بثيابه من ثِيَاب غَيره، وَلَا نَعله من نعال غَيره، فَجعل ذَلِك عدم التَّمْيِيز بَين ثَوْبه وثوب غَيره.

ويُروى عَن الشَّافِعِي أنه قَالَ: إذا اخْتَلَط كَلَامه المنظوم، وأفشى سرَّه المكتوم.

فالسُّكر يجمع مَعْنيين: وجود لَذَّةٍ، وَعدم تَمْيِيز. وَالَّذِي يَقْصد السُّكر قد يَقْصد أحدهما، وَقد يَقْصد كِلَاهُمَا، وَهُوَ آثمٌ، فإنَّ النَّفس لَهَا أهواء وشهوات تلتذُّ بنيلها وإدراكها، وَالْعَقل وَالْعِلم بِمَا فِي تِلْكَ الأفعال من الْمضرَّة فِي الدُّنْيَا والآخرة يمْنَعهَا عَن ذَلِك، فَإِذا زَالَ الْعَقلُ الْحَافِظُ انبسطت النَّفسُ فِي أهوائها.

وَحرم الله السُّكر لسببين ذكرهمَا الله فِي كِتَابه بقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [المائدة:91].

فَأَخْبر أنه يُوجِب الْمَفْسدَة الفاشية من النَّفس بِعَدَمِ الْعَقل، وَيمْنَع الْمصلحَة الَّتِي لَا تتمّ إلا بِالْعَقلِ الَّتِي خُلق لَهَا العَبْدُ، وَهِي ذكر الله وَالصَّلَاة.

وَقد يكون سَبَبُ السُّكر من الْأَلَم، كَمَا يكون من اللَّذَّة، كَمَا قَالَ تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، فَأَخْبر أنَّهم يُرَوْنَ سكارى، وَمَا هم بسُكارى.

فَإِذا عُرف ذَلِك فسبب السُّكر مَا يُوجِب اللَّذَّة، وَيمْنَع الْعِلم، فَمِنْهُ السُّكر بالأطعمة والأشربة المسكرة، فإنَّ طاعمها يحصل لَهُ بذلك لَذَّة وسرور، وَهُوَ الْحَامِل لأَكْثر النَّاس على شُربهَا.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الناس في هذا المقام أقسام، الفناء والسكر كذلك، فالفناء يُعبر به الصُّوفية عن فنائهم عن كل شيءٍ إلا عن مشاهدة الله ، فهم يُشاهدون عظمته وكبرياءه وحقَّه عليهم بزعمهم، ويفنون عمَّا سوى ذلك، حتى أوقعهم هذا الأمرُ في المعاصي الكثيرة، وأوقعهم في وحدة الوجود، وأوقعهم في أشياء كثيرةٍ؛ لأنهم لم يحكموا عقولهم، فصارت هذه الكلمة تجرّهم إلى شرٍّ عظيمٍ، وفسادٍ كبيرٍ، فإنَّهم لم ينظروا في الأوامر، ولا في النَّواهي، بل نظروا في الجمع، نظروا في أنَّ الله خالق الخلق، وأنه ربُّ الجميع، وأنه كل شيءٍ، وذهلوا وغلبوا على عقولهم حتى لم يُميزوا بين الطاعة والمعصية، وبين الخير والشَّر، وبين العبد والمعبود، والإله والمألوه، والإله والعابد، فصاروا في شرٍّ عظيم، وفساد كبير، ووقعوا فيما لا تُحمد عقباه.

وهذا الذي بيَّن المؤلفُ رحمه الله أنَّ صاحبه كافرٌ، ضالٌّ، خارجٌ عن دين الإسلام، إلا أن يكون جاهلًا ما يعرف شيئًا؛ فتُقام عليه الحُجَّة ويُعلَّم، كما تُقام الحجَّة على أهل الفترات والبعيدين عن الإسلام، حتى يُعلم ما هو الواجب عليه.

وهناك فناء، وهو فناء المؤمنين، وفناء التوحيد، فناءٌ عن عبادة غير الله، وإعراضٌ عنها، وكفرٌ بها، وإهدارٌ لها، وفناء عن المعاصي، وإنكارٌ لها، وجمع القلب على توحيد الله، والإخلاص له، والإيمان به، واتِّباع شريعته، وتعظيم أمره ونهيه.

هذا فناء أهل الإيمان: الرسل وأتباعهم، سمّوه فناءً لمجاراة الصُّوفية فيما يقولون، وهو في الحقيقة إقبالٌ على الله، واجتهادٌ في طاعته، وحضورٌ للقلب بين يديه ، وانكفاف عن معاصيه.

وبعض الناس وسط، فناؤه وسط، وهو إقباله على ما أوجب الله، وكفّه عمَّا حرَّم الله، واشتغاله عمَّا سوى ذلك من المستحبَّات والمكروهات، والتَّوسع في المباحات، المؤمن قد جمع قلبه على فعل الواجب، وترك المحرَّم، هذا هو صاحب اليمين، وهم أصحاب اليمين، وإذا حصلت عندهم يقظة وانتباه زادوا على هذا بتعاطي بعض المستحبَّات، والبُعد عن بعض المكروهات.

وأما السُّكر فهو أقسام: سكر بالآلام والأمراض، تُزعجه حتى ما يعقل. وسكرٌ يكون بأدويةٍ وأشياء أكلها، ما درى عنها، أو دُسَّت عليه، فيغيب عقله بسبب ذلك، هذا غير مذمومٍ؛ لأنه ليس له فيه فعلٌ، وهو غير مُكلَّفٍ بهذه الحالة، فإذا وقع منه شيءٌ من الكلام، أو من فعاله، فهو ليس بآثمٍ، فإذا طلق مثلًا في هذه الحال، أو أعتق عبيده في هذه الحال، فهو ليس له عقلٌ.

والحال الثالثة: أن يكون سكره مقصودًا بالمسكرات المحرَّمة، فهذا -والعياذ بالله- آثمٌ، وتُقام عليه الحدود، ويُعاقب بما يستحقّ؛ لأنه تعاطى ما يُسكره من أكلٍ أو شربٍ أو نحوه مما يُزيل العقل، فيُعاقب على ذلك؛ لأنه فعل عن قصدٍ، وعن اختيارٍ، وعن علمٍ.

واختلف العلماءُ في مسألةٍ واحدةٍ، وهي الأقوال: هل يُؤاخذ بقوله إذا عتق أو طلَّق في هذه الحال؟ وهو آثمٌ من تعاطي السُّكر، آثمٌ، لكن طلَّق وهو ما عنده عقل، أعتق عبيده ما عنده عقل، أعطى ماله للناس، وزَّعه على الناس، هل يُؤاخذ بهذا أو ما يُؤاخذ بهذا؟

الصواب أنه لا يُؤاخذ بهذا، وأنه لا تطلق نساؤه، ولا يعتق عبيده، ولا يحلّ للناس أن يأخذوا ماله إذا أعطاهم ماله وهو ما عنده عقل، بل يجب أن يُردّ ماله عليه، ولكن يُقام عليه الحدّ الشَّرعي من الجلد، ويُحفظ عن إفساد ماله: كالسّجن حتى يرجع إليه عقله، حتى يزول عنه هذا البلاء، نسأل الله العافية.

س: .................؟

ج: هذا قد جاء عن بعضهم من جهة إقباله على العبادة، واشتغاله بها، قد يذهل عمَّا سواه، وهذا من الفناء الباطل، من الفناء الذي لا ينبغي، وهو مُنكر.

س: وإذا قتل أحسن الله إليك؟

ج: يُؤخذ بقتله، السَّكران يُؤخذ بأفعاله من قتلٍ أو ضربٍ؛ لأنه قد يتحيل بهذا، قد يتحيل بالسُّكر.

س: ................؟

ج: يُقتل؛ لأنه قد يتحيل بالسُّكر ويكذب، ولأجل سدّ الباب.

