69 باب ما جاء في كثرة الحلف

باب ما جاء في كثرة الحلف

وقول الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89].

عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب أخرجاه.

وعن سلمان: أن رسول الله ﷺ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل (الله) بضاعته: لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه رواه الطبراني بسند صحيح.

وفي الصحيح عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا- ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن.

وفيه عن ابن مسعود: أن النبي ﷺ قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته.

وقال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة ونحن صغار".

الشيخ: قال رحمه الله: باب ما جاء في كثرة الحلف، أراد المؤلف بهذا بيان أن كثرة الحلف نقص في الإيمان، ونقص في التوحيد، لأن كثرة الحلف تفضي إلى شيئين: أحدهما: التساهل في ذلك وعدم المبالاة، والأمر الثاني: الكذب، فإن من كثرت أيمانه وقع في الكذب، فينبغي التقلل من ذلك وعدم الإكثار من الأيمان، ولهذا قال سبحانه: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] هذا الأمر للوجوب يجب حفظ اليمين إلا من حاجة لها، فالمؤمن يحفظها ويصونها إلا من حاجة، لمصلحة شرعية، أو عند الخصومة والحاجة إليها ونحو ذلك، ولا يكثر منها، فإنه متى أكثر وقع في الكذب، ووقع في التساهل، وظن به الكذب.

ذكر المؤلف رحمه الله هنا أربعة أحاديث وأثرا عن إبراهيم.

الحديث الأول: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب، وفي اللفظ الآخر: ممحقة للربح والحديث هذا رواه الشيخان، وهو حديث عظيم صحيح يدل على أن كثرة الحلف من أسباب الوقوع في الخطإ، فهو يعتني باليمين لينفق السلعة، ولكنه يقع في الخطر وهو محق الكسب وقلة البركة، فـ الحلف منفقة للسلعة يعني مدرج لها يحلف: والله أن هذه بكذا، والله أنها تسوى كذا، والله إنها طيبة، والله والله، يغر الراغب، يغر الناس الذين يسومون منه، وربما صدقوه فاشتروه، ولكنها ممحقة للكسب هي ممحقة لربحه الذي يتعاطاه بسبب تساهله في هذه اليمين، وفي اللفظ الآخر يقول ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر، هذا يدل على أن تنفيق السلع قد يقع بالكذب وقد يقع بالصدق، لكن كثرة الأيمان توقع في الكذب، وربما جره الطمع وساقه الطمع إلى أن يحلف، فالواجب الحذر، ثم هذه الأيمان من أسباب محق البركة ومن أسباب الوقوع فيما حرم الله، فليحذرها المؤمن.

وهكذا حديث سلمان الفارسي أبو عبدالله يقول عن النبي ﷺ أنه قال: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زاني أشيمط يعني شيخ قد شمطه الشيب وعائل مستكبر يعني فقير مستكبر مع فقره يتكبر الغني، قد يتكبر لأجل المال ولكن الفقير أي شيء يدعوه إلى التكبر إلا أنه سجية له، وشيء استقر في قلبه نعوذ بالله. ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه هذا فيه الحذر من هذه الخصال، وأن الزنا قبيح ومنكر ولا سيما من الشيخ فإنه أكبر وأقبح، فالشاب قد يؤوب إلى رشده، قد يتوب، ولكن الشيخ ما الذي حمله إلا أن هذا شيء قد استقر عليه وبقي في قلبه وعاد عليه، نعوذ بالله من ذلك، تكون الجريمة أكبر وأعظم والإثم أشد.

وهكذا العائل الفقير، الغني قد يتوب، وقد ينتبه إذا زاد ماله، لكن هذا الفقير لماذا يتكبر، هذا يدل على أن الداعي في قلبه كبير، قال العلماء: وهذا يدل على عظم الذنب مع قلة الداعي وضعف الداعي، فإن الدعوة إلى الشيء من أسباب ضعف الدعوة إلى الفاحشة، إلى الجماع، والشاب أقوى، فإذا كان يعتاد الزنا مع شيبته دل على أنها سجية له، وأنه شيء مستقر في قلبه نسأل الله العافية.

وهكذا العائل يتكبر مع فقره، هذا يدل على أن الكبر سجية له، وأنه صفة له ملازمة.

وهكذا الرجل الذي جعل الله بضاعته، وهو الشاهد في الباب كونه لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه، هذا فيه الوعيد على هذا العمل، وما ذاك إلا لأن هذا العمل يجره إلى الكذب ويوقعه في الحرام إذا اعتاد ذلك، واستكثر من ذلك وقع في الكذب.

