إحرام أهل مكة

والمشروع لجميع مَن أراد الحجَّ من المحلِّين بمكة أو من أهل مكة أن يُحرموا هذا اليوم بالحجِّ؛ لأن النبي ﷺ أمر أصحابه الذين حلّوا معه أن يُحلوا بالحجِّ هذا اليوم - اليوم الثامن - هذا هو السنة؛ أن يُصلوا بمنى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين قصرًا بدون جمعٍ، كل صلاةٍ بأذانٍ وإقامةٍ، والفجر بأذانٍ وإقامةٍ مع سنتها الراتبة، هكذا فعل عليه الصلاة والسلام في أيام منى، ولما طلعت الشمسُ توجَّه من منى إلى عرفات في اليوم التاسع، ونزل في نمرةٍ في قبةٍ له هناك، فلما زالت الشمس ركب ناقته عليه الصلاة والسلام، وخطب الناس، وذكَّرهم، وأخبرهم أنَّ أمور الجاهلية موضوعة متروكة: من ربا، ودماء الجاهلية كلها موضوعة، وجميع أمور الجاهلية موضوعة، وقال لهم ﷺ: إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

وقال لهم عليه الصلاة والسلام: استوصوا بالنساء خيرًا، أوصاهم بالنساء قال: استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن خُلقن من ضلعٍ، وإن أعوج شيء في الضِّلع أعلاه، فإذا ذهبتَ تُقيمه كسرته، فاتَّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتُموهن بأمانة الله، واستحللتُم فروجهن بكلمة الله، فاستوصوا بهن خيرًا، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولكم عليهن ألا يُوطئن فُرشكم مَن تكرهون، وألا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، على المرأة ألا تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه، وألا يطأ فراشه أحدٌ إلا بإذنه، يعني: لا يدخل بيته إلا مَن أذن له، وعلى الزوج أن يتَّقي الله في الزوجة، وأن يستوصي بها خيرًا، وأن يُعاشرها بالمعروف، وأن يُؤدي حقَّها، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وعليها هي أيضًا أن تتقي الله في زوجها، وأن تُعاشره بالمعروف، وأن تحذر عصيانه في المعروف.

وقال ﷺ أيضًا في خطبته: إني تاركٌ فيكم ما لم تضلوا إن اعتصمتُم به: كتاب الله القرآن، إني تارك فيكم ما لم تضلوا إن اعتصمتُم به: كتاب الله يعني: وسنتي كما في الرواية الأخرى؛ لأنَّ كتاب الله يأمر بالسنة، كتاب الله يأمر باتباع القرآن والسنة؛ قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال - جلَّ وعلا -: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13- 14].

فالواجب على جميع الثَّقلين - الجنّ والإنس - الذكور والإناث، العرب والعجم، الملوك والعامَّة، الواجب على الجميع أن يتَّقوا الله، وأن يتبعوا كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأن يحذروا ما نهى الله عنه، هذا الواجب على الجميع؛ ولهذا قال لهم النبيُّ ﷺ في نصيحته يوم عرفة: إني تارك فيكم ما لم تضلوا إن اعتصمتُم به: كتاب الله.

فالواجب الاعتصام بكتاب الله: بالقرآن، التَّمسك به: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وقال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، وقال تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إذا تنازع الناس في شيءٍ وجب ردُّه إلى القرآن، وإلى الرسول ﷺ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59] يعني: وأحسن عاقبةً عند النزاع بين الناس، أو بين الأمراء وغيرهم، الواجب الرد إلى الكتاب والسنة، إذا اختلفوا في شيءٍ وأشكل حكمه الواجب ردّه إلى القرآن والسنة: هل هو واجب؟ هل هو محرم؟ هل هو مستحب؟ هل هو مباح؟ القرآن والسنة يُبينان ذلك، هذا هو الواجب على جميع الأمة.

