02 شرح حديث: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)

كما في الحديث الصحيح يقول النبيُّ ﷺ: بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.

فإذا دعا المسلمُ المشركين إلى الله، وشهدوا بأنَّ الله هو الحق، وآمنوا برسوله محمد ﷺ، بعد هذا يدعوهم إلى الصلاة؛ لأنَّ الصلاة ما تصح إلا من مسلمٍ، فإذا أسلموا يُؤمرون بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير هذا من أمور الدين؛ ولهذا قال: فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك وآمنوا بهذا وسلَّموا فادعهم إلى الزكاة: أخبرهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً تُؤخذ من أغنياهم فتُردّ في فقرائهم زكاة الأموال والماشية فإن هم أطاعوك لذلك فإيَّاك وكرائمَ أموالهم يعني: احذر كرائم الأموال، وخذ الوسط، لا تأخذ الكريمة ذات السمن البالغ، وذات الأولاد، ونحو ذلك، خذ الوسط واتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.

فأمر معاذًا بالعناية بالدَّعوة، وأن يتجنب الوسط من أموالهم في الزكاة، وأن يتَّقي دعوة المظلوم.

وفيه من الفوائد: أنه لا يُدعا إلى الصلاة إلا أهل التوحيد والإسلام، لا يأمر بالصلاة إلا مَن أسلم ودخل في دين الله، يؤمر بالصلاة.

وفيه أن الزكاة تُؤخذ من الأغنياء وتُعاد إلى الفقراء في البلد، هم أحق الناس بها؛ فقراء بلدها، فإن فضل شيء يُنقل إلى غيرهم.

وفيه الحذر من دعوة المظلوم، وأن الواجب على عمال الزكاة أن يتَّقوا الله، وأن يُنصفوا أهل الزكاة، وألا يأخذوا كرائمَ أموالهم، بل عليهم أن يأخذوا من الوسط، وأن يتَّقوا دعوةَ المظلوم.

وفي حديث سهل بن سعدٍ الأنصاري : أن النبي ﷺ لما كان يوم خيبر –يعني: في السنة السابعة من الهجرة- طال حصار خيبر، وفتح منها حصونًا، وطال حصارهم، فقال ﷺ: لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجلًا يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، فالناس فرحوا بهذا الأمر، كل واحدٍ يقول: لعلي أنا أُعطَى الراية. وفي هذا علو همة الصحابة ، كل واحدٍ يقول: لعلي أُعطى هذه الراية؛ لأنَّ مَن أُعطيها يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، كل مؤمنٍ يُحب الله ورسوله، كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، لكن كون الرسول شهد له بالتَّعيين، شهد له بالعين أنه يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله؛ هذه منقبة عظيمة؛ ولهذا كل واحدٍ من الصحابة يرجو أن يُعطاها، باتوا يدوكون ليلتهم: يخوضون في ليلتهم متى يُصبحون، كل واحدٍ يقول: لعلي أُعطى الراية، فلما حضروا عنده قال: أين علي بن أبي طالب؟ قيل له: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فجيء به يُقاد، فبصق في عينيه ودعا له عليه الصلاة والسلام فبرأ، كأن لم يكن به وجعٌ، هذه علامة من علامات النبوة، معجزة، كونه برأ بريقه الشريف في الحال من هذا المرض في العين هذا من علامات نبوته، وأنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام.

وفيه فضل الدَّعوة إلى الله، وأنَّ لها منزلةً عظيمةً، فقال له ﷺ: خذ الراية وانفذ على رسلك، والراية: البيرق، يُسميها الناس: البيرق اليوم حتى تنزل بساحتهم الساحة: القرب، حتى تنزل يعني: قربهم، ما تنزل بعيدًا، اقرب منهم؛ لأنَّ نزول الجيش قريب من العدو أشجع للجيش، وأوهن للعدو، وأضعف لقلب العدو: ثم ادعهم إلى الإسلام أمره أن يدعوهم إلى الإسلام، يعني: اليهود، إلى توحيد الله، والإيمان برسوله، واتِّباع شريعته، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه من حقِّ الإسلام، فوالله يحلف وهو الصادق وإن لم يحلف، لكن يحلف تأكيدًا، يحلف كثيرًا عليه الصلاة والسلام في بعض المسائل للتأكيد، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم يعني: خير لك من جميع النُّوق الحمر في الدنيا، والمعنى: خير لك من الدنيا وما عليها.

كانت العرب تُعظم النُّوق الحمر وتغلو فيها، فالنبي ﷺ مثَّل له بالنُّوق الحمر لأنها من خير أموال العرب، والمعنى: هداية رجل واحدٍ على يديك خير من الدنيا وما عليها، ويقول ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله.

فذهب عليٌّ وفتح الله على يديه ، قاتل في خيبر وفتح الله على يديه، وأقرَّها النبيُّ في أيديهم بالمزارعة، لما فتح الله عليه بلاد خيبر أقرَّها بأيديهم بالمزارعة بالنصف؛ نصف الثمرة من النخيل، ونصف الزرع، يعملونها من أموالهم ويسقونها، وإذا جاء وقتُ الخرص أرسل إليهم الخارص خرصها عليهم وأخذ النصف، ولهم النصف، حتى أجلاهم عمرُ، في عهد عمر أجلاهم إلى الشام بعدما فرض الله إجلاء اليهود والنَّصارى من الجزيرة، تُوفي النبيُّ ولم يُجلهم، فأجلاهم عمر رضي الله عنه وأرضاه.

ففي هذا من الفوائد: الدَّعوة إلى الله، وعلى ولي الأمر أن يجتهد في الدَّعوة إلى الله، وإرسال الدُّعاة والمجاهدين في سبيل الله، ويُعلمهم ويُرشدهم؛ حتى يكونوا على بصيرةٍ، كما فعل النبيُّ ﷺ.

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

وقول الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57].

وقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26- 27].

وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: مَن قال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعْبَد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله.

