16 لا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين

فَقَوْلُهُ: "وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ" يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّا لَا نَقُولُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَاخْتَلَفُوا، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ: أَنَّا لَا نُجَادِلُ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّابِتَةِ، بَلْ نَقْرَأُهُ بِكُلِّ مَا ثبت وصحَّ.

وكل من المعنيين حقٌّ، ويشهد بِصِحَّةِ الْمَعْنَى الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقْرَأُ خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رسول الله ﷺ، فذكرتُ ذَلِكَ لَهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ، وَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

نَهَى ﷺ عَنْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي فِيهِ جَحْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مَا مَعَ صَاحِبِهِ مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقَارِئَيْنِ كَانَ مُحْسِنًا فِيمَا قَرَأَهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا.

الشيخ: وهذا المعنى جاء أيضًا عن عمر مع هشام بن حكيم، وأُبي بن كعب واختلافه مع الصحابة، بيَّن لهم ﷺ أنَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، وقال: فاقرؤوا ما تيسر منه ولا تختلفوا، فحذرهم من الاختلاف، وأمر كل واحدٍ أن يقرأ ما سمع من النبي ﷺ وما حفظه عن النبي ﷺ ولا يُنازع أخاه، فكل حقٌّ.

وقد تقدم شيء من الكلام فيما يتعلق بالإنزال على سبعة أحرف، وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك، وأن أصح الأقوال وأولاها بالصواب أنها سبعة متقاربة في المعنى، وإن اختلفت ألفاظها، فالمعاني متقاربة أو متَّحدة، والألفاظ مختلفة، مثل: جاء وأتى، وما أشبه ذلك، ومثل: العليم الحكيم، الخبير العليم، العليم الخبير، وما أشبه ذلك من المعاني المتقاربة أو المتَّحدة.

ثم جمعهم عثمانُ بعد ذلك على حرفٍ واحدٍ؛ حذرًا من التنازع، وشكر أهلُ السنة له ذلك، وانتهى أمرُ هذا الخلاف.

الطالب: تعليق: نسبة الحديث إلى مسلم خطأ: إما من الشارح، أو من الناسخ، بل هو لفظ البخاري.

الشيخ: يُراجع، قد يكون المعلِّق هو المخطئ.

الطالب: علَّق الشيخُ ناصر قال: صحيح، ولم يروه مسلم، بل تفرد به البخاري دونه، أخرجه في الخصومات والأنبياء، ومن الغريب تصدير الشارح إياه بقوله: "رُوي" المشعر بضعفه في اصطلاح المحدثين، وهذا أمر تساهل فيه أكثرُ المتأخرين، كما نبَّه عليه النووي وغيره. انتهى.

الشيخ: هذا قد يقع، قوله: "رُوي" قد يقع حتى من غير الشارح، قد وقع للبخاري رحمه الله في كتاب "الصحيح" يقول: يُذكر عن النبي ﷺ. ويُروى عن النبي ﷺ. وهو موجود في كتاب "الصحيح"، قد يقع هذا وقد يحصل التَّساهل، وإن كان العرفُ المصطلح عليه أن "رُوي" و"يُذكر" للضعيف، أو لما يُشَكُّ فيه، لكن قد يقع، قد يستعمل بعضُ أهل العلم خلافَ المعروف تسامحًا وتساهلًا.

الطالب: أيضًا الأرناؤوط قال: وقد وهم الشارحُ في عزوه لمسلم؛ فإنه لم يُخرجه.

الشيخ: على كل حالٍ، الغالب صحة ما قالوا، فإن الثلاثة كالمتبع الغالب مصيب، إذا كانوا من أهل العلم، لكن مع هذا لا نجزم بخطئه حتى نُراجع الصحيح.

وَلِهَذَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ : أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَخْتَلِفْ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ. فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتِمَاعًا سَائِغًا، وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ضلالٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ، وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ جَائِزَةً لَا وَاجِبَةً، رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ جَعَلَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِمْ فِي أَيِّ حَرْفٍ اخْتَارُوهُ، كَمَا أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مَنْصُوصًا؛ وَلِهَذَا كَانَ تَرْتِيبُ مُصْحَفِ عَبْدِاللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَكَذَلِكَ مُصْحَفُ غَيْرِهِ.

وَأَمَّا تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ فَهُوَ تَرْتِيبٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا آيَةً عَلَى آيَةٍ، بِخِلَافِ السُّوَرِ، فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ جَمَعَهُمُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ.

هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.

مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّرَخُّصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ؛ أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الفُقهاء وأهل الكلام إلى أنَّ المصحف مُشتمل عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمَلَ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ.

الشيخ: يُراجع ابن جرير في مقدمة تفسيره.

وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا لَا وَاجِبًا، أَوْ أَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا.

الشيخ: والصواب أنَّ الأحرف نزلت ليُقرأ بها جوازًا لا وجوبًا؛ ولهذا كان ﷺ إذا اختلف قارئان قال لكل واحدٍ: أحسنتَ، هكذا أُنزلت، حتى جرى ما جرى لبعض الناس من شُبَه الشك، كما جرى لأُبي وغيره، فالمقصود أنَّ الأحرف السبعة أنزلها الله ليقرأ بها المسلمون كتاب ربهم ، وهي لغات متقاربة، تختلف ألفاظها، وتتَّحد معانيها أو تتقارب معانيها، ثم جمعهم عثمانُ بعدما استشار الصحابة في ذلك على حرفٍ واحدٍ؛ حتى لا يختلفوا.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى! فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: "قَدْ نَظَرْتُ إِلَى الْقُرَّاءِ فَرَأَيْتُ قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ، وَأَقْبِلْ، وَتَعَالَ، فَاقْرَؤُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ" أَوْ كَمَا قَالَ.

وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نُجَادِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؟! فَإِنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَاظَرَ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

الشيخ: وهذا هو الواجب من المناظرة، وأن يكون القصدُ إظهار الحقِّ، لا إظهار الفهم والغلب، بل يكون القصد هو إظهار الحقِّ، وبيان ما جاءت به الرسل، وبذلك تتحد القلوب، وتتقارب الأفهام، ويتضح الحق لطالبه، أما إذا جاء العنفُ والشدةُ والظلمُ والبغي والقصد السيئ، فإنَّ هذا من أسباب الاختلاف الدائم، ومن أسباب ضياع الحقِّ وعماه على هؤلاء المتناظرين؛ لسوء القصد، ولسوء الأسلوب؛ ولهذا قال : وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، فأهل الكتاب وهم كفرة اليهود والنصارى لا يُجادلون إلا بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن لا يُجادلوا إلا بالتي هي أحسن، إذ القصد شيء واحد، وهو إظهار الحقِّ، وبيان أدلته؛ حتى يقبله المناظِر والمناظَر، وحتى تتحد الكلمةُ، وحتى يحصل التعاون على البرِّ والتقوى، فالعنف لا محلَّ له، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، ويقول جلَّ وعلا لموسى وهارون: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، وهو قد بعثهما إلى أخبث الخلق.