ثم قال لهم بعد هذا عليه الصلاة والسلام: وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ تُسألون يوم القيامة، كل أمةٍ تُسأل عن نبيِّها: هل بلَّغها؟ وهذه الأمة تُسأل يوم القيامة: هل بلَّغها محمد؟ قال: وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأديتَ ونصحتَ عليه الصلاة والسلام، هكذا قال الصحابةُ لما قال لهم: أنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلغتَ - يعني الرسالة - وأدَّيتَ الأمانة، ونصحت الأمة عليه الصلاة والسلام، هكذا قالوا .

ونحن نشهد أيضًا بذلك؛ نشهد أنه قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة عليه من ربِّه أفضل الصلاة والتَّسليم، حتى نشهد كما شهد الصحابة، ونُشهد الله أنه قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد عليه من ربِّه أفضل الصلاة والتسليم.

ونشهد أنَّ الصحابة قد بلَّغوا، الصحابة بلَّغوا أيضًا عن الرسول، بلَّغوا أفعاله وأقواله .

فالواجب على جميع الأمة العمل بالقرآن والسنة، والتواصي بذلك، والتعاون في ذلك، هذا هو الواجب على الجميع.

وخطبهم أيضًا مثل ذلك في يوم النحر عليه الصلاة والسلام، وقال في خطبته في يوم عرفة: مَن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل، الذي ما حصَّل إزارًا يلبس السراويل، ومَن لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين، الذي ما تحصل له نعلان، ما تيسر له نعلان، يلبس الخفَّين، وقد قال سابقًا: وليقطعهما أسفل من الكعبين، ثم نسخ الله ذلك، وقال لهم في خطبته بعرفة: ومَن لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين، ولم يأمر بقطعهما، فدلَّ ذلك على أنهما يُلبسان من دون قطعٍ، هكذا قال لهم عليه الصلاة والسلام.

ثم بعد ذلك أمر بالأذان فأذن، ثم صلَّى الظهر ركعتين، ثم صلَّى العصر ركعتين، بإقامةٍ لكل واحدةٍ، صلَّى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ثم تقدم لعرفة، ويأتي البحثُ في هذا إن شاء الله في درس الصباح غدًا إن شاء الله، لكن اليوم نُصلي هنا العصر ركعتين كما صلينا الظهر ركعتين، ونُصلي المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، ما في نوافل – الرواتب - ما في رواتب، الأفضل تركها، لكن مَن يبغي أن يُصلي الضحى، يتهجد في الليل؛ لا بأس، مستحب، لكن الرواتب مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ما في رواتب، أما الفجر تُصلَّى راتبتها مع السنة ثنتين قبلها، الفجر في السفر والحضر، في الحجِّ وغيره.

والليلة المبيت في منى مُستحب، لو أنَّ إنسانًا ما بات في منى الليلة، بات في مكة، أو في غيرها، ما في بأس، ما عليه حرج، لكن الأفضل أنه يأتي هنا، يُصلي الظهر وما بعدها هنا، يبيت هنا، هذا هو الأفضل كما فعله الرسولُ ﷺ وأصحابه، لكن لو أنَّ إنسانًا ما خرج إلا في الليل أو الصباح باكر فلا حرج عليه، ولا ذنبَ عليه، ولا شيء عليه، لكن ترك الأفضل، ترك الكمال.

والله المسؤول أن يُوفق الجميع لما يُرضيه، وأن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، وأن يتقبَّل منا ومنكم جميعًا، وأن يُصلح لنا ولكم القول والعمل، وأن يُعيذنا وإياكم من مُضلات الفتن، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ.

أما بعد: فإنَّ الله - جلَّ وعلا - إنما خلق الخلق ليُعبَد وحده لا شريكَ له، لم يخلقهم عبثًا ولا سدًى، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] يعني: مُعطلًا، مُهملًا، لا يُؤْمَر، ولا يُنْهَى، كلا، وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، هذا استفهام إنكار، ربنا يُنكر على الناس، مَن ظنَّ هذا الظن، ويقول - جلَّ وعلا -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، فالله سبحانه لم يخلقهم عبثًا ولا سدًى ولا باطلًا، ولكن الله خلق الثَّقلين ليُعبَد وحده لا شريكَ له؛ ليُطاع أمره، ولينتهى عن نهيه؛ لهذا خُلقوا، وبهذا أمروا، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56- 58]، فأخبر سبحانه أنه خلق الجنَّ والإنس ليُعبد، ومعنى "ليُعبد" يعني: ليُطاع أمره، ويُنتهى عن نهيه، هذه هي العبادة: طاعة الأوامر، وترك النواهي، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أمرهم بالعبادة التي خلقهم لها، وبعث الرسل بذلك عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].