الشيخ: لما ذكر التوحيد وأدلته وفضله وتحقيقه، وذكر الشرك والخوف منه، وذكر أيضًا وجوب الدَّعوة إلى الله، وبيان حقّ الله على عباده؛ ذكر آيات أيضًا مع حديثٍ في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله؛ تكملةً لما تقدم، وتأكيدًا لما تقدم، وإلا تقدم تفسيره وإيضاحه، ولكن هذا من باب التأكيد والإيضاح؛ لعظم المسألة، وشدة الحاجة إلى المزيد من البيان؛ ولهذا قال رحمه الله: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" هذا من عطف الدال على المدلول: التوحيد ومدلول شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة لا إله إلا الله مدلولها توحيد الله والإخلاص له، فالمعنى: باب تفسير التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن معنى "لا إله إلا الله" لا معبود حقّ إلا الله، فهي كلمة التوحيد، والكلمة الفارقة بين الشرك والإيمان، وهي أول كلمةٍ دعت إليها الرسل: لا إله إلا الله، قال ﷺ: أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحقّها الإيمان بأنه رسول الله، ثم الإيمان بما أوجب الله، وبما حرَّم الله، والعمل، يقول الله جلَّ وعلا: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، ذكر الآية الدالة على الشرك لأنَّ ضد الشرك هو التوحيد في الباب في تفسير الشيء بضدِّه؛ فإن الشرك هو ضد التوحيد، قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء:56]، ثم قال بعده: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك، ويستغيثون بهم من الأنداد والأصنام والأشجار والأحجار وغيرهم، هم عبيد لله، والآية فيمَن يعبد الصالحين، الآية الكريمة هذه فيمَن يعبد الصالحين: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.

فالآية نزلت فيمَن يعبد المسيح وأمه، ويعبد الصالحين والأنبياء، يقول الله جل وعلا: هؤلاء الذين تدعوهم هم عبيد أمثالكم يدعوني، ويرجون رحمتي، ويخافون عذابي، فكيف تدعونهم من دون الله؟ كيف تتعلقون بهم؟ ولهذا قال قبلها: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ على سبيل التهديد والتقريع والتوبيخ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، إن هؤلاء المدعون من دون الله من أنبياء أو أولياء أو جنّ أو غير ذلك كلهم لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، لا يملكون كشف الضر بالكلية، ولا تحويله من حالٍ إلى حالٍ: من شدة إلى ضعفٍ، أو من عضو إلى عضوٍ، لا يملكون ذلك، كله بيد الله .

ثم بيَّن حالهم فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ مثل عيسى وأمه، ومثل الملائكة والأنبياء، هم يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا يعني: كيف تدعونهم من دون الله وهم عبيد مثلكم يبتغون الوسيلة إليَّ؟! والوسيلة: القربة إليه بالطاعة إلى ربهم، الوسيلة يعني: القربة إليه بالطاعة، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26- 27]، هذا هو التوحيد؛ البراءة من الشرك، والإخلاص لله جلَّ وعلا، براءة من الشرك، وترك له؛ حذرًا منه، وتخصيص الله بالعبادة جلَّ وعلا، هذا هو توحيد الله الذي جاءت به الرسل: نوح وهود وصالح ومَن بعدهم، وإبراهيم ومَن بعده.

قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] يعني: اتَّخذ المشركون من اليهود والنَّصارى أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الأحبار: العلماء، والرهبان: العباد، اتَّخذوهم أربابًا: يدعونهم ويستغيثون بهم وينذرون لهم، يعني: أتوا الشرك الأكبر: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

فالمشركون اتَّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله، والمسيح ابن مريم كذلك عبده النَّصارى فضلوا بهذا وكفروا، والواجب ترك ذلك، والحذر من ذلك، وإخلاص العبادة لله وحده.

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] يعني: بعض الناس يتَّخذ أندادًا من دون الله: من ملائكةٍ أو أنبياء أو جنٍّ أو غير ذلك، يُحبونهم كحبِّ الله، والأنداد: الأشباه والنُّظراء، يعني: يتَّخذون أندادًا يُشبهونهم بالله، يدعونهم مع الله، يستغيثون بهم، وينذرون لهم، وهذا هو الشرك الأكبر؛ ولهذا قال بعدها في الآخرة: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].

فالواجب تخصيص الله بالعبادة، والحذر من عبادة ما سواه: من ملكٍ أو نبيٍّ أو شجرٍ أو صنمٍ أو جنٍّ أو غير ذلك، العبادة حقّ الله وحده: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقال سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2- 3]، وقال : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال سبحانه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، وقال النبي ﷺ: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار، وقال عليه الصلاة والسلام: مَن لقي الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنة، ومَن لقيه يُشرك به شيئًا دخل النار.

فالواجب على جميع المكلَّفين من الجنِّ والإنس الحذر من ..... الشرك، وأن تكون عبادتهم لله وحده: من دعاءٍ وخوفٍ ورجاءٍ وصلاةٍ وصومٍ وحجٍّ وغير هذا، كله لله وحده، لكن يُستعان بالمخلوق الحاضر لا بأس، الحي الحاضر القادر يُستعان به فيما يقدر عليه، هذا ليس من الشرك، كما قال الله عن موسى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15]، أو تقول لأخيك: ساعدني على إصلاح السيارة، ساعدني على عمارة بيتي، على إصلاح المزرعة، لا بأس بهذا، أو بالمكاتبة، أو بالتليفون تقول له: افعل كذا، وافعل كذا، لا بأس، لكن تدعو الميت أو الغائب بغير وسيلةٍ –الغائب- تعتقد أنه يعلم الغيب، أو يسمع كلامك؛ هذا هو الشرك الأكبر، كما فعل المشركون مع الجنِّ، ومع الملائكة، ومع الغائبين ممن يعتقدون فيهم الصلاح.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وفي اللفظ الآخر: مَن وحَّد الله وكفر بما يُعبد من دونه حرم ماله ودمه، وحسابه على الله  رواه مسلم من حديث طارق بن أشيم.

