02 وجوب هدم الأصنام

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ.

وَهَذَا التَّوْحِيدُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى نَقِيضِهِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، بَلِ الْقُلُوبُ مَفْطُورَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ أَعْظَمَ مِنْ كَوْنِهَا مَفْطُورَةً عَلَى الْإِقْرَارِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، كَمَا قَالَتِ الرُّسُلُ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم:10].

وَأَشْهَرُ مَنْ عُرِفَ تَجَاهُلُهُ وَتَظَاهُرُهُ بِإِنْكَارِ الصَّانِعِ: فِرْعَوْنُ، وَقَدْ كَانَ مُسْتَيْقِنًا بِهِ فِي الْبَاطِنِ، كَمَا قَالَ له مُوسَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102].

وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]. وَلِهَذَا قَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لَهُ، تَجَاهُلَ الْعَارِفِ، قَالَ لَهُ مُوسَى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ۝ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ۝ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ۝ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ۝ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:24- 28].

وَقَدْ زَعَمَ طَائِفَةٌ أَنَّ فِرْعَوْنَ سَأَلَ مُوسَى مُسْتَفْهِمًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَسْؤولَ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَاهِيَّةٌ عَجَزَ مُوسَى عَنِ الْجَوَابِ! وَهَذَا غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَجَحْدٍ، كَمَا دَلَّ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَاحِدًا لِلَّهِ، نَافِيًا لَهُ، لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا لَهُ، طَالِبًا لِلْعِلْمِ بِمَاهِيَّتِهِ.

الشيخ: ولهذا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] مُنكرًا لوجود الله سبحانه وتعالى، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، ويعلم في الباطن أنه كاذب، وأنَّ ربَّ العالمين هو الله وحده ، ولكن وجد همجًا رعاعًا لا بصيرةَ لهم فكذب عليهم وقال هذا الكلام، وهكذا يُحكى عن النَّمرود أنه فعل ذلك أيضًا.

فَلِهَذَا بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَ رُبُوبِيَّتِهِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ: بِمَا هُوَ؟ بَلْ هو أَعْرَفُ وَأَظْهَرُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُجْهَلَ، بَلْ مَعْرِفَتُهُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطَرِ أَعْظَمَ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ مَعْرُوفٍ.

وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَمَاثِلَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.

فَإِنَّ الثَّنَوِيَّةَ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْمَانَوِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ صَدَرَ عَنْهُمَا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النُّورَ خَيْرٌ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَهُوَ الْإِلَهُ الْمَحْمُودُ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ شِرِّيرَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِي الظُّلْمَةِ: هَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ؟ فَلَمْ يُثْبِتُوا رَبَّيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ.

الشيخ: وكلامهم كلام مَن لا يعقل، كلام المجوس كلام مَن لا يعقل، فإنَّ النور والظُّلمة وصفان، وليسا إلهين، ولا ذاتين، وإنما النور والظلمة وصفان، كل واحدٍ يأتي عن غيره، وينوب عن غيره، النور يأتي بأسباب النور، والظلمة تأتي بأسباب الظلمة، وهو عدم النور، فليسا أصلين، وليسا ذاتين، وإنما يكونان أوصافًا، فمن جهلهم وضلالهم قولهم: إنَّ أصل الأشياء النور والظلمة، وأن النور هو الإله المحمود، والظلمة إله الشر، هذا كلام فاسد قد صدر من عقولٍ فاسدةٍ؛ ولهذا فطر الله العباد على الإيمان بوجود الله، وأن هذا العالم له رب، وله صانع، وله خالق، وله مُدبر يُصرف شؤونه، هكذا فطر الله العالم على ذلك.

وَأَمَّا النَّصَارَى الْقَائِلُونَ بِالتَّثْلِيثِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْعَالَمِ ثَلَاثَةَ أَرْبَابٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، بَلْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، وَيَقُولُونَ: بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

الشيخ: ولهذا ضحك بهم العقلاء، وقالوا عنهم: إنهم فاسدوا العقول، فاسدوا التصرف، كيف يكون إلهًا واحدًا وهو مكون من ثلاثة أشياء؟! هذه مكابرة، فعيسى ومريم والله هذا ليس واحدًا، هذا ثلاثة؛ ولهذا صار دينُ النصارى الذين أحدثوه من أفسد الأديان، ومن أبينها بطلانًا؛ ولهذا كل عاقلٍ يربأ بعقله وبنفسه عن هذا الدِّين، ويعلم أنه دين فاسد باطل، ولكن يحمله على البقاء عليه إما طلب الرياسة، وإما خوف القتل، وإما أموال يأخذها، وإما أشياء أخرى؛ فلهذا يسعى للبقاء عليه، وإلا فكل عاقلٍ يعلم فساد هذا الدين.

وَقَوْلُهُمْ فِي التَّثْلِيثِ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُمْ فِي الْحُلُولِ أَفْسَدُ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مُضْطَرِبِينَ فِي فَهْمِهِ، وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ، لَا يَكَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِمَعْنًى مَعْقُولٍ، وَلَا يَكَادُ اثْنَانِ يَتَّفِقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.

الشيخ: ولهذا قال العلماء: لو اجتمع عشرة من النصارى في درس إلههم لتفرَّقوا على أحد عشر قولًا، يعني أن المبالغة في اختلافهم أنهم قد ينقسمون إلى أقوالٍ أكثر من عدد الموجودين من باب المبالغة في اختلافهم.

