11 شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في أهل الكبائر من أمته

ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

فَالْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى وَالْمُبْتَدِعُونَ مِنَ الْغُلَاةِ فِي الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ: يَجْعَلُونَ شَفَاعَةَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ عِنْدَ اللَّهِ كَالشَّفَاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا.

وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا ﷺ وَغَيْره فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

الشيخ: لأنَّ عقيدتهم أنَّ مَن دخل النار لا يخرج منها، هذه عقيدة المعتزلة والخوارج، مَن دخلها لا يخرج، ويتأوَّلون قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] قالوا: هذا يعمّ مَن كفر، ويعمّ أهل الكبائر، وهم كفار عند الخوارج، ولهم حكم الكفار عند المعتزلة، وأهل السنة والجماعة على خلاف قولهم، قولهم باطل، غلو وإفراط، بل هم تحت مشيئة الله.

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَيُقِرُّونَ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا ﷺ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ، وَيَحُدَّ لَهُ حَدًّا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ -حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: إِنَّهُمْ يَأْتُونَ آدَمَ، ثُمَّ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَذْهَبُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ، لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ، فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: رَبِّي أُمَّتِي، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ فَأَسْجُدُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا ذَكَرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

الشيخ: الصواب أنه ذكرها أربع مرات كما في رواية أنس من طريق الحسن، علَّق عليه؟

الطالب: قال: متَّفق عليه من حديث أبي سعيدٍ.

وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ بِالنَّبِيِّ ﷺ.

الشيخ: وهذه الشَّفاعة لا تُطلب من الأنبياء، ولا من المؤمنين بعد وفاتهم، وإنما تُطلب من الله، فتقول: اللهم شفِّع فيَّ نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم لا تحرمني شفاعتهم.

ولا تُطلب من الأموات كما يفعله عبَّاد القبور، يقولون للنبي ﷺ أو فلان أو فلان: اشفع لنا عند ربك. هذا لا يجوز؛ لأنه بعد الموت انقطع هذا العمل، فالشفاعة إنما تكون في حال الحياة في الدنيا، وهكذا بعد الحياة يوم القيامة، أما في حال الموت فلا: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44]، فالميت انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: "صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فلا تُطلب من الأموات: لا من الرسل، ولا من غيرهم، وإنما تُطلب من الله جلَّ وعلا، لكن الحيَّ لا بأس، تقول للحي: اشفع لي، سَل الله لي، ادع الله لي. يوم القيامة يفزع الناسُ –المؤمنون- ويأتون آدم .. إلى آخره؛ لأنهم أحياء ذلك الوقت حياة أعظم من حياتهم في الدنيا، وحديث عمر أخرجه البخاري في "صحيحه".

وَأَمَّا الِاسْتِشْفَاعُ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنَّ الدَّاعِيَ تَارَةً يَقُولُ: بِحَقِّ نَبِيِّكَ، أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ، يُقْسِمُ عَلَى اللَّهِ بِأَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَهَذَا مَحْذُورٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَقْسَمَ بِغَيْرِ اللَّهِ.

وَالثَّانِي: اعْتِقَادُهُ أَنَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حَقًّا، وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ إِلَّا مَا أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

الشيخ: وهناك وجه ثالث: وهو أنَّ الدعاء من الأمور التَّوقيفية، كيفيات الدُّعاء والوسائل التي شرعها الله تتوقف على النَّقل، لا يجوز لأحدٍ أن يجعل شيئًا من الوسائل: يطول الدعاء، أو يُكرر الدعاء إلا بنصٍّ، فالأمور التَّوقيفية ليس لأحدٍ التَّدخل فيها، والله شرع لنا التَّوسل بأسمائه وصفاته وبالأعمال الصَّالحة، فليس لأحدٍ أن يزيد وسيلةً أخرى: بحقٍّ فلانٍ، أو بجاه فلانٍ إلا بدليلٍ، ولم يرد دليلٌ على أنَّ التوسل بالجاه أو بحقِّ فلانٍ مما شرعه الله، بل ذلك من البدع؛ ولهذا ذكر المؤلفُ وغيره إنكارَ هذه الوسيلة؛ التوسل بحقِّ فلان، أو بفلان، أو بحقِّه، ليس له أصل، فإذا دُعي إقسامًا على الله نُهي عنه من باب أنه إقسام على الله، والإقسام بالمخلوق وأيضًا اعتقاد أنَّ للمخلوق حقًّا على الله، والله جلَّ وعلا ليس عليه حقٌّ لأحدٍ إلا ما جعله حقًّا ، كما قال : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يُعذب مَن لا يُشرك به شيئًا، وما أشبه ذلك مما جاءت به النُّصوص.

وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ قَوْلِهِ ﷺ لِمُعَاذٍ -وَهُوَ رَدِيفُهُ: يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ.

فَهَذَا حَقٌّ وَجَبَ بِكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ، لَا أَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا كَمَا يَكُونُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى الْعِبَادِ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَحَقُّهُمُ الْوَاجِبُ بِوَعْدِهِ هُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ، وَتَرْكُ تَعْذِيبِهِمْ مَعْنًى لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ، وَلَا أَنْ يُسْأَلَ بِسَبَبِهِ وَيُتَوَسَّلَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ مَا نَصَبَهُ اللَّهُ سَبَبًا.

الشيخ: وهذه إشارة إلى الوجه الثالث؛ أنه لم يشرع جعله سببًا.

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي "الْمُسْنَدِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِي قَوْلِ الْمَاشِي إِلَى الصَّلَاةِ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، وَبِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ.

الشيخ: هذا الحديث معروف ما فيه من ضعفٍ، لكن لو صحَّ فليس فيه إلا مجرد حقِّ السائلين، وحق الماشين، حقّ السائلين معناه الإجابة: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وحقّ الماشين في طاعة الله الإثابة، فلو صحَّ فهو توسل بصفات الله، لا بحقِّ المخلوق الذي ليس له أصلٌ، بل هو سؤال بحقِّ السائلين، وهو الإجابة، وحق الماشين في طاعة الله، وهو الإثابة، لكنه ضعيف الإسناد. علَّق عليه عندك؟

الطالب: نعم، قال: ضعيف، وقد فصلتُ القولَ في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" رقم (24).