يُبين ﷺ أنَّ مَن وحَّد الله وخصَّه بالعبادة وكفر بما يُعبد من دونه فقد عصم ماله ودمه، يعني: أتى بالتوحيد، أصل التوحيد هذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إذا أخلص لله العبادة ووحَّده، وكفر بما يُعبد من دونه؛ أنكر الشرك وتبرأ منه وكفر به، وخصَّ الله بالعبادة، مع إيمانه بالرسول ﷺ، والشهادة بأنه رسول الله؛ فقد حرَّم نفسه ودمه على النار، حرم ماله ودمه، حرم ماله ودمه في الدنيا، وحرم على النار في الآخرة، يعني: صار مسلمًا معصومًا، يحرم ماله ودمه، فصارت له الجنة يوم القيامة؛ ولهذا قال: وحسابه على الله يعني: فيما يأتي بعد هذا التوحيد الله الذي يُحاسبه بما يأتي بعد ذلك، إذا أخلص لله العبادة، وكفر بما يُعبد من دون الله، وآمن بالله ورسوله، وصدَّق الله ورسوله؛ فإنه بهذا يكون مسلمًا، وعليه أن يُؤدي الواجبات، عليه أن ينتهي عن المحرمات، وعليه أن يقف عند حدودها، وحسابه على الله ، وبهذا يحرم ماله ودمه، ويكون معصوم المال والدم حتى يقع منه ما يحلّ ذلك، يقع منه ما يحلّ دمه وماله من الردة عن الإسلام، نسأل الله العافية، ما دام مُوحِّدًا لله، مُخلصًا لله، مُؤمنًا برسوله، مُلتزمًا بشرعه؛ فإنه حرام الدم والمال، والله الذي يُحاسبه على ما بينه وبينه .

وفَّق الله الجميع.

بابٌ من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

قول الله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ [الزمر:38].

عن عمران بن حصينٍ : أن النبي ﷺ رأى رجلًا في يده حلقة من صفرٍ فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنَّها لا تزيدك إلا وهنًا؛ فإنَّك لو متّ وهي عليك ما أفلحتَ أبدًا رواه أحمد بسندٍ لا بأس به.

وله عن عقبة بن عامر مرفوعًا: مَن تعلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومَن تعلَّق ودعةً فلا ودعَ الله له، وفي روايةٍ: مَن تعلَّق تميمةً فقد أشرك.

ولابن أبي حاتم عن حُذيفة: أنه رأى رجلًا في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

الشيخ: لما بيَّن المؤلفُ رحمه الله حقيقة التوحيد وتحقيقه وفضله، والخوف من ضدِّه؛ ذكر في هذا الباب وما بعده بعض أنواع الشرك، وبعض أنواع البدع المفضية إليه، ومن ذلك هذا الباب: "بابٌ من الشرك" يعني: الأصغر "لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه"، هذا يقع لكثيرٍ من الجهلة، وهو من الشرك: لبس حلقةٍ أو خيطٍ أو غيرهما، يُسمونها: الحروز، ويُسمونها: التمائم، ولها أسماء أخرى، وهي ما يُلبس لقصد رفع البلاء أو دفعه، يرى أنها السبب في رفع البلاء أو دفعه، فهذا مما حرَّمه الله جلَّ وعلا، وهو من الشرك الأصغر، ويُسمَّى: التمائم، وتُسمَّى: الحروز.

يقول الله جلَّ وعلا رادًّا على المشركين: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38] يعني: آلهتكم، يعني: لا تملك شيئًا، ولا تنفع ولا تضرّ، وإنما هي أوهام وقعت للمُشركين بتعلقهم بالأصنام والأنداد والقبور وغير ذلك، وهي باطلة لا تنفعهم ولا تضرُّهم، بل هي ما بين جمادٍ، وما بين ميتٍ لا يملك شيئًا.

وهذه الآيات بعمومها تدل على تحريم تعليق التَّمائم؛ لأنها تعلّق على غير الله فيما لا ينفع ولا يضرّ، بخلاف الأسباب الشرعية، الأسباب الشرعية لا بأس بها: الرقية، الدواء، الكي، العلاج المعروف لا بأس به: عباد الله، تداووا، ولا تداووا بحرامٍ، الأدوية الشرعية والمباحة لا حرج فيها، أما تعليق التَّمائم فليس من الأسباب، وليس من الدواء، بل هو مجرد اعتقاد باطل، فلا يجوز تعليق حلقة، ولا خيط، ولا قرطاس يُكتب فيه، ولا رقعة يُكتب فيها، ولا غير ذلك، بل هذا كله يُسمَّى: تميمة، ويُسمَّى: حرزًا، وهو من الشرك الأصغر، وإذا اعتقد صاحبه أنه ينفع ويضرّ صار شركًا أكبر، نسأل الله العافية، أما إذا اعتقد أنها أسباب فهذا من الشرك الأصغر.

وفي الحديث عن عمران بن حصينٍ ابن عبيدة الخزاعي: أن النبي رأى رجلًا في يده حلقة من صفرٍ فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة، يعني: من مرض الواهنة، وهو مرض يأخذ باليد، قال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، وإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحتَ أبدًا، فهذا يدل على وجوب نزع التَّمائم من حلقٍ أو خيوطٍ أو رقاعٍ أو غير هذا مما يُعلقه الناس يظنون أنه ينفع، وأن ذلك من المحرمات الشركية بنصِّ هذا الحديث وما جاء في معناه.

وهكذا حديث عقبة بن عامر: يقول ﷺ: مَن تعلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومَن تعلَّق ودعةً فلا ودع الله له، وفي اللفظ الآخر: مَن تعلَّق تميمةً فقد أشرك.

والودع معروف، والتمائم: ما يُعلق على الأولاد من العين، سواء في الحلق، أو في العضد، أو غير ذلك، يُسمَّى: التميمة، ويُسمَّى: الحرز، ويُسمَّى: الجامعة، لها أسماء عندهم، وجامعها أنها لا تجوز، وأنها من التَّعليقات المحرمة.

وفي حديث حذيفة : أنه دخل رجلٌ فوجد في يده خيطًا فقال: ما هذا؟ قال: من الحمى، فقطعه حذيفةُ ر وتلا قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] يعني: حذيفة رأى أنَّ هذا الخيط من جنس التَّمائم؛ ولهذا تلا الآية، وذلك يدل على أن الشرك الأصغر داخلٌ في العموم؛ ولهذا استدل بالآية التي نزلت في الأكبر على الأصغر؛ لعموم الشرك.

