02 من حديث: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

وقوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله ﷺ لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي روايةٍ: إلى أن يُوحِّدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً تُؤخذ من أغنيائهم فتُردّ على فُقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجاه.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب الدُّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) المعنى: باب وجوب الدعاء وفضيلة الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، يعني: وأنَّ محمدًا رسول الله؛ لأنها أختها وزميلتها، فمراد المؤلف رحمه الله الدَّعوة إلى التوحيد، واتِّباع الرسول ﷺ، هذا واجبٌ على العلماء، وفرضٌ عليهم أن يدعو إلى توحيد الله، وإلى اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وهذا الذي قاله المؤلفُ أخذه من الكتاب والسنة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125]، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108]، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] في آياتٍ.

فالواجب على أهل العلم والإيمان أن يدعوا إلى الله، يعني: إلى توحيده، والإخلاص له، وترك الإشراك به ، كما يجب عليهم أن يدعوا إلى الإيمان برسول الله ﷺ وتصديقه واتِّباع ما جاء به من الهدى، وترك ما خالف ذلك. هذا واجبٌ على أهل العلم جميعًا.

ومن الدليل على هذا قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، يقول الله لنبيه محمدٍ ﷺ: قُلْ يا أيها الرسول للناس: هَذِهِ سَبِيلِي، الأمر بقوله: قُلْ للنبي ﷺ، وهكذا الأمة بعده: هَذِهِ سَبِيلِي يعني: هذه التي أنا عليها من توحيد الله، والإخلاص له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، وغير هذا، هذا هو سبيل الله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يعني: هذه طريقتي، وهذه محجتي، وهو صراط الله المستقيم، وهو الإسلام والهدى، فهو سبيل محمدٍ ﷺ، سبيل محمدٍ هو صراط الله المستقيم، وهو الإسلام والإيمان والهدى الذي بعث اللهُ به نبيَّه محمدًا ﷺ.

أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يعني: لا إلى حظٍّ، ولا إلى مُلْكٍ، ولا إلى مالٍ، ولا إلى غير هذا من أمور الدنيا، ولكني أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يدعو إلى توحيد الله وطاعة الله.

إِلَى اللَّهِ يعني: إلى توحيد الله، وطاعة الله، واتباع شرعه.

عَلَى بَصِيرَةٍ يعني: على علمٍ وهدى.

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني: أنا أدعو إلى هذا على بصيرةٍ، وأتباعي كذلك يدعون إلى الله على بصيرةٍ، هذا يدل على أن أتباع الرسول ﷺ هم أهل البصائر، وهم الدُّعاة إلى الله، فالعالم الذي لا يدعو إلى الله، ولا يهدي الناس إلى الحقِّ ليس من أتباع الرسول على الحقيقة، وإنما أتباع الرسول هم الدُّعاة إلى الله، أهل البصائر الذين يدعون إلى الله على علمٍ، لا على جهلٍ، فلا يسكتون، ولا يدعون على جهالةٍ، فأتباع الرسول يجمعون أمرين: يجمعون الدَّعوة إلى الله، ومع ذلك على علمٍ، على هدى، لا على جهالةٍ، وهذا هو الواجب عليهم، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وهي العلم وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

فالدَّعوة إلى الله هي طريق الرسل، وهي سبيلهم من أولهم إلى آخرهم، وهي سبيل العلماء الصَّادقين الموفقين، وهي طريقهم، وهي منهجهم.

هذا يدلنا على أنَّ الواجب عليك يا عبدالله حسب علمك أن تدعو إلى الله على بصيرةٍ، كما أمر اللهُ نبيَّه ﷺ، الله أمرنا أن نتبع الرسول ﷺ، ونتأسَّى به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ومن الأسوة به أن ندعوا إلى الله، وأن نُبلغ الناس دين الله، وأن نصبر على الأذى في ذلك حسب الطاقة والإمكان، في بلدك، وفي غير بلدك، في مسجدك، وفي غير مسجدك، في الطريق، وفي غير الطريق، حسب الطاقة والإمكان.

وفي "الصحيحين" عن ابن عباسٍ: لما بعث النبيُّ ﷺ معاذًا إلى اليمن. وقوله: (أخرجاه)، يعني: في "الصحيحين"، فالمعنى أنه في "الصحيحين": صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وهما أصحّ الكتب هذان الكتابان، الذي قال المؤلف: (أخرجاه) يعني: في "الصحيحين"، هذان الكتابان هما أصحّ الكتب المؤلفة في الحديث الشريف، هذان الكتابان هما أصح كتابٍ، وأعظم كتابٍ في الأرض بعد كتاب الله ، بعد القرآن.

رويا جميعًا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أنه لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له، يعني: أوصاه، قال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب ليسوا جُهلاء، عندهم علوم، لهم شُبَه، فنبَّهه على هذا الشيء ليستعدَّ لهم، وأن يُبلغهم أمر الله: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، يعني: لا تلتفت إلى ما عندهم من علومٍ باطلةٍ، وشُبَهٍ داحضةٍ، لا، ولكن بلغهم ما أُمِرْتَ به من الدَّعوة إلى توحيد الله، وادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وفي اللفظ الآخر: فادعهم إلى أن يُوحِّدوا الله إلى أن يخصُّوه بالعبادة دون عُزيرٍ أو غيره، بل يعبدوا الله وحده ، ودون أحبارهم ورُهبانهم.

فليكن أول ما تدعوهم إليه يعني: أول شيءٍ تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، "فأول" خبرٌ مُقدَّم، و"شهادة" اسم يكن مُؤخَّر.

وفي لفظٍ: فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، وهو تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، معناها: عبادة الله وحده، وفي الرواية الأخرى: إلى أن يُوحِّدوا الله، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإنَّ لا إله إلا الله معناها: توحيد الله، معناها: لا معبود حقّ إلا الله، فالإيمان بهذا والاستقامة عليه هو توحيد الله .

فإن هم أطاعوك لذلك يعني: وحَّدوا الله، وأخلصوا له العبادة، وتركوا عبادةَ ما سواه من الناس، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ هذا يدلنا على أنَّ المشرك يُدعا أولًا إلى التوحيد قبل كل شيءٍ، فإذا أجاب للتوحيد، وانقاد للتوحيد، وعبد الله، وأذعن لهذا، وآمن، يُدعا بعد هذا إلى الصلاة، ثم الزكاة، ثم أمور الدين بعد ذلك.

فإن هم أجابوك لذلك يعني: وافقوا على الصَّلوات، وأجابوا إليها، وأقاموها، فادعهم إلى الزكاة: وأخبرهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً، وهي الزكاة، تُؤخذ من أغنيائهم، وتُردّ في فقرائهم، هذه الزكاة حقٌّ حقّه اللهُ في الأموال، الأموال المخصوصة لها نُصب مخصوصة تُؤخذ منها هذه الأموال، وتُصرف في الفقراء، وفي بقية أصناف أهل الزكاة، كما بيَّنه الله في سورة براءة في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الآية [التوبة:60].

وذكر الفُقراء هنا يدل على أنهم أهم الأصناف؛ ولهذا بدأ الله بهم في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، فأهم الأصناف وأوسعها وأعمّها الفقراء والمساكين، فالصَّدقات تُؤخذ من الأغنياء، ويُعطاها الفقراء؛ مُواساةً لهم، وإعانةً لهم، ورحمةً لهم، فهي شكر من الأغنياء لله على ما أعطاهم من المال، وهي إحسانٌ منهم إلى إخوانهم الفقراء والمحاويج.

فإن هم أجابوك إلى ذلك فإيَّاك وكرائمَ أموالهم يعني: إذا أجابوك إلى ما تقدم من التوحيد والصلاة والزكاة فإيَّاك وكرائمَ أموالهم، يعني: احذر ظلمهم، لا تأخذ الكريمة، بل الوسط، كرائم الأموال: المقدمة عندهم، الرفيعة عندهم لأجل سمنها أو نجابتها، أو كونها لبونًا، أو لغير هذا من الأسباب، من كونها من كرائم الأموال، فلا تُجبرهم عليها وتأخذها منهم، لا، خذ الوسط، يعني: يجعل المال ثلاثة أقساط: وسط، وكرام، ولئام، فالزكاة من الوسط، إلا إذا طابت نفوسُهم بالكرام ودفعوها عن طيب نفسٍ، فإنها تُقبل منهم، ولهم في هذا أجر.

واتَّقِ دعوةَ المظلوم يعني: احذر أن تظلمه فيدعو عليك، فتُصيبك دعوة المظلوم، دعوة المظلوم مُستجابة؛ ولهذا قال: اتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب هذا فيه الحثُّ على التبليغ، وتقوى الله في التبليغ، والحذر من ظلم المدعوين، المرسل يبلغ ولا يظلم، وإنما اقتصر على التوحيد والصلاة والزكاة؛ لأنها أهم الأمور، هذه الثلاثة الأركان هي أهم الأمور، ومَن أجاب إليها أجاب إلى ما سواها، مَن أجاب إليها أجاب إلى الصوم والحجِّ والجهاد وغير ذلك؛ لأنه إنما يُجيب إليها عن إيمانٍ، وعن اقتناعٍ، فهذا الإيمان والاقتناع يحمله على أداء بقية الواجبات؛ ولهذا اقتصر اللهُ سبحانه على ذكرها في مواضع، وهكذا رسوله ﷺ؛ لأنها هي الأم، هي الأصول الأم، فإذا أجاب إليها المؤمنُ، وصدَّق بها، واستقام عليها، أجاب إلى ما سواها، كما قال سبحانه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

وفي الحديث يقول ﷺ: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله متفق عليه.

هذا يُبين لنا أنَّ هذه الأصول الثلاثة هي الأم، وأن المؤمن متى أجاب إليها، الإنسان متى أجاب إليها، واستقام عليها، فإنه ينقاد لما بعدها بموجب الأدلة الشرعية.

وفَّق الله الجميع، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمَّدٍ.

ولهما عن سهل بن سعدٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجلًا يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله، يفتح اللهُ على يديه، فبات الناسُ يدوكون ليلتهم: أيّهم يُعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأُتِيَ به، فبصق في عينيه، ودعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الرايةَ، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم.