فَهَذَا حَقُّ السَّائِلِينَ، هُوَ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ الَّذِي أَحَقَّ لِلسَّائِلِينَ أَنْ يُجِيبَهُمْ، وَلِلْعَابِدِينَ أَنْ يُثِيبَهُمْ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أَوْ نُعِّمُوا فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الوَاسِعُ

فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِ الدَّاعِي: "بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ"، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "بِحَقِّ نَبِيِّكَ" أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ" أَنَّكَ وَعَدْتَ السَّائِلِينَ بِالْإِجَابَةِ، وَأَنَا مِنْ جُمْلَةِ السَّائِلِينَ، فَأَجِبْ دُعَائِي، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: "بِحَقِّ فُلَانٍ" فَإِنَّ فُلَانًا وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ، فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِجَابَةِ دُعَاءِ هَذَا السَّائِلِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لِكَوْنِ فُلَانٍ مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أَجِبْ دُعَائِي! وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ مُلَازَمَةٍ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِن الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].

وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي الْحُرُوزِ وَالْهَيَاكِلِ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا الْجُهَّالُ وَالطُّرُقِيَّةُ.

وَالدُّعَاءُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ.

وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْإِقْسَامَ عَلَى اللَّهِ بِحَقِّ فُلَانٍ، فَذَلِكَ مَحْذُورٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِقْسَامَ بِالْمَخْلُوقِ لَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ؟! وَقَدْ قَالَ ﷺ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم، صحيح: رواه أحمد، والحاكم وصححه. "الإرواء" (2627).

الشيخ: ورواه أبو داود والترمذي أيضًا بإسنادٍ جيدٍ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ، أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ. وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْأَثَرُ فِيهِ.

الشيخ: الأثر ليس بصحيحٍ؛ ولهذا كرهه أبو حنيفة، يقال: "معقد"، ويقال: "معاقد العزِّ من عرشك"، فإذا أُريد به اسمه هو سبحانه وتعالى فيسأل بعزَّته، كما جاء بهذا النصّ بعزة الله: إنك أنت العزيز الحكيم. أما "معاقد" فلم ترد بهذا اللفظ.

الطالب: علَّق عليه، قال: قلتُ: هو حديث مرفوع موضوع، كما بيَّنه الزيلعي في "نصب الراية".

وَتَارَةً يَقُولُ: بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَكَ. يَقُولُ: نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَكَ ذُو وَجَاهَةٍ وَشَرَفٍ وَمَنْزِلَةٍ، فَأَجِبْ دُعَاءَنَا. وَهَذَا أَيْضًا مَحْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ التَّوَسُّل الَّذِي كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ لَفَعَلُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ، وَهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ، كَمَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا مَاتَ ﷺ قَالَ عُمَرُ لَمَّا خَرَجُوا يَسْتَسْقُونَ: "اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا» مَعْنَاهُ: بِدُعَائِهِ هُوَ رَبَّهُ وَشَفَاعَتِهِ وَسُؤَالِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّا نُقْسِمُ عَلَيْكَ بِهِ، أَوْ نَسْأَلُكَ بِجَاهِهِ عِنْدَكَ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا لَكَانَ جَاهُ النَّبِيِّ ﷺ أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ مِنْ جَاهِ الْعَبَّاسِ.

الشيخ: ولو كان المراد بالذات لكانت ذات النبي أفضل أيضًا؛ فيتوسلون بالدعاء، لا بالذات والجاه، لو كان التوسل في حياته بالجاه وبالذات لكان بعد وفاته كذلك، إذ ذاته وجاهه لم يزالا عظيمين، وإنما كان التوسل بدعائه وشفاعته وهم يؤمنون، وهكذا ما جرى للأعمى -في حديث الأعمى- هو توسل بدعاء النبي ﷺ، وشفاعة النبي ﷺ له.

وَتَارَةً يَقُولُ: بِاتِّبَاعِي لِرَسُولِكَ، وَمَحَبَّتِي لَهُ، وَإِيمَانِي بِهِ، وَسَائِرِ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ، وَتَصْدِيقِي لَهُمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الشيخ: ..............

فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يَكُونُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ.

فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِالشَّخْصِ وَالتَّوَجُّهِ بِهِ فِيهِ إِجْمَالٌ، غَلِطَ بِسَبَبِهِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ: فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّسَبُّبُ بِهِ لِكَوْنِهِ دَاعِيًا وَشَافِعًا، وَهَذَا فِي حَيَاتِهِ يَكُونُ، أَوْ لِكَوْنِ الدَّاعِي مُحِبًّا لَهُ، مُطِيعًا لِأَمْرِهِ، مُقْتَدِيًا بِهِ، وَذَلِكَ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، فَيَكُونُ التَّوَسُّلُ إِمَّا بِدُعَاءِ الْوَسِيلَةِ وَشَفَاعَتِهِ، وَإِمَّا بِمَحَبَّةِ السَّائِلِ وَاتِّبَاعِهِ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالتَّوَسُّلُ بِذَاتِهِ، فَهَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي كَرِهُوهُ وَنَهَوْا عَنْهُ.

وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ بِالشَّيْءِ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّسَبُّبُ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ.

وَمِنَ الْأَوَّلِ: حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْغَارِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الصَّخْرَةَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللَّهِ بِذِكْرِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الْخَالِصَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: "فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ"، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ. فَهَؤُلَاءِ دَعَوُا اللَّهَ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ هِيَ أَعْظَمُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ، وَيَتَوَجَّهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَيَسْأَلُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَتْ كَالشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ عِنْدَ الْبَشَرِ كَمَا أَنَّهُ شَافِعٌ لِلطَّالِبِ، شَفَّعَهُ فِي الطَّلَبِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ صَارَ شَفْعًا فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا، فَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَفَعَ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ، وَبِشَفَاعَتِهِ صَارَ فَاعِلًا لِلْمَطْلُوبِ، فَقَدْ شَفَّعَ الطَّالِبَ وَالْمَطْلُوبَ مِنْهُ.