وممن لخص هذا وبيَّن أباطيلهم: أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح"، وكذلك ابنُ القيم رحمه الله في "هداية الحيارى في الرد على اليهود والنَّصارى"، وكذلك ملخص كتاب ابن معمر، كتاب "ردّ ابن معمر النفيس على عباد الصليب"، عبدالعزيز بن معمر رحمه الله أحد علماء الدَّرعية في القرن الثالث عشر، قد طُبع.

فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ، ثَلَاثَةٌ بِالْأُقْنُومِ! وَالْأَقَانِيمُ يُفَسِّرُونَهَا تَارَةً بِالْخَوَاصِّ، وَتَارَةً بِالصِّفَاتِ، وَتَارَةً بِالْأَشْخَاصِ.

الشيخ: بالخواص، يعني: ما يختص به كل واحدٍ من الأقانيم؛ هذا خاصيته كذا، وهذا خاصيته كذا، يعني: روح القدس خاصيته كذا، ومريم خاصيتها كذا، وعيسى خاصيته كذا، مما يتَّخذون في كتبهم.

س: .............؟

وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ، وَبالْجُمْلَةِ فَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِإِثْبَاتِ خَالِقَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالْفَلْسَفَةِ تَعِبُوا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ وَتَقْرِيرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ تَقْرِيرِ هَذَا بِالْعَقْلِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُتَلَقَّى مِنَ السَّمْعِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ إِثْبَاتُهُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا مِثْلَ: أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا تَحْرِيكَ جِسْمٍ وَآخَرُ تَسْكِينَهُ، أَوْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَهُ وَالْآخَرُ إِمَاتَتَهُ: فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُمَا، أَوْ مُرَادُ أَحَدِهِمَا، أَوْ لَا يَحْصُلُ مُرَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَالْأَوَّلُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالثَّالِثُ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ خُلُوُّ الْجِسْمِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ، وَيَسْتَلْزِمُ أَيْضًا عَجْزَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِذَا حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ هَذَا هُوَ الْإِلَهَ الْقَادِرَ، وَالْآخَرُ عَاجِزًا لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ.

وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ.

وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَلِيلَ التَّمَانُعِ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22].

..........

لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي قَرَّرُوهُ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ، وَدَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاحِدٌ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84- 85] الآيات.

وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا مُشَارِكَةٌ لِلَّهِ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ، بَلْ كَانَ حَالُهُمْ فِيهَا كَحَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْأُمَمِ مِنَ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ، تَارَةً يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذِهِ تَمَاثِيلُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ، وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا كَانَ أَصْلَ شِرْكِ الْعَرَبِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23].

وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ"، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِعَيْنِهَا صَارَتْ إِلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ، وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتُهُ.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.

الشيخ: وهذه الأصنام والأوثان التي درجت عليها الأممُ كلها أخذوها بالتقليد الأعمى وعدم النظر فيما جاءت به الرسل، كما قال الله عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فتأسَّى آخرهم بأولهم في عبادتها من دون الله على أنها شُفعاء، على أنها وسائط، لا أنها تخلق وترزق وتُجيب مَن دعاها، فإنهم لا يعتقدون هذا، بل يعلمون أنَّ الله سبحانه هو الخالق الرازق، مدبر الأمور، منزل الأمطار، المحيي المميت، إلى غير ذلك، ولكنَّهم زعموا أنَّ هذه الأصنام والأوثان تشفع لهم عند الله، وتُقربهم لديه: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فاستوى هذا عند أولهم وآخرهم، وتبع آخرهم في ذلك أولهم، وصار ذلك شائعًا فيهم، مُستحسنًا فيهم، حتى قاتلوا عليه، وناضلوا عليه.

وجرى لقريش مع نبينا ﷺ ما جرى على هذه الشركيات، وهذه الأوثان والأصنام التي لا أساسَ لها إلا الباطل، فانظر كيف كانت عقول الناس؟!

هذه العقول التي أصابها الدمار والخراب بسبب التقليد الأعمى، حتى قاتلوا وسفكوا الدماء، وأتلفوا نفوسهم وأموالهم على باطلٍ.

هذه حال الأمم فيما يقع منها من الشرِّ والفساد والشرك والكفر، كله بالتقليد الأعمى وعدم النظر فيما جاءت به الرسل، وعدم التواصي بالحقِّ، فجرهم إلى هذا الشرك العظيم والبلاء الوخيم تقليد لا أساسَ له، واتِّباع باطل، وإحسان ظنٍّ بالأوَّلين على غير هدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهكذا ما جرى لهذه الأمة من تعظيم القبور التعظيم غير الشرعي، واتخاذ المساجد عليها، والقباب عليها، والبناء عليها؛ حتى عظَّمها العامَّة، وحتى طافوا بها، واستغاثوا بها، وطلبوا المدد، كل هذا من التقليد الأعمى.

وهكذا ما وقع الآن من احتفالات الموالد وتعظيمها، وجعلها أعيادًا أعظم من عيد الأضحى والفطر، كله بسبب التقليد الأعمى وعدم البصيرة: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].

وقد كان السلفُ الصالح في عهد نبينا ﷺ وفي عهد صحابته وفي عهد القرون المفضلة الثلاثة لا يعرفون هذه الاحتفالات وهذه الموالد التي زعموها، ولكن بسبب التقليد الأعمى الذي وقع من المتأخرين ممن فعل ذلك من الشيعة وغير الشيعة شاع هذا الشيء وانتشر، واستمر الناسُ عليه حتى ظنُّوه سنةً، وظنُّوا مَن أنكره وبيَّن بطلانه أنه هو المخطئ، وهو الغالط.