فالواجب على جميع المكلَّفين من الجنِّ والإنس أن يعبدوا الله، وذلك بتعظيمه، والإخلاص له، وصرف العبادة له: من دعاءٍ وخوفٍ ورجاءٍ وتوكلٍ ورغبةٍ ورهبةٍ وذبحٍ ونذرٍ واستغاثةٍ وغيرها، كله لله وحده، فلا يُدعا أهل القبور، ولا يُدعا الجنّ، ولا يُستغاث بهم، ولا بالملائكة، ولا بالأنبياء، ولا بالكواكب، ولا بالأصنام، ولا بغيرها من المخلوقات، العبادة حقّ الله، الأنبياء والرسل يُتبعون ويُطاع أمرهم، ولكن العبادة لله، هو الذي يُعبد - جلَّ وعلا -، هو الذي يُطاع، أمر الله الرسلَ أن تُبلغ الناس أمره ونهيه، فعلى الناس أن يُطيعوا الله ورسوله، ويمتثلوا أمر الله ورسوله، وأن يُوجِّهوا القلوب إلى الله، ويدعوه سبحانه، ويستغيثوا به، وينذروا له، هو المعبود وحده - جلَّ وعلا -: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، هكذا يقول سبحانه، ويقول - عزَّ وجل -: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2- 3]، ويقول سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].

فالذين يدعون الأموات، ويستغيثون بالأموات: كالحسين أو البدوي أو ابن علوان أو غير ذلك، هذا شرك بالله، عبادة لغيره، أو يعبدون الجنَّ؛ يستغيثون بالجنِّ، أو ينذرون للجنِّ أو للأصنام أو للنجوم والكواكب، كل هذا شرك بالله، وعبادة لغير الله، وهذا هو الشرك الأكبر الذي قال الله فيه سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65- 66]، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].

فالواجب عليك يا عبدالله أن تخصَّ الله بالعبادة دون كلِّ ما سواه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فمَن مات على الشرك لا يُغفر له، أما مَن مات على الذنوب فهي تحت المشيئة، المعاصي تحت المشيئة: الزنا، السرقة، شرب المسكر، عقوق الوالدين، الربا، هذه كلها معاصٍ تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبها، وإن شاء عذَّبه في النار على قدر جرائمه، إلا أن يتوب، أما مَن مات على الشرك: يدعو الأموات، ويستغيث بالأموات وبأصحاب القبور، وينذر لهم، ويذبح لهم، أو للجن، أو للكواكب والنجوم؛ هذا من الشرك الأكبر، هذا لا يُغفر له، هذا إذا مات على هذا مات على الكفر، ليس له إلا النار، مُخلَّدًا فيها أبدًا، كما قال - جلَّ وعلا -: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال تعالى في الكفرة: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].

فعليك يا عبدالله أن تحذر الشرك بالله، وعليك أن تفقه في دينك، وأن تتعلم، وأن تكون على بصيرةٍ، فأعظم الواجبات وأهمها وأوجبها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، هذا أول واجبٍ، وأهم واجبٍ، وأعظم واجبٍ: أن تشهد عن علمٍ ويقينٍ وصدقٍ أن الله لا شريكَ له، وأنه المعبود بالحقِّ، لا إله إلا الله، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وقال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98].

فالواجب إخلاص العبادة لله، معنى "لا إله إلا الله" معناها: لا معبودَ حقّ إلا الله، هذا معناها: لا معبود حقّ إلا الله.

