08 الأحاديث الدَّالة على رؤية الله تعالى لأهل الجنة

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ ، الدَّالَّةُ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَمُتَوَاتِرَةٌ؛ رَوَاهَا أَصْحَابُ الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ.

فَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" بِطُولِهِ.

وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" نَظِيرُهُ.

وَحَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ الْحَدِيثَ، أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

الشيخ: رُوي: لا تَضامّون، ورُوي: لا تُضامُون فيه، روايتان: تضامون من الضَّيم، وتضامون من الضّم، يعني: بعضهم يضم إلى بعضٍ، والمعنى: أنكم ترونه عيانًا واضحًا، ليس هناك حاجة إلى التَّضام حتى يضم بعضُهم بعضًا، وليس هناك ضيم زحمةٍ، كل يراه وهو في مكانه، ليس هناك مشقة، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي، فالله لا شبيهَ له، ولكن هذا من باب تشبيه الرؤية بالرؤية، كما أن رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب أمر واضح، وكالقمر ليلة البدر في وقت الصَّحو دون غيمٍ أمر واضح، فهكذا رؤية الله يوم القيامة؛ يراه المؤمنون في الجنَّة كما يشاء أمر واضح.

س: الفرق بين تُضامون وتَضامون؟

ج: رواية "تضامون" من الضيم، ضامه يضيمه ضيمًا: إذا زحمه وشقَّ عليه، لصق بعضُهم ببعضٍ من شدة الزِّحام؛ ليري بعضُهم بعضًا، ورواية "تَضامون" يعني: لا يطلب بعضُهم أن ينضم إلى البعض، يعني: يضم نفسه إلى الآخر ليريه إياه.

س: تضارون المعنى؟

ج: وتضارون بالراء، هذا معنى الشك، يعني: لا تشكُّون.

وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَرَوْا رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ. أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

تعليق: متَّفق عليه، وهو مخرج في "الضَّعيفة".

الشيخ: ............

وَمِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، فَلَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ".

وَقَدْ رَوَى أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا، وَمَنْ أَحَاطَ بِهَا مَعْرِفَةً يَقْطَعُ بِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَهَا، وَلَوْلَا أَنِّي الْتَزَمْتُ الِاخْتِصَارَ لَسُقْتُ مَا فِي الْبَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

الشيخ: وقد ساقها الحافظُ ابن كثير رحمه الله في مواضع كثيرة من التفسير، وساقها في "البداية والنهاية" في الجزء الثاني، ساق أحاديث الرؤية نحو ثلاثين حديثًا ساقها وعزاها إلى أهلها.

وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا فَلْيُوَاظِبْ سَمَاعَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَإِنَّ فِيهَا مَعَ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ أَنَّهُ يُكَلِّمُ مَنْ شَاءَ إِذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ يَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ، وَأَنَّهُ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ يَضْحَكُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي سَمَاعُهَا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّوَاعِقِ.

وَكَيْفَ تُعْلَمُ أُصُولُ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؟ وَكَيْفَ يُفَسَّرُ كِتَابُ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا فَسَّرَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ، وَأَصْحَابُ رَسُولِهِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ؟ وَقَدْ قَالَ ﷺ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.

الشيخ: في تعليق عندك؟

الطالب: ضعيف: أخرجه الترمذي من حديث عبدالله بن عباس مرفوعًا، وأوله: اتَّقوا الحديثَ عني إلا ما علمتُم، ومَن قال في القرآن برأيه .. الحديث، ورواه ابن جرير أيضًا، وإسناده ضعيف كما ذكرتُ في "تخريج المشكاة"، وقد كنتُ ذهلتُ عن هذا في الطبعات السابقة، فما نبَّهتُ عليه في الاستدراك الذي ألحقناه في آخر الكتاب في الطبعة الثالثة، فسبحان مَن لا ينسى.

الحديث الثاني: وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النار ضعيف، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب.

الشيخ: وهما يشهد أحدُهما للآخر، ويقوى أحدُهما بالآخر، فيكونان من باب الحسن لغيره؛ ولهذا جزم به الشارح.

وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]: مَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟

س: الأثر هذا عن أبي بكر صحّته؟

ج: ما أذكر الآن حاله، لكن ذكره ابنُ القيم، وذكره ابنُ كثير وغيره، وهذا من باب التَّواضع، ومن باب إظهار القاعدة الكلية في هذا الباب، وأن الواجب على العالم وطالب العلم أن لا يقول في القرآن برأيه مطلقًا، ولو كان في الشيء القريب، وإنما يقول عن نظرٍ وتأمُّلٍ.