س: ................؟

ج: لا، الصواب حتى يصحو، فإذا صحا يُؤدي الصلاة كالنَّائم إذا كانت المدة قليلة: كاليومين والثلاثة، أمَّا إذا كانت المدة طويلة فالصواب عند أهل العلم أنه يكون كالمجنون والمعتوه، لا يلزمه شيء؛ لعدم العقل، لكن إذا كان الإغماءُ يومًا أو يومين أو ثلاثًا -كما وقع لبعض الصَّحابة- فهذا يقضي؛ لأنه قد يقع الإغماء يومًا أو يومين، وقد يبلغ ثلاثًا مُغمًى عليه، فهذا يقضي كالنَّائم، وإذا زاد على هذا بعد عن مُشابهة النائم، صار مثل المعتوه والمجنون، نسأل الله العافية.

س: ................؟

ج: السَّكران لا، الصَّحيح أنه لا يُعاقب، الذي أفتى به عثمان، وهو الصحيح من قولي العلماء: لا يُعاقب على إيقاع الطلاق، ولا بعتقه، ولا بتوزيع ماله إذا وزَّعه على الناس، لا يحلّ لهم.

س: ................؟

ج: يُقام عليه الحدّ، ما هو بتعزير.

س: لو كرر الطَّلاق؟

ج: ما له عقل، لا يقع الطَّلاق.

س: عن بيع وشراء السَّكران؟

ج: باطل، ما له عقل.

فَمِنْهُ السُّكر بالأطعمة والأشربة المسكرة؛ فإنَّ طاعمها يحصل لَهُ بذلك لَذَّة وسرور، وَهُوَ الْحَامِل لأَكْثر النَّاس على شُربهَا، ويغيب عقله، فتغيب عَنهُ الهموم والأحزان تِلْكَ السَّاعَة.

وَمن النَّاس مَن يَقْصد الْمَنْفَعَة للبدن، وَلَكِن يحصل لَهُ من الْمضرَّة بالأفعال والأقوال الَّتِي تتولد عَن السُّكر، وَيُمْنَع عَن الْمَنْفَعَة: من ذكر الله، وَالصَّلَاة، وَغَيرهمَا، مَا هُوَ أعظم إثمًا من مَنْفَعَتهَا؛ فإنَّ اللَّذَّة الْحَاصِلَة بِذكر الله وَالصَّلَاة بَاقِيَة، دافعة للهموم والأحزان، لَيْسَ دَفعه إياه وَقت الصَّلَاة فَقَط، كَمَا قَالَ تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:45]، وَقَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

فَفِي هَذِه اللَّذَّة وَالْمَنْفَعَة الْعَظِيمَة الشَّرِيفَة الدَّافعة للمضارّ مَا يُغني عَن تِلْكَ القاصرة الْمَانِعَة مِمَّا هُوَ أكمل مِنْهَا، والجالبة لمضرة تربى عَلَيْهَا.

الشيخ: وهذا من ضعف عقولهم، فإنَّهم يزعمون أنَّهم إذا شربوا الخمرَ نسوا آلامهم، ونسوا ما في نفوسهم من الشَّر. وهذا شيءٌ مُؤقت، ثم إذا صحوا عادت إليهم أمراضهم، وعادت إليهم شرورهم وغمومهم وبلاؤهم، نسأل الله العافية.

بخلاف مَن رُزق الاستعانة بالصلاة والصبر والذِّكر والاستقامة؛ فإنَّ الله يمحو عنه شرًّا كثيرًا، ويُجلي عنه همومًا كثيرةً، ويُصلح صدره للخير، ويستمر هذا .....، ففي طاعة الله وذكره والقيام بأمره والصلاة من انشراح الصدر، واستقامة الحال، وانشراح القلب، والطُّمأنينة ما لا يُحصيه إلا الله .

وَهَذَا السُّكر جسماني، وَمن السُّكر مَا يكون بحب الصُّور: إما النِّسَاء، وإما الصّبيان، فَإِنَّهُ إذا استحكم الْحبُّ وَحصل للمُحب اتِّصَالٌ فقد يسكر، كَمَا قَالَ بَعضُهم:

سُكرَان: سُكر هوى وسُكر مدامة فَمَتَى إفاقة مَن بِهِ سُكرَان

وَوقت الْجِمَاع ينقص تَمْيِيز أكثر النَّاس أيضًا، وَهُوَ مبدأ سكر.

وَمن السُّكر أيضًا مَا يكون بحب الرياسة وَالْمَال، أو شِفَاء الغيظ، فَإِنَّهُ إذا قوي ذَلِك أوجب سُكْرًا.

الشيخ: حبّ المال، حبّ الرياسة، نسأل الله العافية، قد يغيب صاحبه عن التَّمييز بسبب شغله بأسباب تحصيل الرياسة، أو تحصيل المال، فلا يُميز بين الضَّار والنَّافع، وبين الحلال والحرام؛ لأنَّ قلبه مشغولٌ بهذا الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وإنما كَانَت هَذِه الأشياء قد تُوجب سُكرًا؛ لِأَنَّ السُّكر شَبيه مَا يُوجِب اللَّذَّة الْقَاهِرَة الَّتِي تغمر الْعَقل، وَسبب اللَّذَّة إدراك المحبوب، فَإِذا كَانَت الْمحبَّةُ قَوِيَّةً، وإدراك الْمُحبِّ قَوِيًّا، وَالْعقلُ والتَّمييز ضَعِيفًا؛ كَانَ ذَلِك سَببًا للسُّكر، لَكِن ضعف الْعَقل تَارَةً يكون من ضعف نفس الإنسان الْمُحبّ، وَتارَةً يكون من قُوَّة السَّبَب الْوَارِد؛ وَلِهَذَا يحصل من السُّكر للمُبتدئين فِي إدراك الرياسة وَالْمَال والعشق وَالْخَمر مَا لَا يحصل لمن اعْتَادَ ذَلِك وَتمكَّن فِيهِ.

س: ضابط حُبِّ الرياسة؟

ج: كونه لا يُفرق بين الحلال والحرام، ولا يهمّه إلا حصول مطلوبه.

س: يُقاس الجماع على الطعام إذا حضر في ترك الصَّلاة؟

ج: الله أعلم.

فصلٌ

وَمن أقوى الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للسُّكر: سَماع الْأَصْوَات المطربة من وَجْهَيْن:

من جِهَة أنها فِي نَفسهَا تُوجب لَذَّةً قَوِيَّةً ينغمر مَعهَا الْعَقل.

وَمن جِهَة أنها تُحرّك النَّفس إلى نَحْو محبوبها، كَائِنًا مَا كَانَ، فَتحصل بِتِلْكَ الْحَرَكَة والشَّوق والطَّلب، مَعَ مَا قد تخيل المحبوب وتصوره لذاتٍ عَظِيمَةٍ تقهر الْعَقل أَيْضًا.

الشيخ: ولهذا حرَّم الله الأغاني؛ لما فيها من الفساد ومرض القلوب، فإنَّ سماع الأصوات المطربة يُقسي القلب، ويجعل على القلب غشاوة فيسكر بذلك عمَّا يهمّه، وعما يجب عليه، وعمَّا يحرم عليه، وربما وقع في الحرام، وترك ما أوجب الله؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6] يعني: ليُضلّ غيره. وقُرئ: ليَضِلّ يعني: لتُضله هذه الأشياء؛ ولهذا يقول عبدالله بن مسعود: "إنَّ الغناء يُنبت النِّفاق في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ"، ويحلف على هذا؛ لأنَّ العبد إذا اعتاد الأغاني وسماع الملاهي يحصل له مرضان: مرضٌ باستماعها، ومرضٌ بما تميل إليه نفسه من الهوى والمشتهيات والمحبوبات التي يُريدها ويعشقها، فيجتمع عليه المرضان: مرض سماع الشَّر، ومرض ما يميل إليه قلبه ويُريده بهذه الشَّهوات التي تقع من الأغاني والملاهي.