س: قال: بأنَّ أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب؟

ج: لأنَّ فيهم مَن هو من أهل القبلة، وهو شرٌّ من أهل الكتاب: كأهل البدع الذين كفروا ببدعتهم.

س: الآية محكمة أو دخلها التَّخصيص: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ دخلها التَّخصيص والنَّسخ أو هي مُحكمة؟

ج: مكية مُحكمة.

وَلَيْسَ إِذَا أَخْطَأَ يُقَالُ له: إِنَّهُ كَافِرٌ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي حَكَمَ الرَّسُولُ بِكُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ السَّلَفُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَذَكَرُوا أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِمُ السَّيْف.

وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا".

وَقَوْلُهُ: (وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَا، بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا).

وَقَوْلُهُ: (نَزَلَ به الروح الأمين) هو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ: رُوحًا؛ لِأَنَّهُ حَامِلُ الْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ إِلَى الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ أَمِينٌ حَقُّ أَمِينٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ۝ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193- 195].

الشيخ: وجبرائيل حمل الوحي الذي فيه حياة العالم، حياة الثَّقلين، وحياة العالم بعد ذلك تبعٌ لهما، فإنَّ الله جعل وحيه المنزل حياةً للأمم، حياةً للقلوب وراحةً لها وطمأنينةً وسعادةً؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فما دعا إليه الرسولُ ﷺ فيه الحياة، وفيه السعادة لمن استجاب وقبل الحقَّ واستقام عليه، قال سبحانه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122]، فقبول الحقِّ الذي جاء به محمدٌ عليه الصلاة والسلام فيه حياة من الموت، موت الجهل والكفر، وفيه النور من الظلمات، ظلمات الكفر والشرك والبدع والأهواء والمعاصي، فمَن قبل هذا الوحي علمًا وعملًا حصلت له الحياة التي هي ضد الموت الذي عليه الكفَّار، وحصلت له البصيرة والنور ضدّ الجهل.

وهذا المعنى في قوله جلَّ وعلا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، في هذه الآية الكريمة دلالة على أنَّ ما أوحاه الله لنبيه ﷺ ورحم به هذه الأمة من الكتاب والسنة روح ونور، روح تحصل به الحياة ضدّ الموت، ونور يحصل به النور: نور البصيرة، نور الهداية، فمَن رُزق العلم النافع والعمل الصالح فيما جاء به الكتابُ والسنةُ فقد رُزق الحياة السعيدة، الحياة الطيبة، ورزق النور والبصيرة والهدى الذي به يميز بين الحقِّ والباطل، وبين الغي والرشاد، والهدى والضَّلال.

وفي هذا المعنى يقول جلَّ وعلا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

وجدير بالعاقل من الثَّقلين -جدير به- أن يُعنى بهذا الوحي، وأن يعضَّ عليه بالنَّواجذ، وأن يلزمه علمًا وعملًا ودعوةً وصبرًا حتى يلقى ربَّه، ففي هذا تكون الحياة السعيدة، الحياة الكاملة، الحياة الطيبة، وفي علمه به وبصيرته فيه النور والهدى والبصيرة، ضدّ ما عليه أهل الجهل والأهواء، نسأل الله السلامة.

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19- 21]، وهذا وصف جبرائيل، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ الْآيَاتِ [الحاقة:40- 41]، فَإِنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَقَوْلُهُ: (فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ) تصريح بتعليم جبرائيل إِيَّاهُ؛ إِبْطَالًا لِتَوَهُّمِ الْقَرَامِطَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَصَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ إِلْهَامًا.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أنَّه كَلَامُ اللَّهِ بِالْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ قَوْلُهُ: (وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) مُجْرًى عَلَى إِطْلَاقِهِ: أَنَّا لَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ خِلَافَهُمْ زَيْغٌ وَضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ).

أَرَادَ بِأَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قال وأخبر مُصدِّقين) يُشير الشيخُ رحمه الله بهذا الكلام إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْخَوَارِجِ الْقَائِلِينَ بِالتَّكْفِيرِ بِكُلِّ ذَنْبٍ.

وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا- أَنَّ بَابَ التَّكْفِيرِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ بَابٌ عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ وَالْمِحْنَةُ فِيهِ، وَكَثُرَ فِيهِ الِافْتِرَاقُ، وَتَشَتَّتَتْ فِيهِ الْأَهْوَاءُ وَالْآرَاءُ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ دَلَائِلُهُمْ؛ فَالنَّاسُ فِيهِ -فِي جِنْسِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي نفس الأمر، والمُخالفة لِذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِمْ- عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ، مِنْ جِنْسِ الِاخْتِلَافِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْعَمَلِيَّةِ:

فَطَائِفَةٌ تَقُولُ: لَا نُكَفِّرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَحَدًا، فَتَنْفِي التَّكْفِيرَ نَفْيًا عَامًّا، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَكْفَرُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ يُظْهِرُ بَعْضَ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُهُمْ، وَهُمْ يَتَظَاهَرُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.

الشيخ: يعني في الأوقات التي يُمكنهم فيها إظهار النِّفاق: كعبدالله بن أُبي، مع كونه من أهل القبلة في الظاهر يتظاهر بالإسلام.

والمقصود أنَّ الإنسان لا يُكفِّر أهلَ القبلة إلا مَن ظهر منه ما يدل على الكفر، مَن أظهر الإسلام والتَّمسك بالإسلام فإنه لا يكفر بمجرد المعاصي، إلا إذا ظهر منه ما يُوجب التكفير: كسبِّه للدين، والجحد لما هو معلوم من الدِّين بالضَّرورة من واجبٍ ومحرَّمٍ، وما أشبه ذلك، وإلا فالأصل -قاعدة الأصل- عدم تكفير المسلم الذي استقبل قبلتنا، وشهد شهادتنا، ووحد الله، واتبع الرسول ﷺ، الأصل عدم تكفيره، خلافًا للخوارج، ولو زنا وسرق؛ فإنَّ الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من المعاصي تحت مشيئة الله، فلا يكفر بها، لكن الخوارج يُكفِّرون بها، وخالفوا أهل السنة والجماعة.

إذا قلنا: القاعدة: عدم تكفير أهل القبلة بالذنوب، فمعنى ذلك أنَّا لا نُكفر المسلم بالذنوب المعروفة –المعاصي- لكن متى ظهر منه ما يدل على التَّكفير، مثل: جحده وجوب الصلاة، جحده وجوب الزكاة، بإجماع المسلمين، جحده وجوب الحج مع الاستطاعة، جحده شرعية الجهاد، جحده لوجوب صيام رمضان، جحده لتحريم الزنا، جحده لتحريم السرقة، هذه أمور مجمع عليها، ولو تظاهر بالإسلام، ولو صلَّى مع الناس وصام، فهو كافرٌ عند الجميع.