وبعضهم استبعد هذا وقال: أستبعد هذا لأنَّ الأب معروف، لكن على سبيل صحَّة الأثر: لعله قاله حين لم يحضره أنه سمعه من لغة العرب، فقال هذا، إن صحَّ الأثر.

............

والشاهد من هذا أن الواجب التَّثبت في الأمور وعدم الجزم في التفسير بما لا يقطع به الإنسان ولا يعرف دليله.

والأب هو النبات المعروف الذي ترعاه الدَّواب، وإن لم تعلم عينه؛ لأنه اسم جنس يُطلق على كل علفٍ من شأن الدَّواب أن تأكله؛ لأنه ذكره بعد ما يتعلق بالفاكهة، فما قبله لبني آدم والأب للبهائم.

وَلَيْسَ تَشْبِيهُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَشْبِيهًا لِلَّهِ، بَلْ هُوَ تَشْبِيهُ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ، لَا تَشْبِيهُ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ، وَلَكِنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَإِلَّا فَهَلْ تُعْقَلُ رُؤْيَةٌ بِلَا مُقَابَلَةٍ؟! وَمَنْ قَالَ: يُرَى لَا فِي جِهَةٍ، فَلْيُرَاجِعْ عَقْلَهُ! فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ، أو فِي عَقْلِهِ شَيْءٌ.

الشيخ: فإمَّا أن يكون مُكابرًا، أو في عقله شيء، فإمَّا أن يكون مختلَّ العقل، وإما أن يكون من باب المكابرة، تكذيب الأشياء التي يقطع بها العقل.

وَإِلَّا فَإِذَا قَالَ: يُرَى لَا أَمَامَ الرَّائِي، وَلَا خَلْفَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا فَوْقَهُ، وَلَا تَحْتَهُ! رَدَّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ بِفِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ.

وَلِهَذَا أَلْزَمَ الْمُعْتَزِلَةُ مَنْ نَفَى الْعُلُوَّ بِالذَّاتِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا: كَيْفَ تُعْقَلُ رُؤْيَةٌ بِغَيْرِ جِهَةٍ؟

وَإِنَّمَا لَمْ نَرَهُ فِي الدُّنْيَا لِعَجْزِ أَبْصَارِنَا، لَا لِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ، فَهَذِهِ الشَّمْسُ إِذَا حَدَّقَ الرَّائِي الْبَصَرَ فِي شُعَاعِهَا ضَعُفَ عَنْ رُؤْيَتِهَا، لَا لِامْتِنَاعٍ فِي ذَاتِ الْمَرْئِيِّ، بَلْ لِعَجْزِ الرَّائِي، فَإِذَا كَانَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْمَلَ اللَّهُ قُوَى الْآدَمِيِّينَ حَتَّى أَطَاقُوا رُؤْيَتَهُ.

وَلِهَذَا لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ لِلْجَبَلِ: خَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] بِأَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ.

وَلِهَذَا كَانَ الْبَشَرُ يَعْجِزُونَ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ، إِلَّا مَنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ كَمَا أَيَّدَ نَبِيَّنَا، قَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام:8]، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَا يُطِيقُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ، فَلَوْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَحِينَئِذٍ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ: هَلْ هُوَ بَشَرٌ أَوْ مَلَكٌ؟ وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا أَنْ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا مِنَّا.

س: ...........؟

ج: يعني: إذا كان الملك مع كونه مخلوقًا قد يعجز المخلوقُ عن رؤيته، والشمس بقوتها يضعف المخلوقُ عن رؤيتها؛ لأنه يضعف في ذلك، فلا يُستغرب أن يضعف عن رؤية الله في الدنيا؛ لأن الأبصار في هذه الدار ضعيفة لا تتحمل أن تُجابه النور: لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، لكن في الآخرة يُقوي الله جلَّ وعلا أبصارهم، ويجعل فيها من الأهلية ما يجعلها تستطيع أن تراه .