فتَجتمع لَذَّةُ الألحان والأشجان؛ وَلِهَذَا يُقرن سَماع الألحان بالشُّرب كثيرًا: إِمَّا شراب الْأَجْسَام، وَإِمَّا شراب النُّفُوس، وَإِمَّا شراب الْأَرْوَاح. وَهُوَ مَا يَقْتَرن بالصَّوت من الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا ذكر الْحبِّ والمحبوب وأحوالهما، فإنَّ سَماع الْأَقْوَال شرابٌ وغذاءٌ وقوتٌ للقلوب، فيجتمع سَماعُ الْحُرُوف الطّيبَة والأصوات الطّيبَة، فإنَّ ذَلِك أقوى مِمَّا إذا انْفَرد أحدُهما، مثل: سَماع كَلَامٍ يطيب للمُستمع بِلَا أصواتٍ مُلحنة، مثل: مَن يُنَاجِي بِحَدِيثٍ لحنه، أو يَجْهر بِهِ جَهرًا قَرِيبًا، وَمثل: سَماع أصوات طيبَة، لَا حُرُوف فِيهَا: كأصوات الطُّيُور الطّيبَة، وأصوات الْآلَات المصنوعة من العيدان والأوتار والشّبابة، وَالصَّوْت الَّذِي يُلحنه الْآدَمِيّ بِلَا حُرُوفٍ، وَنَحْو ذَلِك، فَأَمَّا إذا اجْتَمع هَذَا وَهَذَا فَهُوَ أقوى، ويُؤثر فِي النُّفُوس تَأْثِيرًا عَظِيمًا، كتأثير الْخَمر أو أشدّ.

فصلٌ

إذا تبين هَذَا فَاعْلَم أنَّ اللَّذَّة وَالسُّرُور أمْرٌ مَطْلُوبٌ، بل هُوَ مَقْصُود كل حَيٍّ، وَكَونه أمرًا مَطْلُوبًا ومقصودًا أمرٌ ضَرُورِيّ من وجود الْحَيّ، وَهُوَ فِي الْمَقَاصِد والغايات بِمَنْزِلَة الْحسِّ والعلوم البديهية فِي المبادئ والمقدمات.

فإنَّ الإنسان -بل وكل حَيٍّ- لَهُ علمٌ وإحساس، وَله عمل وإرادة، فَعلمه لَا يجوز أن يكون كُله نظريًّا استدلاليًّا يقف على الدَّلِيل، بل لَا بُدَّ لَهُ من علمٍ بديهيٍّ أولى؛ لِأَنَّهُ لَو وقف كل علمٍ على علمٍ آخر لزم الدّور أو التَّسلسل، فَإِنَّهُ إذا توقف الْعِلم الثَّانِي على علمٍ أول، فَالْأول إن توقف على ذَلِك الثَّانِي، بِحَيْثُ لَا يكون إلا بعده؛ لزم الدّور، وإن توقف على شَيْءٍ قبل ذَلِك الأول لزم التَّسلسل، فَلَا بُدَّ من علمٍ أول يحصل ابْتِدَاءً بِلَا علمٍ قبله، وَلَا دَلِيل، وَلَا حُجَّة، وَلَا مُقَدّمَة.

وَذَلِكَ علمٌ بده النَّفس، وابتُدئ فِيهَا، وَهُوَ أول، فيُسمَّى: بديهيًّا وأوَّليًّا، وَهُوَ من نوع مَا تضطر النَّفسُ إليه، فيُسمَّى: ضَرُورِيًّا، فإنَّ النَّفس تضطر إلى الْعِلم تَارَةً، وإلى الْعَمَل أخرى.

وَذَلِكَ الْعَمَل الِاخْتِيَار الإرادي لَهُ مُرَاد، فَذَلِك المُرَاد إما أن يُرَاد لنَفسِهِ، أو لشَيْءٍ آخر، وَلَا يجوز أن يكون كل مُرَاد لغيره؛ لأنَّه إن كَانَ الَّذِي قبله دَائِمًا لزم الدَّور، وإن كَانَ الَّذِي بعده دَائِمًا لزم التَّسلسل، فَلَا بُدَّ من مُرَادٍ مَطْلُوبٍ مَحْبُوبٍ لنَفسِهِ، فَإِذا حصل المحبوبُ الْمَطْلُوب المُرَاد فاقتران اللَّذَّة وَالنِّعْمَة والفرح وَالسُّرُور بِهِ على مِقْدَار قُوَّة محبَّته وإرادته، وقوته فِي نَفسه أمرٌ ذوقي وجودي ضَرُورِيّ؛ وَلِهَذَا غلب على كَلَام الْعُبَّاد الصُّوفِيَّة أهل الإرادة وَالْعَمَل اسْمُ: الذَّوْقِ وَالسُّرُور وَالنِّعْمَة.

فالشَّهوة والإرادة والمحبَّة والطَّلب وَنَحْو ذَلِك من الأسماء المتقاربة إذا تعقَّبها الذَّوْق والوجد والإدراك والوصول والنَّيل والإصابة وَنَحْو ذَلِك من الأسماء المتقاربة تعقب ذَلِك النِّعْمَة وَالسُّرُور واللَّذة وَالطّيب وَنَحْو ذَلِك من الأسماء المتقاربة.

فإنَّ جنس اللَّذَّة يتعقب إدراك الملائم الْمَطْلُوب، لَيْسَ هو مُدرك الملائم الْمَطْلُوب كَمَا يَعْتَقِدهُ بعضُ أهل الفلسفة وَالْكَلَام، وكما غلب على أهل التَّصوف وَالْعِبَادَة ذكر ذَلِك، وَغلب على كَلَام الْعُلمَاء الْمُتَكَلِّمين، أهل النَّظر والبحث وَالْكَلَام، أهل البديهة وَالنَّظَر والضَّرورة وَالدَّلِيل وَالِاسْتِدْلَال.

وكل وَاحِدٍ من هذَيْن الأمرين تَحْتهُ أجناس وأصناف، بَعْضُهَا حقّ، وَبَعضُهَا بَاطِل؛ فَلِهَذَا وَجب اعْتِبَار ذَلِك جَمِيعه بِالكتاب وَالسُّنة، فَخير الْكَلَام كَلَام الله، وَخير الْهَدي هدي مُحَمَّدٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ أئمةُ الْهدى مِمَّن يتَكَلَّم فِي الْعِلم وَالْكَلَام، أو فِي الْعَمَل وَالْهُدى والتَّصوف يُوصون بِاتِّبَاع الْكِتاب وَالسُّنة، وَيَنْهَوْنَ عَمَّا خرج عَن ذَلِك، كَمَا أمرهم الله وَالرَّسُول، وَكَلَامهم فِي ذَلِك كثيرٌ مُنتشرٌ.

الشيخ: والمقصود من هذا أنَّ الكتاب والسُّنة هما الميزان، وهما السَّفينة التي مَن ركبها نجا، ومَن تخلَّف عنها هلك، فإنَّ أذواق الناس ومواجيدهم وكلامهم وأعمالهم لا حدَّ لها، ولا حصرَ لها، لا الصُّوفية، ولا غير الصوفية؛ لأنَّ لهم أذواقًا ولهم أشياء يستلذُّونها، ولهم أقوال يصطلحون عليها، ولهم أعمال يصطلحون عليها، فهذه الأذواق والمواجيد والأعمال والأقوال وما يصطلحون عليه من الإشارات وغير ذلك كله لا بدَّ أن يكون دليله من الكتاب أو السُّنة، في حقِّه أو باطله، فأقوالهم ومواجيدهم وأذواقهم وأعمالهم وغيرهم كلها يجب أن تُعرض على الأدلة الشَّرعية، فما دلَّت عليه الأدلة الشَّرعية على أنه طيبٌ أُخِذَ به، وما لا فلا؛ لأنها لا تنضبط أمورُ الناس إلا بما بيَّنه اللهُ لعباده: خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10].

مثل قَول سهل بن عبدالله التّسترِي: كل وجدٍ لَا يَشْهد لَهُ الْكِتاب وَالسُّنة فَهُوَ بَاطِلٌ.

فصلٌ

وإذا كَانَت اللَّذَّةُ مَطْلُوبَةً لنَفسهَا، فَهِيَ إنما تُذمّ إذا أعقبت ألـمًا أعظم مِنْهَا، أو منعت لَذَّةً خيرًا مِنْهَا، وتُحمد إذا أعانت على اللَّذَّة المستقرة، وَهُوَ نعيم الآخرة الَّتِي هِيَ دائمة، عَظِيمَة، كَقَوْلِه: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:56- 57].