يدوكون أي: يخوضون.

الشيخ: يقول رحمه الله: (ولهما) يعني: البخاري ومسلمًا، إذا قال المؤلفون في الحديث وفي التوحيد وفي الفقه: لهما، أو أخرجاه، أو في "الصحيحين"، يعني: في البخاري ومسلم، فلهما يعني: البخاري ومسلمًا، عن سهل بن سعدٍ الأنصاري : أن النبي قال يوم خيبر. وخيبر غزوة خيبر، خيبر معروفة في نواحي المدينة، شمال المدينة، غزاهم النبيُّ ﷺ في عام سبعٍ من الهجرة، وفتح اللهُ عليه خيبر، وكان فيه اليهود، ففتحها الله عليه، واستنقذ خيبر من أيديهم، واستعملهم فلاحين فيها بنصف ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ، وصارت من بلاد المسلمين، وتحت يد المسلمين.

قال في هذا اليوم لما طال الحصارُ؛ لأنهم حاصروا خيبر مدةً فلم تُفتح عليهم، حصل بينهم قتال وبين اليهود، فقال في بعض الأيام عليه الصلاة والسلام: لأُعطينَّ الرايةَ التي يُسميها الناسُ: البيرق، لأُعطينَّ الرايةَ غدًا يعني: صباحًا رجلًا يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فتشوّف الناسُ لهذا الأمر، وكلٌّ أحبَّ أن يكون له هذا الأمر؛ لما فيه من وصف الرجل بأنه يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله بالتَّعيين، شهادة بالتعيين له، وإلا فكل مؤمنٍ يُحب الله ورسوله، وكل مؤمنٍ يُحبه الله ورسوله، هذا أمر معلوم، ولكن كون الرسول يشهد لواحدٍ معينٍ بهذا الوصف، كل واحدٍ يُحب هذا من المؤمنين.

"فبات الناسُ يدوكون ليلتهم" يعني: يخوضون فيها، "مَن يُعطاها" مَن يحصل له هذا الشيء، مَن هذا الشرف له، مَن يفوز بهذا الشَّرف، كلهم يرجو أن يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا على النبي ﷺ، كلٌّ يرجو أن يُعطى هذه الراية؛ لما فيها من الخير العظيم، حتى قال عمر: ما أحببتُ الإمارةَ إلا يومئذٍ. أو قال: ما تشرَّفْتُ لها إلا يومئذٍ. أو كما قال .

فقال: أين علي بن أبي طالب؟ وهو ابن عمه ﷺ، وهو زوج ابنته فاطمة، قيل له: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأُتي به يُقاد، فبصق في عينيه: تفل في عينيه، ودعا له، فبرأ من مرضه، كأن لم يكن به وجعٌ، وهذه من الآيات والدلائل على صدقه ﷺ: أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام، كون الله أبرأ بريقه الشريف ودعواته المباركة هذا المرض الخطير في لحظةٍ، هذه من آيات الله جلَّ وعلا، وهو دالٌّ على قُدرة الربِّ، وأنه سبحانه يقول للشيء: كن فيكون جلَّ وعلا.

فهي من آيات الله الدالة على قُدرته العظيمة، وهي أيضًا من الآيات والدلائل على صدق رسوله محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ففيها فائدتان.

"فأعطاه الرايةَ" يعني: البيرق، وقال: انفذ على رسلك يعني: سِرْ على رسلك حتى تنزل بساحتهم يعني: على مهلك، "على رسلك": على مهلك، "حتى تنزل بساحتهم" يعني: حتى تنزل بقربهم، ساحة القوم وسوحهم: ما قرب منهم، يعني: لا تنزل بعيدًا؛ فإنَّ هذا يُضعف الجند، ويُشجع الأعداء، ولكن انزل قريبًا منهم حتى يكون أضعف لهم، وأشجع للمؤمنين؛ لأنهم قد دنوا من عدوهم، حتى يعدُّوا العُدَّة اللازمة.

حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإذا وصلتَ إليهم فادعهم إلى الإسلام، ولو كانوا قد دعوا من باب إقامة الحجَّة وكمال المعذرة.

وهذا فيه دلالة على أنه ينبغي لأهل الإيمان أن يُعنوا بالدَّعوة، وأن يجتهدوا في دعوة أعدائهم؛ لعلهم يهتدون، لعلهم يرجعون إلى الصواب، حتى ولو دُعوا قبل ذلك لا مانع من التَّكرار، ويُستحب التَّكرار إذا دعت إليه الحاجةُ في إقامة الحُجَّة وقطع المعذرة، ولا سيما مع اليهود؛ لأنَّ عندهم علومًا، عندهم بصيرةً فيما جاء به النبيُّ ﷺ، ولكنَّهم حملهم الحسدُ والبغيُ وإيثارُ الدنيا على الآخرة فكذَّبوا، وهم يعلمون أنه صادق، وأنهم كاذبون.

فالتكرار عليهم لعلهم ينتبهون، لعلهم يستجيبون، فأصرُّوا ولم يستجيبوا -نعوذ بالله- فلهذا قاتلهم عليٌّ ، قاتلهم قتالًا عظيمًا، ومعه المسلمون، ففتح اللهُ عليه، وأنزل اللهُ البلادَ على يديه رضي الله عنه وأرضاه.

فهذا فيه منقبة كبيرة لعليٍّ من جهة أنَّ الله فتح على يديه، ومن جهة أنَّ الرسول وصفه بأنه يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، وهذا لا شكَّ فيه، فقد شهد له النبيُّ بالجنة، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وهو المعروف بالشَّجاعة والإقدام والفضل العظيم والعلم الكبير رضي الله عنه وأرضاه، ولكن لا يستقيم هذا مع الشيعة؛ لأنَّ الشيعة يغلون فيه، وبعضهم يجعله إلهًا مع الله، قبَّحهم الله.

فهو صحابي جليل، ومن بني آدم: يمرض، وتُصيبه اللأواء، وقُتل ولم يدفع عن نفسه، قُتل في رمضان سنة أربعين من الهجرة، قتله الخوارج، ولو كان إلهًا لدفع عن نفسه، ولكن الرافضة لا يعقلون، ولا يفهمون، نسأل الله العافية.

المقصود أنه من خيرة الصحابة، ومن أفاضل الصحابة، بل هو أفضلهم بعد الثلاثة: بعد الصديق، وعمر، وعثمان، هو الرابع، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، ولكنه بشر لا يجوز أن يُعبد من دون الله، إذا كان الرسلُ وهم أفضل الخلق لا يُعبدون، فعليٌّ وغيره من باب أولى ألا يُعبد، بل عبادته والتَّعلق به، والزعم أنه إله، والاستغاثة به، أو الزعم أنه يعلم الغيب، كل هذا كفرٌ بالله وشركٌ أكبر، نعوذ بالله من ذلك.

ثم قال: فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم هذا فيه دلالة على فضل الدَّعوة، وأن الإنسان كونه يهتدي على يديه جماعةٌ أو أفرادٌ خيرٌ له من الدنيا وما عليها، فلا ينبغي له أن يحرص على القتال، لا، يكون الحرصُ أولًا على الدعوة؛ لعلَّ الله يهديهم، الحرص على الدَّعوة أكبر وأكثر؛ إذ المقصود هو الدَّعوة، ليس المقصود القتال، مقصود الرسل والدُّعاة إلى الله مقصودهم هداية الناس، مقصودهم إنقاذ الناس من الشرك، إخراجهم من الظلمات إلى النور، هذا المقصود الأول، فإذا أصرُّوا وعاندوا وكابروا جاء القتالُ بعد ذلك؛ حتى يُستراح منهم، وحتى لا يصدّون الناسَ عن سبيل الله، وحتى يُستعان بأموالهم ونسائهم وذُرياتهم على دين الله وطاعته.

فوالله يُقسم وهو الصَّادق وإن لم يحلف، هذا فيه دلالة على أنه لا بأس بالقسم للتأكيد إذا كان صادقًا، بل قد يُستحبّ ويُشرع عند الحاجة للتأكيد؛ حتى يفهم المخاطب أنَّ هذا حقٌّ، وأنه أمر مطلوب.

فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم الحُمْر -بضم الحاء وتسكين الميم- جمع أحمر، أما حُمُر -بالضم- فهو جمع حمارٍ، وليس المراد هنا، المراد هنا الحُمْر جمع حمراء وأحمر، يعني: خيرٌ لك من جميع الإبل الحُمْر التي تُعرف عند العرب ويُعظِّمونها ويرونها أشرف الإبل، فيُبين هذا الشيء للدلالة على أنَّ الدَّعوة إلى الله والهداية إلى سبيل الله ليس لها شيءٌ يُوازنها، والمعنى: خيرٌ لك من الدنيا وما عليها.

فينبغي للمؤمن أن يكون همُّه إصلاحَ الناس، وإخراجهم من الظُّلمات إلى النور، وألا يكون همُّه أن يأخذ أموالهم أو يقتلهم، لا، المقصود الأول والحكمة الأولى والهدف الأول: هداية الناس، إخراجهم من الظلمات إلى النور، تعليمهم، إرشادهم لعلهم يهتدون، هذا المقصود من بعثة الرسل، ومن الجهاد، فإذا لم يتيسر هذا وعاند الناسُ وكابروا حينئذٍ يُشرع قتالهم، وعدم الإبقاء عليهم؛ حتى يُستعان بما عندهم من مالٍ وذُريةٍ ونساءٍ في مصالح المسلمين، وحتى يُفتح الطريق لغيرهم من المسلمين، وحتى لا يبقوا عقبةً في طريق المسلمين، ولا يبقوا عقبةً في طريق الدَّعوة إلى الله .

والشاهد من هذا قوله: ادعهم إلى الإسلام، دلَّ ذلك على أنَّ العلماء يدعون إلى الله، كما دعا النبيُّ ﷺ؛ لأنَّ الباب باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فالشاهد قوله: ادعهم إلى الإسلام، وأنَّ الشَّريعة جاءت بالدَّعوة إلى الإسلام، وإعلام الناس الخير، وإرشادهم إلى الحقِّ قبل قتالهم.