الشيخ: يعني أنه ساعد الطالبَ بالشفاعة، وساعد المطلوب؛ لأنَّ المطلوب منه قد يخافه، وقد يخشى من ردِّه؛ فلهذا قد يُجيبه الشَّفاعة خوفًا أو طمعًا، والله لا يخاف أحدًا، ولا يطمع بأحدٍ، وإنما يُجيب الشَّافع فضلًا منه سبحانه وتعالى، فلا يستويان.

وَاللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ، لَا يَشْفَعُهُ أَحَدٌ، فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَالْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَيْهِ، فَلَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهٍ، فَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا سَجَدَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ...........: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، وَقَالَ تَعَالَى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54]، فَإِذَا كَانَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنْ يَشَاءُ.

تعليق: الموجود في الأصل: "إلا بإذنه لمن يشاء"، التعليق: سقط سهوًا: فهو يأذن.

وَلَكِنْ يُكْرِمُ الشَّفِيعَ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ ﷺ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ.

وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ، يَا عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ، عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.

الشيخ: قد أبلغ وأنذر عليه الصلاة والسلام، حتى لا يتعلق أولئك في القرابة، يقولون: هو قريبنا فيكفي، كما يظنّه الجُهَّال في قراباتهم، ولا سيما مَن ينتسب إلى النبي ﷺ، ويظنون أنَّ هذا الانتساب يكفيهم وإن أساءوا الأعمال، وإن ضلُّوا وأشركوا، وهذا من الجهل العظيم؛ ولهذا أبدى عليه الصلاة والسلام في بيان أنَّ هذه القرابة لا تكفي، بل لا بدَّ من العمل؛ ولهذا قال: اشتروا أنفسكم؛ لا أُغني عنكم من الله شيئًا، والله جلَّ وعلا قال: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وقال : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وقال ﷺ: مَن بطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه، والأنساب لم يُعلق الله بها النَّجاة، وإنما علَّق ذلك بالإيمان والعمل الصالح، فالأنساب والأموال والصحبة والخلّة ونحو ذلك لا تنفع أهلها إلا ما كان لله وفي الله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فالمحبة والإخاء والصَّداقة والأنساب والأموال وأشباه ذلك كلها لا تُغني عن أهلها شيئًا، إلا إذا صرفوها في طاعة الله، واستعملوها في مرضاة الله ومحبَّة الله، والصداقة في سبيل الله، وفي طاعة الله .

س: ..............؟

ج: التوسل بأسمائه من أعظم الوسائل: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، لكن نتكلم في مسألة ما يتعلق بالناس، بالمخلوقين؛ بأعمالهم، ودعائهم، وذواتهم، وحقِّهم، أما ما يتعلق بالله فله الأسماء الحسنى، فالتَّوسل يكون بأسماء الله، ويكون بتوحيده، ويكون بالأعمال الصَّالحات، ويكون بدعائه يستشفع به، كل هذه وسائل.

س: فيه إشارة إلى قوله: إنَّ الله وتر؟

ج: مقصوده: أنَّ الشفيع شفع للدَّاعي، والله جلَّ وعلا لا شفعَ له، بل هو وتر دائمًا، فلا يخاف أحدًا، ولا يرجو أحدًا، ولا يكون للشافع شفع له، بل شفع للسائل فقط.

س: إطلاق الوتر ..........؟

ج: هذا من أسماء الله؛ في الحديث الصحيح: إنَّ الله وتر، يُحب الوتر.

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ شَاةٌ لَهَا يُعَارٌ، أَوْ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: أَغِثْنِي، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.

فَإِذَا كَانَ سَيِّدُ الْخَلْقِ وَأَفْضَلُ الشُّفَعَاءِ يَقُولُ لِأَخَصِّ النَّاسِ بِهِ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟!

وَإِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي، وَشَفَعَ عِنْدَهُ الشَّفِيعُ، فَسَمِعَ الدُّعَاءَ، وَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ، لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا يُؤَثِّرُ الْمَخْلُوقُ فِي الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَذَا يَدْعُو وَيَشْفَعُ، وَهُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ. وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

الشيخ: هذا بحث جيد في مسألة الوسيلة، رحمه الله وجزاه خيرًا.

س: ............؟

ج: لم يذكروا الوسائل من باب الفروع، لكن لها صلة بالعقيدة؛ لأنها قد تجرّ إلى الشرك، الوسائل المبتدعة قد تجرّ إلى الشرك، وإلا فهي من باب الفروع، فاتِّصالها بالعقيدة لأنها قد تكون وسيلةً؛ لأنه يتوسل بالجاه: بجاه فلانٍ، ثم غدًا يدعوه ويستغيث به، فهو معروف عند العامَّة، التوسل بجاه فلانٍ وحقِّ فلانٍ وسيلة للشرك به؛ لأنهم إنما توسَّلوا بجاهه وحقِّه لأنَّه عندهم عظيم، ولما استقرَّ في قلوبهم عظمته جرَّهم الشيطانُ من هذا إلى أن يدعوه ويستغيثوا به ويطلبوه المدد، فكما أنه بدعة التوسل بجاه فلانٍ أو فلانٍ، فهو أيضًا من وسائل الشرك، هو بدعة ومن وسائل الشرك، مثلما أنَّ البناء على القبور والمساجد عليها وتجصيصها وأشباه ذلك هو بدعة، وهو من وسائل الشرك أيضًا؛ لأنهم لما بنوا عليها وعظَّموها وقع في قلوب العامَّة من تزيين الشيطان أنَّ أهلها يُعظَّمون بالدعاء والاستغاثة وطلب المدد، فوقع الشرك؛ ولهذا قال العلماء: إنَّ البدعة أحبُّ إلى الشيطان من كبائر الذنوب، وأنها في مرتبة الشرك وبين الكبائر، فأعظم الذنوب الشرك الأكبر بالله، وما يليه من الشرك الأصغر، ثم البدعة، فهي في مرتبةٍ تلي الشرك، ثم الكبائر، ثم الصَّغائر.

وابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه "مفتاح دار السعادة" وفي غيره أنَّ للشيطان عقبات، يقف للمسلم في كل عقبةٍ يصده بها عن الحقِّ، فأول عقبةٍ: الشرك، يصده بها عن التوحيد، ويُجاهده حتى لا يُوحد الله، فإن عافى اللهُ المسلمَ من ذلك وأعانه على التوحيد وقف له في البدع، فدعاه إلى البدعة وزيَّنها له؛ لعلمه بأنها تجره إلى الشرك، وتجره إلى الكفر، فإذا اجتنب المؤمنُ البدعةَ ووقاه الله منها وأعانه على عدوه؛ وقف له في مرتبةٍ ثالثةٍ؛ وهي الكبائر، ويُقال لها: العقبة الثالثة، وهي عقبة يجره بها ويصيده فيها؛ ليحبط أعماله، وليُضعف إيمانه، فيُزين له الكبائر ويدعوه إليها، ويقول: إنَّ الله غفور رحيم، ما دام معك إيمانٌ لا تضرّك المعاصي، فيُزين له الزنا والخمر وسائر أنواع الكبائر، ولا سيما ما له من حظٍّ وشهوةٍ؛ فإن ظفر به فهذا هو المطلوب، وإن لم يظفر به وأنجاه الله منه جاءت العقبةُ الرابعة؛ وهي الصَّغائر، فيدعوه إليها ويقول: إنها مغفورة، إنها بجنب الكبائر مغفورة، فيُزين له الذنوب التي لا يظهر أنها من الكبائر، فإن عجز عنه وسلَّمه الله من ذلك وقف له في المكروهات، وصار يدعوه إلى المكروهات والمشتبهات؛ حتى يجرَّه بها إلى المعاصي، فإن سلم من المكروهات والمشتبهات وقف له في شغله بالمفضول عن الفاضل، فيدعوه إلى المفضول حتى يضيع الفاضل، فيدعوه إلى أن يشتغل بالعبادة وقراءة القرآن، ويدع الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، ويقول له: إنَّ هذا فيه كفاية؛ أن تعبد ربَّك وتُصلي وتقرأ وتجلس في المسجد وفي بيتك، ولا يلزم أن تذهب مع الناس في الدَّعوة إلى الله وإنكار المنكر وكذا وكذا، فيُثبطه، فإذا لم يستطع ذلك شغله بالفضول والمباحات وأنواع الشَّهوات المباحة؛ ليصده بهذا عن العمل الذي يُرضي الله ويُقربه إليه من الواجبات.

قال أيضًا: وقد يُحرك عليه الناس حتى يشغلوه عن طاعة ربِّه، وعمَّا أوجبه الله عليه، يُحرك عليه الناس، يُسبب له كثرة الأعداء، وكثرة المشاغبين، وكثرة المؤذين؛ حتى يُثبطوه عمَّا هو فيه من الخير والعلم والهدى، هذا كله واقع، مَن تأمَّل أحوال الناس وتأمَّل الشيطان وتأمَّل مكائده وطُرقه الخبيثة وخُطواته ظهر له ما ذكره ابنُ القيم رحمه الله وغيره من هذه العقبات ...........

لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، قَالَ: رَبِّ، كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟! قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ، فَخَطِئَتْ ذُريته.

الشيخ: يُقال: خطأ، بمعنى: أثم، وأما أخطأ بمعنى: خالف الصواب عن جهلٍ ونسيانٍ، فخطئ في العمد، وأخطأ في غير العمد؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:37] يعني: الآثمون، إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31] يعني: إثمًا كبيرًا، فالثُّلاثي بمعنى: أثم، والرباعي بمعنى: غلط.

س: داود من آخر الأمم؟

ج: من آخر الأمم، يعني: من آخر أنبياء بني إسرائيل، قبل عيسى بقليلٍ.

ثُمَّ قَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: نعم، صحيح: وجدتُ له أربعة طرقٍ، بعضها عند ابن أبي عاصم في "السنة" بتحقيقي.

الشيخ: سبحان مَن لا يضلُّ ولا ينسى، هذا يُوجب لطالب العلم دائمًا أن لا ييأس من شيءٍ، وأن لا يعتمد على شيءٍ من كلام الناس، ولو كان القائل كبيرًا، فإذا قال مثلًا أحمد أو الشافعي أو مالك أو شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم: أنه ليس في هذا الباب رواية، أو ليس في هذا الباب حديث، أو ليس في هذا الباب أثر، فلا يُؤخذ مُسلَّمًا، بل لا بدَّ من تعبٍ وعملٍ وتفتيشٍ؛ لأنَّ كل واحدٍ له طاقة محدودة، وكل واحدٍ له معلومات محدودة، لا يُحصي كل شيءٍ، مهما بلغ من العلم لا يُحصي كلَّ شيءٍ، فلا بدَّ أن يكون طالبُ العلم لا يعتمد على زيدٍ في النفي ولا في الإثبات، ولا سيما في النَّفي؛ النفي أخطرها، بل يعمل ويكدح ويُفتش وينظر، فدائمًا يجد ما يُخالف هذا النَّفي.

ثم الإنسان مهما كان من العلم تعتريه الغفلة، يعتريه النِّسيان، يكتب وهو مشغول الفكر، يكتب وهو مشغول بأمرٍ آخر من أمور دنياه، أو من أمور آخرته؛ فيغلط، وهذا مجرب من الكبار ومن غير الكبار، فهذا يُوجب لطالب العلم أن يكون دائمًا يعتني ولا يقول: قال فلان، وهذا يكفي، فلان واسع العلم فيكفي، ولا نبحث، لا، بل لا بدَّ من التَّفتيش والنَّظر والتماس ما هو بحاجةٍ إلى طلبه.

س: وإذا قال المُفتي أو الإمام: لا أعلم ذلك ورد عن الرسول ﷺ. يقصد في حدِّ علمه؟

ج: إذا قال: لا أعلم. هذا طيب، لكن المصيبة إذا قال: لم يرد عن الرسول. ولا ينبغي استعمال قول: ما ورد. وإن قصد في حدِّ علمه، بل ينبغي استعمال "لا أعلم" أو "لا أعرف ذلك" أو "لم أقف على شيء في الباب" ونحو هذا.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي شَيْئًا. وَأَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا.