وَقَالَ تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16- 17].

وَقَالَ تعالى عَن السَّحَرَة الَّذين آمنوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنما تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إلى قَوْله: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72- 73].

وَالله سُبْحَانَهُ إنما خلق الْخلق لدار الْقَرار، وَهِي الْجنَّة وَالنَّار، فَأَمَّا الدَّار الدُّنْيَا فمُنقطعة، ولذَّاتها لَا تصفو، وَلَا تدوم أبدًا، بِخِلَاف الآخرة فإنَّ لذَّاتها وَنَعِيمهَا صَافٍ من الكدر، دَائِم غير مُنْقَطعٍ، لَيْسَ فِيهَا حزنٌ، وَلَا نصبٌ، وَلَا لغوبٌ، وأهل الْجنَّة لَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يبصقون، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، بل فِيهَا مَا تَشْتَهي الأنفس، وتلذّ الأعين، وهم فِيهَا خَالدُونَ.

فشهوة النُّفُوس وَلَذَّة الْعُيُون هُوَ النَّعيم الْخَالِص، وَالْخُلُود هُوَ الدَّوَام والبقاء: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، فإنَّ الله أعدَّ لِعِبَادِهِ الصَّالِحين مَا لَا عينٌ رَأَتْ، وَلَا أذنٌ سَمِعت، وَلَا خطرَ على قلب بشرٍ، بله مَا أطلعهم عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي قَالَه العَبْدُ الصَّالح، حَيْثُ قَالَ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ۝ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:38- 39]، فَأَخْبر أنَّ الدُّنْيَا مَتَاع نتمتع بهَا إلى غَيرهَا، وأن الآخرة هِيَ المستقرّ.

وإذا عرف أنَّ لذات الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا إنما هِيَ مَتَاع ووسيلة إلى لذات الآخرة، وَكَذَلِكَ خُلقت، فَكل لَذَّةٍ أعانت على لذَّات الآخرة فَهُوَ مِمَّا أمر الله بِهِ وَرَسُوله، ويُثاب على تَحْصِيل اللَّذَّة بِمَا يئوب إليه مِنْهَا من لذَّات الآخرة الَّتِي أعانت هَذِه عَلَيْهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤمنُ يُثَاب على مَا يَقْصد بِهِ وَجهَ الله: من أكله، وشُربه، ولباسه، ونكاحه، وشفاء غيظه بقهر عدوه فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَلَذَّة علمه وإيمانه وعبادته، وَغير ذَلِك، ولذَّات جسده وَنَفسه وروحه من اللَّذَّات الحسية والوهمية والعقلية.

وكل لَذَّةٍ أعقبت ألـمًا فِي الدَّار الآخرة، أو منعت لَذَّة الآخرة، فَهِيَ مُحرَّمَة، مثل: لذَّات الْكُفَّار والفُسَّاق بعلوهم فِي الأرض وفسادهم، مثل: اللَّذَّة الَّتِي تحصل بالْكُفْر والنِّفاق، كلذَّة الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أندادًا يُحبونهم كحبِّ الله، وَلَذَّة عقائدهم الْفَاسِدَة، وعباداتهم الْمُحرَّمَة، وَلَذَّة غلبهم للْمُؤْمِنين الصَّالِحين، وَقتل النُّفُوس بِغَيْر حَقِّهَا، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَة، وَشُرب الْخَمر؛ وَلِهَذَا أخبر اللهُ أنَّ لذَّاتهم إملاءً ليزدادوا إثمًا، وأنها مكر واستدراج، مثل: أكل الطَّعَام الطّيب الَّذِي فِيه سمٌّ، وَهَذَا الْمَعْنى قد قَرّرته أيضًا فِي قَاعِدَة السُّكر.

وأما اللَّذَّة الَّتِي لَا تعقب لَذَّةً فِي دَار الْقَرار، وَلَا ألـمًا، وَلَا تمنع لَذَّةَ دَار الْقَرار، فَهَذِهِ لَذَّة بَاطِلَة؛ إذ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَلَا مضرَّة، وزمانها يسير، لَيْسَ لتمتع النَّفس بهَا قدر، وَهِي لَا بُدَّ أن تشغل عَمَّا هُوَ خيرٌ مِنْهَا فِي الآخرة، وإن لم تشغل عَن أصل اللَّذَّة فِي الآخرة.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي عناه النَّبِيُّ ﷺ بقوله: كل لَهوٍ يلهو بِهِ الرجلُ فَهُوَ بَاطِلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، ومُلاعبته امْرَأَته، فإنهن من الْحقِّ رَوَاهُ مُسلم.

وَكَقَوْلِه لعمر لما دخل عَلَيْهِ وَعِنْده جوارٍ يضربن بالدُّفِّ، فأسكتهن لدُخُوله، وَقَالَ: إنَّ هَذَا رجلٌ لَا يُحبُّ الْبَاطِلَ، فإنَّ هَذَا اللَّهْو فِيهِ لَذَّة، وَلَوْلَا ذَلِك لما طلبته النُّفُوس.

الشيخ: اللَّعب الذي لا فائدةَ فيه، وربما شغله عن شيءٍ، فهو من جنس الشيء المباح الذي لا فائدةَ فيه لها أهمية، بخلاف تأديب فرسه، ومُلاعبته أهله، ورميه بقوسه، ونحو ذلك، فهذا فيه فائدة: مُلاعبته أهله، وإعداده للحرب، فهذا شيء فيه فائدة كبيرة، وأمَّا الشيء الذي لا فائدةَ فيه: بعض الكلمات التي يمدح بها، أو بعض الأشياء التي يتعاطاها من الأكل الذي لا حاجةَ إليه، وما أشبه ذلك.

س: ومُلاعبته ولده؟

ج: إذا كانت لا تشغله فهي جائزة، باطل يعني لا فائدةَ فيه: لا شرّ، ولا خير، قد يكون بالخير إذا كانت قليلةً، مثلما كان النبي يُلاعب الحسن والحسين، هذا مما يُحبه الله جلَّ وعلا، وفيه فائدة إيناس الأطفال، وشرح صدورهم، ويدخل في مُلاعبة أهله؛ لأنَّ الولد من الأهل.

س: ...................؟

ج: إذا كان ما يصدّ عن حقٍ، ولا يُوقع في باطلٍ، فمن المباح.

وَلَكِن مَا أعان على اللَّذَّة الْمَقْصُودَة من الْجِهَاد وَالنِّكَاح فَهُوَ حقٌّ، وأما مَا لم يُعِن على ذَلِك فَهُوَ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَكِن إذا لم يكن فِيهِ مضرَّة راجحة لم يحرم، وَلم يُنْهَ عَنهُ، وَلَكِن قد يكون فعله مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ يصدّ عَن اللَّذَّة الْمَطْلُوبَة؛ إذ لَو اشْتَغل اللَّاهي حِين لهوه بِمَا يَنْفَعهُ، وَيَطْلب لَهُ اللَّذَّة الْمَقْصُودَة؛ لَكَانَ خيرًا لَهُ.

والنفوس الضَّعيفة -كنفوس الصّبيان وَالنِّسَاء- قد لَا تشتغل إذا تركته بِمَا هُوَ خيرٌ مِنْهَا لَهَا، بل قد تشتغل بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، أو بِمَا يكون التَّقَرُّب إلى الله بِتَركِهِ، فَيكون تمكينُها من ذَلِك من بَاب الإحسان إليها، وَالصَّدَقَة عَلَيْهَا: كإطعامها، وإسقائها؛ فَلهَذَا قَالَ النَّبِي ﷺ أنَّ بعض أنواع اللَّهْو من الْحقِّ، وَكَانَ الْجَوَارِي الصَّغيرات يضربن بالدُّفِّ عِنْدَه.

