14 من قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ..)

وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أو سعيد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَيْ فِي أَكِنَّةٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَيْ لَا تَفْقَهُ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ هي القلب الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ عليها غِشَاوَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا طَابَعٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَيْ لَا تَفْقَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ يَقُولُونَ عليه غِلَافٌ، وَهُوَ الْغِطَاءُ، وَقَالَ عبدالرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: فلا تعي ولا تفقه، قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف، بضم اللام، وهو جمع غلاف، أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس وعطاء: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير.
فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ
الشيخ: المعنى دل على أنهم يفهمون ويعقلون ولكن حملهم البغي والحسد وليس ردهم الحق وليس استكبارهم عن الحق من أجل أنهم لا يفهمون بل هم يفهمون ويعقلون ولكن حملهم البغي والحسد والتكبر واتباع الهوى على عصيان الله ورسوله نسأل الله العافية.
قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ هُوَ كَقَوْلِهِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فُصِّلَتْ:5] وَقَالَ عبدالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ في قوله غلف، قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت:5] وهذا الذي رجحه ابن جرير، واستشهد بما رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ عن أبي البختري، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ فَذَكَرَ مِنْهَا وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَذَاكَ قَلْبُ الْكَافِرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبدالرَّحْمَنِ الْعَرْزَمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قُلُوبُنا غُلْفٌ قَالَ: لَمْ تُخْتَنْ، هَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ طَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهَا بَعِيدَةٌ مِنَ الْخَيْرِ.
الشيخ: قد تكون معنى لم تختن يعني لم ترفع عنها القلفة التي غطتها كالقلفة التي على الذكر التي لم تقطع يعني أن عليها غلاف مثل القلفة التي على ذكر الإنسان حتى تقطع. المقصود أنهم يعتذرون أنهم ما يفهمون فهذا كله باطل وكذب بل يفهمون ويعقلون ولكن الله جل وعلا أوقع في قلوبهم الطبع والإعراض والتكبر حتى هلكوا نسأل الله العافية.
قَوْلٌ آخَرُ: قال الضحاك عن ابن عباس وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ قال: يقولون قلوبنا غلف مملوءة لَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وقال عطية الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أَيْ: أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَتْ قراءة بعض الأنصار فيها، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالُوا: قُلُوبُنَا غُلُفٌ، بِضَمِّ اللام، نقلها الزمخشري، أَيْ جَمْعُ غِلَافٍ، أَيْ أَوْعِيَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ قُلُوبَهُمْ مَمْلُوءَةٌ بِعِلْمٍ لَا يَحْتَاجُونَ معه إلى علم آخر كما كانوا يفتون بِعِلْمِ التَّوْرَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ادَّعَوْا بَلْ قُلُوبُهُمْ مَلْعُونَةٌ مَطْبُوعٌ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ:155] وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ وَقَوْلُهُ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:46] فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وَقِيلَ: فَقَلِيلٌ إِيمَانُهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُهُمْ لِأَنَّهُ مَغْمُورٌ بِمَا كَفَرُوا بِهِ مِنَ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما كَانُوا غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ بِالْجَمِيعِ كَافِرُونَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ، تُرِيدُ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ زَنَى بِأَرْضٍ قَلَّمَا تُنْبِتُ، أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله، والله أعلم.
الشيخ: والمقصود من هذا على ظاهر القرآن أن إيمانهم قليل وإن كانوا كفارًا وإن كانوا ضالين وإن كانوا قد طبع الله على قلوبهم لكن قد يقع منهم الإيمان القليل إنما بالنسبة إلى بعضهم كما كان من عبدالله بن سلام وأشباهه فهو قليل بالنسبة إلى من كفر منهم وقد أطبق على الكفر والضلال، ولا يؤمن منهم إلا النادر القليل.