ولا بد أن تشهد أنَّ محمدًا رسول الله أيضًا مع ذلك، الشهادة الثانية: أن تشهد أنَّ محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي العربي المكي ثم المدني هو رسول الله حقًّا، هو رسول الله إلى جميع الناس، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، أمره الله أن يُبلغ الناس، قل يا محمد للناس: إني رسول الله إليكم جميعًا، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

فالواجب هو تعظيم الله، والإخلاص له، والإيمان به وبرسوله محمد، هذا أول واجبٍ، وهذا أعظم واجبٍ، وأول واجب أن تشهد عن علمٍ ويقينٍ وصدقٍ أنه لا معبودَ حقّ إلا الله، وهذا هو معنى "لا إله إلا الله"، وأن تشهد عن علمٍ ويقينٍ وصدقٍ أنَّ محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب هو رسول الله حقًّا إلى جميع الناس، إلى جميع الثَّقلين، وأنه خاتم الأنبياء، ليس بعده نبي، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] عليه الصلاة والسلام، وقال ﷺ: أنا خاتم النبيين، لا نبيَّ بعدي، هكذا يُخبر عليه الصلاة والسلام.

ثم بعد الشهادتين: الصلاة، هي أعظم الواجبات، وأهم الواجبات بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، يقول النبي ﷺ: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، فهي عمود الإسلام: الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، هذه الصلوات الخمس فرضٌ على الجميع في الليل والنهار، في السفر والحضر، في الصحة والمرض، خمس صلوات لا بدَّ منها، الرجل يُصليها في الجماعة في بيوت الله، في المساجد، والمرأة تُصليها في البيت، الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والفجر ثنتان، غير الرواتب، غير السنن والنوافل، هذه فرائض.

وفي السفر تقصر الظهر ثنتين، والعشاء ثنتين، والعصر ثنتين، إذا كان مسافرًا شرع الله أن يُصلي الظهر ثنتين، والعصر ثنتين، والعشاء ثنتين، في السفر خاصةً.

أما المريض فيُصلي أربعًا مثل غيره، لكن إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلَّى قاعدًا لأجل المرض، وإذا عجز عن الصلاة قاعدًا صلَّى على جنبه، وإذا عجز عن جنبه صلَّى مُستلقيًا المريض، لكن يُصلي أربعًا، لا يُصلي ثنتين، القصر إنما هو للمُسافر خاصةً.

بعض الجهلة إذا كان مريضًا يُصلي ثنتين، وهذا غلط، المريض يُصلي أربعًا: الظهر والعصر والعشاء أربع كالصحيح، أما القصر فإنما هو للمُسافر خاصةً؛ يُصلي الظهر ثنتين، والعشاء ثنتين، والعصر ثنتين، هذا للمُسافر خاصةً.

وبعد الصلاة: الزكاة، الركن الثالث من أركان الإسلام: زكاة المال، حقّ المال، لا بدَّ من زكاة المال للذي عنده تجارة أموال، والمزارع للذي عنده زراعة وعنده نخيل، لا بدَّ من الزكاة، لا بدَّ من أداء الزكاة، فرض، ركن، هو الركن الثالث من أركان الإسلام.

والرابع: صوم رمضان، لا بدّ منه في حقِّ الجميع، للرجال والنساء صوم رمضان.

الخامس: الحج، هو الركن الخامس مع العُمرة، هذا الركن الخامس، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وقال النبيُّ ﷺ: بُني الإسلام على خمسٍ يعني: على خمس دعائم وأركان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، هذه أركان الإسلام الخمسة الظاهرة.

أما أركانه الباطنة فهي ستة: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرِّه، كما بيَّن ذلك النبيُّ لجبرائيل، لما سأله جبرائيلُ الملك الكريم، أفضل الملائكة، نزل ذات يومٍ على النبي ﷺ وهو جالس بين أصحابه، فجاء إليه رجلٌ غريبٌ لا يعرفه الناسُ، فقال: «يا محمد، أخبرني عن الإسلام»، والصحابة حاولوا أن يسمعوه، فقال ﷺ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلًا، قال له جبرائيل: صدقتَ، ثم قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه، قال جبرائيل: صدقتَ، قال: أخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذه أسئلة جبرائيل، والناس يسمعون، فلما ولَّى أخبرهم ﷺ أنَّ هذا جبريل أتاهم يُعلِّمهم دينهم، أرسله الله لما جلسوا ولم يسألوا، جاء جبرائيل فسأل عن هذه الأمور العظيمة.