وَكَانَ ﷺ يُمكنهن من عمل هَذَا الْبَاطِل بِحَضْرَتِهِ؛ إحسانًا إليهن، وَرَحْمَةً بِهن، وَكَانَ هَذَا الأمر فِي حَقِّه من الْحقِّ الْمُسْتَحبّ الْمَأْمُور بِهِ، وإن كَانَ هُوَ فِي حقِّهن من الْبَاطِل الَّذِي لَا يُؤمَر أحدٌ سواهن بِهِ، كَمَا كَانَ إعطاؤه الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم مَأْمُورًا بِهِ فِي حَقِّه وجوبًا أَو استحبابًا، وَإِن لم يكن مَأْمُورًا بِهِ لأحدٍ، كَمَا كَانَ مزاحُه مَعَ مَن يمزح مَعَه من الأعراب وَالنِّسَاء وَالصِّبيان -تطييبًا لقُلُوبِهِمْ، وتفريحًا لَهُم- مُسْتَحبًّا فِي حَقِّه، يُثَاب عَلَيْهِ، وإن لم يكن أولئك مأمورين بالمزح مَعَه، وَلَا منهيين عَن ذَلِك.

فالنبي ﷺ يَبْذل للنفوس من الأموال وَالْمَنَافِع مَا يتألَّفها بِهِ على الْحقِّ الْمَأْمُور، وَيكون المبذول مِمَّا يلتذّ فِيهِ الآخذ وَيُحِبّهُ؛ لأنَّ ذَلِك وَسِيلَة إلى غَيره، وَلَا يفعل ﷺ ذَلِك مَعَ مَن لَا يحْتَاج إلى ذَلِك: كالمهاجرين والأنصار، بل بذل لَهُم أنواعًا أُخر من الإحسان وَالْمَنَافِع فِي دينهم ودُنياهم.

وَعمر لَا يُحب هَذَا الْبَاطِل، وَلَا يُحب سَمَاعه، وَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا إذ ذَاك من التَّأْلِيف بِمَا أُمِرَ بِهِ النَّبِي ﷺ حَتَّى تصبر نَفسُه على سَمَاعه، فَكَانَ إعراضُ عمر عَن الْبَاطِل كمالًا فِي حَقِّه، وَحَال النَّبِي ﷺ أكمل.

ومحبة النُّفُوس للباطل نقصٌ، لَكِن لَيْسَ كلُّ الْخَلق مأمورين بالكمال، وَلَا يُمكن ذَلِك فيهم، فَإِذا فعلوا مَا بِهِ يَدْخلُونَ الْجنَّة لم يحرم عَلَيْهِم مَا لَا يمنعهُم من دُخُولهَا.

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي ﷺ أنه قَالَ: كمل من الرِّجَال كثيرٌ، وَلم يكمل من النِّسَاء إلا أربعة، هَذَا مَعَ الْعِلم بِأَنَّ الْجنَّة يدخلهَا كثيرٌ من النِّسَاء وَالرِّجَال، أكثر من الَّذين كملوا من الطَّائِفَتَيْنِ.

س: ما الشيء الذي رخّص فيه؟

ج: مثل: دعهما، فإنَّ لكل قومٍ عيدًا الجاريتان، ومثل اللهو الذي فعله الحبشةُ في المسجد، وأشباه ذلك.

فصلٌ

فَإِذا تبين أنَّ السُّكر مُؤلَّفٌ من أمرين: وجودي، وَهُوَ اللَّذَّة. وعدمي، وَهُوَ عدم الْعَقل والتَّمييز.

وَقد تقدَّم الْكَلَامُ على اللَّذَّة، وأنَّ جِنْسَهَا لَا يُذمّ إِلَّا لمعارضٍ رَاجِحٍ من فَوَات مَنْفَعَةٍ، أو دُخُول مضرَّةٍ، وتُحمد إذا كَانَت مَقْصُودَةً أو مُعينَةً على الْمَقْصُود.

وأما الْوَصْفُ الآخر -وَهُوَ عدم الْعَقل والتَّمييز- فَهَذَا لَا يُحمد بِحَالٍ من جِهَة نَفسه، فَلَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا سنة رَسُوله مدحٌ وَحمدٌ لعدم الْعَقل والتَّمييز وَالْعِلم، بل قد مدح اللهُ الْعلمَ وَالْعقلَ وَالْفِقْهَ وَنَحْو ذَلِك فِي غير مَوضِعٍ، وذمَّ عدم ذَلِك فِي مَوَاضِع، مثل قَوْله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وَقَالَ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر:22].

وَقَالَ تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ إلى قَوْله: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [هود:20- 24].

وَقَالَ: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].

وَقَالَ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].

وَقَالَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18].

وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الله سبحانه أثنى على العلم، وأثنى على العقل والسَّمع والبصر، وذمَّ مَن لا يسمع، ولا يعقل، ولا يعلم؛ ولهذا جاء في الخمر ما جاء فيها من الوعيد؛ لأنها تُزيل العقل، وتُوقعه في شبه الجنون حتى لا يعقل، ولا يفهم، وحتى يفعل ما لا يفعله العُقلاء: من الضرب، والشتم، والقتل، وغير ذلك؛ ولهذا ذمَّ اللهُ مَن لا يعقل، ولا يفهم، ولا يعي، ولا يسمع، ولا يُبصر؛ إعراضًا عن الحقِّ، واستمرارًا في الباطل.

كما أنه ذمَّ سبحانه مَن يعقل ويعلم ثم يُخالف، يعقل الحقَّ ويفهمه ويعلمه، ثم يحيد عنه: كاليهود، كعلماء اليهود، وعلماء السوء في هذه الأمة، وغيرها.

مَن عقل وعلم فهو ممدوحٌ، ومَن لم يعقل ولم يعلم فهو مذمومٌ، ومَن لم يستعمل عقلَه وعلمه في الخير فهو مذمومٌ أيضًا؛ ولهذا صارت الخمرُ فيها من الذم والعيب والحدّ الشَّرعي؛ لأنها تُفقد العقول، تُزيلها، وتُوقع صاحبها فيما يفعله المجانين، أما اللَّذة التي فيها فهي لذَّة موهومة، تعقبها الحسرات والنَّدامات والشُّرور، واللَّذة إنما تُمدح إذا كانت تُعين على فعل الخير، وتُوقظ من الباطل، أما إذا كانت لذةً تجرّ إلى المحرم، وتُوقع في المحرم، فهي مذمومة.

وَقَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]، وَقَالَ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وَقَالَ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف:185]، وَقَالَ: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2].

وَهَذَا كثيرٌ فِي الْقُرْآن: يَأْمُر ويمدح التَّفكر، والتَّدبر، والتَّذكر، وَالنَّظَر، وَالِاعْتِبَار، وَالْفِقْه، وَالْعِلم، وَالْعَقل، والسَّمع، وَالْبَصَر، والنُّطق، وَنَحْو ذَلِك من أنواع الْعِلم وأسبابه وكماله، ويذمّ أضداد ذَلِك.

فصل

فَإِذا تبين أنَّ جنس عدم الْعَقل وَالْفِقْه لَا يُحمد بِحَالٍ فِي الشَّرْع، بل يُحمد الْعِلم وَالْعَقل، وَيُؤمَر بِهِ أَمرُ إِيجَابٍ، أَو أَمر استحبابٍ، وَلَكِن من الْعِلم مَا لا يُؤمَر بِهِ الشَّخْص نوعًا أَو عينًا: إِمَّا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يمنعهُ عَمَّا يَنْفَعهُ، وَقد يَنْهَى عَنهُ إذا كَانَ فِيهِ مضرَّة لَهُ، وَذَلِكَ أنَّ من الْعِلم مَا لا يحملهُ عقلُ الإنسان فيضرّه، كَمَا قَالَ عَليُّ بن أبي طَالبٍ : "حدِّثوا النَّاس بِمَا يَعْرفُونَ، ودعوا مَا يُنكِرُونَ، أتُحبون أن يُكذب الله وَرَسُوله؟!" وَقَالَ عبدُالله بن مَسْعُودٍ: "مَا من رجلٍ يُحدِّث قومًا بِحَدِيثٍ لَا تبلغه عُقُولهمْ إلا كَانَ فتْنَةً لبَعْضهِم".