ولأنَّ الدنيا ليست دار نعيم، وليست دار خلد، ولكنها دار عمل، فكان من رحمة الله وحكمته أن جعل الرؤية في الآخرة في دار النَّعيم، لا في دار العمل، فادَّخر هذه النِّعمة وهذا الخير وهذه الرؤية ادَّخرها لهم في الآخرة في دار الجزاء، لا في دار العمل ودار المشاقّ، فالرؤية نعيم وفضل من الله ادَّخرها لأوليائه في دار الكرامة، وجعل أبصارهم هناك تقوى على أن تراه ، وأما هنا فهي تضعف عن ذلك، ولم يقوها على هذا حتى ترى؛ لأنها ليست دار نعيم، ولكنها دار زوال، ودار امتحان، فاقتضت حكمته سبحانه أنه ادَّخرها لهم في الآخرة، وأن تكون الأبصار هنا على قدر الحال هاهنا.

وَمَا أَلْزَمَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ هَذَا الْإِلْزَامَ إِلَّا لَمَّا وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا يُرَى لَا فِي جِهَةٍ أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يُرَى، وَلَا فِي جِهَةٍ.

الشيخ: على كل حالٍ، كلاهما باطل، والسابق هذا أقرب، يعني: كونه موجودًا يُرى لا في جهةٍ أقرب من قول مَن يُثبت الوجود القائم بنفسه، ولكنه لا يُرى، كما تقوله الجهمية والمعتزلة ومَن يُثبتون الرب ، ثم يقولون: لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا .....، ولا مُباينه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه، وهذا معناه وصف العدم، فلو أراد أحدٌ أن يصف العدمَ فليس هناك وصفٌ أكمل من هذا.

..............

س: قوله: "لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ مَوْجُودًا يُرَى لَا فِي جِهَةٍ" مَن يقصد به؟

ج: قول بعض أهل الكلام .....

وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهَا وَهُوَ الْجِهَةُ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَمْرًا وُجُودِيًّا أَوْ أَمْرًا عَدَمِيًّا؟

فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَمْرًا وُجُودِيًّا كَانَ التَّقْدِيرُ: كُلُّ مَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مَوْجُود لَا يُرَى، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مَمْنُوعَةٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى إِثْبَاتِهَا، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ سَطْحَ الْعَالَمِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَى، وَلَيْسَ الْعَالَمُ فِي عَالَمٍ آخَرَ.

وَإِنْ أَرَدْتَ بِالْجِهَةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا: فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ مَمْنُوعَةٌ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.

الشيخ: يعني: فوق العالم، وفي الجهة العدمية الخالية، فأمكنت رؤيته؛ لأنه إن أُريد بالجهة الوجودية فهو مُنَزَّه عنها، يعني: لا يكون في داخل العالم، ولا يُحيط به العالم، ولكنه في جهة العلو، وهي جهة فوق العالم؛ ولهذا يُشار إليه سبحانه بالعلو: فوق العالم، بائن من خلقه جلَّ وعلا، فلا يمتنع أن يُرى في هذه الحالة في الجهة العلوية التي فوق العالم.

وَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي أُصُولِ الدِّينِ مَنْ لَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ؟!

وَإِذَا زَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَتَلَقَّى تَفْسِيرَ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ، وَلَا يَنْظُرُ فِيهَا، وَلَا فِيمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا عَنِ الثِّقَاتِ النَّقَلَةِ الَّذِينَ تَخَيَّرَهُمُ النُّقَّادُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا نَظْمَ الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، بَلْ نَقَلُوا نَظْمَهُ وَمَعْنَاهُ، وَلَا كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ كَمَا يَتَعَلَّمُ الصِّبْيَانُ، بَلْ يَتَعَلَّمُونَهُ بِمَعَانِيهِ.

وَمَنْ لَا يَسْلُكُ سَبِيلَهُمْ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِرَأْيِهِ، وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِرَأْيِهِ وَمَا يَظُنُّهُ دِينَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَلَقَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مَأْثُومٌ وَإِنْ أَصَابَ، وَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مَأْجُورٌ وَإِنْ أَخْطَأَ، لَكِنْ إِنْ أَصَابَ يُضَاعَفُ أَجْرُهُ.

الشيخ: وهذا داؤهم أنهم حكَّموا العقول والآراء، وأعرضوا عن الكتاب والسنة؛ ولهذا وقعوا في الأخطاء والضَّلالات والأباطيل بإعراضهم عن الكتاب والسنة، وتحكيمهم عقولهم الفاسدة الظالمة التي ليس عندها من النور والهدى ما يُعينها على إصابة الحقِّ، ففاتهم النور، وفاتهم الهدى بإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وزعمهم أنها ظواهر ظنية لا تُفيد اليقين، فضلوا وأضلوا، نسأل الله السلامة.