هذه حال الناس إذا اعتادوا شيئًا ومشوا عليه وساروا عليه؛ تبع آخرُهم أوَّلهم، وظنُّوا أنَّ ما فعلوه هو الصواب والخير، وأنَّ هذا هو الطيب، وأنه أحسن مما كان عليه السلف الصالح، ثم تعللوا لذلك بالعلل الفاسدة.

ثم الآن زاد الأمرُ حتى صار كلُّ واحدٍ يجعل لأمه عيدًا، أو لولده عيدًا، أو لبنته عيدًا، أو لأبيه عيدًا، أو لنفسه عيدًا بالسنة؛ تقليدًا للنصارى واليهود، والله المستعان.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذُكِرَ لَهُ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ: عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ، وَاتِّخَاذُ الْأَصْنَامِ.

الشيخ: العبارة هذه فيها نظر، الصواب أن يُقال: ومن أنواع الشرك، بدلًا من أسباب، الصواب: ومن أنواع الشرك، هذه ليست أسبابًا، بل هذا هو نفس الشرك، فالعبارة هذه فيها نظر، فالصواب: ومن أنواع الشرك، بدل: ومن أسباب الشرك .. إلى آخره.

........

بِحَسَبِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلْكَوَاكِبِ مِنْ طِبَاعِهَا.

وَشِرْكُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِيمَا يُقَالُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَاتِّخَاذُ الْأَصْنَامِ لَهُمْ.

الشيخ: وهذا من جهلهم؛ لما رأوا الكواكبَ وعظمتها وانتشارها في الفضاء وبُعدها وقع في قلوبهم أنَّ لها شيئًا؛ ولهذا عبدوها من دون الله، هذا هو الجهل الشديد الذي وقع فيه غالبُ الصَّابئة.

وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ، وَلَكِنِ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وقال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].

الشيخ: هذا نص واضح في أنَّ المشركين الأوَّلين ما كانوا يعتقدون أنَّ هذه المخلوقات لها تصرف ولها تدبير في الكون، بل ذلك إلى الله كما اعترفوا بهذا في مواضع؛ لأنهم إنما تعلَّقوا بها يزعمون أنها وسائط، وأنها شُفعاء.

وبهذا تعلم أنَّ ما يقوله بعضُ مشركي العصر وما يتعلق به مُشركو العصر من أنا لا نعتقد فيها النفع والضرّ، وإنما هي وسائط. أنَّ هذا هو نفس ما قاله المشركون الأولون، فليس العلَّة في الشرك الأول أنهم اعتقدوا النفع والضرّ، لا، العلة أنهم اتَّخذوها وسائط، وصرفوا لها العبادة.

فالذي فعله أولئك وقصده أولئك هو الذي قصده الآن عُبَّاد البدوي، وعُبَّاد الحسين، وعُبَّاد الكاظم، وعُبَّاد عبد القادر، وعُبَّاد كذا، وعُبَّاد كذا، هو القصد، قصدهم أنهم يشفعون لهم، وأنهم يتوسَّطون لهم، وأنهم ليسوا بذاك؛ حتى يتقدموا بالعبادة لله وهم منافقون، وهم مذنبون، وهؤلاء صلحاء، فنجعلهم وسائط.

وقد وقع هؤلاء المتأخِّرون فيما هو أشدّ من هذا، فزادوا على الأوَّلين، حتى اعتقد بعضُ المتأخرين أن هذه الوسائط تنفع وتضرّ، وتُصرف الكون، وتُدبر أمر العالم، فصاروا بهذا أقبح من الأوَّلين، صاروا بهذا الاعتقاد الأخير أقبح من شرك الأولين بشركهم وضلالهم، لكن قُصار هؤلاء إذا تحسنوا بعض التَّحسن أن يكونوا مثل الأولين؛ يعتقدون في هذه الوسائط أنها تشفع، وأنها تُقرب، لا أنها تُدبر، ولا أنها تتصرف في الكون.

أما بعض هؤلاء الصوفية المتأخرين وعُبَّاد القبور فلهم اعتقادات عريضة في هؤلاء المعبودين من دون الله: من تصريف الكون، وتدبير الأمور في ذرات الدنيا، هذه من المسائل الكبيرة، نسأل الله العافية، والله المستعان.

حتى ذكر الخُميني الآن المعروف، الذي هو رئيس الدولة الإيرانية، ذكر في كتابه "الحكومة الإسلامية" قال: إن أئمتنا –يعني: الاثني عشر، الذين أوَّلهم علي وآخرهم تحت السرداب– بلغوا منزلةً ما بلغها ملكٌ مُقرب ولا نبيٌّ مرسل، وأنهم يتصرفون في الذَّرات –ذرات الكون.

هذا شرك في الربوبية، وجعلهم فوق الرسل أيضًا! وجعلهم يعلمون الغيب! نسأل الله العافية، قد صرح بهذا في كتابه.

س: الصوفية كذلك يقولون: هناك العامَّة ومنهم الأنبياء والرسل، وهناك الخاصَّة؟

ج: هذا قول كثيرٍ من الصوفية؛ أن الولي متوسط، فوق الرسول، ودون النبي، لهم اعتقادات خبيثة ومُتناقضة.

س: ...........؟

وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عنهم فِي قِصَّةِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ التِّسْعَةِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ، أَيْ: تَحَالَفُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49]، فَهَؤُلَاءِ الْمُفْسِدُونَ الْمُشْرِكُونَ تَحَالَفُوا بِاللَّهِ على قَتْلِ نَبِيِّهِمْ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ إِيمَانَ الْمُشْرِكِينَ.

فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الْمَطْلُوبَ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

الشيخ: العلماء يقولون: إن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات. يعني: يلزم وجوبًا من الإقرار بهذا الإقرار بهذا، وأما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات فيستلزمان توحيد الإلهية، ويُوجبان ذلك ويقتضيانه؛ ولهذا يُحتج بهما على مَن كفر بالله وأشرك به، فيُقال لهم، يُقال لكثيرٍ من الغالين الذين قصدوا القربةَ والشفاعةَ من الآلهة يُقال لهم: إذا كنتم مُقرين بأنَّ الله هو الخالق الرازق المدبر، وأنه ذو الأسماء الحسنى والصفات العُلى؛ فإنه يلزمكم بذلك توحيد المعبود، هذا الإقرار يستلزم ويقتضي ويُوجب أن يكون المقصودُ بهذه الصِّفات هو المستحق لأن يُعبد ويُطاع ويُعظم ويُخضع له، ويُمتثل لما أمر به وما نهى عنه؛ لأنَّ كونه يتصرف في الكون ويُدبر الأمور هذا يُوجب الخضوعَ له والتَّعلق به.

فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات يستلزمان ويقتضيان ويُوجبان توحيد الله بالعبادة؛ ولهذا احتجَّ الله على المشركين بما أقرُّوا به في توحيد الربوبية: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ [العنكبوت:61]، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ [يونس:31]، كل هذا احتجاج بما أقرُّوا به من توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات، احتجاج عليهم أن يُقروا بما جاءت به الرسل من توحيد العبادة، ولا يتوقَّفوا في ذلك.

وأما توحيد الإلهية فيتضمن –يعني: في ضمنه- توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات؛ لأنَّ الإله الذي يُعبد يستحق أن يُدعا ويُصلَّى له ويُسجد له ويُتعلق به؛ لا بدَّ أن يكون مُتَّصفًا بأنه الخلَّاق، الرزاق، المدبر، العالم للغيب، إلى غير ذلك، فيتضمن توحيد الإلهية الإيمان بهذه الأشياء التي هي من حقيقة توحيد الربوبية والأسماء والصفات؛ إذ لا يكون إلهًا صالحًا لأن يُعبد وهو عاجز لا يقدر على دفع ضرٍّ أو جلب خيرٍ، لا يصلح أن يكون إلهًا يُعبد وهو لا يسمع دعاء الدَّاعين، كيف يُجيب دعاءهم وهو لا يسمعهم؟! فمن مقتضى هذا التوحيد أن يكون هذا المدعو وهذا المرجو يعلم المغيبات، ويعلم ما في القلوب، ويسمع الدعاء؛ حتى يقضي حاجة المحتاجين العابدين له.

فعُلم بذلك أنَّ الإيمان بتوحيد الإلهية يقتضي أن يكون المألوه عليمًا سميعًا بصيرًا قادرًا خالقًا رازقًا؛ إذ يتمكن بهذه الصِّفات من قضاء حوائج المحتاجين، ودعاء الداعين، واستغفار المستغفرين، واسترزاق المسترزقين، إلى غير ذلك.

وهذا هو الفرق بين التَّضمن وبين الالتزام والاقتضاء والإيجاب.

نُعيدها مرةً أخرى: توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة يتضمن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ إذ يستحيل أن يكون إلهًا صحيحًا وإلهًا مُستحقًّا للعبادة وهو لا يعلم، ولا يقدر، ولا يُدبر الأمور، ولا يسمع، إلى غير ذلك.

وأما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصِّفات فيستلزمان ويُوجبان ويقتضيان توحيد الإلهية والعبادة.

وبهذا احتجَّ الله على المشركين -بهذين النَّوعين- وقد يُسميان نوعًا واحدًا؛ لأنَّ الناس انقسموا -المعرِّفين للتوحيد- منهم مَن جعله قسمين، ومنهم مَن جعله على ثلاثة أقسام بالاستقراء للكتاب والسنة، فمَن جعلهما على نوعين جعل توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات نوعًا واحدًا، وجعل توحيد الألوهية نوعًا مستقلًّا، فيقول: توحيده بالقصد والطلب، هذا توحيد الإلهية والعبادة، وتوحيده في المعرفة والإثبات، وهذا توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات؛ بمعرفة الله وإثبات أسمائه وصفاته، وكونه سميعًا بصيرًا بالنسبة لكونه مُدبرًا خالقًا رازقًا، فكلها صفات له، كلها صفات له، فلا مانع من أن تكون قسمًا واحدًا مُستقلًّا، ويكون توحيد الألوهية قسمًا واحدًا.

فعلى هذا يكون التوحيد قسمين:

  • الأول يُسمَّى: توحيد الإلهية، وهو توحيد القصد والطلب.
  • والقسم الثاني يُسمَّى: التوحيد العلمي الخبري، توحيد المعرفة والإثبات، توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات، عبارات متقاربة.

القول الثاني من تقسيم أهل السنة: يُقسمون التوحيد إلى ثلاثة أقسام من باب الإيضاح، ومن أجل التفسير:

  • توحيد الربوبية: هو الإيمان بأنَّ الله الخلَّاق الرزاق المدبر للأمور.
  • توحيد الأسماء والصِّفات: هو إثبات أسمائه وصفاته الأخرى، ويشمل: الخلَّاق والرزاق .. إلخ.
  • وتوحيد الإلهية والعبادة: هو كونه المستحق لأن يُعبد، وأن يُدعا، وأن يُصلَّى له، وأن يُسجد له، وأن يُتقرب إليه.