وَمن الْكَلَام مَا يُسمَّى علمًا، وَهُوَ جهلٌ، مثل كثير من عُلُوم الفلاسفة وأهل الْكَلَام، والأحاديث الْمَوْضُوعَة، والتقليد الْفَاسِد، وأحكام النُّجُوم؛ وَلِهَذَا رُوي أنَّ من الْعِلم جهلًا، وَمن القَوْل عيًّا، وَمن الْبَيَان سحرًا.

وَمن الْعِلم مَا يضرّ بعض النُّفُوس؛ لاستعانتها بِهِ على أغراضها الْفَاسِدَة، فَيكون بِمَنْزِلَة السِّلَاح للمُحارب، وَالْمَال لِلْفَاجِرِ، وَمِنْه مَا لا منفعةَ فِيهِ؛ لعُمُوم الْخلق، مثل: معرفَة دقائق الْفَلك وثوابته وتوابعه، وحركة كل كَوْكَبٍ، فَإِنَّهُ بمنزلة حركات التَّغَيُّر عندنَا، وَمِنْه مَا يصدّ عَمَّا يحْتَاج إليه، فإنَّ الإنسان مُحْتَاجٌ إلى بعض الْعُلُوم، وإلى أعمال وَاجِبَة، فإذا اشْتغل بِمَا لَا يحْتَاج إليه عَمَّا يحْتَاج إليه كَانَ مذمومًا.

س: ................؟

ج: يعني حدِّثهم بالشيء الذي يفهمونه ويعقلونه، أما أن يُحدَّثوا بشيءٍ لا تبلغه عقولهم من العامَّة وشبه العامَّة، لا، يُحدِّثهم بما ينفعهم في صلاتهم وصيامهم وعقيدتهم، أما علوم لا يتحمَّلونها فلا يُحدَّثون بها.

س: بعض الناس يقول: لا ينبغي الكلام في الصِّفات؟!

ج: الأسماء والصِّفات من باب العقيدة، يُبين لهم؛ لأنَّ هذا تعليم وصف الله، وبيان صفاته سبحانه؛ حتى تطمئن إليه القلوب، وتخشع له، فالكلام في الصِّفات، وبيان أنها وصف الله، وبيان أنه لا شبيهَ له، ولا مثلَ، هذا حقٌّ من العقيدة، والذي يقول أنَّ هذا مما لا ينبغي هذا جهلٌ وغلطٌ، وجاء من دعاء النبي فيما رواه مسلم في الصحيح: اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، فالعلوم التي لا تنفع تضرّ، تذهب بالأوقات، وتُضيع على الناس ما هو أنفع لهم.

فبمثل هَذِه الْوُجُوه يُذمّ الْعِلم بِكَوْنِهِ لَيْسَ علمًا فِي الْحَقِيقَة، وإن سَمَّاهُ أصحابُه وَغَيرهم علمًا، وَهَذَا كثيرٌ جدًّا، أَوْ يكون الإنسان يعجز عَن حمله، أو يَدعُوهُ ويُعينه على مَا يضرّهُ، أو يمنعهُ عَمَّا يَنْفَعهُ.

وَقد يكون فِي حقِّ الإنسان لَا مَحْمُودًا وَلَا مذمومًا، هَذَا كُله فِي جنس الْعِلم.

وَكَذَلِكَ الْقُوَّة الَّتِي بهَا يعلم الإنسان وَيعْقل وَتُسَمَّى: عقلًا، فَهَذِهِ لَا يُحمد عدمهَا أيضًا، إلا إذا كَانَ بوجودها يحصل ضَرَر، فإنَّ من النَّاس مَن لَو جُنَّ لَكَانَ خيرًا لَهُ، فَإِنَّهُ يرْتَفع عَنهُ التَّكْلِيف، وبالعقل يَقع فِي الْكُفْر والفسوق والعصيان.

فإنَّ الْعَقْل قد يُرَاد بِهِ الْقُوَّة الغريزية فِي الإنسان الَّتِي بهَا يعقل، وَقد يُرَاد بِهِ نفس أن يعقل ويعي وَيعلم.

فَالْأوَّل قَول الإمام أحْمَد وَغَيره من السَّلف: الْعقل غريزة، وَالْحِكمَة فطنة.

وَالثَّانِي قَول طوائف من أصحابنا وَغَيرهم: الْعَقل ضربٌ من الْعُلُوم الضَّروريَّة.

وَكِلَاهُمَا صَحِيح؛ فإنَّ الْعَقل فِي الْقَلب مثل الْبَصَر فِي الْعَين، يُرَاد بِهِ الإدراك تَارَةً، وَيُرَاد بِهِ الْقُوَّة الَّتِي جعلهَا الله فِي الْعَين يحصل بهَا الإدراك، فإن كل وَاحِدٍ من علم العَبْد وإدراكه، وَمن علمه وحركته حول، وَلكُل مِنْهُمَا قُوَّة، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِاللَّه.

وَلِهَذَا تَجِد الْمَشَايِخ الأصحاء من الصُّوفِيَّة يوصون بِالْعِلمِ، ويأمرون باتِّباعه، كَمَا تَجِد الأصحاء من أهل الْعِلم يُوصون بِالْعَمَلِ، ويأمرون بِهِ؛ لما يخَاف فِي كلِّ طَريقَةٍ من ترك مَا يجب من الأخرى.

فصل

فَهَكَذَا زَوَال الْعَقل بالسُّكر هُوَ من نوع زَوَاله بالإغماء وَالْجُنُون وَنَحْو ذَلِك، فَهَذَا لَا يُؤمَر بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِحَالٍ، وَلَا يُحمد مِنْهُم، وإن حصل لَهُم مَعَ ذَلِك ذوقٌ إيماني، وَوجد عرفاني مِمَّا هُوَ مَحْمُودٌ ومأمورٌ بِهِ، فَذَاك هو المحمود، لَا عدم الْعَقل والتَّمييز.

وَلِهَذَا لم يكن فِي الصَّحَابَة مَن حَاله السُّكر، لَا عِنْد سَماع الْقُرْآن، وَلَا عِنْد غَيره، وَلَا تكلم الأوَّلون بالسُّكر، وإنما تكلم بِهِ طَائِفَةٌ من مُتأخِّري الصُّوفِيَّة، صَار يحصل لَهُم نوع سكرٍ بِمَا فِي قُلُوبهم من الذَّوْق والوجد، مَعَ سُقُوط التَّمْيِيز وَالْعَقل، ويُفرِّقون بَين الصَّحو وَالسُّكر.

وَالسُّكر لهَؤُلَاء هُوَ من جنس الإغماء والغشي الْحَاصِل عِنْد السَّماع الَّذِي حدث فِي بعض التَّابِعين من الْبَصرِيين وَغَيرهم، فإنَّ السُّكر والإغماء والغشي كلهَا زَوَال الْعَقل والتَّمييز.

الشيخ: والصَّحابة لما كانوا أكمل الناس عقولًا، وأكمل الناس إيمانًا بعد الأنبياء، كانوا يخشعون عند سماع كلام النبي ﷺ ويبكون، ولكن لا تزول عقولهم، ولا يغشون، لا تزول عقولهم، معهم عقولهم، لكنَّهم يخشعون ويبكون من خشية الله ، وتطمئن قلوبهم لذكر الله، ثم حدث للناس بعد ذلك من التابعين مَن قد يُغشى عليه من شدة الخوف والوجل والحذر، فيحصل له خشية وإغماء مما يسمع من المواعظ والذِّكرى، وكما يقع بعد ذلك لكثيرٍ من الناس في مجالس الوعاظ والمذكرين، وصار عند الصُّوفية هذا يُسمونه: السُّكر؛ لأنها تغيرت قلوبهم وعقولهم بسبب ما يقع عندهم من المواعظ والذّكرى.

وهذه التَّسمية تسمية غير لائقة: السكر، ولا يحسن التَّسمية بها؛ فإنَّ السُّكر مذمومٌ، وهو الناشئ عن الخمور والمسكرات، ولكن تساهلوا في تسميته بدلًا من الإغماء، وليست حالة طيبة، هذه ليست حالة جيدة، حالة الصحابة خيرٌ منها، الذي يتَّعظ ويبكي من خشية الله، ولكن يبقى معه عقله، ويبقى معه تمييزه فهو أفضل من هؤلاء المتأخرين الذين تذهب عقولهم، سواء سمّوا ذلك: غشية، أو إغماء، أو سمّوه: سكرًا.