فالواجب على جميع المسلمين الحذر من هذه التَّمائم وعدم تعليقها، لا من خيوط، ولا من رقاع، ولا من أوراق، ولا من غير ذلك مما يتعلّقه الجهال، ولكن الرقية الدعاء، والرقية والأدوية المباحة من دهونٍ أو كيٍّ أو غير ذلك مما جُرِّب لا بأس: عباد الله، تداووا، ولا تداووا بحرامٍ.

وفَّق الله الجميع.

باب ما جاء في الرقى والتَّمائم

في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري : أنه كان مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، فأرسل رسولًا أن لا يبقينَّ في رقبة بعيرٍ قلادة من وترٍ، أو قلادة إلا قُطعت.

وعن ابن مسعودٍ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إنَّ الرقى والتَّمائم والتّولة شرك رواه أحمد وأبو داود.

وعن عبدالله بن عكيم مرفوعًا: مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه رواه أحمد والترمذي.

التَّمائم: شيء يُعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المُعلَّق من القرآن فرخَّص فيه بعضُ السلف، وبعضهم لم يُرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعودٍ .

والرُّقَى: هي التي تُسمَّى: العزائم، وخصّ منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخَّص فيه رسولُ الله ﷺ من العين والحمة.

والتّولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يُحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.

وروى أحمد عن رُويفع قال: قال لي رسولُ الله ﷺ:  يا رُويفع، لعلَّ الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أنَّ مَن عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابةٍ أو عظمٍ، فإنَّ محمدًا بريء منه.

وعن سعيد بن جبيرٍ قال: "مَن قطع تميمةً من إنسانٍ كان كعدل رقبةٍ". رواه وكيع.

وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التَّمائم كلها، من القرآن وغير القرآن".

الشيخ: يقول رحمه الله: "باب ما جاء في الرقى والتَّمائم" يعني: من التفصيل والأحكام والأدلة، وقد فصل في هذا الباب ما يتعلق بهاتين المسألتين: الرقى والتمائم: "باب ما جاء في الرقى والتمائم" يعني: في أحكامهما.

في الصحيح عن أبي بشيرٍ الأنصاري : أن النبي ﷺ في بعض سراياه التي لقي فيها العدو أرسل رسولًا: ألا يبقينَّ في رقبة بعيرٍ قلادة من وترٍ أو قلادة إلا قُطعت.

وعن ابن مسعودٍ : أن النبي ﷺ قال: إن الرقى والتَّمائم والتّولة شرك أخرجه أحمد وأبو داود.

وعن عبدالله بن عكيم مرفوعًا عن النبي ﷺ أنه قال: مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه.

فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تُبين لنا أنَّ الأصل في الرقى والتَّمائم والتِّولة كلها المنع، وهكذا القلائد التي تُقلد على الدواب لخوف العين المنع، أما إذا كانت القلائد للقيادة أو للزينة لا لقصد العين فلا بأس، يُعلق على الخيل أو على الإبل قلائد للزينة أو للقيادة بها فلا بأس بهذا، أما لقصد العين فتُمنع كما بيَّن الرسولُ ﷺ.

والرقى فيها تفصيل: الرقى إن كانت بلسانٍ عربي وليس فيها محذور شرعًا فلا بأس بهذا، وهي مشروعة بشرط ألا يعتمد عليها بنفسها، بل يعتقد أنها سبب.

فقوله ﷺ: إن الرقى والتَّمائم والتِّولة شرك الرقى يعني المجهولة، أو التي فيها شرك ممنوعة، وهكذا التَّمائم؛ وهي الحروز التي تُسمَّى: الحروز، وتُسمَّى: الجوامع، هذه ممنوعة أيضًا، وهكذا التِّولة، وهي شيء يصنعه النساء يُسمَّى: الصرف والعطف، وهو من السحر، وهو ممنوع أيضًا، أما الرقى التي ليس فيها محذور شرعًا فلا بأس بها، الرسول رقى ورُقِيَ ﷺ وقال: لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا، وقال: لا رقيةَ إلا من عينٍ أو حمةٍ.

ولهذا قال المؤلفُ: وقد رخَّص النبيُّ ﷺ في الرقى من العين والحمة ما لم يكن فيها شرك. فالرقى الجائزة لها شروط ثلاثة:

  • الشرط الأول: أن تكون بلسانٍ معروف المعنى، ما هو بمجهول.
  • الثاني: ألا يكون فيها محذور شرعًا، تكون رقية بالآيات القرآنية، أو بالأدعية النبوية، أو بالأدعية التي ليس فيها محذور.
  • الشرط الثالث: ألا يعتمد عليها بنفسها، بل يعتقد أنها سبب من الأسباب؛ إن شاء الله نفع بها، وإن شاء سلبها المنفعة.

فبهذه الشروط الثلاثة لا بأس بالرقى؛ ولهذا قال ﷺ: لا رقيةَ إلَّا من عينٍ أو حمةٍ، وقال ﷺ: لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا، وقال: اعرضوا عليَّ رُقاكم، فلا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا أخرجه مسلم في الصحيح.

والرقية من العين، يعني: من النظرة، عين العائن، والحمة: السم، ذوات السموم، فالرقية منهما مطلوبة؛ ولهذا قال ﷺ: لا رقيةَ إلا من عينٍ أو حمةٍ، فالرقية من العين والرقية من السم -ذوات السموم- تنفع بإذن الله.

أما التمائم فكلها ممنوعة؛ من القرآن ومن غير القرآن، كما قال إبراهيمُ في آخر الباب: كانوا يكرهون التَّمائم، يعني: أصحاب ابن مسعودٍ، يعني: كبار التابعين تبعًا لابن مسعودٍ يكرهون التَّمائم من القرآن وغير القرآن، يعني: يُحرمونها، فالتَّميمة ممنوعة من القرآن ومن غير القرآن؛ لعموم الأحاديث الدالة على تحريم التَّمائم؛ ولأن تعليق التَّمائم من القرآن وسيلة إلى تعليق التمائم الأخرى والتباس الأمر، فوجب سدّ الذريعة.