هذا هو التوحيد على أقسام ثلاثٍ من باب الإيضاح، وإلا فتوحيد الأسماء والصِّفات داخلٌ في الربوبية، وهو جزء منه؛ ولهذا جُعلا قسمًا واحدًا، فعبَّر عنهما بالتوحيد العلمي الخبري، التوحيد في المعرفة والإثبات، توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات كقسمٍ واحدٍ ........

التوحيد يقسم إلى قسمين، بمعنى أن توحيد الإلهية -وهو العبادة- هو التوحيد الذي جاءت به الرسل .....، وهو تخصيص الله بالعبادة، وإفراده بها، وهو معنى "لا إله إلا الله".

والقسم الثاني: توحيد المعرفة والإثبات: وإن شئتَ فقل: التوحيد العلمي الخبري، وهو توحيد الله بأفعاله: من خلقه ورزقه وتدبيره، ومن صفاته: من كونه سميعًا بصيرًا عليمًا قادرًا رحيمًا توَّابًا قديرًا، إلى غير ذلك، هذا التوحيد يُسمَّى: التوحيد بالمعرفة والإثبات، ويُسمَّى: التوحيد الخبري، والأول يُسمَّى: توحيد العبادة، ويُسمَّى: توحيد الألوهية، ويُسمَّى: التوحيد في القصد والطلب، وهو معنى "لا إله إلا الله" ...... قال: التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الإلهية والعبادة، والقصد والطلب، وتوحيد من جهة أفعال الرب ..... وخلقه للعالم، وتوحيد في بيان أسمائه وصفاته كلها، وأنه موصوف بها .......

س: ..... يستلزم الإقرار؟

ج: يتضمن؛ لأنَّهم إنما وحَّدوه .....

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۝ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ۝ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ۝ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:31- 36].

وَقَالَ تَعَالَى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم:10].

وَقَالَ ﷺ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُولَدُ سَاذِجًا لَا يَعْرِفُ تَوْحِيدًا وَلَا شِرْكًا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَا تَلَونَا، وَلِقَوْلِهِ ﷺ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبِّهِ : خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ الْحَدِيثَ.

الشيخ: وهذا الحديث رواه مسلم في "الصحيح" من حديث عياض بن حمار المجاشعي: أن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى: إني خلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا، وأحلَّت لهم ما حرَّمتُ عليهم.

هذا حديث قدسي عظيم رواه مسلم في "الصحيح" في آخر "الصحيح"، وهو من رواية عياض بن حمار، وبعض الكتاب يُصحفه ويجعله حماد، لا، غلط: عياض بن حمار، بالراء.

س: ...........؟

ج: ..........

الطالب: هذا هو رواه مسلم، والإمام أحمد تعليقًا .......

وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَيُسْلِمَانِهِ.

الشيخ: لأنَّ الأصل إسلامه.

وَفِي رِوَايَةٍ: يُولَدُ عَلَى الْمِلَّةِ، وَفِي أُخْرَى: عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ.

وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ ﷺ هُوَ الَّذِي تَشْهَدُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ بِصِدْقِهِ، مِنْهَا أَنْ يُقَالَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِن الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَكُونُ حَقًّا، وَتَارَةً مَا يَكُونُ بَاطِلًا، وَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَات، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ، وَأَنْ يُكَذِّبَ وَيَتَضَرَّرَ، مَالَ بِفِطْرَتِهِ إِلَى أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ، وَحِينَئِذٍ فَالِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ والْإِيمَانُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ نَقِيضُهُ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِطْرَةِ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ الصَّانِعِ وَالْإِيمَانَ بِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ تكُونَ مَحَبَّتُهُ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةُ مَا يَنْفَعُهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ بِحسبهِ، وَحِينَئِذٍ وإن لَمْ تَكُنْ فِطْرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلَّةً بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ، بَلْ يحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ مُعينٍ لِلْفِطْرَةِ: كَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ، اسْتَجَابَتْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ.

س: إطلاق الصَّانع على الله؟

ج: يعني: صانع العالم، من باب الإثبات، لا من باب أنه موصوف، يقال: الصانع، ولو قال: الخالق لكان أفضل؛ لأنَّ الشريعة جاءت بالخالق، وجاءت بالفعل للصنع: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، لكن الصانع ما نعلم أنه جاء ذكره، لكن عبَّروا به مثلما يُقال: الموجود، والشيء من باب نفي الحجة.

وقد يُقال من باب الإيضاح للعقول، الله جعل للناس عقولًا يفهمون بها ويعقلون بها ما ينفعهم وما يضرهم، فالعباد يعرفون أي: يخضعون لهذا المدبر للكون، والقائم بهذا الكون، ففي فطرة الإنسان تعظيم هذا الذي خلق هذا الكون، ودبَّر هذا الكون، وجعل فيه ما جعل، فلا يزال هذا العقل ينمو ويزداد خضوعًا، ويزداد ذلًّا لهذا الذي خلق هذا العالم، والإنابة إليه، والتَّعلق به إلى أن تكمل المعرفة، فجاءت الرسل لتكميل هذه المعرفة وتأييدها ونصرها وتفصيلها؛ حتى يكون هذا الإنسان العاقل وهذا الجني العاقل أكمل ما كان في بصيرته بخالقه وصانعه، وأداء حقه، وترك ما يُغضبه، فإنَّ نفوس العباد وعقولهم مفطورة على هذه الأشياء؛ على الخضوع، وعلى الذل والتقرب لمن بيده التدبير والإعطاء والمنع، فالعاقل يخضع لهذا الشيء، فليس هناك إلا صانع هذا العالم وهو الله .........

وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ قَابِلَةٌ لِلْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ، وَمُجَرَّدُ التَّعْلِيمِ وَالتَّحْضِيضِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ، لَوْلَا أَنَّ فِي النَّفْسِ قُوَّةً تَقْبَلُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَوْ عُلِّمَ الْجماد وَالْبَهَائِمُ وَحُضِّضَا لَمْ يَقْبَلَا.

الشيخ: ......

وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُصُولَ إِقْرَارِهَا بِالصَّانِعِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَتَكُونُ الذَّاتُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي قَائِمًا فِي النَّفْسِ وَقُدِّرَ عَدَمُ الْمُعَارِضِ، فَالْمُقْتَضِي السَّالِمُ عَنِ الْمُعَارِضِ يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا يُفْسِدُهَا كَانَتْ مُقِرَّةً بِالصَّانِعِ، عَابِدَةً لَهُ.

وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمُفْسِدُ الْخَارِجُ، وَلَا الْمُصْلِحُ الْخَارِجُ، كَانَتِ الْفِطْرَةُ مُقْتَضِيَةً لِلصَّلَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ فِيهَا لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ قَائِمٌ، وَالْمَانِعَ مُنْتَفٍ.

وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَرَادُوا الْبَحْثَ مَعَهُ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي قَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ سَفِينَةٍ فِي دِجْلَةَ تَذْهَبُ فَتَمْتَلِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْمَتَاعِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهَا، وَتَعُودُ بِنَفْسِهَا فَتَرْسُو بِنَفْسِهَا، وَتُفرغُ وَتَرْجِعُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدَبِّرَهَا أَحَدٌ؟! فَقَالُوا: هَذَا مُحَالٌ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا! فَقَالَ لَهُمْ: إِذَا كَانَ هَذَا مُحَالًا فِي سَفِينَةٍ، فَكَيْفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ؟! وَتُحْكَى هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ.

الشيخ: هذا العالم الذي يسير بنظامٍ مُتقنٍ: شمس وقمر ونحوم، وسماء ثابتة، وأرض مستقرة، وحيوانات مصرفة مدبرة، تذهب وتأتي في مصالحها وحاجاتها، وعالم مختلف متنوع بعلومه وعقله، وغير ذلك، لا يكون له مدبر، ولا يكون له صانع، ولا يكون له مسير، وأما السفينة فيمتنع في حقِّها ذلك؟! هذا من أمحل المحال، ومن أعظم البلاء، والله المستعان!

بل أقلّ من السفينة، لو سُئل عاقل عن ملعقة أو كوب من أكواب الشاي أو القهوة أو غير ذلك: هل هذا أوجد نفسه؟! لقال: هذا مستحيل، هذا له صانع على هذه الكيفية، هذه ملعقة، وهذا كوب، وهذا إبريق، وهذا إناء آخر معين، لا بدَّ أن يكون له صانع صنعه على هذه الكيفية، فكيف بصانع السَّماوات، وخالق السَّماوات والأرض، وخالق الجبال، والأشجار، والأحجار، والبحار، والأنهار، وغير ذلك؟ تدل على خالقٍ عظيمٍ قادرٍ حكيمٍ عليمٍ سبحانه وتعالى .....، ولكن الرسل وضَّحوا هذا الصانع، وبيَّنوا صفاته، وأنه الله الحكيم العليم القادر على كل شيء، فكانت البيانات والإيضاحات التي جاءت بها الرسل أكمل بيانٍ، وأوضح بيانٍ، وأصدق بيانٍ.

فَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ، وَيَفْنَى فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَيَجْعَلُونَهُ غَايَةَ السَّالِكِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ "مَنَازِلِ السَّائِرِينَ" وَغَيْرُهُ.

الشيخ: تعبير الصوفية بالفناء معناه: الشغل بالشيء دون غيره، فني بهذا يعني: شُغل به دون غيره، فكأنه عدم إلا في هذا الشيء، يفنى بمُشاهدة الخالق عن المخلوقين، ويفنى بمشاهدة حبِّه وجماله وصفاته عن كلِّ شيءٍ سواه، حتى وقعوا في الوحدة -وحدة الوجود- يعني: شُغلوا بالنظر في صفة الخالق وتدبيره لهذا العالم وفنوا به، يعني: فنوا عن كل شيءٍ، كأنهم حجبوا عن كل شيءٍ إلا من هذا النظر والمشاهدة، وصار هذا من أسباب كفرهم وضلالهم وارتدادهم ونسيانهم الأوامر والنَّواهي والفرض الذي بعث الله به الرسل، فنشأ عن هذا وحدة الوجود، وأن العالم واحد، ليس هناك عابد ومعبود، وليس هناك آمر ومأمور، وليس هناك خالق ومخلوق، ففنوا في مشاهدة الخالق والصانع والمدبر عن المخلوقين والمصنوعين والمدبرين، وعن الأوامر، وعن الرسل، وعن كل شيءٍ، فصاروا إلى وحدة الوجود، وصاروا إلى الكفر والضلال والإلحاد والفساد.

هذه ثمرة هذا الفناء الذي شرعوه وسمّوه: فناء، ودعوا إليه، وزعموا أنه غاية التوحيد، فالله المستعان.