ويجوز أن يُغار عليهم من غير تكرار دعوةٍ إذا كانوا قد دُعوا، كما أغار النبيُّ على بني المصطلق وهم غارون، فقتل مُقاتلتهم، وسبى ذريتهم، هذا جائز، إذا دُعوا وأُنذِروا فأبوا وأصرُّوا جاز أن يُغار عليهم على غفلةٍ، لكن لو كُررت الدَّعوة لهم لمصلحةٍ -لأهدافٍ أخرى- فلا بأس أن يُكرر الدَّعوة لهم لعلهم يهتدون، لعلهم يستجيبون، كما فعله النبيُّ مع اليهود عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

وقول الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57].

وقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:26- 27].

وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) هذا الباب باب عظيم، بيَّن فيه المؤلف رحمه الله تفسير التوحيد، وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله بما يُوافق لفظها، وبما يُضادها؛ لأنَّ الشيء يُعرف بضده، كما قيل:

والضد يُظهر حسنه الضدّ وبضدها تتبين الأشياء

فالمؤلف ذكر في هذا تفسير التوحيد بمعناه وبضدِّه حتى يتَّضح لطالب العلم حقيقة التوحيد، وما هو التوحيد، وحقيقته أنه إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بالعبادة دون كلِّ ما سواه، هذا هو معنى "لا إله إلا الله"، فإنَّ معناها لا معبودَ حقّ إلا الله؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ في حديث معاذٍ: ادعهم إلى أن يُوحدوا الله، فتوحيده إفراده بالعبادة، وتخصيصه بها، فلا يُدعا إلا الله، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُتوسل إلا إليه، ولا يُصلَّى إلا له، ولا يُسجد إلا له، إلى غير ذلك.

هذا التوحيد: أن تُؤمن بقلبك أنَّ الله هو المستحقّ للعبادة دون كلِّ ما سواه: دون الملائكة، دون الرسل، دون الصَّالحين، دون الأصنام، هو المستحقّ للعبادة وحده، تعتقد هذا بقلبك، وتعمل بجوارحك، وتعبده وحده، وتخصّه بدعائك وضراعتك وعباداتك، لا تعبد معه سواه ، كما قال : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل:51]، وما أشبهها من الآيات: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].

فقوله: (باب تفسير التوحيد) يعني: باب تفسير هذه الكلمة: التوحيد، وأنَّ معناها: توحيد الله، وإفراده بالعبادة معناها: تخصيصه بالعبادات، وحَّدته توحيدًا يعني: جعلت العبادةَ له وحده باعتقادك وعملك.

(وشهادة أن لا إله إلا الله) من باب العطف؛ للدلالة على المدلول؛ لأنَّ التوحيد هو شهادة أن لا إله إلا الله، فعطفها على التوحيد عطفًا يقتضي بيان معناها ومُرادها، وأنَّ معناها ومُرادها هو توحيد الله ؛ ولهذا يقول ..... من باب عطف الدلالة على المدلول، فالمدلول هو التوحيد، والدال هو شهادة أن لا إله إلا الله.

وقول الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، قبلها قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء:56]، ثم قال بعدها: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ، فدُعاؤهم من دون الله -مَن لا يكشف الضرّ، ولا يجلب الخير- هذا هو الشِّرك، وتخصيص العبادة لله وحده هذا هو التوحيد.

فقوله سبحانه: قُلِ ادْعُوا يعني: قل يا محمد لهؤلاء الناس ادْعُوا من باب التَّقريع لهم والتَّوبيخ.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ يعني: من آلهتكم: من أصنامٍ، أو أشجار، أو أحجار، أو ملائكة، أو غير ذلك، فَلَا يَمْلِكُونَ هؤلاء المدعوون لا يملكون كشف الضُّرِّ عن داعيهم بالكلية، ولا تحويلهم من حالٍ إلى حالٍ، لا تحويلهم من الرأس إلى الرجل، ولا من الرجل إلى الصدر، ولا من الصدر، ولا غير ذلك، ليسوا قادرين على هذا الشيء، بل هذا إلى الله ، هو الذي يكشف الضُّرَّ، وهو الذي يجلب النَّفع .

ثم قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: أولئك الذين يدعوهم أهلُ الشِّرك، وفي القراءة الأخرى: تَدْعُونَ أراد بهم مَن يعبد الله من الملائكة والصَّالحين والأنبياء؛ ولهذا قال بعده: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ؛ لأنَّ المدعوين صالحون في أنفسهم، ومع هذا لا يستطيعون كشف الضُّرِّ ولا تحويلًا، إذا كان الصَّالحون من الأنبياء والرسل لا يملكون، فغيرهم من باب أولى لا يملك: كالأصنام، والأشجار، والأحجار من باب أولى؛ لأنه جماد عاجز.

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: يدعوهم أهل الشِّرك، وفي قراءةٍ أخرى: أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ يعني: تدعونهم معشر المشركين، يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يعني: يطلبون إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، والوسيلة: القُربة إليه بطاعته : أَيُّهُمْ أَقْرَبُ يعني: يجتهدون في أيّهم أقرب: بتوسله إلى الله، بدعائه في الله، وطاعته إياه، وتقربه إليه بأنواع الطَّاعات.

وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ لأنهم عبيده يخشونه ويخافونه، فكيف يُدعون من دون الله؟! كيف يُستغاث بهم؟!

فيُبين التوحيد بهذه الآية، وأنَّ ضدَّ هذا هو التوحيد، تخصيص الله بالعبادة والرجاء والخوف هو العبادة، هو التوحيد، وصرف هذا لغير الله هو الشِّرك، وهي ..... فيمَن يعبد آلهةً من دون الله هي في نفسها صالحة، في نفسها عابدة لله: كالملائكة والرسل والأنبياء: كعيسى وأمه والعزير، كلهم يعبدون الله، فعابدوهم قد خسروا وضلوا، بحيث عبدوا عبيدًا يعبدون الله، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، والواجب عليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده .

وهكذا قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ۝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:26- 27]، هذا تفسير التوحيد بمعناه، فـإِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ معنى: لا إله، وإِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي هو معنى إلا الله، فبيَّن معنى "لا إله إلا الله"، وأنها براءة من عبادة غيره، وإنكار لها، وإبطال لها، ومُوالاة لله وحده بالعبادة، تخصيصه بالعبادة دون كلِّ ما سواه جلَّ وعلا.

وقوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني وأوجدني من العدم، فالمعبود بالحقِّ هو الله وحده، هو الذي فطر العبادَ وخلقهم وأوجدهم وأمرهم أن يعبدوه، وخلقهم لذلك، فالواجب أن يُعبد وحده لا شريكَ له، والواجب إنكار عبادة غيره، والبراءة منها، واعتقاد بطلانها، والعبادة الحقّ لله وحده، دون كلِّ ما سواه جلَّ وعلا.

وهكذا قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، يُبين بهذا أنَّ هذا الشِّرك ضدّ التوحيد، وأنَّ التوحيد ألا يُتّخذ مع الله لا حبر، ولا راهب، ولا غير ذلك من ملكٍ، أو نبيٍّ، أو صالحٍ، بل يجب أن يُعبد الله وحده دون كلِّ ما سواه .

والمشركون من اليهود والنصارى وغيرهم اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ [التوبة:31] أي: علماءهم، وَرُهْبَانَهُمْ أي: عُبَّادهم، أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ حيث أحلُّوا ما أحلوا، وحرَّموا ما حرَّموا من دون حُجَّةٍ ولا برهانٍ، بل عظَّموهم حتى أحلوا ما أحلوا، وحرَّموا ما حرَّموا، وإن خالف شرع الله، وإن خالف ما جاءت به الرسل من التَّوراة والإنجيل، فصاروا بهذا عابدين لهم، متَّخذين لهم أربابًا؛ لأنهم قدَّموهم على شرع الله، واستحلوا ما أحلّوا، وحرَّموا ما حرَّموا من غير حُجَّةٍ ولا برهانٍ، فصاروا بهذا عابدين لهم، كما في حديث عدي بن حاتم لما سمع الآيةَ قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم! قال: أليسوا يُحرِّمون ما أحلَّ اللهُ فتُحرمونه؟ ويُحلون ما حرَّم الله فتُحلونه؟ قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم.

المقصود أنَّ اتخاذ الأحبار -وهم العُلماء- والرُّهبان -وهم العُبَّاد- أربابًا بمعنى: أنهم يُعبدون مع الله ويُدعون، أو يُستغاث بهم، أو يُنذر لهم، أو يحلّ ما أحلوا، ويُحرم ما حرَّموا، وإن خالف الشرع، ويعتقد أنَّ هذا هو الصواب؛ هذا كفرٌ أكبر، وشركٌ أكبر يُنافي التوحيد، والتوحيد هو: اتِّباع الشرع، هو طاعة الله ورسوله، وتحليل ما أحلَّ الله، وتحريم ما حرَّم الله، والانقياد لشرع الله، وتخصيص الله بالعبادة دون كلِّ ما سواه، هذا هو التوحيد، وهذا هو الحقّ، وهذا هو العبادة لله وحده ؛ ولهذا سمَّاهم: مشركين بقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، فجعل عملهم شركًا وضلالًا وكفرًا، نسأل الله العافية.

س: ...............؟

ج: هذا من هذا الباب: عُبَّاد البدوي، وعُبَّاد الحسين، وعُبَّاد الشيخ عبدالقادر هم من هذا الباب، هم اتّخذوا آلهةً مع الله، نقضوا قول "لا إله إلا الله"، وأبطلوها بعملهم السَّيئ، نسأل الله العافية.

س: يُعذروا؟

ج: يُبين لهم، ويُدعون إلى الله، ويُوضح لهم الحقّ، عملهم كفر وضلال، وهذا من أعظم الكفر الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم، ولكن لا يُقتلون، ولا تُستحلّ دماؤهم وأموالهم حتى يُبين لهم، من باب إقامة الحجَّة، يُبين لهم الحقّ، فإن أصرُّوا قُتلوا إذا يسَّر اللهُ مَن يُقيم ذلك عليهم.

س: ................؟

ج: هذا النزول يليق بالله، لا يُخاض فيه، ليس مثل الناس، وليس مثل المخلوقين، نزول يليق بالله في كل بلدٍ بحسبها.