أما التِّولة فكلها ممنوعة؛ لأنها شرك؛ ولهذا قال ﷺ: مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه، فالواجب التَّعلق على الله، والثقة به، والاعتماد عليه، أما الأسباب فهي أسباب يراها المؤمنون أسبابًا، إن نفع الله بها نفعت، وإن سلبها المنفعة لم تنفع، فيُعلق قلبه بالله، يفعل الأسباب ولكن قلبه مُعلَّق بالله، يُعالج عند الطبيب: يكوي، يرقي، إلى غير هذا من الأسباب، لكن قلبه مُعلَّق بالله، يعلم أنه سبحانه هو الشافي، هو الذي بيده الأمر، هو مصرف الأمور؛ إن شاء نفع بالأسباب، وإن شاء لم ينفع بها .

وفي حديث رُويفع يقول له النبيُّ ﷺ: لعلَّ الحياة تطول بك، فأخبر الناس أنَّ من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابةٍ أو عظمٍ فإنَّ محمدًا بريء منه، هذا فيه التَّحذير من تقليد الأوتار، وهي التَّمائم، تقليدها على الدواب لدفع العين، يُمنع عن الدابة وغير الدابة، وعن الإنسان.

وعقد اللحى ذكر العلماء أنَّ معناه: تجعيدها تكبُّرًا وتعاظُمًا، عقدها يعني: تجعيدها وتضخيمها تكبرًا وتعاظمًا، أما إذا كان ذلك ليس لهذا القصد فلا يضرّ، فالواجب توفيرها وإرخاؤها، لكن لا لقصد التَّكبر، بل لقصد طاعة الشرع، فلا يجوز للمسلم أن يقصد ببقاء لحيته وتوفيرها التَّعاظم والتَّكبر، لكن يقصد بذلك اتِّباع الشرع.

وهكذا الاستنجاء برجيع الدَّابة لا يجوز، لا يجوز للمسلم أن يستنجي من بعر الدَّواب، ولا بالعظام، يستنجي بغير هذا: باللَّبِن، بالتراب، بالأوراق التي ليس فيها كتابة ولا شيء محذور، بالمناديل الخشنة، بالخشب ما يُخالف، يستنجي، أما بالعظام والروث فلا، يُمنع من الاستنجاء بالعظم والروث.

وفي الحديث الآخر أنه قال ﷺ: إنه طلب من الله جلَّ وعلا أن يجعل كلَّ عظمٍ ذُكر اسم الله عليه يكون للجنِّ أوفر ما كان لحمًا، وكل بعرةٍ تكون علفًا لدوابهم، فلا يُستنجى بالعظام والأرواث، ولكن يُستنجى باللَّبِن: بالحجر اللَّبِن من التراب، أو الحجر، أو المناديل الخشنة، أو ما أشبه ذلك من الشيء الخشن الذي يُزيل الأذى وهو طاهر، أما العظام والأرواث والشيء المحترم فلا يُستعمل في الاستجمار.

ويقول سعيدُ بن جبير رحمه الله -وهو تابعي جليل: "مَن قطع تميمةً من إنسانٍ كان كعتق رقبةٍ".

سعيد بن جبير من أصحاب ابن عباسٍ، تابعي جليل، يقول رحمه الله: "مَن قطع تميمةً من إنسانٍ كان كعتق رقبةٍ" كأنه أعتق رقبةً، يعني: أعتقها من الشرك، فإذا رأى على أخيه حرزًا يقول: يا أخي، هذا ما يجوز، يُشير عليه بإزالتها، وإن كانت له سُلطة: كالهيئة أو الإنسان مع أولاده يقطعها، يكون كعتق رقبةٍ؛ لأنه أعتقها من الشرك.

قال إبراهيم، وهو ابن يزيد النَّخعي، إبراهيم بن يزيد النَّخعي رحمه الله، من صغار التَّابعين، قال: كان أصحابُ ابن مسعودٍ يكرهون التَّمائم. يعني: يُحرِّمونها من القرآن وغير القرآن.

باب مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما

وقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ۝ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:19- 22].

عن أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حُدثاء عهدٍ بكفرٍ، وللمُشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتَهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرةٍ فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، فقال رسولُ الله ﷺ: الله أكبر! إنها السُّنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، لتركبنَّ سننَ مَن كان قبلكم رواه الترمذي وصححه.

الشيخ: هذا الباب في بيان نوع من أنواع الشرك الأكبر الذي كان يفعله المشركون في مكة وفي غيرها، يُبين المؤلف رحمه الله في هذا الباب شيئًا من ذلك، وهو الإمام أبو عبدالله محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن عليٍّ التميمي الحنبلي رحمه الله، المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في هذه الجزيرة في القرن الثاني عشر من الهجرة، المتوفى سنة 1206 من الهجرة النبوية.

يقول رحمه الله: "باب مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ أو نحوهما" يعني: باب حكمه وبيان ما دلَّ عليه الدليل، والجواب أنه كافر مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ أو نحوهما، يعني: فقد كفر؛ لقول الله جلَّ وعلا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ۝ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى يعني: جائرة، حيث جعلوا له الإناث، وجعلوا لهم الذكور، وهذه أوثان لقريشٍ وغيرهم في الجاهلية:

اللات عبارة عن رجلٍ كان يلت السّويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره؛ لأنه رجل صالح، وعكفوا على الصَّخرة التي كانوا يلتون عليها، وعبدوها.

والعزى: شجرة بين طائف ومكة كانت قريش تُعظمها، وعليها بنية، قال فيها أبو سفيان يوم أحد: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم.

ومناة: صخرة كانت تُعظم عند قديد في طريق المدينة، كان يُعظمها الأوس والخزرج ويعبدونها، بيَّن الله جلَّ وعلا أنها باطلة، والمعنى: أنفعت أم ضرَّت حتى تعبدوها؟!

قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] استفهام إنكار أنها آلهة، لا حقيقةَ لها، باطلة؛ ولهذا قال بعده: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ۝ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [النجم:22- 23] يعني: ما هي، إن نافية: ما هي إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى، فدلَّ على أنَّ هذه الأسماء باطلة، وأنها ليست آلهة، وأنها مجرد شيء اخترعوه، وباطل أوجدوه، ليس له حقيقة، وإنما فعلوه اتباعًا للهوى، وساروا على طريقة الآباء الضَّالين.