بكل حالٍ هو نقصٌ في تحمل القلوب، ما تتحمل قلوبهم، الصحابة كانوا أقوى قلوبًا، وأقوى إيمانًا، فكانوا يتحمَّلون ما يسمعون من العظة والذِّكرى من النبي ﷺ، وتخشع قلوبهم، وترق قلوبهم، ويبكون، ولكنَّهم لا تذهب عقولهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

فإنَّ السُّكر والإغماء والغشي كلهَا زَوَال الْعَقل والتَّمييز، لَكِن تفترق أسبابها وأذواقها؛ فقد يكون أحدُ الذَّوقين والوجدين عَن محبَّةٍ وَلَذَّةٍ، وَقد يكون عَن خشيَةٍ وألمٍ، وَقد يكون عَن عجزٍ عَن الإدراك؛ لفرط العظمة الَّتِي تجلَّت للْإِنْسَان، كَمَا وَقع لمُوسَى .

فَهَذِهِ الأمور يجب أن يُعرف أنها لَيست كمالًا مُطلقًا كالفناء، لَكِن يُحمد مَا فِيهَا من الأمور المحمودة الإيمانية: من ذوقٍ، أو وجدٍ إيماني مَشْرُوعٍ، أو محبَّةٍ إيمانيةٍ، أو خشيةٍ إيمانيةٍ، وَلَا يُحمد مِنْهَا مَا زَاد على الْمُسْتَحبّ، وَمَا شغل عَمَّا هُوَ أحبّ مِنْهُ.

ويُذمّ مِنْهَا مَا تضمن ترك وَاجِبٍ: من علمٍ، أو عملٍ، أو فعل مُحرَّمٍ، لَكِن إذا كَانَ المذمومُ بِغَيْر تَفْرِيطٍ من العَبْد وَلَا عَن عدوانٍ مِنْهُ لم يذمّ مِنْهُ.

وكما ذكرت مثل ذَلِك فِي قاعة المولهين وعُقلاء المجانين والمغلوبين فِي أحوالهم.

س: ..............؟

ج: لا، ما هو بكمالٍ، فالحال التي عليها الصُّوفية ليست كمالًا، بل هو نقصٌ عليهم، لا يتحمَّلون، فيفنون عن كل شيءٍ، حتى وقعوا في وحدة الوجود، نسأل الله العافية.

والواجب على المؤمن أن يكون غير هذا، بل يكون معه الشعور، ويُفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة، يكون عنده إيمانٌ بأنَّ الله خالق كل شيءٍ، ورب كل شيءٍ، وعنده إيمان بالشَّرائع، والأمر والنَّهي؛ حتى يميز بين ما أحلَّ الله، وما حرَّم الله، وبين ما أمر الله، وبين ما نهى الله عنه، فإذا فني بمشاهدة الخالق عن الأوامر والنَّواهي فهو مذمومٌ، كفعل الصُّوفية الذين أدَّاهم فناؤهم إلى وحدة الوجود، نعوذ بالله.

وكما ذكرت مثل ذَلِك فِي قاعة.

الشيخ: الذي يظهر أنها: قاعدة، قاعة ما لها محلٌّ هنا.

وكما ذكرت مثل ذَلِك فِي قاعدة المولهين وعُقلاء المجانين والمغلوبين فِي أحوالهم وَمَن يسلم إليه حَاله، وَمَن لَا يسلم إليه حَاله، فإنَّ السُّكر نوعٌ من الْغَلَبَة، ويُذمّ مَن لم يحصل لَهُ من هَذِه الأحوال مَا يجب حُصُوله، كَمَا ينقص مَن عدم مِنْهَا مَا يسْتَحبّ حُصُوله، فَهَكَذَا يجب التَّفْصِيل فِي هَذِه الأحوال، وَالله أعْلَم.

الشيخ: هذا بحثٌ جيدٌ، بحثٌ مهمٌّ.

فصل

فقد تبين أنَّ أحد وصفي السُّكر مَنْفَعَة فِي الأصل، وَالْوَصْف الآخر إثم، كَمَا قَالَ تعالى عَن الْخَمر: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، وَقد يَقْتَرن باللَّذة مَا يمْنَع أن تكون مصلحَةً إذا استُعين بهَا على إثمٍ وعدوانٍ، كَمَا يُستعان بالأكل وَالشُّرب على الْكُفْر والفسوق والعصيان، وَقد يَقْتَرن بِعَدَمِ الْعَقل مَا يمْنَع أن يكون مَفْسدَةً إذا استُعين بِهِ على ترك الإثم والعدوان.

فالأصل حمد علم الْقَلب وذوقه ولذَّته مَا لم يَشْتَمل على مَفْسدَةٍ راجحةٍ، بل وذوق الْجِسْم ولذَّته مَعَ علم الْقَلب وعقله؛ لِأَنَّ هَذِه كلهَا خيرات، فإنَّ الْعِلم خيرٌ، وذوق الْقَلب خيرٌ، واللَّذة بِهِ خيرٌ، لَكِن قد يُعارضها مَا يَجْعَلهَا شرًّا.

وإذا لم يجْتَمع التَّمْيِيز واللَّذة، بل إمَّا صحو بِلَا لَذَّةٍ، أو لَذَّة بِلَا صحوٍ، فقد يتَرَجَّح هَذَا تَارَةً، وَهَذَا تَارَةً.

فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فالصَّحو خيرٌ لَهُم، فإنَّ السُّكر يصدّهم عَن ذكر الله، وَعَن الصَّلَاة، ويُوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء، وَكَذَلِكَ الْعَقل خيرٌ لَهُم؛ لِأَنَّهُ يزيدهم إيمانًا.

وأما الْكُفَّار فزوال عقل الْكَافِر خيرٌ لَهُ وللمسلمين: أمَّا لَهُ فَلِأَنَّهُ لَا يصدّه عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة، بل يصدّه عَن الْكُفْر وَالْفِسْق. وأمَّا للْمُسلمين فَلِأَنَّ السُّكر يُوقِع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء، فَيكون ذَلِك خيرًا للْمُؤْمِنين، وَلَيْسَ هَذَا إباحة للخمر وَالسُّكر، وَلكنَّه دفعٌ لشرِّ الشَّرين بأدناهما.

وَلِهَذَا كنت آمر أصحابنا أن لَا يمنعوا الْخَمر عَن أعداء الْمُسلمين من التتار والكرج وَنَحْوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدّهم ذَلِك عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة، بل عَن الْكُفْر وَالْفساد فِي الأرض، ثمَّ إنه يُوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء، وَذَلِكَ مصلحَةٌ للْمُسلمين، فصحوهم شَرٌّ من سُكرهم، فَلَا خيرَ فِي إعانتهم على الصَّحو، بل قد يُسْتَحبّ أو يجب دفع شَرِّ هَؤُلَاءِ بِمَا يُمكن من سُكرٍ وَغَيره.

الشيخ: وهذا من المؤلف مُراعاة للقواعد الشَّرعية، القواعد الشَّرعية المعروفة هي أنَّ الشرع جاء بتحكيم المصالح، ودرء المفاسد، وجاء بتحقيق المصلحة وتكميلها ورعايتها، وتقليل المفسدة وتعطيلها والحذر منها، فإذا تعددت المصالح، ولم يمكن تحصيلها كلها؛ وجبت العنايةُ بأحسنها وأصلحها وأهمّها وأعظمها، وإن فاتت الدنيا منها أو منهما.

وهكذا المفاسد إذا تعددت، ولم تتيسر السَّلامة منها كلها، فإنه يجتهد في السَّلامة من أكبرها فأكبرها، وشرّها فأشرّها، وإن ارتكب الأدنى منها؛ ولهذا الخمور شرٌّ على المسلمين؛ لأنها تصدّهم عن ذكر الله، وتُوقع الشَّحناء بينهم، والعداوة والفساد بينهم، فحرَّمها الله عليهم، ومنعهم منها؛ لما فيها من الفساد والشَّر.

