01 من بداية الكتاب

قال الإمام القاضي أبو الحسن علي بن علي بن محمد ابن أبي العز الدمشقي الحنفي المتوفى سنة 792:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حسبي الله ونعم الوكيل،

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ، إِذْ شَرَفُ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَهُوَ الْفِقْهُ الْأَكْبَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِقْهِ الْفُرُوعِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحمه الله تعالى - مَا قَالَهُ وَجَمَعَهُ فِي أَوْرَاقٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: "الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ".

وَحَاجَةُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ حَاجَةٍ، وَضَرُورَتُهُمْ إِلَيْهِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلْقُلُوبِ، وَلَا نَعِيمَ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ، إِلَّا بِأَنْ تَعْرِفَ رَبَّهَا وَمَعْبُودَهَا وَفَاطِرَهَا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيَكُون مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِمَّا سِوَاهُ، وَيَكُون سَعْيُهَا فِيمَا يُقَرِّبُهَا إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ.

وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ تَسْتَقِلَّ الْعُقُولُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَإِدْرَاكِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أَنْ بَعَثَ الرُّسُلَ بِهِ مُعَرِّفِينَ، وَإِلَيْهِ دَاعِينَ، وَلِمَنْ أَجَابَهُمْ مُبَشِّرِينَ، وَلِمَنْ خَالَفَهُمْ مُنْذِرِينَ، وَجَعَلَ مِفْتَاحَ دَعْوَتِهِمْ، وَزُبْدَةَ رِسَالَتِهِمْ: مَعْرِفَةَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِذْ عَلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تُبْنَى مَطَالِبُ الرِّسَالَةِ كُلِّهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا.

ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَعْرِيفُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَهِيَ شَرِيعَتُهُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَالثَّانِي: تَعْرِيفُ السَّالِكِينَ مَا لَهُمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِاللَّهِ أَتْبَعُهُمْ لِلطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَأَعْرَفُهُمْ بِحَالِ السَّالِكِينَ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ: رُوحًا؛ لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَيْهِ، وَنُورًا؛ لِتَوَقُّفِ الْهِدَايَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ الله تَعَالَى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[غافر:15]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52- 53].

فلَا رُوحَ إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا نُورَ إِلَّا فِي الِاسْتِضَاءَةِ بِهِ، وَهُوَ الشِّفَاءُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ[فصلت:44]، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ هُدًى وَشِفَاءً مُطْلَقًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُنْتَفِعُ بِذَلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ خُصُّوا بِالذِّكْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَلَا هُدَى إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إِيمَانًا عَامًّا مُجْمَلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي تَبْلِيغِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَدَاخِلٌ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، وَعِلْمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَحِفْظِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، والدعاء إِلَى سَبِيلِ الرَّبِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى أَعْيَانِهِمْ: فَهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قُدَرِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ، وَمَا أُمِرَ بِهِ أَعْيَانُهُمْ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ سَمَاعِ بَعْضِ الْعِلْمِ أَوْ عَنْ فَهْمِ دَقِيقِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النُّصُوصَ وَفَهِمَهَا مِنْ عِلْمِ التَّفْصِيلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي والْمُحَدِّثِ وَالْحَاكِمِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ ضَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ عَجَزَ فِيهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَتَرْكِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الْمُوَصِّلِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ضَلُّوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:123- 126].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.

الشيخ: وهذا من رحمة الله جلَّ وعلا، فإن الله خلق الخلق ليعبدوه، وقد بعث الرسلَ لهذا الأمر العظيم، وجعل دينه طريقًا إلى الجنة، والذي يُعرض عنه طريقًا إلى النار، ويجب على المكلَّف أن يتعلم من الدين ما لا يسعه جهله، حتى يعبد الله على بصيرةٍ، وحتى يُؤدي ما أوجب الله، ويدع ما حرَّم الله، فهذا الطريق هو الموصل إلى الله وإلى جنته، وهو اتباع شريعته، اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومَن أعرض عن ذلك ولم يرفع به رأسًا صار إلى النار.

فالله بعث الرسلَ وأنزل الكتبَ لبيان حقِّه على عباده، وهو سبحانه أوجب عليهم حقوقًا، فمَن أخذ بهذا الواجب وأدَّاه فله الجنة والكرامة، ومَن حاد عن ذلك وأعرض فله الخيبة والنَّدامة.