والآية الرابعة قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، هذا أيضًا من باب تفسير التوحيد بضدِّه، وهو الشِّرك، فإنَّ بعض الناس يتَّخذ أندادًا من الأنبياء والصَّالحين والأصنام، يعبدهم ويُعظِّمهم، يدعوهم ويستغيث بهم، ويُحبهم حبًّا خاصًّا يقتضي عبادتهم من دون الله، هذا هو الشِّرك الأكبر، وتخصيص الله بالعبادة دون كلِّ ما سواه هذا هو التوحيد، فالله يذمّ هؤلاء المشركين الذين يتَّخذون أندادًا يُحبونهم كحبِّ الله، يذمُّهم ويعيبهم ويتوعدهم بالنار، كما في آخر الآيات: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] يعني: بأسباب كفرهم واتِّخاذهم الأنداد.

فالتوحيد هو ألا يُتَّخذ مع الله ندٌّ، بل يُعبد وحده دون كلِّ ما سواه، فيُدعا وحده، ويُستغاث به وحده، ويُصلَّى له وحده، ويتقرب إليه بالعبادات وحده دون كلِّ ما سواه، هذا هو التوحيد، أما التَّقرب للأنداد من الأصنام والأشجار والأحجار والأنبياء ودعاؤهم والاستغاثة بهم هذا هو التَّنديد، هذا هو اتِّخاذ الأنداد، وهذا هو الشِّرك الأكبر.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه.

هذا رواه مسلم في الصحيح عن طارق الأشجعي: أنَّ النبي ﷺ قال: مَن قال: لا إله إلا الله، وفي لفظٍ: مَن وحَّد الله، هكذا رواه مسلم: مَن وحَّد الله بدلًا من: مَن قال: لا إله إلا الله، وهذا يُبين معناها، وأنَّ معنى "لا إله إلا الله" التوحيد، معناها: تخصيص الله بالعبادة، والكفر بما يُعبد من دون الله، يعني: أنكر عبادة غير الله وكفر بها، واعتقد بطلانها؛ حرَّمه اللهُ على النار بعقيدته الإيمانية التوحيدية التي مضمونها أنه أفرد الله بالعبادة، وخصَّه بالعبادة، وتبرأ وكفر بعبادة غيره ، فحرم ماله ودمه يعني: صار مسلمًا يحرم ماله ودمه، ويلزمه الإتيان بشرائع الإسلام، وحسابه على الله ، إن كان صادقًا في إيمانه وتوحيده فله الجنة، وإن كان قال ذلك نفاقًا ورياءً، لا عن إيمانٍ، فإنه يكون له حكم المنافقين، ويكون في الدَّرك الأسفل من النار، نعوذ بالله من ذلك.

وهذا يُبين لنا أنَّ مَن وحَّد الله صادقًا، وكفر بما يُعبد من دون الله صادقًا، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله ، لكن إن كان صادقًا مثلما تقدم صار سعيدًا في الدنيا والآخرة، وله الجنة والكرامة، إذا أدَّى حقَّ الله، وأدَّى ما يلزمه من حقِّ "لا إله إلا الله"، وإن كان قال ذلك رياءً ونفاقًا صار له حكم المنافقين في الدنيا، وله حكمهم في الآخرة من دخول النار، نعوذ بالله من ذلك، نسأل الله العافية.

س: ...............؟

ج: يصير كافرًا؛ لأنه لو كان مؤمنًا ما ترك الصلاة؛ لأنَّ الصلاة عمود الإسلام، مَن تركها كفر، يقول النبيُّ ﷺ: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر، وقال: بين الرجل وبين الكفر والشِّرك ترك الصلاة، فالذي يترك الصلاةَ ما عنده إيمان، لو كان عنده إيمانٌ ما ترك الصلاة، ومثل ذلك لو قال: لا إله إلا الله، وشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه يسبّ الرسول، وأيش تقول فيه؟ يصير مسلمًا أو كافرًا .....، يقول: أنا مؤمن، ولكن أسبّه، يُطاع؟ يصير ما عنده إيمانٌ، ولو كان عنده إيمانٌ ما سبَّ الرسول، فكذلك الذي عنده إيمانٌ ما يترك الصلاة، فهمتَ؟

س: بالنسبة للذي ما عنده شبهات الصُّوفية إذا مات وكان في محفلٍ يُصلَّى عليه؟

ج: فيه تفصيل، الصوفية أعمالهم تختلف: فيها الشرك، وفيها غير الشرك، إن كانت بدعةً دون الشِّرك فحكمه حكم المسلمين، وإن كان شركًا فحكمه حكم الكفَّار، لا يُصلَّى عليه.

باب من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه

قال قارئ المتن: هذا الباب لم يُقرأ على سماحته.

باب ما جاء في الرُّقى والتَّمائم

في الصحيح عن أبي بشيرٍ الأنصاري : أنه كان مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، فأرسل رسولًا: أن لا يبقينَّ في رقبة بعيرٍ قلادة من وترٍ، أو قلادة إلا قُطعت.

وعن ابن مسعودٍ قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّولة شركٌ رواه أحمد وأبو داود.

وعن عبدالله بن عكيم مرفوعًا: مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه رواه أحمد والترمذي.

التَّمائم: شيء يُعلق على الأولاد يتَّقون به العين، لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فرخَّص فيه بعض السَّلف، وبعضهم لم يُرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعودٍ .

والرُّقَى: هي التي تُسمَّى: العزائم، وخصَّ منها الدليل ما خلا من الشِّرك، رخَّص فيه رسولُ الله ﷺ من العين والحمة.

والتِّولة: هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يُحبب المرأةَ إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.

الشيخ: قال رحمه الله: (باب ما جاء في الرُّقى والتَّمائم) يعني: باب ما جاء فيها من الأحاديث والآثار الدالة على تحريم التَّمائم، وعلى التفصيل في الرُّقى، فالتَّمائم جنسها محرم، وقد فصَّل فيها بعضُ أهل العلم، لكن الصواب عدم التفصيل، أما الرُّقى فكما يأتي، ففيها التَّفصيل.

فالرقى جمع رقية، وهي ما يُنفث به على المريض، يُقال له: رقية. والتَّمائم جمع تميمةٍ، وهي ما يُعلق على المريض أو على الأطفال من الودع والخرز والعظام والطلاسم وغير هذا مما يُعلق، يُعلقه الناسُ في الجاهلية، وهكذا بعض الناس في الإسلام يُعلقونه ظنًّا منهم أنه يدفع العين، أو يدفع الجنَّ.

وقد دلَّت الدلائل الشَّرعية على تحريم التَّمائم، وأنه لا يجوز تعليقها على الأولاد، ولا على المرضى، بل يجب ترك ذلك للأدلة الآتية.

وأما الرقى ففيها تفصيل: فإن كانت رقيةً معروفةً بالآيات والدَّعوات المعروفة فلا بأس، بشرط ألا يعتقد أنها تشفي بنفسها، بل هي سببٌ من الأسباب، إن شاء الله نفع بها، وإن شاء سلبها ذلك، فالرقى جائزة بأمورٍ ثلاثةٍ:

الأول: أن تكون بلسانٍ معروف المعنى، ليس فيه جهالة.

والشرط الثاني: أن يكون ذلك المعنى سليمًا، ليس فيه ما يُخالف الشرع المطهر.

والشرط الثالث: ألا يعتمد عليها بذاتها، بل يعتقد أنها سببٌ من الأسباب، إن شاء الله نفع به، وإن شاء سلبه النفع.

بهذه الشروط الثلاثة تكون الرُّقى جائزةً عند أهل العلم؛ لقول النبي ﷺ: لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا رواه مسلم؛ ولأنه قد رقى ورُقِي عليه الصلاة والسلام، والصحابة فعلوا ذلك، فلا حرج في الرُّقى إذا كانت بهذا المعنى، إذا كانت معروفة المعنى: إما بآيات، أو بالدَّعوات المعروفة، وبشرط أن يكون المعنى ليس بمحذورٍ، أما إن كان فيه توسل للشياطين، أو توسل بحقِّ فلان، أو جاه فلان؛ مُنع ذلك. أو كانت فيه حروف مُقطعة مجهولة يُمنع ذلك، لا بدَّ أن تكون معروفة المعنى، سليمة المعنى، ليس فيها شيء يُخالف الشرع، ومع عدم الاعتماد عليها، بل يعتقد أنها سبب.

وأما التِّولة فكما يأتي، فقد بيَّن المؤلفُ أنها شيء يُصنع لتحبيب الرجل إلى امرأته، والمرأة إلى زوجها، وقد كان يتعاطاها أغلبُ النساء، يصنعون أشياء بواسطة الجنِّ والشياطين، ويزعمون أنه يحصل به تحبيب الرجل إلى امرأته، والمرأة إلى زوجها، يُسمونه: الصرف والعطف، وهو نوعٌ من السحر، والسحر كله منكر، كله كفر وضلال، قال تعالى عن هاروت وماروت: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ الآيات [البقرة:102].

وفي الحديث الأول: حديث عبدالله بن مسعود يقول ﷺ: إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّولة شرك، والحديث الثاني: حديث عبدالله بن عكيم: مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه.

فهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يعتمد على الله، وألا يعتمد على غيره، فإذا وكل إلى الله فقد وكل إلى الخير والسَّعادة والصلاح، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] يعني: كافيه.

فالواجب على أهل الإيمان أن يتوكلوا على الله في كل أمورهم، وأن يعتصموا بحبله، وأن يعتمدوا عليه في كل شيءٍ، مع الأخذ بالأسباب من الأدوية والأعمال الصَّالحة، واتِّقاء ما يضرّ، فالأسباب لا بدَّ منها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ.

فالأخذ بالأسباب أمر لازم، فعليه أن يستقيم على طاعة الله التي فرض عليه، ويدع محارم الله، هذه أسباب دخول الجنة والنَّجاة من النار، وعليه أن يأكل ويشرب ويتعاطى أسباب العافية، وأسباب السَّلامة لنفسه من الموت، ويأخذ بالأسباب الأخرى التي تنفعه: من طلب الرزق، والبيع والشراء، والزراعة، كل هذه أسباب شرعية مُباحة يستعين بها على طاعة الله، وعن الاستغناء عمَّا في أيدي الناس.