والخلاصة من هذا أنَّ أهل الكلام ضلُّوا عن الحقِّ، ووقعوا في الباطل العظيم بسبب إعراضهم عن الأصول المعتبرة التي سار عليها أصحابُ النبي ﷺ؛ وهي العناية بكتاب الله وسنة الرسول ﷺ، وما تلقاه أصحابُ النبي ﷺ عن نبيهم عليه الصلاة والسلام، وما درج عليه سلف هذه الأمة، هذا هو الطريق، فمَن سلكه نجا، ومَن حاد عن هذا الطريق إلى الآراء والأقيسة الضَّالة والأخذ عن شيوخٍ لا بصيرةَ لهم ولا علمَ عندهم بالكتاب والسنة فإنَّ هذا يهلك ويَضلّ ويُضلّ.

والطريقة الوحيدة هي التي سلكها الرسلُ عليهم الصلاة والسلام، وسلكها أتباعهم من أصحابهم ومَن سار في نهجهم، هذه هي الطريقة التي بها السعادة، وبها العصمة، ومَن ضلَّ عنها هلك وأضلَّ غيره؛ ولهذا قال الإمامُ مالك رحمه الله في هذا المعنى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

وهذا الكلام الذي قاله الإمامُ مالك رحمه الله هو كلام أهل السنة والجماعة قاطبةً، فلا صلاح للأمة في عقائدها، وفي أخلاقها، وفي أحكامها إلا بالطريقة التي صلح بها الأولون، وسار عليها الأولون، وهي أخذ الأحكام من كتاب الله، وعن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، من طريق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وأتباعهم بإحسانٍ.

ولذلك أجمع أهلُ السنة والجماعة قاطبةً كما جاء في الكتاب والسنة على أنَّ الله فوق العرش، وأن الله في العلو ، وأنه يُدعا من أعلى، لا من أسفل، وأنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيءٍ عليم ، وأنه يفعل ما يشاء ويختار، لا مُعقبَ لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، كما أجمعوا على أنه يُرى في الآخرة؛ يراه المؤمنون بأبصارهم حقيقةً، يرونه في عرصات القيامة كما يشاء، ويرونه في الجنة كما يشاء ، كل هذا أجمعوا عليه، وأجمعوا على أنه يتكلم إذا شاء، وتكلم فيما مضى، ويتكلم إذا شاء، وأنه في جميع صفاته لا يُشابه خلقه؛ ولهذا قال عبدالله بن المبارك رحمه الله وغيره من السلف: نعرف ربنا بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه.

وَقَوْلُهُ: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ) تَخْصِيصُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالذِّكْرِ يُفْهَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَا شَكَّ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ يَرَوْنَهُ فِي الْمَحْشَرِ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب:44].

وَاخْتُلِفَ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.

الثَّانِي: يَرَاهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنِ الْكُفَّارِ وَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: يَرَاهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنَافِقُونَ دُونَ بَقِيَّةِ الْكُفَّارِ.

وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي تَكْلِيمِهِ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ.

وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا فِي نَبِيِّنَا ﷺ خَاصَّةً: مِنْهُمْ مَنْ نَفَى رُؤْيَتَهُ بِالْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا لَهُ ﷺ.

وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ "الشِّفَا" اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ ﷺ، وَإِنْكَارَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ يَكُونَ ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَأَنَّهَا قَالَتْ لِمَسْرُوقٍ حِينَ سَأَلَهَا: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: "لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ"، ثُمَّ قَالَتْ: "مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ".

ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ، وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ.

تعليق: ضعيف، أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" بألفاظ مضطربة عنه موقوفًا.

وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ: أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا وَفَوَائِدَ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيِّنَا ﷺ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ وَلَا نَصٌّ، وَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَتي النَّجْمِ، وَالتَّنَازُعُ فِيهما مَأْثُورٌ، وَالِاحْتِمَالُ لَهُما مُمْكِنٌ.

وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا مُمْكِنَةٌ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُمْكِنَةً لَمَا سَأَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَكِنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِأَنَّهُ ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، بَلْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟، وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ نُورًا.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ -وَفِي رِوَايَةٍ: النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ.

فَيَكُونُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ: رَأَيْتُ نُورًا أَنَّهُ رَأَى الْحِجَابَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ النُّورُ الَّذِي هُوَ الْحِجَابُ يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَأَنَّى أَرَاهُ؟ أَيْ: فَكَيْفَ أَرَاهُ وَالنُّورُ حِجَابٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَمْنَعُنِي مِنْ رُؤْيَتِهِ؟ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهذا هو الصواب، مثلما قال أبو ذرٍّ عن النبي ﷺ: أن أحدًا لن يره في الدنيا، وأنه لا يُرى في الدنيا. وتقدم لكم أنَّ الرؤية من نوع النَّعيم، وأنَّ هذا النعيم من نعيم أهل الجنة، وليس من نعيم أهل الدنيا، والله جلَّ وعلا أخبر أنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]، واحتجَّت بهذا عائشة على أنه لم يُر في الدنيا، وثبت عنه ﷺ أنه قال: واعلموا أنَّ أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت، وقال: رأيتُ نورًا، وقال: أنى أراه، فعُلم بذلك أنه لم يرَ ربَّه عليه الصلاة والسلام.

وأما غيره فقد أجمع المسلمون على أنه لم يره أحدٌ في الدنيا، ولما أراد موسى ذلك جرى ما جرى، وقال له ما قال : لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، أما في الآخرة فأجمع أهلُ السنة والجماعة بأنه يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، كما قال : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وهذا مجمع عليه في الجنَّة، أما في الموقف فهو الصواب أيضًا؛ أنه لا يراه إلا أهل الإيمان؛ لعموم الآيات والأدلة: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ يعني: يوم القيامة، فالكفار لا يرونه لا في المحشر ولا في الجنة، وإنما يراه أهلُ الإيمان كما أخبر الرحمنُ ، وكما أخبر الرسولُ عليه الصلاة والسلام.

أما المنافقون ففيهم شبهة؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث أنه يُكلمهم وفيهم منافقوهم، ولكن النصوص الواضحة في حرمان الكفار من رؤيته تعم المنافقين، فإن أهل النفاق أخبث الناس وأشدهم كفرًا، فهم من باب أولى، نسأل الله العافية.

أما ابن عباس فجاء عنه هذا وهذا؛ جاء عنه أنه رأى ربه بفؤاده، وهذا لا منافاة فيه، أما بعينه فلا، غير محفوظٍ عنه، إنما جاء عنه بفؤاده، أو الرؤية مطلقة، وهذا هو المحفوظ عنه رضي الله عنه وأرضاه، أما بعين رأسه فلم يُحفظ عنه رضي الله عنه وأرضاه، والرؤية المطلقة عنه تُحمل على المقيدة التي بقوله في فؤاده يعني: بقلبه.

وَحَكَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَنَحن إِلَى تَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ لِجِبْرِيلَ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَى تَقْرِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ الرَّبِّ تَعَالَى أَعْظَمَ وَأَعْلَى، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ.

وَقَوْلُهُ: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ) هَذَا لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ وَبَهَائِهِ ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ، كَمَا يُعْلَمُ، وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، قَالَ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الْأَنْعَام:103]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].

وَقَوْلُهُ: (وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ وَعَلِمَهُ) إِلَى أَنْ قَالَ: (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا) أَيْ: كَمَا فَعَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَذَلِكَ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَالْفَاسِدُ الْمُخَالِفُ لَهُ.

الشيخ: يعني: التأويل الصحيح ما وافق النصوص، وما خالف النصوص فهو التأويل الفاسد، ويقال للتأويل الموافق للنصوص: هو التفسير، يُقال له: تفسيرها، تأويلها: تفسيرها.

التأويل تأويلان:

أحدهما: تأويل النصوص: بمعنى وقوع ما أخبرت به النصوص: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني: ما أخبرت به النصوص مما يكون في الآخرة، فرؤية النار ونعيم الجنة والمحشر يوم القيامة هذا تأويله، وقوع ما أخبر الله به ورسوله يقال له: التأويل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعني: مجيء ما أخبر به ، وهو وجود الحقائق التي أخبر عنها الربُّ في الجنة، وفي النار، وفي يوم القيامة وجودها واطلاعك عليها، هذا تأويلها، يعني: ما تؤول إليه وتنتهي إليه.

الثاني: التفسير: كما يقول ابنُ جريرٍ رحمه الله: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، ويعني تفسيره.

الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنًى آخر مرجوح، هذا هو الذي يسلكه أهلُ الكلام، وهو ليس بصحيحٍ، صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنًى آخر لا يتبادر إلى الذهن، وهو مرجوح، هذا لا يصح إلا إذا قام عليه الدليلُ، إذا دعت إليه الحاجة وقام عليه الدليلُ صار إليه .......