فمرادهم إذا أطلقوا هو هذا، وهكذا إذا ترك الصلاةَ تهاونًا، على الخلاف في ذلك: منهم مَن جعل ذلك كفرًا أكبر، وإن انتسب إلى الإسلام، وإن ادَّعى أنه مسلم، كما لو سبَّ الله ورسوله، كما لو استهان بالمصحف ولطَّخه بالنَّجاسة، أو وطئ عليه، أو جلس عليه؛ فهو كافر بالإجماع، وإن زعم أنه مسلم.

فالحاصل أنَّ هذه القاعدة: أنَّا لا نُكفر أهل القبلة بذنبٍ، هذا الأصل، لكن إذا كان الذنبُ يُوجب التَّكفير كفَّرناه، وإنما أرادوا بهذا أن يُخالفوا الخوارج والمعتزلة؛ لأنَّ الخوارج كفَّروا بالذنوب، قالوا: مَن زنا كفر، ومَن سرق كفر، ومَن عصى والديه كفر، ومَن أكل الربا كفر، وما أشبه ذلك.

فأهل السنة خالفوهم في هذا، وقالوا: هذه معاصٍ، وليست كفرًا، وصاحبها تحت المشيئة إذا مات عليها ولم يتب منها، والمعتزلة وافقوهم في هذا المعنى من جهة الآخرة، وقالوا: إنه في الآخرة مخلد في النار كالكفار معهم، وفي الدنيا تورعوا عن تسميته: كافرًا، وقالوا: فاسق، ومنزلة بين المنزلتين، فهم مع الخوارج في المعنى، وإن كانوا ليسوا معهم في الدنيا في الاسم، والله المستعان.

س: ..............؟

ج: مَن سبَّ الله ورسوله كافر عند الجميع، مُرتد عن الإسلام، لكن يُستتاب عند قومٍ من أهل العلم، يستتيبه ولي الأمر، فإن تاب قُبلت منه التَّوبة مع التَّعزير، مع التَّأديب والتَّعزير على إقدامه على هذا المنكر، وبعض أهل العلم يقول: لا يُستتاب، بل يُقتل ولو تاب؛ لأنَّ سبَّه كفر عظيم مُغلَّظ.

وقد بسط الكلامَ في هذا أبو العباس ابن تيمية في "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وأطال البحث في هذا، وذكر كلامَ أهل العلم، رحمة الله عليه.

وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَافِرًا مُرْتَدًّا.

وَالنِّفَاقُ وَالرِّدَّةُ مَظِنَّتُهُمَا الْبِدَعُ وَالْفُجُورُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلُ الْأَهْوَاءِ"، وَكَانَ يَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].

وَلِهَذَا امْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّا لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، بَلْ يُقَالُ: لَا نُكَفِّرُهُمْ بِكُلِّ ذَنْبٍ. كَمَا تَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ النَّفْيِ الْعَامِّ وَنَفْيِ الْعُمُومِ، وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْعُمُومِ؛ مُنَاقَضَةً لِقَوْلِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِكُلِّ ذَنْبٍ؛ وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَيَّدَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ".

وَفِي قَوْلِهِ: (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ لِكُلِّ ذَنْبٍ، الذُّنُوبُ الْعَمَلِيَّةُ لَا الْعِلْمِيَّةُ. وَفِيهِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْتَفِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ، وَلَا فِي الْعِلْمِيَّاتِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ دُونَ الْعَمَلِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ مَقْصُورًا عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ، بَلْ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَبَعٌ، إِلَّا أَنْ يُضَمَّنَ قَوْلُهُ: (يَسْتَحِلّهُ) بِمَعْنَى: يَعْتَقِدُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ: (وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، كَمَا لا ينفع مع الكفر طاعة. فَهَؤُلَاءِ فِي طَرَفٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي طَرَفٍ، فَإِنَّهُمْ يقولون: يكفر الْمُسْلِم بِكُلِّ ذَنْبٍ، أَوْ بِكُلِّ ذَنَبٍ كَبِيرٍ. وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: يَحْبَطُ إِيمَانُهُ كُلُّهُ بِالْكَبِيرَةِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ. لَكِنَّ الْخَوَارِجَ يَقُولُونَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ! وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ! وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ!

الشيخ: كلام المعتزلة غير معقولٍ؛ لأنه ما بينهما مرتبة، مَن خرج من الإيمان صار إلى الكفر، وهذا كلام ما له حقيقة، فهم في المعنى مُوافقون للخوارج، ولكن تستروا بهذا الكلام.

............

وَبِقَوْلِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْجَبُوا لَهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ! وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُتَأَوِّلًا، فَيَقُولُونَ: يَكْفُرُ كُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ. لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ وَغَيْرِهِ، أَوْ يَقُولُونَ: يَكْفُرُ كُلُّ مُبْتَدِعٍ. وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُتَوَاتِرَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ.

س: قول الطحاوي: لا نُكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ ما لم يستحلَّه. هذا التَّقييد؟

ج: سليم، لا يكفر مَن فعل الزنا إلا مَن استحلَّ الزنا، ولا شرب الخمر إلا إذا استحلَّها، ولا الربا إلا إذا استحلَّه، وهكذا، فمُراده الرد على الخوارج.

س: الذنوب الأخرى التي يكفر بها دون استحلالٍ؟

ج: قصد الذنوب التي دون الشرك، هذا قصده، مثل المعاصي، فيُحمل الكلام على أحسن الكلام، وإلا الكفر ذنب، لكن مُراد المؤلف الذنب دون الشرك، ما لم يستحلّه، فيُحمل كلامه على أوضح الأمور وخيرها وأحسنها، كما هو معروف عند أهل العلم، وإلا الشرك لو فعله ولو لم يستحلّه كفر.

س: لو قال قائل: إنَّ ذنب الكفر وارد داخل في هذه العبارة؟

ج: لكنه غير مُرادٍ؛ ولهذا الشارح تعقب عليه العبارات هذه.

س: مَن فعل الكفر ولو لم يستحلّه كفر؟

ج: نعم، ولو لم يستحله، لكن فعله لحاجةٍ، لغرضٍ؛ يريد فلوسًا.

س: .............؟

ج: لا نُكفِّر بكل ذنبٍ، هذا نفي العموم، وأما النَّفي العام: لا نُكفِّر بذنبٍ معناه: أن جميع الذُّنوب لا نُكفِّر بها، وهذا ليس على إطلاقه، بخلاف لو قال: ما نُكفر بكل ذنبٍ، بل نُكفر ببعض الذنوب لا بكلها، مثل: ذنب الشرك، مثل: ذنب استحلال المعاصي، سبّ الله ورسوله، هذا ذنب يكفر به، وهناك ذنوب لا يكفر بها: كالزنا، والسرقة، والربا، ما لم يستحلّها.

أما المرجئة فهم في طرفٍ ثانٍ، المرجئة ضدّ الخوارج، هم يتساهلون، يقولون: ما دام على التوحيد لا تضرّه المعاصي، يدخل الجنةَ ولو مات على المعاصي، وهذا من جهلهم وعدم معرفتهم بالنصوص.

التوحيد أصل، والإيمان أصل، لكن تضره المعاصي، وتنقصه المعاصي، فيستحق النار، إلا أن يعفو الله عنه.