والواجب أن يكون للإنسان مُشاهدتان: يشهد الخالق بتبجيله وعظمته وقُدرته واستقلاله بالأمور فيُعظمه ويعبده. وينظر إلى ما جاءت به الرسل مما أمر به هذا الواحد الخالق ، ويُعظم ذلك أيضًا، ويأخذ به، ويُفرق بين الحقِّ والباطل، وبين الهدى والضَّلال، وبين الأوامر والنَّواهي، وبين الخالق والمخلوق.

فلا يستقل ويكتفي بمشاهدة الخالق فقط وصفاته وعظمته عن مُشاهدة أمره ونهيه وما جاءت به الرسل، ولا يستقل بمُشاهدة ما جاءت به الرسل من الأوامر والنَّواهي عن مشاهدة عظمة الخالق، والتَّفكر فيما يجب له، وما هو من صفاته العظيمة، فلا يُشغل بهذا عن هذا، ولا بهذا عن هذا، وهذا هو طريق النَّجاة، وهو الذي جاءت به الرسل.

يقول ابنُ القيم رحمه الله في النُّونية:

فلواحد كن واحدًا في واحدٍ أعني طريق الحق والإيمان

فلواحد: هو الله المستحق للعبادة جلَّ وعلا.

كن واحدًا: يعني: اجمع نفسك في طاعته وتوحيده والاستقامة على أمره، ولا تكن مُتفرقًا، ولا مُوزَّعًا، بل كن صادق العبادة، صادق اللهجة، صادق الاستقامة .....

في واحدٍ: يعني: في سبيل الحقِّ والإيمان، وهو الصراط المستقيم، الطريق الذي رسمه الله لك، وهو سبيل النَّجاة؛ حتى تقوم بذلك وقد عبدته وأديتَ حقَّه، وبعدت عمَّا يُغضبه .......

فَالْعِلْمُ بِأَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ، مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ ...... فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ.

وَلَيْسَ الْمَعْنَى أنه اسْتِفْهَامٌ: هَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ؟ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ الْكَلَامِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ [الأنعام:19]، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، لَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ إِلَهًا جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا [النمل:61]، بَلْ هُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ فَعَلَ هَذَا، وَهَكَذَا سَائِرُ الْآيَاتِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام:46]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

وَإذَا كَانَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يَجْعَلُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْغَايَةَ فِي التَّوْحِيدِ، دَاخِلًا فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عليهم السلام، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، فَلْيُعْلَمْ أَنَّ دَلَائِلَهُ مُتَعَدِّدَةٌ: كَدَلَائِلِ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَدَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ كُلَّمَا كَانَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَحْوَجَ كَانَتْ أَدِلَّتُهُ أَظْهَر؛ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ.

وَالْقُرْآنُ قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ، لَكِنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ مَعْلُومَةً ضَرُورِيَّةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا، اسْتُدِلَّ بِهَا، وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا.

وَالطَّرِيقَةُ الفصيحَة فِي الْبَيَانِ أَنْ تُحْذَفَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ.

الشيخ: يعني: تحذف المقدمتان، وتبقى النتائج، بخلاف ما عليه أرباب أهل الكلام والمناطقة؛ فهم يأتون بالمقدمات، ثم يأتون بالنتيجة ليستدلوا على نتيجتهم بالمقدمات، فجعلوا العالم حادثًا، وكل حادثٍ مخلوقٍ، فالعالم حينئذٍ مخلوق، العالم حادث وكل مخلوق، فالعالم حينئذٍ مخلوق، يعني: النتيجة.

بِخِلَافِ مَا يَدَّعِيهِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ طَرِيقَةٌ بُرْهَانِيَّةٌ، بِخِلَافِ مَا قَدْ يَشْتَبِهُ وَيَقَعُ فِيهِ نِزَاعٌ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ مَعْلُومَ الِامْتِنَاعِ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، بِاعْتِبَارِ إِثْبَاتِ خَالِقَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنَّ ثَمَّ خَالِقًا خَلَقَ بَعْضَ الْعَالَمِ، كَمَا يَقُولُهُ الثَّنَوِيَّةُ فِي الظُّلْمَةِ، وَكَمَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، وَكَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ فِي حَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ، أَوْ حَرَكَاتِ النُّفُوسِ، أَوِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ أُمُورًا مُحْدَثَةً بِدُونِ إِحْدَاثِ اللَّهِ إِيَّاهَا، فَهُمْ مُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ قَدْ يَظُنُّ فِي آلِهَتِهِ شَيْئًا مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، بِدُونِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ ذَلِكَ.

فَلَمَّا كَانَ هَذَا الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ مَوْجُودًا فِي النَّاسِ بَيَّنَ الْقُرْآنُ بُطْلَانَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91].

فَتَأَمَّلْ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ، بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا فَاعِلًا، يُوصِلُ إِلَى عَابِدِهِ النَّفْعَ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ الضُّرَّ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ آخَرُ يُشْرِكُهُ فِي مُلْكِهِ لَكَانَ لَهُ خَلْقٌ وَفِعْلٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرْضَى تِلْكَ الشَّرِكَةَ، بَلْ إِنْ قَدَرَ عَلَى قَهْرِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَالْإِلَهِيَّةِ دُونَهُ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ انْفَرَدَ بِخَلْقِهِ وَذَهَبَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ، كَمَا يَنْفَرِدُ مُلُوكُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِممالكِهِ إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْمُنْفَرِدُ مِنْهُمْ عَلَى قَهْرِ الْآخَرِ وَالْعُلُوِّ عَلَيْهِ.

فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

  • إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِخَلْقِهِ وَسُلْطَانِهِ.
  • وَإِمَّا أَنْ يَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
  • وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ قَهْرِ مَلِكٍ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ وَحْدَهُ هُوَ الْإِلَهُ، وَهُمُ الْعَبِيدُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَقْهُورُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَانْتِظَامُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَإِحْكَامُ أَمْرِهِ مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَمَلِكٌ وَاحِدٌ، وَرَبٌّ وَاحِدٌ، لَا إِلَهَ لِلْخَلْقِ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ لَهُمْ سِوَاهُ.

الشيخ: وهذا واضح كل الوضوح من أمر العالم وتدبيره وتسييره لهذا العالم الذي خلقه الله إلى يومنا هذا من نظامٍ وإحكامٍ في كل شيءٍ، وما فطر الله عليه العباد من الخضوع لإلهٍ واحدٍ، وخالقٍ واحدٍ، ومُدبرٍ واحدٍ ........

كَمَا قَدْ دَلَّ دَلِيلُ التَّمَانُعِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ، فَذَلكَ تَمَانُعٌ فِي الْفِعْلِ وَالْإِيجَادِ، وَهَذَا تَمَانُعٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ رَبَّانِ خَالِقَانِ مُتَكَافِئَانِ، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ.

فَالْعِلْمُ بِأَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ، مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ، مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ بُطْلَانُهُ، فَكَذَا تَبْطُلُ إِلَهِيَّةُ اثْنَيْنِ، فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مُوَافِقَةٌ لِمَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، دَالَّةٌ مُثْبِتَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ.

وَقَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22].

وَقَدْ ظَنَّ طَوَائِفُ أَنَّ هَذَا دَلِيلُ التَّمَانُعِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ .. إلَخْ، وَغَفَلُوا عَنْ مَضْمُونِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَرْبَابٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِهِمَا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَهُمَا مَوْجُودَتَانِ آلِهَةٌ سِوَاهُ لَفَسَدَتَا.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: لَفَسَدَتَا، وَهَذَا فَسَادٌ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ يُوجَدَا.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا آلِهَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، بَلْ لَا يَكُونُ الْإِلَهُ إِلَّا وَاحِدًا، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَنَّ فَسَادَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْآلِهَةِ فِيهِمَا مُتَعَدِّدَةً، وَمِنْ كَوْنِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُمَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ فِيهِمَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا غَيْرُه، فَلَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ إِلَهَانِ مَعْبُودَانِ لَفَسَدَ نِظَامُهُ كُلُّهُ، فَإِنَّ قِيَامَهُ إِنَّمَا هُوَ بِالْعَدْلِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.

وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الشِّرْكُ، وَأَعْدَلُ الْعَدْلِ التَّوْحِيدُ.

وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ مُتَضَمِّنٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ يَكُونُ عَاجِزًا، وَالْعَاجِزُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، قَالَ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وَقَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42].

وَفِيهَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَانِ:

  • أَحَدُهُمَا: لَاتَّخَذُوا سَبِيلًا إِلَى مُغَالَبَتِهِ.
  • وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْقُولُ عَنِ السَّلَفِ كَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ: لَاتَّخَذُوا سَبِيلًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19]، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ [الإسراء:42] وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا: أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ، بَلْ جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ، وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، بِخِلَافِ الْآيَةِ الْأُولَى.

الشيخ: كما تقوله العربُ وأشباههم: أنهم اتَّخذوا الوسائط والشُّفعاء، لو كانت صحيحةً لقربت إليه، وخضعت له سبحانه وتعالى، وصارت واسطةً واضحةً بينةً لأولئك، يستمدون منه لهم، ويشفعون لديه، فعُلم بذلك بطلان هذه الأشياء؛ لأنَّ هذا لا وجودَ له، والله جلَّ وعلا أمر بأن يُعبد وحده، ولم يقل لعباده بأن يتَّخذوا إلهًا آخر لقضاء حاجاتهم، ولم يقل: إنَّ هناك وسطاء بيني وبينكم فاتَّصلوا بهم. فعُلم بذلك أنه ليس هناك شيء؛ ولهذا نبَّه في الآية الأخرى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، كاذب فيما قال في دعوى الآلهة، كفَّار بما فعل من عبادتها والتَّعلق بها والخضوع لها ونحو ذلك.

س: ...........؟

ج: الأرباب هم الخالقون الرازقون المدبرون، والآلهة يُعبدون، يُخضع لهم بقصد الشَّفاعة وبالقرب، فالإله هو المعبود، والرب هو المدبر الخالق.

فلو قال: الأرباب هنا لكان في الخلق والرزق وتدبير الأمور، وهم ما يقولون هذا، يقولون: آلهة الشفاعة فقط، والتَّقرب إليه، والمشركون إنما قالوا ما قالوا من جهة التَّقرب إليه، وهذا ألصق بالآلهة، وإن سُموا أربابًا في بعض الأحيان، لكنه ألصق بالآلهة؛ ولهذا في الآية الأخرى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] يعني: آلهة، فالأرباب قد تأتي بمعنى الآلهة؛ لأنَّ المشركين معروف أنهم لم يعبدوا معه ربًّا يعتقدون أنه يضرّ وينفع، ويخلق ويرزق، بل يعلمون أنَّ هذا كله لله وحده، وإنما عبدوها بمعنى أنها شُفعاء ووسطاء.

س: .............؟

ج: لو كان فيهما ألهة بحق لتنازعوا واختلفوا.