ويُطلق التأويل على معنًى آخر: وهو وقوع ما أخبر الله به ورسوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعني: مجيء ما أخبر الله به ورسوله، وهذا معنى آخر، وهو وجود الحقائق التي أخبر الله عنها من الجنة والنار، وجودها واطِّلاعك عليها، هذا تأويلها، يعني: نهايتها.

فَكُلُّ تَأْوِيلٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَلَا مَعَهُ قَرِينَةٌ تَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ الْمُبَيِّنُ الْهَادِي بِكَلَامِهِ، إِذْ لَوْ قَصَدَهُ لَحَفَّ بِالْكَلَامِ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخَالِفِ لِظَاهِرِهِ، حَتَّى لَا يُوقِعَ السَّامِعَ فِي اللَّبْسِ وَالْخَطَأ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كَلَامَهُ بَيَانًا وَهُدًى، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يَحُفَّ بِهِ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَتَبَادَرُ غَيْرُهُ إِلَى فَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ؛ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا وَلَا هُدًى، فَالتَّأْوِيلُ إِخْبَارٌ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ لَا إِنْشَاءٌ.

الشيخ: وفي قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] أرجح القولين: الوقوف على لفظ الجلالة، والمراد بالتأويل هنا نهاية الشيء وعاقبته، وهذا لا يعلمه إلا الله ، ومَن قرأ: إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أراد التفسير، يعني: يعلم تفسيره، ولكن نهايته وما أراد الله منه هذا الذي لا يعلمه إلا الله، كما في قوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] يعني: إذا رأوا ما خبر الله به يوم القيامة من أحوال الجنة والنار وأحوال القيامة، حينئذٍ أيقنوا بالحقيقة، وعرفوا الحقيقة، وعرفوا أنهم كانوا في باطلهم سادرين وغارقين، والله المستعان.

وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فَهْمُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا قِيلَ: مَعْنَى اللَّفْظِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ إِخْبَارًا بِالَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَبَرُ مُطَابِقًا كَانَ كَذِبًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ.

وَيُعْرَفُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

مِنْهَا: أَنْ يُصَرِّحَ بِإِرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.

وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَعْمِلَ اللَّفْظَ الَّذِي لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِالْوَضْعِ، وَلَا يُبَيِّنُ بِقَرِينَةٍ تَصْحَبُ الْكَلَامَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَيْفَ إِذَا حُفَّ بِكَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ حَقِيقَتَهُ وَمَا وُضِعَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، و إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، فَهَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ السَّامِعُ لَهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ مُرَادِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ لَفْظِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُؤَكِّدَةِ كَانَ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ.

وَأَمَّا إِذَا تَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ هَذَا مُرَادُهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِالرَّأْيِ، وَتَوَهُّمٌ بِالْهَوَى.

وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَحْمِلُهُ عَلَى كَذَا، أَوْ: نَتَأَوَّلُهُ بِكَذَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ، فَإِنَّ مُنَازِعَهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ وُرُودِهِ، دَفَعَ مَعْنَاهُ، وَقَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ.

.........

فَإِنْ قِيلَ: بَلْ لِلْحَمْلِ مَعْنًى آخَرَ لَمْ تَذْكُرُوهُ، وَهُوَ: أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ؛ اسْتَدْلَلْنَا بِوُرُودِهِ وَعَدَمِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مَجَازَهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ دَلَالَةً لَا ابْتِدَاءً.

قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَهُ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ، وَإِمَّا كَذِبٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، بَلْ يعْرفُ بِكَلَامِهِ مَا يُؤَكِّدُ إِرَادَةَ الْحَقِيقَةِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ التَّعْمِيَةَ عَلَى السَّامِعِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُنْكَرَ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ الْبَيَانَ وَالْإِيضَاحَ وَإِفْهَامَ مُرَادِهِ، كَيْفَ وَالْمُتَكَلِّمُ يُؤَكِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي الْمَجَازَ، وَيُكَرِّرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ؟

الشيخ: وكل هذا واضح؛ فإنَّ الشارع إنما جاء بغاية البيان والإيضاح، وخاطب الأمةَ بما يعرفون ويفهمون، وأوضح لهم الدلائل على إثبات صفاته وأسمائه ، وأنه رب العالمين، وأنه المستحق للعبادة ، فتأويل أسمائه وصفاته على خلاف ظاهرها معناه: تعطيل النصوص، ومعناه: سوء ظنٍّ بالله ، وسوء ظنٍّ برسوله عليه الصلاة والسلام، واعتقاد غير لائقٍ أنهما أرادا من كلامهما ما هو خلاف ظاهر ذلك، هذا من باب التَّعمية، ومن باب الغش والخيانة، لا من باب النُّصح والبيان، ولكن كلام الله وكلام رسوله يتنزَّه عمَّا يقوله أعداء الله من الظالمين: كأهل البدع وسوء الظنِّ بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام.