وكان من أعمالهم عند اللات والعزى: التَّبرك بها، ودعاؤها، والاستغاثة بها، يزعمون أنها وسائط، وأنها تُقرب إلى الله زُلفى كما قال : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، وقال وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى يعني يقولون: ما نعبدهم إلا ليُقربونا إلى الله زلفى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، وفي آية يونس قال: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].

فدلَّ ذلك على أنَّ مَن اتَّخذ صنمًا أو شجرةً يُعلق بها السلاح؛ يتبرك به، أو يدعوه، أو يرجوه، أو يستغيث به، فقد فعل ما فعلته قريش في اللات والعُزى، وقد كفر كما كفروا بذلك، وهكذا لو اتَّخذ نجمًا أو صنمًا مُصوَّرًا أو حجرًا أو غير ذلك فالحكم واحد، أو قبرًا عبد صاحبه، وجعل يرجوه، أو يدعوه، أو يستغيث به، أو ينذر له، أو ما أشبه ذلك، فإنه بهذا يكون على دين المشركين، وقع في الشرك الأكبر الذي كانت عليه قريش وغيرها من العرب.

عن أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع رسول الله إلى حنين. غزوة حنين بعد فتح مكة، سنة 8 من الهجرة، بعد رمضان، وبعد غزوة الفتح، خرج النبي إلى حنين لأنه تجمع ناسٌ من أهل الطائف من هوازن، وجيشوا جيوشًا كثيرةً، والتقوا مع النبي ﷺ يوم حنين، ونصره الله عليهم، وناس حُدثاء عهدٍ بكفرٍ يعني: الذين في مكة، أسلموا في مكة، حُدثاء عهدٍ بكفرٍ يعني: قريب عهدهم بالكفر، إسلامهم جديد، فمروا بسدرةٍ يعكف عندها الكفَّار، وينوطون بها أسلحتهم، يعني: قبل أن يُسلموا، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، يعني: اجعل لنا سدرةً نُعظمها ونُعلق عليها السلاح كما كان الكفارُ يفعلون ذلك، فقال النبيُّ عند هذا: الله أكبر! إنها السنن، هذه عادته إذا انتُهكت محارم الله، وتكلم أحدٌ بما يُغضب الله قال: الله أكبر! الله أكبر يُعظم الله مما قالوا، ويُنزه الله عمَّا قالوا، الله أكبر! إنها السنن، قلتُم والذي نفسي بيده حلف وهو الصادق وإن لم يحلف كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، لما جاوز بهم موسى البحر أتوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فهؤلاء قالوا مثلهم: اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، فقال النبي ﷺ: قلتُم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.

فدلَّ ذلك على أنَّ مَن اتَّخذ حجرًا أو شجرًا أو صنمًا يُعلق عليه السلاح، أو يسأله البركة، أو يستغيث به، فهو مثل بني إسرائيل الذين عكفوا على الأصنام سواء بسواء.

فالواجب الحذر من ذلك، وأن الواجب على المؤمن: إخلاص العبادة لله وحده، وطلب البركة منه، والشفاء والنصر كلها من الله جلَّ وعلا، لا من المخلوقين، وليسوا شفعاء في هذا، لا يعبدهم لأنهم شفعاء، الأنبياء يتبعون، إنما يكونون شُفعاء باتِّباعهم وطاعتهم، والصالحين يُقتدى بهم في الخير، أما أن يدعون مع الله، أو يُستغاث بهم فهذا الشرك الأكبر، لكن يُتبعون ويُسلك طريقهم الطيب فيما جاءوا به عن الله جلَّ وعلا، وهكذا الصالحون يتأسَّى بهم في الخير، ولكن لا يُدعون مع الله، ولا يُستغاث بهم، ولا يُنذر لهم، ولا يدعون مع الله جلَّ وعلا، بل هذا شرك المشركين الأولين.

ثم قال ﷺ: لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم يعني: طريق مَن كان قبلكم، سَنن بالفتح، وهو الطريق، وسُنن بالضم: طرق، مَن كان قبلكم يعني في الشرك والضَّلال، هذا فيه التَّحذير من اتِّخاذ الأصنام والأشجار والأحجار آلهةً مع الله: يدعوها، أو يستغيث بها، أو ينذر لها، أو يذبح لها، أو يُعلق عليها السلاح، أو ما أشبه ذلك؛ أن هذا من دين المشركين، نسأل الله العافية.

وفَّق الله الجميع.

 

باب ما جاء في الذَّبح لغير الله

وقول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163].

وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].

عن علي بن أبي طالبٍ قال: حدَّثني رسولُ الله ﷺ بأربع كلمات: لعن الله مَن ذبح لغير الله، لعن الله مَن لعن والديه، لعن الله مَن آوى مُحْدِثًا، لعن الله مَن غيَّر منار الأرض رواه مسلم.

وعن طارق بن شهابٍ: أن رسول الله ﷺ قال: دخل الجنة رجلٌ في ذبابٍ، ودخل النارَ رجلٌ في ذبابٍ، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم لا يجوزه أحدٌ حتى يُقرِّب له شيئًا، فقالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أُقرب. قالوا له: قرِّب ولو ذبابًا. فقرَّب ذبابًا، فخلّوا سبيله؛ فدخل النار. وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ما كنتُ لأُقرب لأحدٍ شيئًا دون الله، فضربوا عنقه؛ فدخل الجنة رواه أحمد.

 

الشيخ: يقول رحمه الله: "باب ما جاء في الذبح لغير الله"، والمؤلف رحمه الله أدرك في هذه الجزيرة في القرن الثاني عشر مَن يذبح لغير الله، ويتقرب للجنِّ، ويتقرب لغيرهم بالذبح وغيره، ويعبد الأشجار والأحجار والقبور؛ فلهذا ألَّف هذا الكتاب "كتاب التوحيد" تنبيهًا للأمة على ما وقعت فيه من الشرك، ومن ذلك هذا الباب: "باب ما جاء في الذبح لغير الله" يعني: من الوعيد والتَّفصيل، سواء كان الذبح للملائكة أو للجنِّ أو للأنبياء أو للأصنام أو للكواكب أو لغير هذا، الذبح عبادة لله، قربة، فإذا ذبح لغير الله وصرف لغير الله صار كالصلاة لغير الله، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي يعني: ذبحي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163] يعني: قل يا محمد للناس، قل يعني: يا محمد للناس قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي يعني: ذبحي وجميع عبادتي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، فدلَّ على أن الذبح لغير الله كالصلاة لغير الله شرك به .

وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1- 2] يعني: صلِّ له واذبح له، فدلَّ على أنَّ الذبح عبادة، ولا يجوز التقرب بالذبائح للجنِّ أو للأصنام أو للكواكب أو للغائبين أو للملائكة أو لغيرهم، فهذا من الشرك الأكبر، كالصلاة لغير الله.

وهكذا ما يفعله بعضُ الناس عند قدوم السلاطين إلى بلدٍ -السلاطين أو رؤساء القبائل أو غيرهم من الكُبراء- يستقبلونه بالذبح في الطُّرقات، يذبحون لهم في الطرقات ذبائح تعظيمًا لهم، هذا من الذبح لغير الله، كما أفتى علماء بخارى بأنَّ هذا من الشرك، ما يُتقرب به للسلاطين عند قدوم البلد، أو عند قدوم الأمراء، أو شيوخ القبائل، يذبحون في الطُّرقات لهم تعظيمًا لهم هذا من الشرك الأكبر.

عن عليٍّ ، هو علي بن أبي طالبٍ الخليفة الراشد الهاشمي، رابع الخلفاء الراشدين، زوج فاطمة الزهراء بنت النبي عليه الصلاة والسلام، المتوفى سنة 40 من الهجرة النبوية شهيدًا ، قتله الخوارج، يقول : حدَّثني رسولُ الله ﷺ بأربع كلماتٍ -يعني: أربع جمل: لعن الله مَن ذبح لغير الله هذه واحدة لعن الله مَن لعن والديه هذه الثانية لعن الله مَن آوى مُحْدِثًا الثالثة لعن الله مَن غيَّر منار الأرض رواه مسلم في الصحيح.

أربع جمل لعن الرسولُ أهلها: الأولى: لعن الله مَن ذبح لغير الله فدلَّ على أنَّ الذبح لله عبادة، والذبح لغير الله شرك يستحق صاحبه اللعنة، سواء كان الذبح لغير الله من الأصنام، أو من الجنِّ، أو من السلاطين، أو من أصحاب القبور، أو ما أشبه ذلك، كما لو أتى صاحبَ القبر وذبح له؛ ولهذا في الحديث الصحيح: لا عقر في الإسلام، كانوا في الجاهلية إذا مروا على قبر الجواد العظيم عقروا عنده وقالوا: نعقر له كما كان يعقر في حياته!

لعن الله مَن ذبح لغير الله سواء ذبح شاةً أو بعيرًا أو بقرةً أو دجاجةً أو عصفورًا أو ذبابًا، ما دام يتقرب لغير الله دخل في اللَّعن، أما ما يُذبح لوليمةٍ؛ عزيمة زيد أو عمرو يذبح في الوليمة، يذبح العقيقة لا بأس، هذا يذبح لأجل الشرع، طاعةً للشرع، أو للضيف يذبح لإكرام الضيف لا بأس، أما الذبح للتعظيم في الطرقات عند مقابلة السلاطين أو الأمراء أو رؤساء القبائل هذا هو من جنس عمل الجاهلية.

الثانية: لعن الله مَن لعن والديه نعوذ بالله، لعن الوالدين من أقبح الكبائر، في الحديث الآخر؛ في حديث عبدالله بن عمرو في "الصحيحين" يقول النبيُّ ﷺ: من الكبائر شتم الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وهل يسبّ الرجلُ والديه؟! يعني: هذا مُستنكر، حتى الكفرة يستنكرون هذا: وهل يسب الرجل والديه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه يعني: إذا كان سبَّابًا للناس سبُّوا والديه، إذا كان يلعن الناس لعنوا والديه، فصار لاعنًا لوالديه؛ لأنه مُتسبب، فهكذا مَن لعنهما مباشرةً يكون أقبح، مَن لعنهما مباشرةً يعني: باشر لعن والديه أو أحدهما، هذا أقبح في الإثم، وأشد في الكبيرة، نسأل الله العافية، سواء كان أباه وأمه أو جَدًّا وجدَّةً، كلهم آباء وأمهات.

الثالثة: لعن الله مَن آوى مُحدثًا إنسان يأتي بمعصيةٍ فيها حدٌّ فيُؤويه ألا يُقام عليه الحد، يعني: زانٍ يمنعه أن يُقام عليه الحدُّ، سارق يمنع أن يُقام عليه الحد، وما أشبه ذلك، أو إنسان أحدث بدعةً يُؤويه ويمنع البدعة؛ ولهذا في الرواية الأخرى: مَن آوى مُحْدَثًا يعني: بدعة.

فالواجب التعاون على إقامة الحدود ومنع البدع، وعدم إيواء أهلها، يعني: عدم حمايتهم، فمَن فعل ما يُوجب الحدَّ وجب التَّمكين من إقامة الحدِّ عليه؛ ردعًا له ولأمثاله؛ ولهذا يقول ﷺ في المدينة: مَن أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، فالأحداث تشمل المعاصي والشرك، والمؤوي لها: الناصر لها، والحامي لها.

الرابعة: لعن الله مَن غيَّر منار الأرض منار الأرض: مراسيمها وحدودها يُغيِّرها؛ يُعطي هذه زيادة، ويأخذ من هذا، سواء له وإلا لغيره ملعون؛ لأنه ظالم مُسبب للفتن، يأتي الحدود ويُغير المراسيم، يُعطي هذا من حقِّ هذا، أو يأخذ لنفسه، هذا ملعون لما يترتب على فعله من الظلم والفساد، وقد تقع بسببه مشاكل وفتن بسبب تغيير الحدود، والشاهد قوله: لعن الله مَن ذبح لغير الله هذا الشاهد من الترجمة.