فالأسباب ما بين جائزٍ، وما بين واجبٍ، فعليه أن يتعاطى الأسباب الجائزة والواجبة، ولا يأبى ذلك، أو يعتقد أن ذلك يقدح في التوحيد أو يضرّه، كل هذا غلط، بل ترك الأسباب يقدح في العقل والتوحيد جميعًا.

وينبغي للمؤمن أن يتعاطى الأسباب، ويأخذ بالأسباب الجائزة والمشروعة والواجبة، ويدع ما حرَّم الله من الأسباب التي حرَّمها: كالسحر، والتَّمائم، والتِّولة، وأكل الحرام، وظلم الناس، وما أشبه ذلك مما حرَّم الله.

والتَّمائم عرفتها، وأنه شيء يُعلق على الأولاد، وعلى المرضى من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فقد رخَّص فيه بعضُ العلماء وأجازوه، ونهى عنه آخرون وحرَّموه، وممن حرَّمه عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه وأرضاه، ومَن رُوي عنه الجواز عبدالله بن عمرو، والصواب التَّحريم، وهو الذي تدل عليه الأدلة العامَّة، فإنَّ الرسول ﷺ قال: مَن تعلَّق تميمةً فلا أتمَّ اللهُ له، مَن تعلَّق تميمةً فقد أشرك كما تقدم في الباب السَّابق.

والواجب حسم هذا الباب والقضاء عليه بالكلية، وألا يجوز منه شيء؛ لأنه متى فُتح البابُ جاءت تمائم محرَّمة ومُنكرة، والرسول ﷺ منع منعًا باتًّا، ولم يستثنِ شيئًا، فوجب منع التَّمائم كلها؛ عملًا بالأحاديث العامَّة؛ وسدًّا لذرائع الشِّرك.

وأما الرُّقى فعرفت التفصيل فيها؛ وأنه ما كان منها من الآيات القرآنية، أو ما جاء في الأحاديث النبوية، أو من دعوات معروفة لا بأس بها، فلا بأس، وما كان مجهولًا، أو فيه محذور شرعي فإنه يُمنع، ويُشترط في الجائز ألا يعتمد على الرُّقى بنفسها، بل يعتقد أنها من الأسباب التي شرعها الله، إن شاء الله نفع بها، وإن شاء لم ينفع .

وأما السحر فكله بجميع أنواعه ممنوع، ومنه التِّولة التي هي الصرف والعطف، فهذا ممنوعٌ ومذمومٌ؛ لأنه لا يُتوصل إليه إلا بالكفر، إلا بطاعة الشياطين وعبادتهم، فوجب منع ذلك وسدّ بابه بالكلية.

رزق الله الجميع العافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه.

س: العزائم ما هي؟

ج: العزائم هي الرُّقى، تُسمَّى العزيمة: الرُّقى.

س: ...............؟

ج: لا، ما يجوز، التَّمائم ما تعلق: لا آيات، ولا غيرها، لا يجوز تعليق التَّمائم، ما يجوز التعليق: لا آيات، ولا غيرها على الأطفال، ولكن يُعوَّذون، يُعوذهم أبوهم أو أمّهم: "أُعيذك بكلمات الله التَّامة من كل شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كل عينٍ لامَّةٍ". كان النبيُّ ﷺ يُعوِّذ الحسنَ والحسين بهذا التَّعوذ، يقول: أُعيذكما بكلمات الله التَّامة من كل شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كل عينٍ لامَّةٍ عند النوم، وفي أي مكانٍ.

س: ...............؟

ج: ما أعرف شيئًا في هذا الكلام، لكن السِّحر يكون من طريق الشَّياطين.

..............

وروى أحمد عن رُويفع قال: قال لي رسولُ الله ﷺ: يا رُويفع، لعلَّ الحياةَ ستطول بك، فأخبر الناسَ أنَّ مَن عقد لحيته، أو تقلَّد وترًا، أو استنجى برجيع دابَّةٍ أو عظمٍ، فإنَّ محمدًا بريء منه.

وعن سعيد بن جبير قال: "مَن قطع تميمةً من إنسانٍ كان كعدل رقبةٍ". رواه وكيع.

وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التَّمائم كلها، من القرآن وغير القرآن".

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: (وروى أحمد) هو الإمام أحمد بن حنبل الشَّيباني المعروف، أحد الأئمة الأربعة المشهورين، ولد سنة 164، ومات سنة 241 رحمه الله، في مسنده: عن رُويفع بن ثابت الأنصاري، من الأنصار، عن النبي ﷺ أنه قال: يا رويفع، لعل الحياةَ ستطول بك، هذا على سبيل الظنِّ والرجاء، وقد طالت به الحياة، ومُتع رضي الله عنه ورحمه.

فأخبر الناسَ أنَّ مَن عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابَّةٍ أو عظمٍ فإنَّ محمدًا بريء منه.

هذا فيه أربع مسائل:

المسألة الأولى: مَن عقد لحيته: قال أهلُ العلم في هذا: معناه يعني: جعدها وعني بها ونفشها للتَّكبر والتَّعاظم؛ تكبرًا وتعاظمًا، أو عقدها معناه: صففها تصفيفًا يليق ويُناسب تصفيف أهل التَّخنث والتَّشبه بالنِّساء في كلامهن ومشيهن وغير ذلك، إذا كان على هذا الوجه، أما إعفاؤها والعناية بها وتسريحها وتحسينها فهذا ليس داخلًا في هذا، من دون أن يقصّها، يعتني بها تسريحًا، وتكريمًا، وحفاظًا عليها، هذا غير داخلٍ في العقد، وإنما العقد المذموم إما أن يجعلها على هيئةٍ يُشابه فيها أهل التَّخنث والتَّشبه بالنساء، أو على هيئة التَّكبر والتَّعاظم والخُيلاء إذا كان يتعاطى ذلك كما يتعاطى أهل التَّكبر فيتشبّه بهم، والحديث في سنده بعض اللين، لكن له شواهد.

أو تقلد وترًا يعني: تعلق وترًا، والأوتار هي أوتار القسي: ما يُتَّخذ من الأمعاء أو العصب أو غيره من أوتار القسي، ما يتّخذ من الأمعاء أو العصب أو غيره تُربط به القسي.

وكانوا في الجاهلية إذا أطلقوه من القسي واستغنوا عنه قلَّدوه وجعلوه تميمةً، وجعلوه على الإبل يزعمون أنها تدفع عنهم العين؛ ولهذا تقدم أنه ﷺ بعث رسولًا: لا يبقى في رقبة بعيرٍ قلادة من وترٍ إلا قطعها، كما تقدم.

وهذا من أمر الجاهلية: يُقلدون الأوتار على الإبل، والتَّمائم على الأولاد، وكله من أعمال الجاهلية، فأبطلها الإسلامُ ونهى عنها.

فالواجب ألا يفعل ذلك المؤمنُ، بل يحذر ذلك؛ ابتعادًا عن خصال أمر الجاهلية وعوائدهم الذَّميمة، فالله جلَّ وعلا هو الذي يمنع البلاء، ويدفع البلاء ، والواجب التَّعلق به، والتوكل عليه ، وتعاطي الأسباب التي أباحها وشرعها من العلاج الشرعي والدَّواء وغيرها مما يُصيبه من الأمراض، لا بالأوتار، ولا بالتَّمائم.

الثالثة والرابعة: الاستنجاء برجيع دابَّةٍ أو عظمٍ: مَن يستنجي برجيع الدابَّة، يعني: الأذى الخارج من البول والغائط، رجيع الدابة: بعر الإبل أو الغنم أو البقر، أو شبه ذلك، أو عظم يتمسح به من بوله أو غائطه، كل هذا منهيٌّ عنه.

والحديث الآخر: أن النبي ﷺ نهى أن يُستنجى بعظمٍ أو روثٍ، وقال: إنهما لا يطهران، فثبتت الأحاديث النَّهي عن هذا عن النبي ﷺ، فلا يجوز للمؤمن أن يستنجي بأبعارٍ أو عظامٍ، بل يجب أن ينصرف عن ذلك إلى أشياء أخرى طاهرة: من ترابٍ، من لبنٍ، من حجرٍ، من مناديل طاهرة يستنجي بها بدلًا من الماء، أو مع الماء، أما العظام والأرواث فلا، فلو فعل ما تطهر، فيجب تركها والابتعاد عن التَّشبه بالجاهلية في ذلك.

قوله: فإنَّ محمدًا بريء منه وعيد شديد، يدل على تحريم هذه الأشياء، وأنها مُنكرة، مُحرَّمة، والشاهد من هذا قوله: أو تقلَّد وترًا، هذا الشاهد في الترجمة: النَّهي عن تقليد الأوتار والتَّمائم، فلا يجوز للمسلم أن يتعلق أوتارًا، أو تمائم، أو ودعًا، أو غير ذلك مما يفعله أهلُ الجاهلية، بل يجب أن يُعلق قلبه بالله، ويتوكل عليه، ويعظم أمره ، ويستند إليه جلَّ وعلا في كل الأمور، ولا مانع أن يتعاطى الأسباب التي أباحها: من رقيةٍ، من الكي، من العلاج بالأشياء الأخرى التي ثبت في التَّجارب أنها تنفع، أما أن يُعلق وترًا أو تميمةً أو خيطًا فهذا كله لا يجوز؛ لأنه من عمل الجاهلية؛ ولأنه يصرف القلوب عن التَّعلق بالله والتوكل عليه إلى التَّعلق على هذه الأشياء التي لا فائدةَ منها، ولا خير فيها.

وفي حديثٍ رواه وكيع: وهو وكيع بن الجراح، إمام مشهور رحمه الله، المتوفى سنة 196، وهو من شيوخ أحمد، وشيوخ الشافعي رحمة الله على الجميع.