والخوارج فاتهم فضل التوحيد، وفضل الإيمان، وأن الأصل جميعهم يدخلون في النار، فظنوا أنَّ كل من عصى الله فقد كفر، عندهم لا يزيد الإيمان ولا ينقص، بل إما أن يُوجد كله أو يذهب كله؛ ولهذا عندهم إذا زنى زال إيمانه، وإذا سرق زال إيمانه، فانتقل إلى الكفر، وليس عندهم تبعيض.

أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، فإيمانهم وتوحيدهم بالله إذا زنا نقص، وإذا سرق نقص، وإذا أكل الربا نقص إيمانه، وإذا عقَّ والديه نقص إيمانه، وإذا قطع رحمه نقص إيمانه، لكن ما يزول إيمانه، أما إذا جاء الشرك الأكبر زال الإيمانُ بالكلية، إذا استحلَّ المعاصي زال الإيمانُ بالكلية، فرق بين قول أهل السنة وبين قول أهل البدع.

س: ............؟

ج: إذا فعل ما هو من الكفر كفر، إلا إذا كان يجهل هذا: كمَن عاش في بلادٍ بعيدةٍ عن الإسلام، وفي جاهليةٍ بعيدةٍ عن الإسلام، يُبين له حتى يعرف الإسلام، ويُدعا إلى الإسلام.

س: ..............؟

ج: يعني: الإيمان الكامل، لا أصله.

س: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] هل يُفسر هذا بأنهم اعتقدوا؟

ج: هذا حُجَّة أهل السنة والجماعة، إذا كفر ببعضٍ كفر، بخلاف إذا عصى.

س: سياق الآية يدل على أنهم فعلوا فعلًا، ما فيه اعتقاد؟

ج: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [النساء:150].

وَنُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا هَؤُلَاءِ تُعَارِضُ نُصُوصَ الْوَعِيدِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا أُولَئِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْوَعِيدِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ).

وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْبِدَعَ هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، لَكِنْ تَأَوَّلَ تَأْوِيلًا أَخْطَأَ فِيهِ: إِمَّا مُجْتَهِدًا، وَإِمَّا مُفْرِطًا مُذْنِبًا، فلا يُقال: إنَّ إيمانه حبط لمجرد ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَكْفُرُ، بَلِ الْعَدْلُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ: أَنَّ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ الْمُبْتَدَعَةَ المُحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ﷺ، أَوْ إِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، أَوِ الْأَمْرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، أَوِ النَّهْيَ عَمَّا أَمَرَ بِهِ -يُقَالُ فِيهَا الْحَقُّ، وَيُثْبَتُ لَهَا الْوَعِيدُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَيُبَيَّنُ أَنَّهَا كُفْرٌ، وَيُقَالُ: مَنْ قَالَهَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كَمَا يذكر من الوعيد في الظلم في النفس وَالْأَمْوَالِ، وَكَمَا قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَشَاهِيرِ بِتَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُدَّةً، حَتَّى اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُهُ: أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَأَمَّا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ إِذَا قِيلَ: هَلْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَأَنَّهُ كَافِرٌ؟

فَهَذَا لَا نَشْهَدُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَمْرٍ تَجُوزُ مَعَهُ الشَّهَادَةُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَغْيِ أَنْ يُشْهَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ، بَلْ يُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ، فَإِنَّ هَذَا حُكْمُ الْكَافِرِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي "سُنَنِهِ" فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، بَابُ "النَّهْيِ عَنِ الْبَغْيِ"، وَذَكَرَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَان لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لك –أو: لا يُدخلك الله الْجَنَّةَ- فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟! أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدَيَّ قَادِرًا؟! وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذهبوا به إلى النار، وقال أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

الشيخ: وهذا بسبب الغلو في الإنكار والغيرة، ومثله حديث جندب بن عبدالله الذي قال: والله لا يغفر الله لك! قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلانٍ؟! إني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك رواه مسلم.

فالغيرة لها حدود، فليس لأحدٍ أن يجزم بأنَّ الله لا يغفر لفلانٍ، أو لا يدخل الجنَّة؛ لأنه قد يتوب، لكن إذا قال: إن مات على هذا. إذا علَّق قوله: مات على الكفر لا يغفر له. فهذا صحيح، إذا بيَّن له الحقّ، وإن دلَّ على السبيل، وقيل له: إنك إذا متَّ على هذا، هذا ردة وكفر، لا تدخل الجنة، بل تدخل معه النار. فقيد بالموت على هذا الأمر، أما أن يجزم بأنه لا يغفر له، ولا يدخل الجنة، هذا غلط؛ لأنه قد يتوب، قد يرجع، قد يمن عليه اللهُ بالتوبة.

س: يُقيد بقوله: إن مات على هذا؟

ج: إن مات على هذا، إن مات المشركُ على شركه فهو إلى النار بإجماع المسلمين، ومَن مات على الإيمان فهو إلى الجنَّة بإجماع المسلمين.

.............

الطالب: علَّق عليه قال: حسن كما قال المؤلفُ رحمه الله تعالى، وفيه عكرمة بن عمار، احتجَّ به مسلم، وفيه ضعف. انتهى.

وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِيمَانٌ عَظِيمٌ وَحَسَنَاتٌ أَوْجَبَتْ لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ، كَمَا غَفَرَ لِلَّذِي قَالَ: إِذَا مِتُّ فَاسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي. ثُمَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لِخَشْيَتِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهِ وَإِعَادَتِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ. لَكِنَّ هَذَا التَّوَقُّفَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نُعَاقِبَهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْعِ بِدْعَتِهِ، وَأَنْ نَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ.

ثُمَّ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا قِيلَ: إِنَّهُ كُفْرٌ، وَالْقَائِلُ لَهُ يكفر بشروطٍ وانتفاء موانع، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا صَارَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا.

الشيخ: هذا ليس على إطلاقه، إلا أن يقال: إذا أظهر الكفرَ على زندقته، فالمقصود أنَّ مَن أظهر الكفر كفر مطلقًا.

س: كيف يقول: إسناده حسن، وفيه عكرمة بن عمار، احتجَّ به مسلم، وفيه ضعف؟

ج: لأنَّ الضعف القليل لا يُنزله عن الحسن، فقد يكون في ضبطه شيء .....، والحسن هو ما خفَّ ضبطه قليلًا.

س: زنديق عظم شرُّه على المسلمين، وما في والي يقتله، هل يجوز لفردٍ من أفراد المسلمين أن يقتله ويتحمل الدِّية؟

ج: هذا محل نظرٍ؛ إذا كان ما يترتب عليه شرٌّ على المسلمين ولا فتنة، يحتاج إلى دراسةٍ.

س: يترتب على القاتل ما يترتب على غير القاتل، وهو مُستعد أن يُقتل فيه؟

ج: ما أعلم فيه شيئًا، مثل: قصة قتل كعب ابن الأشرف .....، بعث النبي ﷺ ..... فقتله، قد يتعرض لقتلٍ، هذا من الجهاد.