والحديث الثاني من حديث طارق بن شهاب، يقول ﷺ: مرَّ رجلٌ على قومٍ لهم صنم، يقول: دخل الجنةَ رجلٌ في ذبابٍ، ودخل النارَ رجلٌ في ذبابٍ، تعجب الصحابة: كيف يصير هذا يا رسول الله؟! قال: مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم، والصنم: ما نُحت على صورةٍ وعُبِدَ من دون الله يُقال له: صنم، كصورة للأنبياء أو للجنِّ أو للمُعظَّمين أو لأسودٍ أو نمورٍ تُعبَد، تُسمَّى: صنمًا، ويُطلق عليه: وثن أيضًا.

مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم، لا يجوزه أحدٌ حتى يُقرب له شيئًا ما يتعداه أحدٌ، عنده السدنة، ما يتعداه أحدٌ، يقولون له: قرِّب، قرِّب عصفورًا، قرِّب شاةً، قرِّب دجاجةً، قرِّب حمامةً، الذي يصير، قال أحدهما: ما عندي شيء أُقَرِّب، تعذر، ما عنده شيء، قالوا: قرِّب ولو ذبابًا، فقرَّب ذبابًا، فخلوا سبيله، المهم الموافقة؛ أنه يُوافق على الشرك، لما وافق عليه ولو بالذباب كفى، تكفي الموافقة، وقالوا للآخر: قرِّب، فقال: ما كنتُ لأُقرب شيئًا من دون الله، يعني: ما يمكن أن أُقرب ذبيحةً لغير الله، لا يمكن أن أذبح لغير الله، لا يمكن أن أتقرب للأصنام، فضربوا عنقه فدخل الجنة.

هذا يدل على أنه لا يجوز التقريب للأصنام، ولو عصفورًا، ولو ذبابًا، ولو دجاجةً، ولو حمامةً، فكيف بمن يُقرب الإبل والبقر والغنم؟! يكون شركه أكبر، سواء للأصنام أو للنجوم أو للجن أو للسلاطين أو الأمراء عند قدوم البلاد تعظيمًا لهم، أو ما أشبه ذلك.

وفي هذا التَّحذير من التَّساهل بأمور الشرك، وأن الواجب على المؤمن أن يتعلم ويتفقه في الدين حتى لا يقع فيما يضره ولا ينفعه وهو لا يدري؛ ولهذا يقول ﷺ: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين متفق على صحَّته، ويقول ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، ويقول ﷺ: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، فينبغي بل يجب على كل مُكلَّفٍ أن يتعلم ما لا يسعه جهله، سواء من الرجال أو النساء، الواجب التعلم والسؤال عما يلزمه في دينه؛ حتى لا يقع فيما حرَّم الله، وحتى لا يترك ما أوجب الله.

وفَّق الله الجميع.

 

بابٌ لا يذبح لله بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله

وقول الله تعالى: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108].

عن ثابت بن الضَّحاك قال: نذر رجلٌ أن ينحر إبلًا ببوانة، فسأل النبيَّ ﷺ، فقال: هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعْبَد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسولُ الله ﷺ: أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاءَ لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.

 

الشيخ: يقول المؤلفُ: "بابٌ لا يذبح لله بمكانٍ يُذبح فيه لغير الله" يعني: لا يتشبه المسلمُ بعباد القبور في أعمالهم، فإذا كان لهم مكان يذبحون فيه لغير الله فلا يذبح في ذلك المكان؛ لأنه في هذه الحال يتشبه بهم، ويُتَّهم بعملهم؛ ولهذا قال المؤلفُ: "باب لا يذبح لله في مكانٍ يذبح فيه لغير الله"، هكذا الأماكن المعدّة للشرِّ لا يقصدها يتعبد فيها؛ كمسجد الضرار لما بنوه للشرِّ قال الله فيه: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا، فالمعابد التي أُعدت لغير الله لا يعبد المؤمنُ فيها ربَّه؛ لأنه يُتَّهم بأنه مثلهم وشابههم في عباداتهم؛ ولهذا قال الله لنبيه ﷺ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا يعني: مسجد الضِّرار، لما أُسس على المعصية، وأنه أُعدَّ لأبي عامر الفاسق حتى يقدم ويتحصن به ضدًّا للمسلمين أمر الله بهدمه، ونهى نبيَّه أن يُصلي فيه.

وهكذا حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أنحر إبلًا ببوانة. وبوانة: موضع في أسفل مكة، وقيل: حول ينبع، فقال ﷺ: هل كان فيها وثن يُعبد؟ قال: لا، قال: هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قال: لا، قال: أوفِ بنذرك دلَّ على أنه لو كان فيها عيدٌ من أعيادهم أو وثنٌ من أوثانهم فلا يفعل ذلك؛ لأن فعله تشبّه بهم، وربما اتُّهم بعملهم، ثم قال: فإنه لا وفاءَ لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم.

والحديث الآخر: لا نذر في معصيةٍ، وكفارته كفَّارة يمينٍ، لو قال: لله عليه أن يزني أو يسرق أو يقتل فلانًا بغير حقٍّ أو يشرب الخمر، هذا نذر معصيةٍ لا يجوز الوفاء به، بل يجب تركه، وعليه كفَّارة يمينٍ، فهكذا إذا قال: لله عليَّ أن أُصلي في محلٍّ يُعبد فيه غير الله، أو يذبح في محلٍّ يُعبد فيه غير الله، يترك هذا، لا يفعله إذا نذر ذلك، وعليه كفَّارة يمينٍ، يفعله في موضعٍ آخر.

وهكذا إذا نذر ما لا يملك؛ كأن يقول: لله عليه أن يعتق عبد فلانٍ، وهو ما هو بملك له، فهذا نذر باطل، أو: لله عليه أن يتصدق بمال فلانٍ، هذا نذر باطل؛ لأنه لا يملكه.

رواه أبو داود، أبو داود هو: سليمان بن الأشعث السّجستاني، صاحب "السنن"، المتوفى سنة 275 رحمه الله، في سننه المعروفة، وإسناده على شرطهما، يعني: على شرط البخاري ومسلم.

والفائدة من هذا الحديث في كتاب التوحيد: أنه لا يجوز التَّشبه بأعداء الله في أفعالهم، وأن من كمال التوحيد وتمام التوحيد عدم التَّشبه بأعداء الله.

وفَّق الله الجميع.