فالطريق إلى الله وهو: اتباع الرسل، والسير على منهاجهم، والتَّمسك بما جاءوا به، وتعلم ذلك والبصيرة فيه؛ فرض كفايةٍ، لكن على الفرد أن يتعلم ما لا يسعه جهله، على كل فردٍ أن يتعلم ما أوجب الله عليه، وما لا يسعه جهله، فيتعلم كيف يتوضأ، كيف يُصلي، كيف يصوم، كيف يحج إذا استطاع، كيف يبيع إذا كان يتعاطى البيع والشراء؛ حتى يعرف أحكام الله التي أوجب عليه.

وأما معرفة أمور الدين على العموم فهذا فرض كفايةٍ، لا بدَّ أن يكون في العلماء مَن يعرف أحكام الله على العموم؛ حتى يُعلمها الناس، فعلى أهل العلم أن يتبصَّروا بهذا الباب، وأن يجتهدوا حتى يبلغوا الناس دين الله، فإذا وُجد في البلد أو القبيلة من العلماء مَن يُعلمهم ويُوجههم صار ذلك في حقِّ الباقين سنة؛ لأنَّ هذا قام بالواجب في تعليمهم وتوجيههم إلى فعل الخير، لكن في حقِّ كل واحدٍ يلزمه أن يعرف ما أوجب الله عليه، وما حرَّم الله عليه، كل واحدٍ يتعلم ما أوجب الله عليه، وما حرَّم عليه؛ حتى يُؤديه على بصيرةٍ؛ لأنه خُلق لهذا، خُلق ليعبد الله، ولا طريقَ لعبادة الله إلا بالتَّفقه والتَّعلم؛ ولهذا يقول ﷺ: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين.

وكَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ، لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى من غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى.

الشيخ: هذا وصف القرآن الكريم، يُروى مرفوعًا، ويُروى موقوفًا على عليٍّ ، وهذا وصف كتاب الله: "فيه الهدى والنور" يعني: نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وهو الحكم فيما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، يجب اتِّباعه والسير على منهاجه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].

وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ دِينًا يَدِينُونَ به إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِدِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.

وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْعِبَادُ إِلَّا مَا وَصَفَهُ بِهِ الْمُرْسَلُونَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180- 182].

الشيخ: يعني: أنه مُنَزَّه عمَّا يقول الناس، إلا ما وافق ما جاء به كتابُه وسنةُ رسوله، فهو مُنَزَّه عمَّا قالت النصارى: أن عيسى ولد الله، أو قالت اليهود: أن عُزيرًا ابن الله، أو مقالة اليهود: إنَّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وما أشبه ذلك، وهو مُنزه عمَّا يقول الظالمون، وهو الغني الحميد، لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا، وهو العزيز الحكيم، له الأسماء الحسنى التي وصف بها نفسه، وهو مُنزه عمَّا يقوله الظالمون من الصِّفات التي ذمَّهم عليها وعابهم بها، وهو يُوصف بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله الصحيحة من أسمائه وصفاته جلَّ وعلا.

فَنَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلَامَةِ مَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، ثُمَّ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ.

وَمَضَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، يُوصِي بِهِ الْأَوَّلُ الْآخِرَ، وَيَقْتَدِي فِيهِ اللَّاحِقُ بِالسَّابِقِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ مُقْتَدُونَ، وَعَلَى مِنْهَاجِهِ سَالِكُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَنِي مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَدْعُو فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمُ الدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ فَهُوَ صَرِيحٌ أَنَّ أَتْبَاعَهُ هُمْ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ فِيمَا جَاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ.

وَقَدْ بَلَّغَ الرَّسُولُ ﷺ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، وَأَوْضَحَ الْحُجَّةَ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ خَيْرُ الْقُرُونِ.

ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَافْتَرَقُوا، فَأَقَامَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَحْفَظُ عَلَيْهَا أُصُولَ دِينِهَا، كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ ﷺ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ.

وَمِمَّنْ قَامَ بِهَذَا الْحَقِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الْأَزْدِيُّ الطَّحَاوِيُّ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، بَعْدَ الْمِئَتَيْنِ، فَإِنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِئَتَيْنِ، وَوَفَاتَهُ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِئَةٍ.

فَأَخْبَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَنَقَلَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَصَاحِبَيْهِ: أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحِمْيَرِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ - مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَكُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَكَثُرَ التَّحْرِيفُ الَّذِي سَمَّاهُ أَهْلُهُ: تَأْوِيلًا لِيُقْبَلَ، وَقَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ؛ إِذْ قَدْ يُسَمَّى صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فِي الْجُمْلَةِ: تَأْوِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَرِينَةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْفَسَادُ، فَإِذَا سَمَّوْهُ تَأْوِيلًا قُبِلَ وَرَاجَ عَلَى مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.

فَاحْتَاجَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى إِيضَاحِ الْأَدِلَّةِ، وَدَفْعِ الشُّبَهِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا، وَكَثُرَ الْكَلَامُ وَالشَّغَبُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ إِصْغَاؤُهُمْ إِلَى شُبَهِ الْمُبْطِلِينَ، وَخَوْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ الَّذِي عَابَهُ السَّلَفُ وَنَهَوْا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، فَإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ يَشْمَلُهُمْ.

وَكُلٌّ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالِانْحِرَافِ عَلَى مَرَاتِبَ: فَقَدْ يَكُونُ كُفْرًا، وَقَدْ يَكُونُ فِسْقًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً.

فَالْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ، وَاتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَه اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ خَتَمَهُمُ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَجَعَلَهُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُتُبِ السَّمَاءِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَجَعَلَ دَعْوَتَهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، بَاقِيَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَانْقَطَعَتْ بِهِ حُجَّةُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ.

الشيخ: وفي هذا يقول تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وأوحى الله إليه أن يلزم هذا الطريق: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]، فعلى الأمة أن تتبع هذا الطريق: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، هذا هو الطريق: لزوم هذا الكتاب، ولزوم السنة، هذا هو طريق النَّجاة، ومَن حاد عنهما هلك.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ خَبَرًا وَأَمْرًا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ طَاعَةً لَهُ، وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةً لَهُ، وَأَقْسَمَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوهُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.

الشيخ: كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وقال جلَّ وعلا: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، فألزم اتِّباعه، وأوجب علينا اتِّباعه، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ وهي الشرك أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ [الحشر:7]، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92]، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1- 4]، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ - وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَدُّوا صُدُودًا، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُحِسَّ الْأَشْيَاءَ بِحَقِيقَتِهَا، أَيْ: نُدْرِكَهَا وَنَعْرِفَهَا، وَنُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا: الْعَقْلِيَّاتِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ: جَهْلِيَّاتٌ! وَبَيْنَ الدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الرَّسُولِ، أَوْ نُرِيدُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ.

وَكَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ - مِنَ الْمُتَنَسِّكَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْأَعْمَالَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَبَيْنَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ "حَقَائِقَ"، وَهِيَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ.

وَكَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَمَلِّكَةِ وَالْمُتَأَمِّرَةِ: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِحْسَانَ بِالسِّيَاسَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وكُلُّ مَنْ طَلَبَ أَنْ يُحَكِّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا يُخَالِفُهُ - فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَافٍ كَامِلٌ، يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ.

وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّقْصِيرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَلَامِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْعِبَادِيَّةِ، وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِمَارَةِ السِّيَاسِيَّةِ، أَوْ نَسَبُوا إِلَى شَرِيعَةِ الرَّسُولِ بِظَنِّهِمْ وَتَقْلِيدِهِمْ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَخْرَجُوا عَنْهَا كَثِيرًا مِمَّا هُوَ مِنْهَا.

الشيخ: كل هذا بسبب الجهل والأهواء الضَّالة، ولا طريقَ إلى الله وإلى جنته إلا من طريق الكتاب والسنة، أما أهواء الناس والمتكلمين والخائضين بغير حقٍّ فهذه لا تُسمن ولا تُغني من جوعٍ، بل تُضل الناس، وإنما الطريق الذي يُوصل إلى الجنة والسعادة هو طريق القرآن والسنة: كتاب الله، وسنة رسوله، فمَن تمسك بهما وسار عليهما وتفقه فيهما فقد أخذ بطريق الجنة، ومَن تعلَّق بآراء الرجال ومقاماتهم ومذاهبهم وما أسَّسوه وما أوجدوه من آراء فإنه يهلك مع مَن هلك، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].

فلا طريقَ إلى الله وإلى جنته إلا من طريق الكتاب والسنة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].

فَبِسَبَبِ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ وَتَفْرِيطِهِمْ، وَبسبب عُدْوَانِ أُولَئِكَ وَجَهْلِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ كَثُرَ النِّفَاقُ، وَدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الرِّسَالَةِ، بَلِ الْبَحْثُ التَّامُّ، وَالنَّظَرُ الْقَوِيُّ، وَالِاجْتِهَادُ الْكَامِلُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِيُعْلَمَ وَيُعْتَقَدَ، وَيُعْمَلَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَيَكُونَ قَدْ تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَأَنْ لَا يُهْمَلَ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ ذَلِكَ، أَوِ الْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يَنْهَى عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، بَلْ حَسْبُهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ اللَّوْمُ لِعَجْزِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْرَحَ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ، وَيَرْضَى بِذَلِكَ، وَيَوَدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ، وَأَنْ لَا يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِ وَيَتْرُكَ بَعْضَهُ، بَلْ يُؤْمِنُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، وَأَنْ يُصَانَ عَنْ أَنْ يُدْخلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ: مِنْ رِوَايَةٍ أَوْ رَأْيٍ، أَوْ يَتَّبِعَ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42].