س: لا يلزمه أن يقتله مَن أظهر الزَّندقة والكفر؟

ج: ........ إنما هو من باب الجهاد ..... أو يكفي إنكار المنكر وبيانه للناس، وإظهار أنَّ هذا منكر للناس.

وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا مَغْفُورًا لَهُ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِيمَانٌ عَظِيمٌ وَحَسَنَاتٌ أَوْجَبَتْ لَهُ رَحْمَةَ اللَّهِ، كَمَا غَفَرَ لِلَّذِي قَالَ: إِذَا مِتُّ فَاسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي. ثُمَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ لِخَشْيَتِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهِ وَإِعَادَتِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ. لَكِنَّ هَذَا التَّوَقُّفَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نُعَاقِبَهُ فِي الدُّنْيَا لِمَنْعِ بِدْعَتِهِ، وَأَنْ نَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ.

ثُمَّ إِذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا قِيلَ: إِنَّهُ كُفْرٌ، وَالْقَائِلُ لَهُ يكفر بشروطٍ وانتفاء موانع، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا صَارَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُكَفَّرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ إِلَّا مَنْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا.

الشيخ: قوله: (منافقًا زنديقًا) محل نظرٍ، قد لا يكون زنديقًا ولا منافقًا، ولكن قد تقع منه أشياء تُوجب الردة، وإن كان في نفس الأمر لم يكن زنديقًا، ولا منافقًا سابقًا، لكن قد يكون يتساهل في بعض الأمور، أو يعبث في بعض الأمور ويلعب، فيقع منه شيء من أسباب الردة، ليس بشرطٍ أن الكافر يكون في نفس الأمر زنديقًا ومُلحدًا في الباطن، قد يكون تظاهر بالإسلام وليس عنده زندقة في الباطن، بل هو ظاهره وباطنه سواء على الإسلام، ولكن تقع منه بعد ذلك أشياء ما كان قبل ذلك يعتقدها، مثل: سبّ الله، أو سبّ رسوله عند أسبابٍ تقتضي ذلك، أو الاستهزاء بالدِّين عند أسبابٍ تقتضي ذلك، ولا يلزم من هذا أن يكون قبلها زنديقًا، قد يكون حدث له هذا الشيء لضعف إيمانه، وقلة بصيرته، ونحو ذلك، فيتساهل في الأمور الموجبة للردة.

وَكِتَابُ اللَّهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ صنَّف الخلقَ فيه ثلاثة أصنافٍ:

  • كُفَّارٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الذين لا يُقرُّون بالشَّهادتين.
  • وصنف المؤمنين بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
  • وَصِنْفٌ أَقَرُّوا بِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا.

وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَانَ مُقِرًّا بِالشَّهَادَتَيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا زِنْدِيقًا، وَالزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ.

وَهُنَا يَظْهَرُ غَلَطُ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَّرَ كُلَّ مَنْ قَالَ الْقَوْلَ الْمُبْتَدَعَ فِي الْبَاطِنِ، يَلْزَمُهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَقْوَامًا لَيْسُوا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقِينَ، بَلْ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُذْنِبِينَ، كَمَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ اسْمُهُ: عَبْدَاللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ: حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ جَلَدَهُ مِنَ الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ! مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنه يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

................

الشيخ: ويحتج بهذا على تحريم لعن المعين، كما اختار هذا شيخُ الإسلام ابن تيمية وجماعة، قالوا: العاصي المعين لا يُلعن، مثل: السارق، وشارب الخمر، لكن لا بأس بلعنه على العموم: لعن الله السارق، لعن الله شارب الخمر، لعن الله الفاسقين، لعن الله الظالمين، أما فلان بن فلان بعينه فلا يُلعن؛ لأنه قد يتوب ويتوب الله عليه، ولا ينبغي أن يُلعن، بل يكفيه الحدّ الشرعي؛ ولهذا قال: لا تلعنوه؛ فإنه يُحب الله ورسوله، قد يشرب الخمر، ولكن عنده إيمان، عنده حب، ولكنه بُلِيَ بهذه البلية، وصارت عادةً -نسأل الله العافية- لا يتمالك نفسه منها، فلا ينبغي لعنه، ولكن يُدعا له بالهداية، بخلاف اللَّعن العام؛ لعن العاصي: لعن الله السارق، لعن الله الراشي والمرتشي، وما أشبه ذلك.

.............

س: ما علمتُ إنَّه يُحب الله ورسوله؟

ج: إنه ليُحب الله ورسوله، يعني: مدة علمي، ما علمتُ إنه يُحب الله ورسوله.

س: اللام غير موجودةٍ؟

ج: ما يُخالف.

س: إذن يُوقف على "ما علمتُ" ثم ........؟

ج: .....؛ لأنه يُحب الله ورسوله حسب علمي به، حسب ما أعلمه.

س: ما علمتُ؟

ج: ظرفية ......: مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31].

س: ما علمتُ عليه يعني؟

ج: مدة علمي أنه يُحب الله ورسوله.

س: ما علمتُ عليه شيئًا؟

ج: مدة علمي به.

س: مُتعلق العلم؟

ج: مدة علمي بحاله.

............

وَهَذَا أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فِي طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ وَأَئِمَّةٍ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَفِيهِمْ بَعْضُ مَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ أَوِ الْمُرْجِئَةِ أَوِ الْقَدَرِيَّةِ أَوِ الشِّيعَةِ أَوِ الْخَوَارِجِ، وَلَكِنَّ الْأَئِمَّةَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا يَكُونُونَ قَائِمِينَ بِجُمْلَةِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ، بَلْ بِفَرْعٍ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا انْتَحَلَ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ لِطَوَائِفَ مِنَ السَّلَفِ الْمَشَاهِيرِ.

الشيخ: انتسبوا يعني.

فَمِنْ عُيُوبِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَكْفِيرُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمِنْ مَمَادِحِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ يُخَطِّئُونَ وَلَا يُكفِّرون.

الشيخ: يقولون: أخطأ فلان، غلط فلان، ولا يقولون: كفر فلان، إلا على بصيرةٍ.

وَلَكِنْ بَقِيَ هُنَا إِشْكَالٌ يَرِدُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ سمَّى بعض الذُّنوب: كفرًا، قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وَقَالَ ﷺ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَالَ ﷺ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عمرو .

الشيخ: بالواو؟

الطالب: نعم.

الشيخ: حطّ عليه إشارة، يُراجع مسند ابن عمر.

الطالب: في الحاشية يقول: من حديث ابن عمر.

الشيخ: يُراجع.

وَقَالَ ﷺ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حديث عبدالله بن عمر .

الشيخ: هذا غلط، بل هو من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص.

الطالب: عندنا تعليق شاكر، يقول: في المطبوعة "ابن عمرو" وهو خطأ، والحديثان من رواية عبدالله بن عمر، انظر للأول في البخاري ومسلم، والثاني في البخاري ومسلم.

الشيخ: مَن هذا المحشي؟

الطالب: أحمد شاكر.