الشيخ: هذه الإرادة الشرعية لا القدرية: أردتُ منك أن لا تُشرك بي شيئًا إرادة شرعية؛ لأنها هي التي تقع مُخالفتها من العبد، أما الإرادة الكونية فلا تُخالف ما أراده الله كونًا، لا بدَّ أن يقع: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]: أردتُ منك أن لا تُشرك بي شيئًا يعني: أمرتك وأوصيتُك وحرضتُك، ونحو ذلك بهذا المعنى.

أما الإرادة الكونية التي أرادها كونًا وشاءها كونًا فهذه لا تُخالف.

وبهذا تعلم أن الإرادة إرادتان: إرادة شرعية دينية، فهذه قد يقع مُرادها وقد لا يقع من العبد، فالله أراد من العباد جميعًا أن يعبدوه ويُطيعوا رسوله ﷺ، فمنهم مَن أطاع -وهم القليل- ومنهم مَن عصى -وهم الأكثرون- هذه هي الإرادة الشَّرعية.

وأما الإرادة الكونية فلا يمكن أن يُخالفها أحدٌ، فقد أراد من الناس أن يموتوا، فهم لا بدَّ أن يموتوا كلهم، وأراد لهذه الدنيا أن لا تبقى ولا تدوم، فهي لا تبقى ولا تدوم، وأراد من إبليس إرادة كونية أنه لا يهتدي، فلم يهتدِ، وهكذا.

وذكر أحاديث أُخرى أَيْضًا كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهُ، وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ.

وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ سَبْقًا مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، وَغَايَتُهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ بَارِئَهَا وَفَاطِرَهَا سُبْحَانَهُ صَوَّرَ النَّسَمَةَ وَقَدَّرَ خَلْقَهَا وَأَجَلَهَا وَعَمَلَهَا، وَاسْتَخْرَجَ تِلْكَ الصُّوَرَ مِنْ مَادَّتِهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَيْهَا، وَقَدَّرَ خُرُوجَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا خُلِقَتْ خَلْقًا مُسْتَقِرًّا وَاسْتَمَرَّتْ مَوْجُودَةً نَاطِقَةً كُلّهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُرْسِلُ مِنْهَا إِلَى الْأَبْدَانِ جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، فَهَذَا لَا تَدُلُّ الْآثَارُ عَلَيْهِ.

الشيخ: لا وجهَ له في بعضها أنه أعادها إلى صلبه، بعدما أخذ عليها الميثاق أعادها إلى صلبه، وإرسال الملك عند نفخ الروح؛ يرسل إليه فينفخ الملكُ الروحَ من جديدٍ، فتكون مخلوقةً من جديدٍ.

نَعَم، الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مِنْهَا جُمْلَةً بَعْدَ جُمْلَةٍ، كَمَا قَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ أَوَّلًا، فَيَجِيءُ الْخَلْقُ الْخَارِجِيُّ مُطَابِقًا لِلتَّقْدِيرِ السَّابِقِ، كَشَأْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّهُ قَدَّرَ لَهَا أَقْدَارًا وَآجَالًا، وَصِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ، ثُمَّ أَبْرَزَهَا إِلَى الْوُجُودِ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ.

الشيخ: وهذا مثلما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الصحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال: إنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء.

وهذا معنى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، وهكذا قوله جلَّ وعلا: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، فقد سبق علمه وكتابته في كل شيءٍ، ثم يأتي المخلوقُ على حسب ما مضى في علم الله، تأتي هذه المخلوقات والحيوانات، ومن أشياء أخرى وجمادات على حسب ما مضى في علم الله وكتابته من جنٍّ وإنسٍ وملائكةٍ وجمادات: من جبالٍ وأشجارٍ وأحجارٍ ومعادن وغيرها.

س: بدل وصفات: صنعات، وصنعات وهيئات؟

ج: صفات أفضل.

فَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْقَدَرِ السَّابِقِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَخْرَجَ أَمْثَالَهُمْ وَصُوَرَهُمْ، وَمَيَّزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ.

وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ مَوْقُوفَيْنِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابنِ عُمَرَ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فِطْرَتُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا تَقَدَّمَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

وَمَعْنَى قَوْلِهِ "شَهِدْنَا" أَيْ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا أَنَّكَ رَبُّنَا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.

وَقِيلَ: شَهِدْنَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ "بَلَى". وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ بَنِي آدَمَ.

وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَا عَدَاهُ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِلْأَوَّلِ.

الشيخ: والسياق كله فيهم، المستخرجون هم الذين قالوا: شَهِدْنَا، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، يعني: أقررنا واعترفنا، شهد على نفسه يعني: أقرَّ واعترف، مثلما في قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135]، فالمعترف إذا قال: عندي لفلان كذا، واقترضتُ من فلانٍ كذا، فمعناه الشَّهادة على نفسه بأنه مطلوب لفلانٍ هذا الشيء.

وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ سِوَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَعَادَهُمْ: كَالثَّعْلَبِيِّ وَالْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ نَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ وَبَصَائِرُهُمُ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ فِيهِمْ: كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ: كَالْوَاحِدِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقُرْطُبِيِّ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ نَسَبَ الرَّازِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالثَّانِيَ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي: أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَخْذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ وَالْقَضَاءُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَبَعْضَهُمْ إِلَى النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ ، وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ وَإِرَاء آدَمَ إِيَّاهُمْ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إِشْهَادٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالَّذِي فِيهِ الْإِشْهَادُ.

الطالب: .............

عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَالَهَا أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّحِيحِ غَيْرَ الْحَاكِمِ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ"، وَالْحَاكِمُ مَعْرُوفٌ تَسَاهُلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.

الشيخ: ينبغي أن يُقال: إنه لا منافاةَ بين كونه من ظهر آدم، أو من ظهر بنيه، فالآية: مِنْ بَنِي آدَمَ، والنصوص جاءت: من ظهر آدم، وظهر أبيهم ظهرهم، فإنهم خُلقوا كلهم من ظهره، من صلبه تسلسلوا، فالأخذ من ظهر آدم أخذٌ من ظهورهم، فلا منافاةَ، فالحديث يُفسر الآية، والآية تُوافق الأحاديث، فلا منافاةَ.