وهكذا الحديث الثالث: حديث عمران بن حصين يقول النبي ﷺ: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم يعني القرن الثاني والثالث، قال عمران: فلا أدري هل ذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا. لكن المحفوظ مرتين فقط، هذا المحفوظ من حديث عمر ، وما رواه أحمد في المسند ومن حديث ابن مسعود كما هنا: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم وقال في حديث عمران: ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن يعني تتغير الأحوال بعد القرون المفضلة الثلاث، تتغير الأحوال حتى توجد الخيانة، ويوجد عدم الوفاء بالنذر، ويوجد شهادة الزور، يعني تكثر بعد القرون المفضلة لضعف الإيمان، وكثرة الجهل، وكثرة الأخلاط الذين تضر خلطتهم، فلهذا يوجد شهادة الزور، ويشهد وما استشهد كذبا لطمع أو قرابة أو عداوة، ويخون ولا يؤتمن في أمانته وفي سائر أموره لضعف الإيمان، أو عدم الإيمان، وينذر ولا يبالي ولا يوفي ينذر الطاعات ولكن لا يوفي، والله مدح المؤمنين بقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، والنبي ﷺ قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه فالواجب الوفاء بنذر الطاعة وعدم الوفاء بنذر المعصية، من نذر طاعة وجب عليه الوفاء، النذر لا ينبغي، النبي ﷺ نهى عن النذر قال: إنه لا يأتي بخير، وقال: لا تنذروا فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل فلا ينبغي النذر، ولكن إذا نذر طاعة فعليه الوفاء كأن ينذر لله عليه أن يصلي كذا، أن يصوم كذا، أن يتصدق بكذا، فليبر في نذره إذا أتى نذرا يوافق الشرع طاعة لله ، أما إذا نذر أن يشرب الخمر، أو يعق والديه، أو يقطع الرحم، أو يقطع الطريق، هذه نذور باطلة لا أصلها، لا يجوز الوفاء بها، والصواب أن فيها كفارة يمين، ولا يجوز الوفاء بهذه النذور التي هي معصية.

وقوله: ويظهر فيهم السمن يعني بسبب إقبالهم على الدنيا واجتهادهم في التنعم بنعيمها، يغلب عليهم السمن، يعني سمن الأجسام لعظم الغفلة وكثرة الشهوات والنعم يكثر السمن، وهذا واقع في الناس، ولكن لا يلزم أن يكون كل من كان سمينا أن يكون عاصيا لا، قد يقع السمن في أناس طيبين، لكن مراد النبي ﷺ أنه يغلب على الناس، يكثر فيهم بسبب إقبال الناس على الدنيا وكثرة التنعم فيها، يكثر السمن ويظهر في الناس بسبب هذا الأمر، وهو إشارة إلى الغفلة والإعراض وقلة الاستعداد للآخرة، ولهذا تعظم الأبدان ويكثر السمن في الناس من هذه الحيثية، ولا يلزم من هذا كما تقدم أن يكون كل سمين فيه شر لا، قد يكون سمينا وقد يكون من خيرة الناس كما وقع في الأولين.

وفي حديث ابن مسعود: خير الناس قرني هذا يعم الناس كلهم، خير الناس الصحابة -أصحاب النبي ﷺ- بعد الأنبياء ثم الذين يلونهم التابعون، ثم أتباع التابعين، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته من قلة المبالاة والاستهتار وعدم المبالاة بالأيمان والشهادات، فلا يبالي يشهد أو يحلف لقلة إيمانه وضعف إيمانه، وأما المؤمن لا، لا يشهد إلا عن صدق ولا يحلف إلا عن حاجة.

قال إبراهيم -يعني النخعي- وهو إبراهيم بن يزيد النخعي تابعي صغير رحمه الله يقول: إنهم كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار، أي كان السلف يؤدبون أولادهم إذا قالوا: أشهد ويحلف، ويقول: وعهد الله، يضربوننا حتى لا يعتاد هذا إذا كبر، ويسهل عليه الأيمان الفاجرة والعهود الظالمة والشهادة الرديئة، يعني يؤدبونهم ويوجهونهم حتى لا يتكلموا بهذا إلا على بصيرة، لأن الصبي إذا اعتاد هذا في صغره قد يتساهل به في كبره، ولا يتحرى الصدق، وهذا من دلائل عناية السلف بالأخلاق الفاضلة، وحرصهم على تربية الأولاد على الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يربوا أولادهم على الأخلاق الفاضلة، وأن يعتنوا بهم حتى لا يعتادوا ما حرم الله ، وحتى لا يتساهلوا فيما يجب اتباعه أو يجب اجتنابه.