40 باب قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}

باب قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين.

وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.

وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم ﷺ حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " رواه البخاري والنسائي.

الشيخ: هذا الباب في قول الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] وما جاء في معناها، أراد المؤلف بهذه الترجمة بيان وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه في جميع الأمور في أمور الدنيا والدين جميعا، والتوكل هو التفويض إلى الله والثقة به سبحانه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، وأن كل شيء بيده، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن.

والمؤمن يثق بربه، ويعتمد عليه، ويعلم أنه قد سبق قضاؤه وقدره بكل شيء، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه مصرف الأمور، ومسبب الأسباب؛ فيؤمن بهذا، ويتعاطى مع ذلك ما شرعه الله وما أباحه من أسباب ، فالتوكل الثقة بالله والاعتماد عليه، فهذا واجب، على المؤمنين أن يعتمدوا على الله، وأن يعلموا أنه مسبب الأسباب، ومدبر الأمور، ومصرف الأشياء، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ليس للعبد قدرة على أي شيء لم يشأه ربه ، وهكذا قوله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] وهكذا قوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] كل هذا يدل على وجوب التوكل، فإن حسبك الله يعني: كافيك الله، وكافي أتباعك من المؤمنين، وهكذا قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] يعني: كافيه عن كل أحد، ومن كفاه الله ما أهمه لم يحتج إلى أحد، فالواجب على المؤمن أن يتوكل على الله ، وأن يضرع إليه؛ ولكن لا يمنعه هذا من تعاطي الأسباب، فيعمل بطاعة الله، ويدع معاصي الله؛ لأن هذه أسباب الجنة، فيأكل ويشرب لأنها أسباب حياته، ويتجنب المؤذيات التي تضره كوقوعه في النار أو إلقائه نفسه في الآبار أو لتعرضه للسباع أو أكله ما يهلكه كالسموم أو ما أشبه ذلك، فعليه أن يتعاطى الأسباب النافعة، وأن يحذر الأسباب الضارة، كل هذا مع التوكل فالتوكل يجمع الأمرين:

الأمر الأول: الثقة بالله، والاعتماد عليه، والإيمان بأنه مسبب الأسباب، ومصرف الأمور، وأن كل شيء بيده .

والأمر الثاني: تعاطي الأسباب، والأخذ بالأسباب التي شرعها الله: من أسباب دخول الجنة، وأسباب السلامة من النار، وذلك بأداء ما أوجب الله من الطاعات، وترك ما حرم الله من المعاصي؛ هذه أسباب دخول الجنة.

كذلك تعاطي ما ينفعه في الدنيا من الأكل والشرب واللباس والزراعة والتجارة والنجارة وغير هذا من الأسباب التي يحتاج إليها؛ فيفعل الأسباب التي بها نظام حياته، وبها سلامته، ويتعاطى الأسباب التي تنفعه في هذه العاجلة، وتعينه على طاعة الله ورسوله، ويتباعد عن الأسباب الضارة التي تضره في دينه أو دنياه، فالمعاصي تضره في دينه، وهكذا تضره في دنياه، وهكذا ما يضره في بدنه من طعنه نفسه أو بالسلاح أو إحراق نفسه بالنار أو إلقاء نفسه في المهلكات، كل هذه الأشياء ممنوعة يجب عليه أن يمتنع منها؛ لأن الله منعه منها.

فعرفت بذلك أن التوكل ليس هو مجرد -كما يظن بعض الصوفية- أن يعتمد على الله ويدع الأسباب ينام في بيته لا، هذا غلط، بل يتوكل على الله بثقته به واعتماده عليه وإيمانه بأنه مصرف الأمور، وأن أسبابك يا عبد وأعمالك لا تنفع إلا إذا شاء الله ، ثم يضيف إلى ثقته بالله واعتماده عليه أخذه بالأسباب أسباب الدين وأسباب الدنيا، أسباب النجاة يوم القيامة بطاعة الله ورسوله وترك معاصي الله، وأسباب الدنيا من الطلب الحلال طلب الرزق من طريق الزراعة ومن طريق البيع والشراء ومن طريق النجارة ومن طريق الحدادة من طريق الخياطة من طريق العمل في البناء الطرق المباحة التي يحتاجها الناس، يعمل ويعتمد على الله، ويطلب منه جل وعلا التوفيق والإعانة، ويستعين به على الرزق الحلال، ويبتعد عن الحرام، حتى يلقى ربه هذا هو التوكل.

وهكذا حديث ابن عباس، و عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد وأصحابه لما قالوا لهم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، يعني: يوم أحد، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقي في النار، ألقاه النمرود، لما دعاهم إلى الله، ودعاهم إلى توحيد الله، وكسر أصنامهم، غضبوا عليه، وأمر نمرودهم الخبيث أن يجمع له حطب عظيم، فجمعوا له حطبا عظيما، وأوقدوا نارا عظيمة، ثم أمر أن يلقى في النار، فلما ألقي في النار قال عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأطفاها الله، وقال: كوني بردا وسلاما: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فأطفأها الله عنه، وكفاه شرها وشرهم، وأنجاه من باطلهم، وصارت آية من الآيات، ومعجزة من المعجزات الدالة على صدقه، وأنه رسول الله حقا، عليه الصلاة والسلام.

وهكذا محمد عليه الصلاة والسلام لما جرى ما جرى يوم أحد من غزوة كفار أهل مكة واجتماعهم عند المدينة وحصارهم المدينة، ثم خروج النبي إليهم عليه الصلاة والسلام، وحصول الوقعة، وقتل فيها من قتل من الصحابة، وجرح من جرح، ثم انشمر الكفار إلى بلادهم فقال المشركون: إنهم قد جمعوا لكم، وجاء بعض المرجفين وقالوا: إنهم قد جمعوا لكم، وأنهم ليسوا مضوا بل هم يجمعون ويعدون العدة ليعودوا، فقال النبي عند ذلك: حسبنا الله ونعم الوكيل فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] هكذا ينبغي لأهل الإيمان أن يقولوها عند الشدائد، ولكن لا تمنعهم من إعداد العدة، فالنبي ﷺ قالها ومع ذلك أعد العدة، وأمر المسلمين أن ينهضوا لقتال عدوهم على ما بهم من الجراح والتعب، أمرهم أن ينهضوا، وأن يقاتلوا عدوهم؛ لكن عدوهم ألقى الله في قلبه الرعب وانشمر إلى مكة ولم يعد إليهم.

المقصود أن هذا يوجب على المؤمنين الأمرين جميعا: الثقة بالله والاعتماد عليه، مع الأخذ بالأسباب والعناية بالأسباب، كإعداد السلاح، وإعداد القوت من الطعام والشراب، وفعل ما ينفعهم، ولهذا لما كان يوم الأحزاب ولما رجع الكفار يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين أعدوا عدة عظيمة، وأعدوا لعدوهم وحفروا الخندق حول المدينة؛ لأنه من أسباب تعويق الكفرة من دخول المدينة، فهذه الأسباب التي فعلها الرسول ﷺ، لبس درعين يوم أحد، وحمل السلاح، وجعل البيضة فوق رأسه تقيه السلاح، وهكذا الصحابة حملوا السلاح وقاتلوا، كل هذه أسباب مأمور بها، ولهذا قال : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] فهذا كله من الأسباب مع الثقة بالله والتوكل عليه.

وفق الله الجميع.