ثم أيضًا ينبغي أن يُفهم أنَّ هذه الأشياء التي ذكرها جلَّ وعلا وذكرتها الأحاديثُ ليست هي العمدة في التَّكاليف، وليست هي العمدة في إقامة الحُجج، وإنما هذه أشياء إرهاصية، وأشياء تمهيدية لما بعدها؛ ولهذا لم يكتفِ بها الربُّ ، بل بعث الرسل وأنزل الكتب، فالاعتماد على ما جاءت به الرسل، لا على ما أخذ من ظهر آدم، وإنما هو خبر من الله أنه فعل هذا، وقرر هذا من قديم الزمان على أبينا آدم عليه الصلاة والسلام، وأخبره بهذا الأمر، وأنهما قسمان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.

وهذا كله لا يُنافي ما جاءت به الرسل، وما نزلت به الكتب، فالاعتماد على ما جاءت به الرسل في إقامة الحجَّة والبرهان، وفي قطع المعذرة، لا على الأخذ الأول؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وقال جلَّ وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115]، فهو يُبين للناس بواسطة الرسل والكتب، فمَن قبل من الرسل وأخذ من الكتب السَّماوية هذا هو الناجي، ومَن أبى قامت عليه الحُجَّة، واستحقَّ العذاب، في الأولين والآخرين، من عهد آدم إلى يومنا هذا، فالذين عصوا نوحًا أهلكهم، والذين عصوا هودًا كذلك، قد بُلِّغوا فأبوا وعُذِّبوا، وهكذا قوم صالح، وهكذا لوط، وهكذا قوم إبراهيم، وهكذا قوم شعيب، وهكذا فرعون وأصحابه، وهكذا هذه الأمة بُلِّغت، فمَن بلغه الأمر فأخذ به فهو الناجي، ومَن حاد وأعرض فهو الهالك وإن مُتِّع، وإن أُملي له، كما أُملي لغيره، ومَن لم تبلغه الحجَّة في أطراف الدنيا -لا في الأولين، ولا في الآخرين- فله حكمٌ آخر يوم القيامة.

والمقصود من هذا كله أنَّ الاعتبار بإقامة الحجج، وقطع المعاذير بما جاءت به الرسل، وأُنزلت به الكتب، لا بالميثاق الأول، الميثاق الأول بيان من الله لنا أنه فعل، وأخذ علينا الميثاق، ولكنه سبحانه لم يكتفِ به؛ لأنهم لا يفهمونه، ولا يعقلونه بعد كبرهم، وبعد وجودهم، ولا يفهمونه، والحجَّة إنما تقوم عليهم بما يعرفون به بعد عقولهم، وبعد وجودهم في الدنيا، وبعد تكليفهم يُؤخذون بهذا، أما ذاك فهو حُجَّة قديمة، وتمهيد من الله عزَّ وجلَّ، وإخبار منه لآدم، وأنَّ هذا واقع في الزمان الآتي والمستقبل، فوقع كما أخبر.

س: حديث أنس: يُؤتى بالرجل يوم القيامة من أهل النار، فيقول الله: قد أردتُ منك ما هو دون ذلك؛ قد أخذتُ عليك في ظهر آدم أن لا تُشرك بي شيئًا فأبيتَ إلا الشرك ألا يدل على أنه حُجَّة مُستقلة؟

ج: الله يُخبره بهذا، ولكن الحجَّة إنما قامت عليه بما جاءت به الرسل.

س: كأنَّه احتجَّ عليه بهذا؟

ج: هو احتجَّ بذلك، لكن ليس به وحده، بل الأدلة الأخيرة ظاهرة أنه إنما أقام الحجَّة ببعث الرسل وإنزال الكتب، لا بالميثاق الأول، يعني: إنما أردتُ منك ما هو أسهل من ذلك وأنت في ظهر آدم، يعني: من قديم الزمان وأنا أردتُ منك، وليس المعنى: أني أردتُ منك بدون إرسال الرسل، يعني: قد أردتُ منك هذا من قديم الزمان وأنت في ظهر أبيك آدم، فأبيتَ إلا الشرك بعدما جاءت الرسل وأنزلت الكتب، بعد أن وُجد في الدنيا، وعاش في الدنيا، وجاءت الرسالة، وجاءت الكتب، فأصرَّ على هذا الباطل.

س: إخراج الذرية حسي أو هو الفطرة؟

ج: حسي بلا شكٍّ.

س: القول الراجح في أصحاب الفترة ومَن لم تبلغه الدَّعوة ومَن مات من أبناء المشركين؟

ج: القول الراجح أنهم تُقام عليهم الحجَّة يوم القيامة، كما ذكره ابنُ القيم رحمه الله، وذكره ابنُ كثير عند قوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] وغيرهم.

وَالَّذِي فِيهِ الْقَضَاءُ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَبَعْضَهُمْ إِلَى النَّارِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ، وَذَلِكَ شَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ الْمُبْطِلُونَ الْمُبْتَدِعُونَ.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَالنِّزَاعُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَوْلَا مَا الْتَزَمْتُهُ مِن الِاخْتِصَارِ لَبَسَطْتُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَمَا قِيلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَدَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ........... مَا خَاطَبَهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَأَقْوَى مَا يَشْهَدُ لِصِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُخَرَّجُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" الَّذِي فِيهِ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي.

الطالب: علَّق عليه: صحيح، وهو الذي قبله، والطريق الأخرى عند مسلم، وكذا البخاري، ولا منافاة بينها وبين التي قبلها؛ لأنَّ زيادة الثِّقة مقبولة كما لا يخفى، وفي هذا الحديث زيادات أخرى، وقد جمعتُها في الحديث وخرجتُه في "سلسلة الأحاديث الصَّحيحة".

س: قول المُعلق: صحيح أخرجه البخاري؟

ج: تنبيه على الأحاديث الصَّحيحة، من باب التَّنبيه.

وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ، فَيُرَدُّ إِلَى النَّارِ، وَلَيْسَ فِيهِ "فِي ظَهْرِ آدَمَ"، وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى إِخْرَاجُهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، بَلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُتَضَمِّنٌ لِأَمْرَيْنِ عَجِيبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: كَوْنُ النَّاسِ تَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ وَأَقَرُّوا بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ بَنِي آدَمَ"، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ آدَمَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ ظُهُورِهِمْ"، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ ظَهْرِهِ. وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، وَهُوَ أَحْسَنُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: "ذُرِّيَّاتِهِمْ"، وَلَمْ يَقُلْ: ذُرِّيَّتَهُ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: "وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ"، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ ذَاكِرًا لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ - كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ- لَا يَذْكُرُ شَهَادَةً قَبْلَهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا الْإِشْهَادِ إِقَامَةٌ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ؛ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

السَّادِسُ: تَذْكِيرُهُمْ بِذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْإِخْرَاجِ لَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كُلِّهمْ، وَإِشْهَادِهِمْ جَمِيعًا ذَلِكَ الْوَقْت، فَهَذَا لَا يَذْكُرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.

السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173]، فَذَكَرَ حِكْمَتَيْنِ فِي هَذَا الْإِشْهَادِ؛ لِئَلَّا يَدَّعُوا الْغَفْلَةَ، أَوْ يَدَّعُوا التَّقْلِيدَ، فَالْغَافِلُ لَا شُعُورَ لَهُ، وَالْمُقَلِّدُ مُتَّبِعٌ فِي تَقْلِيدِهِ لِغَيْرِهِ. وَلَا تَتَرَتَّبُ هَاتَانِ الْحِكْمَتَانِ إِلَّا عَلَى مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْفِطْرَةِ.

الثَّامِنُ: قَوْلُهُ: أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173]، أَيْ: لَوْ عَذَّبَهُمْ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَقَالُوا ذَلِكَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ.

التَّاسِعُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَضْمُونِهَا، وَذَكَّرَتْهُمْ بِهَا رُسُلُهُ، بِقَوْلِهِمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم:10].

الْعَاشِرُ: أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا آيَةً، وَهِيَ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الْبَيِّنَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَدْلُولِهَا، وَهَذَا شَأْنُ آيَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:174]، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، فَمَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، لَا يُولَدُ مَوْلُودٌ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْفِطْرَةِ، هَذَا أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يَتَبَدَّلُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: وهذا كما تقدم كله لا يُنافي أنَّ هذا الأخذ ليس هو المعتمد وحده، بل لا يكفي إلا بعدما جاءت الرسل تذكر به، وتدعو إليه، وتأخذ به، حُجَّة قديمة غفل عنها الناسُ، جاءت الرسل تُذكر بها، وتدعو إليها، وتأخذ بها، فمَن جاءته الرسلُ الموضحة والمرشدة إلى ما أخذه الله على الأوائل قامت عليه الحجَّة، ومَن لا فلا، فالأولى قديمة أخذها الله عليهم، وأوضح لهم أنه ربهم وإلههم الحقّ، من وجود آدم، ومن شهادة آدم، هذه هم عنها غافلون، ولم يعرفوها، لكن لما جاءت الرسل ذكرتهم فصار هذا حجَّة، وهذا حجة، مثل: إنسان عليه بينة، وعليه شهود بحقٍّ ونسي، ثم جاء مَن يذكره بهذه البينة، ويذكره بهؤلاء الشهود، ويقول: قد أخذ عليك الأمر، وقد وجه لك الأمر، وقد شهد عليك فلان وفلان. فقامت عليه الحجَّة في البينة الأخيرة العاجلة التي وضحت له الأمر الماضي، فصار عليه حُجَّتان: حجَّة قديمة نسيها، أو غفل عنها، فذُكِّر بها، وحجَّة جديدة هي التي جاءت بها الرسل، وقامت بها البينات، والأخيرة، فصار مأخوذًا بالأول والآخر: بالأول وإن لم يذكره؛ لأنه ذُكِّر به، وبُيِّن له. وبالآخر؛ لأنه حجة قائمة مُستقلة.

س: هل استفدنا هذا الاستشهاد من الحديث وليس من الآية؟

ج: في القرآن الكريم، والسنة شاهدة، والأحاديث زيادة.

س: ردّ المؤلف في قوله: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172]؟

ج: هذه الفطرة فقط، هذا وجه الشاهد، والإشكال في أنهم ما عرفوا هذا الشيء، ولا تقوم عليهم الحجَّة بهذا الشيء، ولكن يُقال لهم: إنهم قامت عليهم الحجَّة بذلك الشيء بعد التذكير بالحجة الأخيرة، أما دون بعث الرسل لا، لكن المراد بعد الرسل وإنزال الكتب مُقيمة للحجة، ولا يُكتفى بالأمر الماضي.

س: ظاهر الآية: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]؟

ج: لئلا تغفلوا، هذا معناه؛ ذكرناكم بذلك لئلا تَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ.

وَقَدْ تَفَطَّنَ لِهَذَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، وَلَكِنْ هَابُوا مُخَالَفَةَ ظَاهِرِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ.

وَكَذَلِكَ حَكَى الْقَوْلَيْنِ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَمَالَ إِلَيْهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ، وَالشِّرْكَ حَادِثٌ طَارِئٌ، وَالْأَبْنَاءُ تَقَلَّدُوهُ عَنِ الْآبَاءِ، فَإِذَا احْتَجُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّ الْآبَاءَ أَشْرَكُوا وَنَحْنُ جَرَيْنَا عَلَى عَادَتِهِمْ كَمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى عَادَةِ آبَائِهِمْ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ. يُقَالُ لَهُمْ: أَنْتُمْ كُنْتُمْ مُعْتَرِفِينَ بِالصَّانِعِ، مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّكُمْ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ شَهِدْتُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هِيَ إِقْرَارُهُ بِالشَّيْءِ لَيْسَ إِلَّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِكَذَا، بَلْ مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ، فَلِمَ عَدَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي شَهِدْتُمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ؟! بَلْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْمَعْلُومِ الْمُتَيَقَّنِ إِلَى مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ حَقِيقَةٌ؛ تَقْلِيدًا لِمَنْ لَا حُجَّةَ مَعَهُ، بِخِلَافِ اتِّبَاعِهِمْ فِي الْعَادَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ مَا يُعْلَمُ بِهِ فَسَادُهَا، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لَكُمْ، بِخِلَافِ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا يُبَيِّنُ فَسَادَهُ وَعُدُولَكُمْ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ.

فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الصَّبِيُّ عَنْ أَبَوَيْهِ هُوَ: دِينُ التَّرْبِيَةِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الطِّفْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَافِلٍ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبَوَاهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِأَنَّ الطِّفْلَ مَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى دِينِهِمَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا الدِّينُ لَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ -عَلَى الصَّحِيحِ- حَتَّى يَبْلُغَ وَيَعْقِلَ وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَحِينَئِذٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ دِينَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ بِعَقْلِهِ هُوَ أَنَّهُ دِينٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ آبَاؤُهُ مُهْتَدِينَ -كَيُوسُفَ الصِّدِّيقِ مَعَ آبَائِهِ- قَالَ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38]، وَقَالَ لِيَعْقُوبَ بَنُوهُ: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وَإِنْ كَانَ الْآبَاءُ مُخَالِفِينَ الرُّسُلَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ الرُّسُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا الْآيَةَ [العنكبوت:8].

فَمَنِ اتَّبَعَ دِينَ آبَائِهِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، بَلْ يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ إِلَيْهِ، فَهَذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة:170].

وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، يَتْبَعُ أَحَدُهُمْ أَبَاهُ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَمَذْهَبٍ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَيْسَ هُوَ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، بَلْ هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الدَّارِ، لَا مُسْلِمَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ لَهُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: هَاه! هَاه! لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.

فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا الْمَحِلَّ، وَلْيَنْصَحْ نَفْسَهُ، وَلْيَقُمْ مَعَهُ، وَلْيَنْظُرْ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ؟ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، فَإِنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ.

وَأَقْرَبُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْمَرْءُ أَمْرُ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ نُطْفَةً، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، وَالتَّرَائِبُ: عِظَامُ الصَّدْرِ، ثُمَّ صَارَتْ تِلْكَ النُّطْفَةُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَانْقَطَعَ عَنْهَا تَدْبِيرُ الْأَبَوَيْنِ وَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى لَوْحٍ أَوْ طَبَقٍ، وَاجْتَمَعَ حُكَمَاءُ الْعَالَمِ عَلَى أَنْ يُصَوِّرُوا مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَقْدِرُوا، وَمُحَالٌ تَوَهُّمُ عَمَلِ الطَّبَائِعِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَوَاتٌ عَاجِزَةٌ، وَلَا تُوصَفُ بِحَيَاةٍ، وَلَنْ يَتَأَتَّى مِنَ الْمَوَاتِ فِعْلٌ وَتَدْبِيرٌ، فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ وَانْتِقَالِ هَذِهِ النُّطْفَةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ؛ عَلِمَ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ لَهُ رَبًّا أَوْجَدَهُ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ؟! وَكُلَّمَا تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ ازْدَادَ يَقِينًا وَتَوْحِيدًا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ.

الشيخ: وبكل حالٍ، كل هذا الكلام ليس عليه المعول، وإنما المعول على بعث الرسل وإنزال الكتب، هذا هو الذي هدى الله به العباد، وجعله مَحَكًّا لمن حاد عنه، أو استقام عليه، وما سبق وما ركز في العقول وما فُطر عليه العباد حُجَّة عليهم، لكنَّها غير كافيةٍ، وغير مُؤاخذين بها، إلا بعد بعث الرسل وإنزال الكتب، فمتى عصوا الرسل وخالفوا الكتب أُخذوا بهذا، وأما بدون ذلك فأمرهم إلى الله، ويوم القيامة يمتحنهم الله، ويقضي بينهم بعلمه ، وإنما في الدنيا يُؤاخذون بالرسل والكتب، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].

س: مُشركو الجاهلية أليسوا في النار؟

ج: على حسب الحُجَّة، مَن قامت عليه الحُجَّة فهو من أهل النار، ومَن لم تقم عليه الحُجَّة فهو من أهل الفترات، فيهم الخلاف المعروف بين أهل السنة والجماعة، والصحيح أنهم يُمتحنون يوم القيامة.

س: وأبوي الرسول ﷺ؟

ج: ظاهرهم أنهم قد بلغتهم الدَّعوة، قال: إنَّ أبي وأباك في النار، واستأذن ربَّه في زيارة أمه فأذن له، واستأذنه في الاستغفار لها، فلم يأذن في الاستغفار لها، فدلَّ على أنها ماتت على الشرك، أما كونها تُعذَّب في ذلك أو لا تُعذَّب فهذا شيء آخر، المقصود أنَّ أهل الفترات من أهل الشرك حكمهم حكم أهل الشرك في الدنيا، ولكن عند الآخرة والعذاب إلى الله .

قَوْلُهُ: (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ).

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:40]، فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، أَزَلًا وَأَبَدًا، لَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ جَهَالَةٌ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قال: كنا في جنازةٍ في بقيع الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ رأسَه يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ.

ثُمَّ قَالَ: اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]. خرَّجاه في "الصحيحين".

الشيخ: وهذا الذي قاله المؤلفُ أمرٌ معلومٌ، قد أجمع عليه أهلُ السنة والجماعة إجماعًا قطعيًّا للنصوص، كل معروف؛ أهل الجنة معلومون، وأهل النار معلومون، وكل مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، قدر الله نافذ في عباده وعلمه، محيط بهم : لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فعلمه لا يتغير فيهم؛ مَن علم أنه يكون سعيدًا فهو سعيد، ومَن علم أنه يكون شقيًّا فهو شقي، لا يمكن أن يكون الواقعُ على خلاف علمه ، إذ لو وقت الأمور على خلاف علمه لكان علمه جهالةً، والله يتنزَّه عن ذلك ، فعلمه سابق فيهم، والواقع مُطابق لعلمه ، ولكن هذا لا يمنع أن يكونوا مُخاطبين ومأمورين ومنهيين ومُخيرين، لهم عقول، ولهم إرادات، ولهم مشيئة، ولهم أسماع وأبصار، كما قال : لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28- 29]، وقال جلَّ وعلا: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ۝ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:55- 56]، وقال جلَّ وعلا: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67]، وقال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:91]، إلى غير ذلك مما ينسب إليهم سبحانه وتعالى من أفعالهم وأقوالهم وإراداتهم ومشيئاتهم.