الشيخ: لا، غلط، الأخير ما هو من حديث ابن عمر، بل من حديث عبدالله بن عمرو، أما الأول ما أدري، محل نظرٍ: فقد باء بها أحدهما، أما هذا أربع مَن كنَّ فيه كان منافقًا من حديث عبدالله بن عمرو، وهو من حديث الأربعين، الحديث الثاني والأربعون، ولا يمنع أن يكون جاء من طريقين الحديث عن عبدالله بن عمرو، وابن عمر، ينبغي له أن لا يكتفي بالواو، ينبغي له أن يكمل: عبدالله بن عمر بن الخطاب، عبدالله بن عمرو بن العاص .......، وإن كان لا يضرّ، كلاهما إمام ثقة رضي الله عنهما، ولا يضرّ كونه من حديث ابن عمر أو ابن عمرو من حيث المعنى، لا يضرّ، ولكن حيث الفائدة.

وَقَالَ ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ، وَقَالَ ﷺ: بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ .

وَقَالَ ﷺ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ، أَوْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ.

الشيخ: امرأة في دبرها؟

الطالب: نعم.

الشيخ: حطّ عليه إشارة، الذي أتذكر أنه الحائض، ولعله جمع بينهما: في دبرها، أو الحائض، والذي أذكر في هذا الحديث هو الحائض ..... ما قال المعلّق عليه؟

الطالب: تعليق، قال: صحيح، وهو مخرج في "آداب الزفاف".

الشيخ: يُراجع في "آداب الزفاف"، ويُراجع في الترمذي أيضًا.

.............

الشيخ: ظاهره النِّفاق، ويُعلم ويُنصح: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النِّفاق" كما قال ابن مسعودٍ ، معناه .......

س: قد يُصلي في البيت وقد لا يُصلي؟

ج: ظاهره النِّفاق والشرّ، يُعلَّم.

............

وَقَالَ ﷺ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا اللَّفْظِ.

الشيخ: رواه الترمذي والحاكم بلفظ: فقد كفر أو أشرك، ورواه أبو داود أيضًا، كلهم رووه بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

س: اللَّفظ الذي جاء به الشارح: بين المسلم وبين الكفر ما ورد؟

ج: يُراجع ..... المعنى صحيح: بين المسلم ظاهره الإسلام وبين الكفر والشرك ترك الصلاة، فإذا تركها خرج من الإسلام.

............

وَقَالَ ﷺ: ثِنْتَانِ فِي أُمَّتِي هما بهم كفر: الطَّعن في الأنساب، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ.

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

الشيخ: هذا أيضًا رواه مسلم بلفظ: اثنتان في الناس هما بهم كفر.

الطالب: علَّق عليه، قال: ورواه مسلم بلفظ: اثنتان في الناس، والباقي مثله.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ، إِذْ لَوْ كَفَرَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ لَكَانَ مُرْتَدًّا يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَفْوُ ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ! وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ وَفَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ إِذْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إِلَى أَنْ قَالَ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، فَلَمْ يُخْرِجِ الْقَاتِلَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ، وَالْمُرَادُ أُخُوَّةُ الدِّينِ بِلَا رَيْبٍ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:9- 10].

وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ وَالسَّارِقَ وَالْقَاذِفَ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ.

الشيخ: الزاني يعني: البكر غير المحصن، الزاني البكر، والقاذف والشَّارب وأشباههم لا يُقتلون، وإنما يُؤدَّبون بالحدود، فلو كان العاصي كافرًا لوجب أن يُقتل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: مَن بدَّل دينَه فاقتلوه، فإنَّ هذا يعمّ جميع المرتدين، فلو كان العاصي مُرتدًّا كما تقوله الخوارج لوجب قتله مطلقًا، ولكن مذهب الخوارج من أبطل الباطل؛ ولهذا قال فيهم النبيُّ ﷺ: إنهم شرُّ الخلق والخليقة، وقال فيهم: أينما لقيتُموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم، وقال: يحقر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وقراءتَه مع قراءتهم لغلوهم.

فالحاصل أنَّ مذهب أهل السنة والجماعة هو خلاف ما عليه المعتزلة والخوارج جميعًا، وأنَّ مذهب أهل السنة والجماعة أنَّ العاصي ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، ولكن ليس بكافرٍ كما تقوله الخوارج، وليس بمخلَّدٍ في النار إذا مات على ذلك، كما تقوله الخوارج والمعتزلة جميعًا، ولكنه مسلم ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، مسلم فاسق، تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه على قدر جريمته، ثم بعد ذلك مصيره إلى الجنة إذا كان مات على الإسلام والإيمان، مات على أصل الدِّين، لم يجحد ما أوجب الله، ولم يستحلَّ ما حرَّم الله.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ الْيَوْمَ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

فَثَبَتَ أَنَّ الظَّالِمَ يَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ يَسْتَوْفِي الْمَظْلُومُ مِنْهَا حَقَّهُ.

الشيخ: ما علَّق المحشي عليه؟

الطالب: أخرجه البخاري في المظالم والرقاق من حديث أبي هريرة، دون قوله: ثم أُلقي، وكذلك رواه أحمد، ولم أره في "صحيح مسلم".

الشيخ: هذا هو المعروف؛ أنه من أفراد البخاري، والمؤلف لفَّق بينه وبين حديثٍ آخر، الحديث الآخر رواه مسلم: المفلس مَن يأتي يوم القيامة بأعمالٍ من صلاةٍ وصومٍ، فيأتي وقد ضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وقذف هذا، فيُعطى هذا من حسناته، ويُعطى هذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من سيئاتهم فحُمل عليه ثم طُرح في النار، هذا في حديث المحاسبة، وحديث أبي هريرة المتقدم ليس فيه الزيادة هذه، والشارح لفَّق بينهما.

............

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، قَالَ: الْمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شَتَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: ما علَّق عليه؟

الطالب: بلى، رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، وهو مُخرَّج في "الصحيحة".

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ إِسَاءَتِهِ يَعْمَلُ حَسَنَاتٍ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

س: قوله: "وهذا مبسوط في موضعه"؟

ج: يعني: عند الرد على الخوارج والمعتزلة في كتب الرد .......

وَالْمُعْتَزِلَةُ مُوَافِقُونَ لِلْخَوَارِجِ هُنَا فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ مُخلَّدٌ في النار، لكن قَالَتِ الْخَوَارِجُ: نُسَمِّيهِ كَافِرًا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: نُسَمِّيهِ فَاسِقًا. فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ فَقَطْ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ! وَإِذَا اجْتَمَعَتْ نُصُوصُ الْوَعْدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْمُرْجِئَةُ، وَنُصُوصُ الْوَعِيدِ الَّتِي اسْتَدَلَّتْ بِهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ -تَبَيَّنَ لَكَ فَسَادُ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ سِوَى أَنَّكَ تَسْتَفِيدُ مِنْ كَلَامِ كُلِّ طَائِفَةٍ فَسَادَ مَذْهَبِ الطائفة الأخرى.