أو المعنى فقليل إيمانهم بما جاءت به الرسل بالنسبة إلى أنهم قد يؤمنون بأشياء لكن لا تنفعهم لأن الكافر لا ينفعه إيمانه يحبط إيمانه بسبب الكفر وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] فلو آمن بكل شيء ثم كذب محمدًا ﷺ بطل إيمانه ولم ينفعه ذلك الإيمان وصار وجوده كالعدم وصار حجة عليه.
المقصود من هذا أن هؤلاء اليهود وأشباههم لا يؤمن منهم بالحق إلا القليل لما طبعوا عليه من الاستكبار والإعراض والحسد والبغي وما وقع منهم من بعض من الإيمان فهو إيمان طغى عليه الكفر وأبطله.وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَهُمْ، يَعْنِي الْيَهُودَ، كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يَعْنِي مِنَ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ هَذَا الرَّسُولِ بِهَذَا الْكِتَابِ يَسْتَنْصِرُونَ بِمَجِيئِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيُبْعَثُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عمر بن قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ، قَالَ: فِينَا وَاللَّهِ وَفِيهِمْ، يَعْنِي فِي الْأَنْصَارِ وَفِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ يَعْنِي: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قالوا: كنا قد علوناهم قهرا دَهْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ، وَهُمْ أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَاتَّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَكانُوا (مِنْ قَبْلُ) يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا قال: يستنصرون، يَقُولُونَ: نَحْنُ نُعِينُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمْ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ بل يَكْذِبُونَ.
الشيخ: والحاصل من هذا أن اليهود قبحهم الله وعليهم لعائن الله المتتابعة كانوا دائمًا أهل كفر وأهل كذب وأهل عناد ومكابرة وكانوا في الجاهلية يقولون أنه سيبعث نبي في آخر الزمان قد اظل زمانه سنقاتلكم معه فلما بعث الله نبيه محمد عليه الصلاة والسلام كفروا به وقالوا: لو أنه منا من بني إسرائيل فلما كان من العرب كفروا به وأنكروا وهم يعلمون أنه من العرب وأنه حق ولكنه البغي والعدوان وأعوذ بالله! ولهذا ذمهم الله وعابهم ولعنهم على أعمالهم الخبيثة وهذا يوجب الحذر لهذه الأمة أن تتبع الهوى، والمقصود من هذا تحذير أمة محمد أن يتشبهوا بأعداء الله اليهود في إنكار الحق واتباع الباطل إيثارًا للهوى بغيًا وعدوانًا أو لقصد أمر آخر من الرياسة أو المال أو ما أشبه ذلك، فالواجب أن يكون الحق فوق الجميع وأن يكون العاقل متبعًا للحق سواء وافق هواه أو خالف هواه سواء فاتته في الرياسة أو فاته فيه المال أو لم يفت، فالحق يقدم ويؤثر على جميع ما تهواه النفوس هذا هو الواجب على كل ذي عقل وكل ذي إيمان وكل ذي هدى أما إيثار الهوى ومراعاة الجماعة أو القوم أو القبيلة أو ما أشبه ذلك مما يراعيه أعداء الله من اليهود وغيرهم هذا هو الهلاك والضلال الذي ذم الله به الأمم وعابهم به وأنكره عليهم كاليهود نسأل الله العافية.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ يهودا كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَرَبِ، كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وداود بن سَلِمَةَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقَوُا اللَّهَ وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَنَا بِأَنَّهُ مبعوث وتصفونه بِصِفَتِهِ، فَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ أَخُو بَنِي النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكر لكم، فينزل اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ الآية.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُ: يَسْتَنْصِرُونَ بِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ وَرَأَوْهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ وَحَسَدُوهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَسْتَنْصِرُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ هَذَا النَّبِيَّ الذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا حَتَّى نُعَذِّبَ الْمُشْرِكِينَ وَنَقْتُلُهُمْ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَرَأَوْا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا لِلْعَرَبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فقال اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا قال: وكانوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَأْتِي نَبِيٌّ. فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ قال: هم اليهود.
وقال تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَبآءُو بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ
قَالَ مُجَاهِدٌ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ يَهُودُ شَرَوُا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ بِأَنْ يُبَيِّنُوهُ.