وعن سعيد بن جبير قال: "مَن قطع تميمةً كان كعدل رقبةٍ" رواه وكيع. رواية وكيع لحديث سعيد، سعيد هذا هو ابن جبير، تابعي جليل، من أصحاب ابن عباسٍ، قتله الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي الظالم سنة 94 من الهجرة ظلمًا وعدوانًا، وهو من عُرف بالعلم والفضل والفقه في الدِّين رحمه الله، يعني سعيد يقول: "مَن قطع تميمةً كان كعدل رقبةٍ".

هذا يدل على فضل قطع التَّمائم، وأنها تخليص من الشرك، إذا كان عدلُ الرقبة فيه فضل عظيم فتخليص الناس من الشرك كذلك فيه فضل عظيم، بل هو أعظم من عتق رقبةٍ، دعوة الناس إلى التوحيد وتخليصهم من الشرك أعظم من عتق الرقبة؛ لأنَّ الشرك يُوقع في النار -والعياذ بالله- فالذي يسعى في تخليص الناس من الشِّرك، ويُبين لهم التوحيد، ويدعوهم إلى ذلك، ويصبر على الأذى في ذلك، فهو خيرٌ عظيمٌ، وفضلٌ كبيرٌ، حتى قال سعيد: إنه كعتق رقبةٍ، بل هو أعظم من ذلك.

وهذا قد يُقال: له حكم المرسل؛ لأنَّ سعيدًا قد لا يقوله من جهة رأيه، ويحتمل أنه من تفقهه، وأنه شبه عتق الناس من الشِّرك بعتق الرقاب، ولكن عند التَّحقيق والتَّأمل والنَّظر يكون أعظم من عتق الرقاب، يعني: إعتاقهم من الشرك وتخليصهم من الشرك أعظم وأكبر من عتق الرقاب التي يكون بها الإنسانُ حرًّا، طليقًا، بعيدًا عن مُشابهة البهائم، فهؤلاء إعتاقهم فيه تخليصهم من النار، ومن غضب الله ، فالأمر أعظم.

فتعليق التَّمائم من الشرك، وإن كان أصغر، ولكن خطره عظيم، ويجرّ إلى الأكبر.

وفي هذا فضل الدَّعوة إلى الله، وبيان ما لأهلها من الخير العظيم، وأنهم يسعون لإعتاق الناس من النار، وتخليصهم من النار؛ ولهذا جعل اللهُ لهم فضلًا عظيمًا، حتى قال النبيُّ ﷺ: لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم، وقال: مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئًا، وقال: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، فالدعوة إلى الله وهداية الناس إلى الخير فيها الفضل العظيم، والخير الكثير، والعاقبة الحميدة، والنفع العام.

قال إبراهيم: "كانوا يكرهون التَّمائم كلها، من القرآن وغير القرآن"، وإبراهيم هو إبراهيم بن يزيد النَّخعي، تابعي معروف، من صغار التابعين، من أصحاب أصحاب ابن مسعودٍ رضي الله عن الجميع.

يقول: "كانوا" يعني: أصحاب عبدالله بن مسعودٍ: كعلقمة، والأسود ..... بن يزيد النَّخعي وأشباههم "يكرهون التَّمائم كلها، من القرآن وغير القرآن"، وهذا جاء عن شيخهم ابن مسعود: النهي عن التَّمائم بالقرآن وغير القرآن؛ وذلك لأمرين:

أحدهما: عموم الأحاديث الدالة على تحريم التمائم والنهي عنها.

والأمر الثاني: سدّ الذَّرائع الموصلة إلى الشِّرك، وأنه متى علق التَّمائم من القرآن جرَّت إلى التَّمائم الأخرى، وقد جاءت الشريعةُ بسدِّ الذَّرائع المفضية إلى الشِّرك والمعاصي.

فالواجب على أهل الإسلام الحذر منها مطلقًا، وألا يُعلقوا شيئًا من التَّمائم: لا من القرآن، ولا من غير القرآن.

والتمائم تقدم بيانها: وأنها شيء يُعلق على الأولاد من العين، أو يُعلق على المريض، أو يُعلق على النِّساء، يزعمون أنها تدفع الشياطين، وتدفع الجن، وتدفع العين، وهذا من جهلهم، غلط، فالرسول نهى عن التمائم كلها، قال: مَن تعلق تميمةً فلا أتمَّ اللهُ له، مَن تعلَّق تميمةً فقد أشرك، إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّولة شرك، فدلَّ ذلك على تحريمها مطلقًا، ومَن استثنى القرآن فعليه الدليل، إنما الرقي بالقرآن هو المشروع، أما تعليقه وجعله في قرطاس، ويُجعل في رقعةٍ، أو في كيسٍ ويُعلق، أو يُؤخذ مصحفٌ صغيرٌ ويُعلقونه، بعض الناس يضع مصاحف صغيرة، حجمها صغير تُعلق، هذا كله منكر، وإهانة للقرآن، وإهانة لكتاب الله ، فلا يجوز هذا العمل: لا تعليق المصحف، ولا تعليق آيات منه، ولا أحاديث، ولا طلاسم، ولا عظام، ولا غير ذلك مما يُعلقه الجهلة.

رزق اللهُ الجميعَ العافية، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه.

س: ..............؟

ج: هذا منكر ما يجوز، أما إن كان قصده أن يقرأ فيحطه في محلٍّ مناسبٍ، أما أن يحطّه في آخرها، أو في مُقدمها لهذا القصد، هذا ما يجوز، هذا من جنس التَّمائم، أو يحطّ حيوانًا: كلبًا أو هرًّا أو شيئًا لهذا القصد، كله لا يجوز.

س: تعلق الآيات بغير قصد التَّبرك .....؟

ج: في المساجد ما ينبغي؛ لأنها تُشوش، أقلّ أحوالها الكراهة، أما في غير المساجد: في المكاتب، أو في المدارس، الأمر فيها واسع، الأمر فيها أسهل إذا كان لغير هذا القصد.

س: ...............؟

ج: لا، ما ينبغي؛ لأنها تُمتهن، تُطرح الثياب ويُستهان بها.

..............

باب مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما

وقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم:19- 20].

عن أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حُدثاء عهدٍ بكفرٍ، وللمُشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرةٍ فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط. فقال رسولُ الله ﷺ: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، لتركبنَّ سُنن مَن كان قبلكم رواه الترمذي وصححه.

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ ونحوهما) كالقبر والصنم ونحو ذلك، والتَّبرك بها يعني: طلب البركة منها، كما يفعل عُبَّاد القبور، وعُبَّاد الأشجار والأحجار، ترك الجواب لأنه معلوم المعنى: فقد أشرك. فحكمه مَن تبرك، أي: حكمه أنه قد أشرك، وهذا جواب مَن تبرك، يعني: باب حكم مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ .. إلى آخره، أو باب مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ أو نحوهما، يعني: فقد أشرك. ترك الجواب ليتدبر الطالبُ، ويتأمل الطالب الحكم مما ذُكر في الآية والحديث.

والتَّبرك بالأشجار والأحجار من عمل الجاهلية وأخبارهم وأعمالهم المعروفة، فكانوا يتبركون بالأشجار والأحجار والأصنام، ويدعونها، ويستغيثون بها، وينذرون لها، إلى غير ذلك، فجاء اللهُ بالإسلام فأبطل ذلك، وبيَّن لهم النبيُّ ﷺ أنها لا تنفعهم ولا تضرّهم، وأنَّ عملهم هذا باطل، وأمرهم بترك ذلك، والبراءة من ذلك، وألا يعبدوا إلا الله وحده ، فمنهم مَن أجاب، وهم السُّعداء، وهم الأقلون. ومنهم مَن كفر وأنكر، وهم الأكثرون، قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، ولكن العرب الموجودين في الجزيرة أجاب أكثرهم ودخلوا في دين الله بعدما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ۝ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:19- 22]، المعنى كما قال أهلُ التفسير يعني: أنفعت أم ضرَّت حتى تعبدوها من دون الله؟ المعنى أنها لم تنفع ولم تضرّ؛ لأنها ليس عندها فائدة، ولكنه الجهل والضَّلال، فأي فائدةٍ عند شجرةٍ وهي العُزَّى؟! أو صخرةٍ؟! وهي الصخرة التي كان يلت عليها السَّويق، أو نفسه هو وجسده وقبره؟! أي فائدةٍ عند هؤلاء؟! وهكذا مناة صخرة ..... عند قديد مما يلي ساحل البحر.

فهذه الثلاث التي عبدها المشركون في الجاهلية: العزى في مكة لأهل مكة ومَن كان على طريقهم، واللات لأهل الطائف ومَن كان على مذهبهم ونهجهم وأتباعهم، ومناة لأهل المدينة ومَن كان على نهجهم في ذلك.

هذه الأصنام الثلاثة، وهذه الأوثان الثلاثة كانت تُعبد من دون الله، وكانت تُعظم عند جاهلية العرب، فلما جاء اللهُ بالإسلام أزالها النبيُّ ﷺ، وقطع الشجرة، وهدم اللات، وكسر مناة، وانتهى أمرها والحمد لله، ولكن في آخر الزمان تعود كما قال النبيُّ ﷺ: لا تذهب الليالي والأيام حتى تُعبد اللات والعُزَّى، نسأل الله السلامة والعافية.

وكان من عملهم عندها: سؤالها، والتَّبرك بها، والنذر لها، والاستغاثة بها، ونحو ذلك من أعمالهم الخبيثة، فأبطلها الله بالإسلام، وأمر اللهُ عباده أن يعبدوه وحده، وأن يدعوه وحده، وأن يسألوه البركةَ جلَّ وعلا، فهو الذي بيده البركة، وبيده كل شيءٍ ، ليس بيد العزى أو اللات أو بقية الأصنام أو الأشجار التي عبدها أهلُ الشرك، بل هذا كله بيده ، وهو المبارك، وعبده المبارك، وهو الذي بيده الضرّ والنَّفع، والعطاء والمنع، وهو الذي يجب أن يُعبد وحده، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

فهذه الأصنام قُضي عليها بعد الفتح، بعد أن فتح الله عليه مكة، وبعد وقعة هوازن وحنين قُضي على هذه الأصنام وهُدمت وأُزيلت، وعبد الناسُ اللهَ وحده ، والحمد لله.

وفي حديث أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع رسول الله عام حنين، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يُقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط.