س:وقوله: كيف والمُتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز؟

ج: يعني: لإيضاح الحقيقة، مثل قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، كل هذا يُبين أنَّ كلام الله حقيقة.

وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) أَيْ: سَلَّمَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهَا بِالشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِضِدِّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ! وَالْعَقْلُ أَصْلُ النَّقْلِ! فَإِذَا عَارَضَهُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ! وَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ، لَكِنْ إِذَا جَاءَ مَا يُوهِمُ مِثْلَ ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ النَّقْلُ صَحِيحًا فَذَلِكَ الَّذِي يُدَّعَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِنَّمَا هُوَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ لَظَهَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ النَّقْلُ غَيْرَ صَحِيحٍ فَلَا يَصْلُحُ لِلْمُعَارَضَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَارَضَ عَقْلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ أَبَدًا، وَيُعَارَضُ كَلَامُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ بِنَظِيرِهِ.

الشيخ: والمعنى أنه إذا توهم مُتوهم أنَّ هذا العقل يُعارض النَّقل أو مخالف له فإنه بين أمرين:

إما أن يكون ما توهمه عقلًا ليس بعقلٍ، وإنما هو شبهات وترهات لا حقيقةَ لها، وإما أن يكون النَّقل ليس بثابتٍ، وليس بصحيحٍ.

وأما نقل صحيح صريح فإنه لا يُخالف عقلًا صحيحًا صريحًا أبدًا؛ فإن الشريعة الكاملة جاءت بما يُطابق العقول لا يُخالفها ولا تُنكره العقول.

نعم قد تأتي بما تحار به العقول، لكن عند التأمّل يظهر لها صحته، ويتبين لها مُوافقته، وإن كان قد تحاره بعض العقول، أما أن تحيله العقول، وتدل على بطلانه، فهذا لا يكون أبدًا، وألَّف في هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه المعروف "مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح".

فَيُقَالُ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَجَبَ تَقْدِيمُ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَدْلُولَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَرَفْعَهُمَا رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ، وَتَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ السَّمْعِ وَوُجُوبِ قَبُولِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، فَلَوْ أَبْطَلْنَا النَّقْلَ لَكُنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ، وَلَوْ أَبْطَلْنَا دَلَالَةَ الْعَقْلِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلنَّقْلِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ مُوجِبًا عَدَمَ تَقْدِيمِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ.

الشيخ: ثم أمر آخر وهو أن عقول الناس متفاوتة، فبأي عقلٍ تُوزن النصوص؟ عقول الناس لا حصر لها، فهي مختلفة متناقضة كثيرة، فبأي عقلٍ تُوزن النصوص؟

العقول جعلها الله ميزة للعباد، يتميزون بها عن البهائم، ويعرفون بها ما يضرهم وما ينفعهم، فإذا عرف طالبُ العلم بعقله صحةَ هذا النقل واستقامة إسناده فليس له أن يُخالفه أبدًا؛ لأنه قدح في العقل، وقدح في الإيمان.

فَإِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى صِدْقِ السَّمْعِ وَصِحَّتِهِ، وَأَنَّ خَبَرَهُ مُطَابِقٌ لِمُخْبِرِهِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الدَّلَالَةُ بَاطِلَةً لِبُطْلَانِ النَّقْلِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْلُ دَلِيلًا صَحِيحًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا صَحِيحًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَّبَعَ بِحَالٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ، فَصَارَ تَقْدِيمُ الْعَقْلِ عَلَى النَّقْلِ قَدْحًا فِي الْعَقْلِ.

فَالْوَاجِبُ كَمَالُ التَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِهِ، وَتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، دُونَ أَنْ يُعَارِضَهُ بِخَيَالٍ بَاطِلٍ يُسَمِّيهِ: مَعْقُولًا، أَوْ نُحَمِّلَهُ شُبْهَةً أَوْ شَكًّا، أَوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آرَاءَ الرِّجَالِ وَزُبَالَةَ أَذْهَانِهِمْ، فَنُوَحِّدهُ بِالتَّحْكِيمِ وَالتَّسْلِيمِ ............. وَالانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ، كَمَا نُوَحِّدَ الْمُرْسِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ.