فأركان الإسلام الظاهرة الخمسة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، هذه أركان الإسلام الظاهرة، وأركانه الباطنة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وإذا أُطلق الإسلامُ دخل فيه الإيمان، وإذا أُطلق الإيمانُ دخل فيه الإسلام، فقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] يعني: والإيمان، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] يعني: والإيمان، الإيمان عمل القلب، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، لا بدَّ من الإسلام، ومَن تولَّى عن الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ فهو خاسر كافر، يهودي أو نصراني أو شيوعي أو وثني، كل مَن أعرض عن الإسلام ولم يستجب فهو كافر ضال، ليس له إلا النار يوم القيامة، نسأل الله العافية.

فالواجب عليك يا عبدالله أن تفقه في دينك، وأن تُبصر عندك القرآن والحمد لله، تعلم بالقرآن، تدبر القرآن، فيه الدلالة على كل خيرٍ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].

فالواجب على الأمة تدبر القرآن، والعمل بالقرآن، مع سنة الرسول ﷺ وأحاديثه؛ لأنَّ الله قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، سنة الرسول ﷺ الصحيحة تُفسر القرآن، وتُبين معانيه، وفيها أحكام كثيرة لم تُذكر في القرآن، جاء بها النبيُّ ﷺ.

فالواجب على الأمة جميعًا - جنهم وإنسهم - التَّدبر للقرآن، والعمل بالقرآن والسنة، وطاعة الله ورسوله، والحذر مما نهى الله عنه ورسوله؛ حتى تلقى ربَّك، حتى الموت، عليك أن تستقيم حتى الموت، قال - جلَّ وعلا -: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

فعليك يا عبدالله أن تستقيم على دين الله، وأن تحذر محارم الله، وأن تُبصر في دينك، وأن تنصح إخوانك، وأن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، هكذا المؤمن، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، هذه أوصاف المؤمنين، هذه أخلاقهم: أولياء، أحبَّة فيما بينهم، ليس بينهم شحناء ولا عداوة، المؤمن لا يُؤذي أخاه، ولا يُشاحنه، ولا يكذب عليه، ولا يظلمه، ولا يخونه، ولكن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، هكذا المؤمنون والمؤمنات؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، المعروف: ما شرعه الله، والمنكر: ما نهى الله عنه.

وقال ﷺ: مَن رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، وقال - جلَّ وعلا -: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

هكذا المؤمنون الرابحون، كلهم في خسارةٍ إلا الذين آمنوا، الناس في خسارةٍ جنهم وإنسهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات، الذين آمنوا بالله ووحَّدوه، وأخلصوا له العبادة، وعملوا بطاعته، وتركوا معصيته، وتواصوا بالحقِّ فيما بينهم، وتناصحوا، وتواصوا بالصبر، فهؤلاء هم الرابحون، هم السُّعداء، وهم المذكورون في قوله - جلَّ وعلا -: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].

نسأل الله أن يُوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة على دين الله، والحذر مما نهى الله عنه، والتواصي بالصبر، والتعاون على البر والتقوى حتى الموت.

هذا الواجب على الجميع، والواجب على كل إنسانٍ أن يُعلم غيره مما علَّمه الله، في بلده، وفي غير بلده، في البر والسفر، في الباخرة وفي الطائرة، في كل وقتٍ عليه أن يُعلم وأن ينصح، سواء كان في برٍّ، أو في بحرٍ، أو في جوٍّ، في بلده، أو في غير بلده؛ لأنَّ الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، ويقول: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ[العصر:3]، ويقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33]، ويقول - جلَّ وعلا -: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، ويقول سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

وفَّق الله الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.

أما ما يُفعل من الوقوف غدًا بعرفة يكون في درس الصبح إن شاء الله، في درس الفجر إن شاء الله يأتي ما يتعلق بعرفة. وفَّق الله الجميع.