قوله: (ونحن حُدثاء عهدٍ بكفرٍ) يعني: قريبين العهد بالكفر، يعني: الآن أسلمنا من قريبٍ؛ وهذا كالعذر؛ لهذا جهلنا هذا الأمر.

(وللمشركين سدرة) السدرة معروفة، سدرة واحدة السدر المعروف، شجرة معروفة يُقال لها: النَّبق.

(يعكفون عندها) يعني: يُقيمون عندها، العكوف: الإقامة واللبث.

(وينوطون) أي: يُعلِّقون عليها أسلحتهم للتَّبرك بها، يقولون: إذا علّق السيف بها كان أمضى له وأقوى وأسدّ.

(يُقال لها: ذات أنواطٍ) تُسمَّى باسم ما يُعلق عليها: ذات أنواطٍ.

مررنا بسدرةٍ -في روايةٍ: خضراء- فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط. يعني: اجعل لنا شجرةً مثلهم نُعلق عليها السِّلاح، ونتبرك بها، فعند هذا غضب ﷺ وقال: الله أكبر هذه عادته ﷺ إذا رأى شيئًا يُنكر قال: الله أكبر، أو قال: سبحان الله! هذا هو السنة، وليست السنةُ التَّصفيق، التَّصفيق من أعمال الجاهلية، أما الرسول ﷺ وأصحابه فكانوا إذا رأوا شيئًا يُعجبهم كبَّروا؛ ولهذا قال هنا: الله أكبر.

وهكذا إذا رأى شيئًا مُنكرًا قال: الله أكبر، أو سبحان الله! كما قاله النبيُّ في مواضع كثيرةٍ، ولما أخبرهم ﷺ أنه يرجو أن يكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبرنا، قال: فإني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبرنا، قال: فأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، قال: فكبرنا.

إنها السنن يعني: إنَّ هذه الأمور هي سُنن مَن قبلكم، يعني: إنَّ عبادة الأشجار والأحجار والتَّأسي بالآباء والأسلاف هي السنة المعروفة عند الناس، يعني: هي الطريقة المعروفة، يتأسَّى آخرهم بأوَّلهم.

إنها السنن يعني: الطرق المتبوعة المعروفة: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].

ثم قال: قلتم والذي نفسي بيده يحلف بالله ؛ لأنَّ النفوس بيد الله، نفوس العباد كلها بيد الله .

قلتم والذي نفسي بيده يعني: والله كما قالت بنو إسرائيل إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبنوه هم اليهود ومَن انتسب إلى إسرائيل.

قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، هؤلاء اليهود قالوا لموسى هذا الكلام -بنو إسرائيل- فأنكر عليهم موسى عليه الصلاة والسلام، وبيَّن بطلان ما هم عليه، وأنه مُتَبَّرٌ وباطلٌ ما كانوا يعملون، وأنَّ الواجب عليهم أن يعبدوا الله وحده.

فهكذا هؤلاء تأسّوا بأولئك وقالوا مثلهم؛ جهلًا، لم يعرفوا أنَّ هذا لا يجوز؛ فلهذا قالوا هذه المقالة جهلًا؛ ولهذا قال في أول الحديث: "ونحن حُدثاء عهدٍ بكفرٍ" يعني: قريب عهدنا بالكفر، لم نتفقّه كثيرًا؛ فلهذا خفي علينا هذا الأمر، فأنكر عليهم ﷺ وقال: قلتُم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.

هذا يُبين لنا أنَّ الاعتبار بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ، هم قالوا: اجعل لنا ذات أنواطٍ. وبنو إسرائيل قالوا: اجعل لنا إلهًا. والمعنى واحد، المعنى: اجعل شيئًا نعبده ونُعظمه ونتبرك به كما فعل بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.

فهذا يُبين أنَّ العبرة بالمعنى والحقائق، لا بالألفاظ المجردة، فإذا قال إنسانٌ الباطل بأي لفظٍ فهو باطل، وإن كان ليس بلفظ الأولين السَّابقين، قال موسى لبني إسرائيل: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۝ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:138- 139].

لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم، ثم قال ﷺ بعد هذا: لتركبن سنن مَن كان قبلكم يُضبط بفتح السين وضمّها: سَنن: طريق، سُنن: طرق.

هذا يُبين لنا أنَّ هذه الأمة تسلك مسلك مَن كان قبلها، وأنها تُبتلى بما ابتُلي به مَن قبلها من الأمم: من عبادة الأشجار والأحجار والأصنام، والغلو في الصَّالحين، والغلو في الأنبياء، وغير هذا، وقد وقع هذا في الناس، الذي أخبر به النبيُّ ﷺ قد وقع في الناس، حتى عُبدت القبور وعُظمت وبُني عليها القباب والمساجد، وعُبدت الأصنام من دون الله، والأشجار، كل هذا قد وقع، والمقصود من هذا التَّحذير والتَّبيين أنَّ هذا سوف يقع فاحذروه.

وهكذا قوله ﷺ في حديث أبي سعيدٍ في "الصحيحين": لتتبعن سنن مَن كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة الحديث.

فالرسول يُحذرنا من اتباع مَن قبلنا من أهل الباطل والشَّر، وأنَّ الواجب على العبد أن يسلك مسلك الأنبياء والصَّالحين، وأن يأخذ طريقَهم، ويستقيم على نهجهم الصَّالح، وأن يُحافظ على ذلك، ويسأل ربه الثَّبات على ذلك، وألا يغترَّ بمَن هلك وضلَّ من الأمم، وألا يسلك سبيلهم في عبادة الأشجار أو الأحجار أو الأصنام أو غير هذا مما عبده المشركون الأولون، فالطريق السليم، والصراط المستقيم هو أن تعبد الله وحده، وأن تسلك مسلك الأنبياء والصَّالحين الذين تابعوا الأنبياء، وساروا على نهجهم، هذا هو الطريق النَّاجي والسَّعيد، وهذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو مسلك الأخيار من عباد الله المؤمنين، أما اتِّباع الضَّالين والسير على نهجهم فهذا نهج المغضوب عليهم، ونهج الضَّالين، ونهج فارس والروم، ونهج مَن خالف الشرع.

نسأل الله للجميع العافية والسَّلامة.

 

باب ما جاء في الذَّبح لغير الله

وقول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163]، وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].

عن علي بن أبي طالبٍ قال: حدَّثني رسولُ الله ﷺ بأربع كلماتٍ: لعن الله مَن ذبح لغير الله، لعن الله مَن لعن والديه، لعن الله مَن آوى مُحْدِثًا، لعن الله مَن غيَّر منارَ الأرض رواه مسلم.

وعن طارق بن شهابٍ: أنَّ رسول الله ﷺ قال: دخل الجنةَ رجلٌ في ذبابٍ، ودخل النارَ رجلٌ في ذبابٍ، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم، لا يجوزه أحدٌ حتى يُقرب له شيئًا، فقالوا لأحدهما: قرِّبْ. قال: ليس عندي شيء أُقرب. قالوا له: قرِّبْ ولو ذبابًا. فقرَّب ذبابًا، فخلوا سبيله؛ فدخل النار. وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ما كنتُ لأُقرب لأحدٍ شيئًا دون الله، فضربوا عنقه؛ فدخل الجنةَ رواه أحمد.

الشيخ: يقول رحمه الله: (باب ما جاء في الذَّبح لغير الله) يعني: باب ما جاء من الأدلة من الكتاب والسنة في حكم الذَّبح لغير الله؛ وذلك لأنَّ الناس ابتُلوا في زمانه وقبل زمانه بأزمان بالذَّبح لغير الله من الجنِّ والأصنام والقبور وأصحابها؛ فلهذا أراد أن يُبين للناس حكم هذا الأمر الذي وقع في زمانه، وقد قام يدعوهم إلى الله، ويُنذرهم الشِّرك بالله؛ فلهذا ألَّف هذا الكتاب، وجمع هذا الكتاب ليعلم الناس أحكام التوحيد وما يتعلق بذلك من المحرَّمات الأخرى.

(باب ما جاء في الذَّبح لغير الله) يعني: من الوعيد والدلالة على أنه من الشِّرك الأكبر.

قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي يعني: قل يا محمد للناس إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي يعني: ذبحي. وقال آخرون: معناه تعبدي؛ لأنَّ النُّسك: التَّعبد، ويدخل فيه الذبح وغيره: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ يعني: ما أحيا عليه وما أموت عليه من العبادات والأعمال لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سبحانه، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.

هذا الآية تُبين لنا أنَّ الذَّبح عبادة لا بدَّ أن تكون لله؛ لأنَّ الله قال: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ، فدلَّ على أنه ذبحٌ لغير الله: كأن يذبح للجنِّ، أو للأصنام، أو لأصحاب القبور، والتَّقرب إليهم، فهو مثل مَن صلَّى لغير الله؛ لأنه قرن الذَّبح بالصلاة، فكما أنه لو صلَّى للجنِّ، أو صلَّى للقبور، أو صلَّى للشمس، أو صلَّى للقمر، أو صلَّى للأصنام كان شركًا بالله، قد عبد غير الله، هكذا إذا ذبح لها سواء بسواءٍ، هذه عبادة، وهذه عبادة.

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي يعني: ذبحي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، فقد أمر بأن تكون صلاتُه لله، وصومه لله، وذبحه لله، وجميع ما يحيا عليه ويموت من العبادات كله لله .

وهكذا قوله جلَّ وعلا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1- 2] الكوثر: نهر في الجنة عظيم، أعطاه اللهُ لنبيه محمدٍ ﷺ، ومنه يصبّ ميزابان عظيمان في الحوض يوم القيامة، حوضه ﷺ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ يعني: شُكرًا لله على هذه النِّعمة التي أعطاك -الكوثر- فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ يعني: واذبح إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:3] يعني: مُبغضك هو الأبتر، هو المقطوع، الذليل، الحقير.