وَهَذِهِ كَانَتْ طَرِيقَةَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُهُمُ السَّلَفُ الْقَدِيمُ مِنَ التَّابِعِينَ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ.

الشيخ: هذه طريقهم، طريقهم اتِّباع الكتاب والسنة، والسير على منهاج الرسول ﷺ قولًا وعملًا، هذه طريق التَّابعين وأتباع التابعين، تبع الصحابة، كما قال جلَّ وعلا: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، وهو المراد في قوله جلَّ وعلا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6- 7] هم الرسل وأتباعهم، طريقهم هو طريق الكتاب والسنة، وهم المنعم عليهم، مَن اتَّبعهم سعد ونجا وفاز بالعاقبة الحميدة، ومَن حاد عن السبيل صار إمَّا من المغضوب عليهم، وإما من الضَّالين.

أما مَن عبد الله بآراء الرجال وعلوم لا تُسمن ولا تُغني من جوعٍ، وقدَّم آراء الضَّلال على الهدى، وضلَّ على علمٍ، ومَن ليس عنده علم صار تبع الضَّالين من النصارى وأشباههم، فاليهود عندهم علوم، ولكنها علوم فاسدة، تركوا بها الحقَّ واستكبروا وحسدوا المسلمين، فلم تُغنِ عنهم علومهم شيئًا، وضلُّوا على علمٍ؛ لأنهم علموا الحقَّ وحادوا عنه، فصاروا حسدةً مغضوبًا عليهم.

أما النصارى فغلب عليهم الضَّلال والجهل فصاروا ضالين؛ لأنهم تعبَّدوا على جهالةٍ، واعتقدوا في عيسى أنه ولد الله، وأن أمه والكلمة والآلهة الثلاثة، وضلَّ آخرون فقالوا: إنَّ الله ومريم وعيسى هم الثلاثة، فالمقصود أنهم ضلوا بالتثليث؛ فالله الواحد الأحد ليس له شريك، لا عيسى ولا أمه ولا غيرهما، فهو الواحد الأحد: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163].

فالمقصود أنَّ السعادة والنَّجاة والغنيمة في اتباع الكتاب والسنة، هذا هو العلم، وما عدا ذلك فهو جهل وضلال وحسد وبغي، فمن علم وآثر الباطل فهو حاسد باغٍ مغضوب عليه، ومَن ضلَّ عن الهدى عن جهلٍ فهو مع الضَّالين من النصارى وأشباههم، والناجي هو الذي علم واتَّبع علمه، وهم أتباع النبي ﷺ: الصحابة ومَن سلك سبيلهم علموا واتَّبعوا، علموا الحقَّ واتَّبعوه، أما اليهود فعلموه وحادوا عنه حسدًا وبغيًا، والنصارى ضلُّوا وجهلوا واتَّبعوا الباطل، نسأل الله العافية.

وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الدِّينِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ بِالْإِمَامَةِ.

فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ لِبِشْرٍ المريسِيِّ: الْعِلْمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الْجَهْلُ، وَالْجَهْلُ بِالْكَلَامِ هُوَ الْعِلْمُ، وَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ رَأْسًا فِي الْكَلَامِ قِيلَ: زِنْدِيقٌ، أَوْ رُمِيَ بِالزَّنْدَقَةِ، أَرَادَ بِالْجَهْلِ بِهِ اعْتِقَادَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ نَافِعٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ وتَرْكَ الِالْتِفَاتِ إِلَى اعْتِبَارِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَصُونُ عِلْمَ الرَّجُلِ وَعَقْلَهُ، فَيَكُونُ عِلْمًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: بشر المريسي هذا من جملة نُفاة الأسماء والصِّفات، وهو من رؤوس الجهمية؛ ولهذا ردَّ عليه أبو يوسف وبيَّن أن السعادة والنَّجاة في طريق العلم: الكتاب والسنة، وأن آراء الرجال وما أحدثوه هو الجهل، وهذا هو الحق، العلم قال الله وقال رسوله وقال الصحابة، وقد ردَّ عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي وأوضح أباطيله.