فَهُمَا تَوْحِيدَانِ، لَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا بِهِمَا: تَوْحِيدُ الْمُرْسِلِ، وَتَوْحِيدُ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، فَلَا نُحَاكِمُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا نَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ، وَلَا نُوقِفُ تَنْفِيذَ أَمْرِهِ وَتَصْدِيقَ خَبَرِهِ عَلَى عَرْضِهِ عَلَى قَوْلِ شَيْخِهِ وَإِمَامِهِ وَذَوِي مَذْهَبِهِ وَطَائِفَتِهِ وَمَنْ يُعَظِّمُهُ، فَإِنْ أَذِنُوا لَهُ نَفَّذَهُ وَقَبِلَ خَبَرَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ فَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ وَأَعْرَضَ عَنْ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ، وَإِلَّا حَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَسَمَّى تَحْرِيفَهُ: تَأْوِيلًا وَحَمْلًا، فَقَالَ: نُؤَوِّلُهُ وَنَحْمِلُهُ. فَلَأَنْ يَلْقَى الْعَبْدُ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ -مَا خَلَا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ- خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَذِهِ الْحَالِ.

بَلْ إِذَا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَعُدُّ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَهَلْ يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَ قَبُولَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى رَأْيِ فُلَانٍ وَكَلَامِهِ وَمَذْهَبِهِ؟! بَلْ كَانَ الْفَرْضُ الْمُبَادَرَةَ إِلَى امْتِثَالِهِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى سِوَاهُ، وَلَا يُسْتَشْكَلُ قَوْلُهُ لِمُخَالَفَتِهِ رَأْيَ فُلَانٍ، بَلْ تُسْتَشْكَلُ الْآرَاءُ لِقَوْلِهِ، وَلَا يُعَارَضُ نَصُّهُ بِقِيَاسٍ، بَلْ تُهْدَرُ الْأَقْيِسَةُ، وَتُلْغَى لِنُصُوصِهِ، وَلَا يُحَرَّفُ كَلَامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِخَيَالٍ يُسَمِّيهِ أَصْحَابُهُ: مَعْقُولًا، نَعَمْ هُوَ مَجْهُولٌ، وَعَنِ الصَّوَابِ مَعْزُولٌ، وَلَا يُوقَفُ قَبُولُ قَوْلِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ فُلَانٍ دُونَ فُلَانٍ، كَائِنًا مَنْ كَانَ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَقَدْ جَلَسْتُ أَنَا وَأَخِي مَجْلِسًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، أَقْبَلْتُ أَنَا وَأَخِي، وَإِذَا مَشْيَخَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جُلُوسٌ عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَجَلَسْنَا حَجْرَةً، إِذْ ذَكَرُوا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَتَمَارَوْا فِيهَا، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، يَرْمِيهِمْ بِالتُّرَابِ، وَيَقُولُ: مَهْلًا يَا قَوْمِ، بِهَذَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَضَرْبِهِمُ الْكُتُبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ.

الطالب: علَّق عليه.

الشيخ: نعم.

الطالب: صحيح، وأخرجه البغوي أيضًا في "شرح السنة" رقم (121) طبع المكتب الإسلامي. ورجاله ثقات على خلافٍ معروفٍ في عمرو بن شعيب.

الشيخ: وهذا كلام جيد، وفي هذا الحذر من الاختلاف والنزاع في السنة، وأنه واجب التَّسليم لها، والإيمان بها، وإنهاء الخلاف عندها ..........

وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].

فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ الْحَقّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَيُصَدِّقُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ خَالَفَهُ أَوْ وَافَقَهُ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُجْمَلًا لَا يَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِهِ، أَوْ قَد عَرَفَ مُرَادَهُ لَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ جَاءَ الرَّسُولُ بِتَصْدِيقِهِ أَوْ بِتَكْذِيبِهِ؟ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ عَنْهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِعِلْمٍ، وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وقد يكون علم من غَيْرِ الرَّسُولِ، لَكِنْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِثْل: الطِّبِّ، وَالْحِسَابِ، وَالْفِلَاحَةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الدِّينِيَّةُ فَهَذِهِ الْعِلْمُ فِيهَا مَا أُخِذَ عَنِ الرَّسُولِ لَا غَيْرَ.