هذا يدلنا على أنَّ الصلاة عبادة، والنحر عبادة؛ لأنَّ الله أمر بهما، فإذا كان النحرُ عبادةً عُلم أنَّ صرفه لغير الله شركٌ، كما لو صرف الصلاةَ، فالذي يذبح الإبل أو البقر أو الغنم أو ما هو أقلّ من ذلك للجنِّ يخشى شرَّهم، كما كانت تفعله الجاهلية، ويفعله بعض الناس في الإسلام للجنِّ خوفًا من شرِّهم، وهكذا ذبحه للأصنام، أو ذبحه للأشجار والأحجار، أو ذبحه للكواكب، أو لأصحاب القبور: كالبدوي، أو الحسين، أو الحسن، أو فاطمة، أو النبي ﷺ، أو فلان، أو فلان، كله داخل في هذا، كله شركٌ بالله : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.

والعبادة: ما أمر الله به شرعًا، هذا أمر، والعبادة أيضًا: اسم جامع لكل ما يُحبّه الله ويرضاه، والله يُحب أن يُتقرب إليه بالصلاة والذَّبح، فعلمنا من هاتين الآيتين أنَّ الذبح لغير الله شركٌ بالله، هذا حكمه.

وفي الحديث الثاني: حديث عليٍّ، وعلي هذا هو ابن أبي طالب، هو ابن عبدالمطلب بن هاشم، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وزوج ابنته فاطمة، ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عن الجميع.

يقول: حدَّثه رسولُ الله بأربع كلماتٍ، وهذه الأربع بيَّنها قال: لعن اللهُ مَن ذبح لغير الله، لعن اللهُ مَن لعن والديه، لعن الله مَن آوى مُحْدِثًا، لعن اللهُ مَن غيَّر منارَ الأرض رواه مسلم في الصحيح.

هذه أربع كلمات بعضها أشدّ من بعضٍ، فبدأ بالأولى، وهي أشدّ شيءٍ، وهي الذَّبح لغير الله؛ لأنَّ الشِّرك أعظم الذنوب؛ ولهذا بدأ به، قال: لعن اللهُ مَن ذبح لغير الله، فعلمنا أنَّ الذبح لله عبادة، وأنَّ مَن صرفه لغير الله: كالجنِّ، أو الشياطين، أو الكواكب، أو الأصنام، أو أهل القبور، أو ما أشبه ذلك، يكون ملعونًا يستحقّ مثل هذا الذَّم العظيم.

واللَّعن هو: الطَّرد والإبعاد من رحمة الله، هذا يدل على أنه من الكبائر، وهو من الكبائر الشِّركية، كما قال النبي ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، فالشرك من أكبر الكبائر.

الثاني: لعن اللهُ مَن لعن والديه، لعن الوالدين من الكبائر أيضًا، ومن أعظم القبائح، والداك اللَّذان أحسنا إليك، وربَّياك، وتعبا عليك، لعنهما من أقبح القبائح، وهكذا لعن الناس حتى يلعنوهما، كما في الحديث الآخر: حديث عبدالله بن عمرو في "الصحيحين"، يقول ﷺ: من الكبائر شتمُ الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وهل يسبّ الرجلُ والديه؟ استنكروا ذلك؛ لأنَّ تعظيمهما وبرَّهما معلومٌ في الفِطَر وفي العقول وبالأدلة: وهل يسبّ الرجلُ والديه؟ قال: نعم، يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمَّه فيسبّ أمه.

هذا يُبين لنا أنَّ مَن سبَّ الناس حتى يسبّوا والديه معناه أنه سابٌّ لوالديه، مُتعرض لهذا، فيكون آثمًا بسبب أنه سبَّ الناس بغير حقٍّ، وتسبب في سبِّ والديه من الناس، هذا أيضًا من الكبائر.

فعليك أن تحفظ لسانك يا عبدالله، الإنسان يحفظ لسانه، ولا يسبّ، والسبّ قبيح، ومن الكبائر، لا يجوز السبّ -سبّ الناس- قال النبيُّ ﷺ: سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ، السَّبُّ بغير حقٍّ من الكبائر، قال عليه الصلاة والسلام: لعن المؤمن كقتله رواه البخاري من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاري.

فينبغي لك أن تحذر شرَّ لسانك، وقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ اللَّعانين لا يكونون شُهداء ولا شُفعاء يوم القيامة خرَّجه مسلمٌ في "الصحيح"، وقال: ليس المؤمنُ بالطَّعَّان، ولا اللَّعان، ولا الفاحش، ولا البذيء.

والثالثة: مَن آوى مُحْدِثًا معناه: الذي يُؤوي أهلَ البدع وأهلَ المعاصي، يُؤويهم وينصرهم، يكون ملعونًا -نعوذ بالله- فالذي يُؤوي المحدثين ويحميهم، أو يحميهم عن إقامة الحقِّ: كالذي يمنع من إقامة الحدِّ على الزاني، أو السَّارق، أو اللائط، أو ما أشبه ذلك؛ يكون ملعونًا، وهكذا مَن آوى البدع ونصرها وأيَّدها يكون ملعونًا، نعوذ بالله.

والرابع: مَن غيَّر منارَ الأرض المنار: المراسيم، سُميت: منارًا؛ لأنها تُنير الحقَّ للناس، توضح الحقَّ، تُنيره للناس يعني: توضحه، وتدل عليه، إذا كان بين الإنسان وبين جيرانه مراسيم في الأراضي، فالذي يُغيرها ملعونٌ -نعوذ بالله- لأنه يُوقع الناسَ في مشاكل، وربما أفضى إلى القتال بين الناس عند تغيير المراسيم، كما قد وقع كثيرًا، فالذي يُغير المراسيم ملعون، وهذه كبيرة من الكبائر، نعوذ بالله.

وهكذا أُلحق بذلك ما يكون على الطُّرقات التي تهدي إلى البلدان، وإلى المياه، لا يجوز تغييرها، هناك معالم تُرشد إلى بلدٍ معينٍ، أو إلى ماءٍ معينٍ لا يُغير.

والحديث الثاني: حديث طارق بن شهاب الأحمسي، هذا طارق صحابي صغير ، رأى النبيَّ ﷺ وروى عنه أحاديث، وغالب رواياته من حديث أبي موسى الأشعري، فرواياته مرسلة صحيحة، مرسل الصحابي صحيح.

يقول أنَّ النبي ﷺ قال: دخل الجنةَ رجلٌ في ذبابٍ يعني: بسبب ذبابٍ، "في" للسَّببية: دخل رجلٌ الجنةَ في ذبابٍ، مثلما دخلت النارَ امرأةٌ في هرَّةٍ، يعني: بسببها، ودخل النارَ رجلٌ في ذبابٍ، فتعجب الناسُ من هذا: في ذبابٍ؟! هذا الذُّباب الطائر الحقير، فسألوا النبيَّ عن ذلك، فقال: مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم، والصنم: ما نُحت على صورةٍ يُقال له: صنم، ما نُحت على صورةٍ وعُبد من دون الله يُسمَّى: صنمًا، وما كان ليس له صورة يُسمَّى: وثنًا، ويُطلق على الأصنام: الأوثان أيضًا.

والقصة أنه مرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم، لا يجوزه أحدٌ: لا يتعدَّاه أحدٌ، لا يجوز أو لا يُجاوز يعني: لا يتعدى أحدٌ، لا يُخلُّون أحدًا يمرّ عليه إلا يُقرب شيئًا، كان قليلًا أو كثيرًا، فقالوا لأحد الرَّجلين: قرِّبْ. قال: ما عندي شيءٌ أُقرِّب. اعتذر بأنَّه ما عنده شيء، ما يجوز، وإلا منكر، قال: ما عندي شيء أُقرب. فطمعوا فيه فقالوا: قرِّب ولو ذبابًا. ما دام أنت مُوافق قرِّب ولو ذبابًا، المقصود الموافقة، فقرَّب ذبابًا، فخلوا سبيله؛ فدخل النار.

هذا يُفيد أنَّ التَّقريب للأصنام ولو بشيءٍ حقيرٍ كالذُّباب أو ما يُشبه ذلك: قرش أو قرشان، أو شيء سوى ذلك يكون من الشرك؛ لأنَّ هذا عبادة له، ومُوافقة على عبادته وتعظيمه.

وقالوا للآخر: قرِّبْ. فقال: ما كنتُ لأُقرب لأحدٍ شيئًا دون الله. الآخر عرف الحقيقة، وعرف أنَّ هذا لا يجوز، فبين لهم أنه لن يُقرب شيئًا أبدًا، فضربوا عنقه؛ فدخل الجنةَ، قتلوه.

وهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أنَّ الشريعة ذاك الوقت -وهي شريعة مَن قبلنا- ما فيها العذر بالإكراه؛ ولهذا لم يأخذ الرخصةَ ويعمل ما يُخلصه من شرِّهم؛ فلهذا بادرهم.

والأمر الثاني: أنه يمكن أن تكون هناك رخصة، وأنَّ هناك عذرًا له بالإكراه، لكن لقوة إيمانه، وقوة يقينه، وعدم مُبالاته بهم لم يلجأ إلى النَّظر في الرخصة، وبادر بالإنكار، وقال: ما كنتُ لأُقرب لأحدٍ شيئًا دون الله ؛ فلهذا قتلوه، وكان إلى الجنة والشَّهادة.

هذا يُبين لنا أنَّ الواجب على المؤمن الحذر من الموافقة على الشِّرك، والبدار في إنكار الشرك، أما إذا أُكره فقد أنزل الله في كتابه العزيز: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ في شريعتنا وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106]، فلو ذبح الذباب في شريعتنا ولم يقصد التَّقرب إلى وثنهم، وإنما قصد التَّخلص من شرِّهم، وقلبه مُطمئن بالإيمان؛ ما ضرَّه ذلك في شريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ الله قال: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.

فلو أنَّ إنسانًا في شريعة محمدٍ أُكره على أن يذبح شاةً أو بعيرًا أو غير ذلك، أو ما هو أحقر من ذلك، ولم يتخلص من ذلك إلا بإجابة طلبهم، فإنه يذبح وله رخصة، ولكن لا ينوي لصنمهم، ينويه بقلبه لله، أو لا ينوي شيئًا من جهة صنمهم، وإنما يقصد التَّخلص من شرِّهم فقط، فهذا يكون معذورًا إذا لم يكن هناك مندوحة إلا القتل.

وفَّق الله الجميع.