وأما وقوعها للكفرة الضَّالين: فإنها قد تكون خيرًا لهم بالنسبة إلى تعطيلهم عن إيذاء المسلمين، وتعطيلهم عن أنواع الكفر، يشتغلون بها، وتكون بينهم العداوة والبغضاء، فيكون شرًّا لهم، وإن كانت مُحرَّمةً عليهم، لكنَّها بالنسبة إلينا أسهل؛ لأنهم إذا شُغلوا بأنفسهم، وصارت بينهم العداوة، وتعطلت عقولهم، كان أسلمَ لنا من شرِّهم وبلائهم، شُغلوا بأنفسهم، فكان ذلك من رحمة الله لنا أن شغلهم بأنفسهم: بالقتال بينهم، أو بالخمر التي سكروا بها، وقتل بعضُهم بعضًا، أو ما أشبه ذلك.

ولهذا يقول الشيخ: وكنتُ أقول لأصحابنا في زمن التتار، لما تعدَّى التتارُ على المسلمين ومَن معهم من قبائل الكرج في جهة الشرق، كان بعضُ المسلمين إذا مرُّوا عليهم وهم سُكارى تكلَّموا عليهم، قال: لا تُكلموهم، اسكتوا، خلوهم؛ لأنهم إذا وعوا شرعوا في قتال المسلمين وإيذاء المسلمين.

فالمعنى المراد بهذا أنه إذا شغلهم الله بالخمر بينهم، والقتال بينهم، كان في هذا مصلحة المسلمين؛ حتى يشغل بعضُهم ببعضٍ، وهذا من باب ارتكاب أدنى المفسدتين؛ لتفويت أُخراهما، حتى لا يُؤذوا المسلمين، ولا يقتلوهم، وهذا تحت القاعدة، القاعدة التي سمعت، وهي تحصيل المصلحة وتوفيرها وتكميلها، وتعطيل المفسدة وتقليلها وإبعادها، لكن إذا كانت مصلحتان لم يتيسر تحصيلهما، فإنه يجتهد في تحصيل الكبرى التي هي العظمى منهما، وإن فاتت الصغرى.

وهكذا المفسدتان: الخمر مفسدة في حقِّ الشارب، غضب، وفساد، لكن إذا كان إذا صحا ارتكب ما هو أكبر، مثل: سبّ الله، وسبّ الرسول، وقتال المسلمين، يُترك في حاله، ولا يسعى في تخليصه منها؛ لأنه إذا تخلص منها شرع فيما هو شرٌّ منها: من الكفر والضَّلال وقتال المسلمين، كفعل التَّتر في حربهم على المسلمين، نسأل الله العافية.

س: هل يجوز ترويج المسكرات والمخدرات للكُفَّار لمصلحة المسلمين؟

ج: هذا محل نظرٍ، كونه يفعل ذلك لا، لكن إذا وجدهم فعلوه يتركهم، أما كونه يُعطيهم إياه لا.

س: يكون هذا كالسِّلاح في حربهم؟

ج: ما يظهر لي، أن يُعطيهم خمورًا ما يظهر لي، لكن إذا وجدهم فيها يفرح بشغل بعضهم ببعضٍ، أما كونه يُعطيهم إياها فهذا محل نظرٍ.

فَهَذَا فِي حقِّ الْكفَّار، وَمن الْفُسَّاق الظَّلمَة مَن إذا صَحا كَانَ فِي صحوه من ترك الْوَاجِبَات، وإعطاء النَّاس حُقُوقهم، وَمن فعل الْمُحرَّمَات، والاعتداء فِي النُّفُوس والأموال، مَا هُوَ أعظم من سكره، فَإِنَّهُ إذا كَانَ يَتْرك ذكر الله وَالصَّلَاة فِي حَال سُكره، وَيَفْعل مَا ذكرته فِي حَال صحوه، وَإِذا كَانَ فِي حَال صحوه يفعل حروبًا وفتنًا؛ لم يكن فِي شربه مَا هُوَ أكثر من ذَلِك.

ثمَّ إذا كَانَ فِي سُكره يمْتَنع عَن ظلم الْخلق فِي النُّفُوس والأموال والحريم، ويسمح ببذل أموالٍ -تُؤْخَذ على وَجهٍ فِيهِ نوعٌ من التَّحْرِيم- ينْتَفع بهَا النَّاس، كَانَ ذَلِك أقلّ عذَابًا مِمَّن يصحو فيعتدي على النَّاس فِي النُّفُوس والأموال والحريم، وَيمْنَع النَّاس الْحُقُوق الَّتِي يجب أداؤها.

فَالْحَاصِل أنه تجب الموازنة بَين الْحَسَنَات والسَّيئات الَّتِي تَجْتَمِع فِي هَذَا الْبَاب وأمثاله وجودًا وعدمًا، كَمَا قررت مثل ذَلِك فِي قَاعِدَة تعَارض السَّيِّئَات والحسنات، فإنَّ السُّكر والصحو قد يكونَانِ من هَذَا الْبَاب، وَهَكَذَا السُّكر والصَّحو فِي الأذواق الإيمانية، والمواجيد العرفانية.

فَمن السَّالكين مَن إذا حصل لَهُ سُكر حصل لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وإيمانٌ، وإن كَانَ فِيهِ من النَّقْص وَعدم التَّمْيِيز مِمَّا يحْتَاج مَعَه إلى الْعَقل مَا فِيهِ، فَيكون خيرًا من صحوٍ لَيْسَ فِيهِ إلا الْغَفْلَة عَن ذكر الله، وقسوة الْقُلُوب، وَالْكُفْر، والفسوق، وَالْخُيَلَاء، وَنَحْو ذَلِك من ترك الْحَسَنَات، وَفعل السَّيِّئَات.

الشيخ: وهذا يتعلق بالصُّوفية وما يقع لهم من الأذواق والمواجيد والسُّكر بما يزعمون من تذكرهم الآخرة، وتذكرهم مقام الله وعظمته، فقد يُصيبهم من الذُّهول والسُّكر ما يُزيل شعورهم، فهذا قد يكون فيه بالنسبة إلى حالهم ما هو خيرٌ لهم من صحوهم إذا صحوا؛ لأنَّهم بصحوهم يشتغلون بما حرَّم الله من البدع، والدَّعوة إلى الفساد في الأرض، فيكون سكرهم هذا بمواجيدهم وأذواقهم ينفع المسلمين، وينفع أهل السنة، ولكن هم في أنفسهم ناقصون؛ لأنَّ هذا الذي يعتريهم من نقص العقول، من نقص الدِّين.

وكان الصحابةُ -وهم أفضل الناس بعد الأنبياء- ما يُصيبهم هذا، عندهم من الإيمان، وعندهم من البصيرة، وعندهم من العلم، وعندهم من الخير والخوف من الله ما هو خيرٌ من الصوفية، ومع هذا لا تغيب عقولهم، بل عقولهم معهم في جميع أحوالهم، وما ذاك إلا لكمال إيمانهم، وكمال بصيرتهم.

وهكذا الرسل وهم أفضل الناس، وهم أعلم الناس، وأفقه الناس، وأحسن الناس عملًا، ولا يفسدون شعورهم بذلك، ولا تزول عقولهم بذلك.

فما يقع للصُّوفية نقصٌ في إيمانهم، ونقصٌ في دينهم، ولكن قد يكون هذا الذي يقع فيه مصلحة لأهل السنة وأهل الاستقامة؛ لأنهم يشغلون به عن فسادهم في الأرض، وإظهارهم البدع، ونحو ذلك، ويكون هذا من رحمة الله أن شغلهم بهذا الشيء، وجعلهم كالمجانين يخلدون إلى الأرض، ويسقطون إلى الأرض بسبب ما أصابهم، ويسلم الناسُ من شرِّهم لو صحوا وصاروا دعاةً للبدع والشَّر والفساد.

س: ................؟

ج: ..................

وأما الصَّحو الْمُشْتَمل على الْعِلم والإيمان، وتذوق صَاحبُه طعمَ الإيمان، وَوجد حلاوتَه، فَهُوَ خيرٌ من السُّكر بِلَا شكٍّ.