ثم بعد هذا الاتِّفاق تبين أنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا خِلَافًا لَفْظِيًّا، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ الْكُفْرُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرًا دُونَ كُفْرٍ؟ كَمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ يَكُونُ الْإِيمَانُ عَلَى مَرَاتِبَ، إِيمَانًا دُونَ إِيمَانٍ؟ وَهَذَا اخْتِلَافٌ نَشَأَ مِن اخْتِلَافِهِمْ فِي مُسَمَّى "الْإِيمَانِ": هَلْ هُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، أَمْ لَا؟ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ كَافِرًا نُسَمِّيهِ كَافِرًا، إِذْ مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كَافِرًا، وَيُسَمِّيَ رَسُولُهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَافِرًا، وَلَا نُطْلِقُ عَلَيْهِمَا اسْمَ "الْكُفْرِ".

وَلَكِنْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ: هُوَ كُفْرٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَالْكُفْرُ عِنْدَهُ عَلَى مَرَاتِبَ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، كَالْإِيمَانِ عِنْدَهُ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَلَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ، وَلَا يَزِيدَانِ وَلَا يَنْقُصَانِ؛ قَالَ: هُوَ كُفْرٌ مَجَازِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، إِذِ الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ هو الذي ينقل عَنِ الْمِلَّةِ.

وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِالْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِنَّهَا سُمِّيَتْ إيمانًا مجازًا؛ لتوقف صحَّتها على الْإِيمَانِ، أَوْ لِدِلَالَتِهَا عَلَى الْإِيمَانِ، إِذْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ مُؤَدِّيهَا مُؤْمِنًا؛ وَلِهَذَا يُحْكَمُ بإسلام الكافر إذا صلَّى صلاتنا، فليس بين فقهاء الملَّة نِزَاعٌ فِي أَصْحَابِ الذُّنُوبِ إِذَا كَانُوا مُقِرِّينَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا تواتر عنه أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ.

الشيخ: والقصد من هذا التوفيق بين مذهب أهل السنة والجماعة وبين المرجئة في العمل: كأبي حنيفة ومَن قال بقوله، والمؤلف ينتسب إلى الأحناف، وقول الأحناف في هذا أنه لا يزيد ولا ينقص من جهة العمل، ولكنه قول فقط وإقرار، وهذا في الحقيقة غلط، والجمهور قولهم هو الصواب: يزيد وينقص، قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، والكفر كفران: كفر أكبر، وكفر أصغر، وهكذا الظلم، وهكذا الفسق، فليس مجازًا، بل هو كفر حقيقة، لكنه كفر ناقص، كفر مَن سبَّ والديه، كفر مَن تبرأ من والديه، كفر أصحاب النِّياحة والطَّعن في الأنساب، كفر دون كفرٍ، وظلم دون ظلمٍ.

ولهذا يضرّ عموم المعاصي أهل الإيمان، وتنقص إيمانهم، خلافًا للمُرجئة، لكنَّها لا تجعل إيمانهم كالعدم كما تقوله الخوارج، لا، بل إيمانهم موجود، لكنه ناقص وضعيف، يستحق به الذَّنب، ويستحق به الوعيد على هذه المعاصي.

فالحاصل أنَّ جمهور أهل السنة والجماعة يُخالفون المرجئة في إخراجهم الأعمال من الإيمان، ويقولون: إنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، هذا هو قول أهل السنة والجماعة، خلافًا للخوارج والمعتزلة.

والخوارج والمعتزلة فارقوا أهلَ الإيمان عند الزيادة والنَّقص، والمرجئة -مرجئة الفقهاء- خالفوا أهل الإيمان والسنة بجعل العمل من الإيمان.

س: وقوله: الخلاف لفظي؟

ج: ليس بجيدٍ، بل هو خلاف مؤكد، خلاف معنوي ولفظي جميعًا؛ لأنَّ أهل السنة والجماعة يقولون: العاصي ليس بكامل الإيمان، بل ناقص الإيمان، وعلى قول مَن أخرج العمل من الإيمان يكون إيمانه كاملًا.

س: هل يُبَدَّعون بهذا؟

ج: نعم، بدعة من أهل البدع.

س: أليس يقولون: إنه يُعاقب في الآخرة؟

ج: الظاهر والله أعلم أنهم يقولون بهذا؛ لأنَّ هذا أمر معلوم من الدِّين بالضَّرورة، يستحق العقابَ مَن مات على الزنا، ومَن مات على السرقة، ومَن مات على القذف ولم يتب، لا ينبغي أن يقولوا خلاف ذلك، يعني: مرجئة الفقهاء، وقد يقال: من هذه الحيثية إنه خلاف لفظي، ولكن بكل حالٍ فإنَّ إخراج العمل من الإيمان ليس بالأمر السَّهل.

..............

وَلَكِنَّ الْأَقْوَالَ الْمُنْحَرِفَةَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ: كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَلَكِنَّ أَرْدَأَ مَا فِي ذَلِكَ التَّعَصُّبُ على مَن يُضادهم، وَإِلْزَامُهُ لِمَنْ يُخَالِفُ قَوْلَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ، وَالتَّشْنِيعُ عَلَيْهِ!

وَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِالْعَدْلِ فِي مُجَادَلَةِ الْكَافِرِينَ، وَأَنْ يُجَادَلُوا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَكَيْفَ لَا يَعْدِلُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْخِلَافِ؟! قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى الآية [المائدة:8].

وَهُنَا أَمْرٌ يَجِبُ أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً: كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَيَكُونُ كُفْرًا: إِمَّا مَجَازِيًّا، وَإِمَّا كُفْرًا أَصْغَرَ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. وَذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ: فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، أَوِ اسْتَهَانَ بِهِ مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ؛ فَهَذَا كَفْرٌ أَكْبَرُ.

الطالب: علَّق عليه، قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا مثلما ابتُلي به الذين درسوا القوانين الأوروبية من رجال الأمم الإسلامية ونسائها أيضًا، الذين أُشربوا في قلوبهم حبّها، والشَّغف بها، والذَّب عنها، وحكموا بها، وأذاعوها بما ربوا من تربيةٍ أساسها صنع المبشرين الهدَّامين أعداء الإسلام. ومنهم مَن يُصرح، ومنهم مَن يتوارى. ويكادون يكونون سواء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وَإِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَعَلِمَهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ مَعَ اعترافه بأنَّه مُستحق للعقوبة، فهذا عَاصٍ، وَيُسَمَّى: كَافِرًا كُفْرًا مَجَازِيًّا، أَوْ كُفْرًا أَصْغَرَ. وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا، مَعَ بَذْلِ جُهْدِهِ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وأخطأ، فَهَذَا مُخْطِئٌ، لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ.

الشيخ: وهذا التَّفصيل هو الحقّ والواجب عند أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله، فإنَّ الناس فيه أنواع:

النوع الأول: وهو شرّ الأقسام: أن يرى أنَّ الحكم بما أنزل الله غير مناسبٍ ويجوز تركه، ويرى أنَّ الحاكم مُخيَّر: إن شاء حكم بالشرع، وإن شاء حكم بغيره، فليس لازمًا أن يحكم به، سواء قال: إنَّ الشريعة أفضل، أو قال: إنَّ الحكم بالقانون أفضل، أو قال: كلا الأمرين جائز، فهو ردَّة عن الإسلام وكفر أكبر.

إذا رأى أنَّ الحكم بما أنزل الله ليس واجبًا، وأنَّ الناس مُخيَّرون: إن شاءوا حكموا بما أنزل الله، وإن شاءوا حكموا بغير ما أنزل الله، هذا كفر وردَّة عن الإسلام مطلقًا، سواء فضَّل حكم الطَّاغوت، أو فضَّل حكم الشرع، أو جعلهما سواء في أي الأقسام الثلاثة، فهو كفر وردَّة عن الإسلام؛ لكونه جحد وجوبَ ما أنزل الله، وهذا الجحد يُوجب الردة، فإنَّ من قواعد الإسلام ومن أصول الإسلام: أنَّ إنكار العبد لما أوجب الله مما عُلم من الدِّين بالضَّرورة ومذهبه أنه ليس بواجبٍ، أو استحلاله ما حرَّم الله مما عُلم من الدِّين بالضَّرورة أنه محرم: كالزنا والسرقة ونحو ذلك؛ فإنَّ هذا ردَّة بالإجماع، ومن نواقض الإسلام بالإجماع.

ولا بدَّ أن يكون الحكمُ بما أنزل الله مما عُلم من الدِّين بالضَّرورة أنه واجب، وأنه لازم؛ لآيات وردت في ذلك: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

هذه الآيات وما جاء في معناها كلها واضحة في وجوب الحكم بما أنزل الله، فإذا جحده جاحدٌ وأنكره منكِرٌ، وقال: يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، وإن فضل الشريعة على ذلك، فإنه يكون بهذا جاحدًا لهذا الأمر العظيم، ويكون منكرًا لما أوجبه الله.

أما مَن عرف الحكم، وأنه حق، وأنَّ الواجب الحكم به، ولكنَّه مال عن ذلك لشهوةٍ أو رشوةٍ، ويعلم أنه عاصٍ، وأنه قد فعل منكرًا عظيمًا، هذا له حكم أمثاله من أصحاب الكبائر، وقد وقع في كفرٍ، كما سمَّاه الله كفرًا، ويُسمَّى: كفرًا أصغر.

النوع الثالث: حكم بغير ما أنزل الله عن جهلٍ بعد اجتهاده وتحريه الحقّ وطلبه الحقّ، واستقصى وسعه في طلب الحقِّ، ولكنه صادف أنَّ حكمه ما وافق الشرع، بعد اجتهاده وحرصه وإخلاصه، فهذا له حكم أمثاله من المجتهدين المخطئين، ويكون له أجر الاجتهاد، ويفوته أجر الصواب؛ لما ثبت في "الصحيحين" من حديث عمرو بن العاص : أن النبي ﷺ قال: إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.

هذا هو الحكم الفيصل في هذا المقام الذي يجب المصير إليه عند أهل السنة والجماعة، وعند أهل الحقِّ.

س: النوع الثاني في حادثةٍ واحدةٍ، أو في جميع الأحكام؟

ج: في حادثةٍ، أو في أحكامٍ.

س: قولهم: كفرًا مجازًا؟

ج: على طريقة أهل المجاز، يتوسع في تسميته: كفرًا، يجوز أن يُسمَّى: كفرًا، ويجوز أن يُنفى عنه الكفر، فإن أُريد بالكفر الأكبر نُفي عنه، وإن أُريد بالكفر الأصغر جاز أن يُوصف به، المجاز عندهم ما يجوز نفيه، أو ما تُجيزه اللغة وتوسع به اللغة، على الخلاف في اصطلاح أهل المجاز.

س: هناك نوع الآن في العالم الإسلامي ليس واضحًا في أي الأقسام يكون؛ إنسان حاكم يصر على الحكم بغير ما أنزل الله في كل الأحكام، بل يُشرع غير ما أنزل الله، ويُلزم الناس به، ولا يتعرض: هل يعتقد أنَّ حكم الله كذا وكذا؟ لا يتعرض لهذا، لكن يُلزم الناس بغير ما أنزل الله، والذي يعترض عليه يُعاقبه، فهو لا يُصرح بلسانه أنه لا يعتقد؟

ج: الأصل التَّفصيل، هذا هو الأصل، والذي يظهر من حالهم أنهم يستحلُّون الحكمَ بغير ما أنزل الله، هذا الذي يظهر من حالهم، لكن الحكمَ عليهم بأنَّ كفرهم أكبر محل نظرٍ، وإلا ظاهر حالهم استحلالهم، وظاهر حالهم وتصرفاتهم أنهم يرونه أولى، أو أنه ألزم، أو ما أشبه ذلك، أو يتألَّفون به الناس بزعمهم، أو غير ذلك من الأشياء، فالذي يظهر من حالهم -والعياذ بالله- أنه كفر أكبر، هذا ظاهر من حالهم، لكن ما لم يُصرِّحوا بذلك يجب التَّوقف؛ لأنه قد يكون الهوى ومُراعاة أمور لسياستهم دعتهم إلى هذا، مع إيمانهم بقلوبهم أنَّ هذا خطأ، وأنه خطأ أُلجئوا إليه بزعمهم، نسأل الله السلامة.

س: هل يكون كالحُكَّام الفسقة، أو يكون من الكفر الظاهر؟

ج: هذا لا شكَّ فيه الفسق والكفر الأصغر، هذا لا شكَّ فيه، أم الكلام في: هل كفروا كفرًا أكبر؟ هل هم مُرتدُّون أم لا؟ هذا محل نظرٍ، إذا لم يُصرِّحوا بأنه جائز؛ لأنَّ عملهم يقتضي ذلك، الأصل لزوم الأصل؛ ألا يكفروا إلا بعد المعرفة أنهم استجازوا واستحلُّوا.

س: قرائن الأحوال ما تكفي؟

ج: قرائن الأحوال تقتضي أنهم يستجيزونه، لكن الحكم بالردة أمر وراء ذلك.

س: إذا لم نحكم عليه بالكفر ألا يجوز أن نعتبر هذا من الكفر البواح الذي يُرَى: إلا أن تروا كفرًا بواحًا؛ ولذلك يقتضي الخروج عليهم؟

ج: ظاهر كلام كثيرٍ من أهل العلم أنَّ مثل هذا إذا كان فيه قوة قادرة ودولة قادرة تستطيع أن تُلزمه وأن تُقاتله على ذلك فلهم ذلك، حتى لو كانوا دون هذا الشيء، لو كانت لهم قوة قادرة تستطيع إلزامهم بهذا الشيء: إما أن تلتزم بهذا الشيء وإلا قاتلناك. هذا ذكره الشيخُ تقي الدين ابن تيمية، وإجماع أهل العلم على هذا، إذا وُجدت دولة لا تحكّم الشريعة، أو لا تمنع الخمر، أو لا تمنع الربا، أو لا تمنع كذا، أو لا تمنع كذا، وجب على الدولة الإسلامية أن تُلزمها بهذا الشيء، وأن تُقاتلها إذا أصرَّت وأبت.