الشيخ: شروا بمعنى باعوا يعني باعوا الحق وارتضوا الباطل وأخذوا الباطل واعتاضوا الباطل عن الحق والعياذ بالله. بئسما اشتروا به أنفسهم يعني باعوا أنفسهم إلى النار وإلى الشيطان واعتاضوا عن ذلك باتباع الهوى وإنكار الحق وجحده نسأل الله العافية.
 وَقَالَ السُّدِّيُّ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ يَقُولُ: بَاعُوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا بِهِ وَعَدَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ عن تصديقه وموازرته وَنُصْرَتِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ والكراهية لأَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَا حَسَدَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَيْ إِنَّ الله جعله من غيرهم.
فَباؤُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ قال ابن عباس: في الغضب على الغضب عليهم فيما كَانُوا ضَيَّعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَهِيَ مَعَهُمْ، وَغَضِبَ بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم.
(قلت) ومعنى فَباؤُوا اسْتَوْجَبُوا وَاسْتَحَقُّوا وَاسْتَقَرُّوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَفْرِهِمْ بِالْإِنْجِيلِ وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن. وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ مِثْلَهُ.
قَالَ السُّدِّيُّ: أَمَّا الْغَضَبُ الْأَوَّلُ، فَهُوَ حِينُ غَضَبِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِجْلِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ الثَّانِي، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ حِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ.
الشيخ: لا منافاة فإن الله غضب عليهم لأسباب كثيرة، غضب عليهم لاتباعهم الباطل وعبادتهم العجل وغضب عليهم لتحريفهم التوراة وحجدهم بعضها، وعدم أخذهم بها كلها، وغضب عليهم لإنكارهم عيسى وزعمهم أنه ولد بغي وغضب عليهم لأشياء كثيرة من أعمالهم الخبيثة، ثم جاء غضب آخر وهو كفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام.
وَعَنِ ابن عباس مثله. وقوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ لَمَّا كَانَ كُفْرُهُمْ سَبَبُهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ التَّكَبُّرُ، قُوبِلُوا بِالْإِهَانَةِ وَالصَّغَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ:60] أَيْ صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ رَاغِمِينَ.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ النَّاسِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَارِ حَتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أهل النار.
وقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَيْ لِلْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَصَدِّقُوهُ وَاتَّبِعُوهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيْ يَكْفِينَا الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَا نُقِرُّ إِلَّا بِذَلِكَ وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ يَعْنِي بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ منصوبا عَلَى الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ تَصْدِيقِهِ لِمَا مَعَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [الْبَقَرَةِ:146] ثُمَّ قَالَ تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ جَاءُوكُمْ بِتَصْدِيقِ التَّوْرَاةِ التِي بِأَيْدِيكُمْ وَالْحُكْمِ بِهَا وَعَدَمِ نَسْخِهَا، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهُمْ؟ قتلتموهم بغيا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَلَى رُسُلِ اللَّهِ، فَلَسْتُمْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ وَالتَّشَهِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [الْبَقَرَةِ:87]
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُعَيِّرُهُمُ اللَّهُ تبارك وتعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إِذَا قُلْتَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالُوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا لِمَ تَقْتُلُونَ- إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله- أنبياء الله يا معشر اليهود وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عليكم قتلهم، بل أمركم بِاتِّبَاعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ؟ وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَتَعْيِيرٌ لَهُمْ.

الشيخ: مثل ما تقدم في الآيات السابقات المقصود هو تحذيرنا أن نفعل فعلهم وأن نسير على نهجهم الخبيث في اتباع الهوى وترك الحق بدعوى أنه كذا وأنه كذا وأنه كذا والحقيقة أنه خالف أهواءهم فقط ولهذا عابهم جل وعلا وذمهم وفضحهم في هذه الآيات وأشباهها لاتباعهم الهوى فكذبوا عيسى اتباعًا للهوى وكذبوا محمدًا ﷺ اتباعًا للهوى، وهذه الكتب جاءت بتصديق ما هم عليه تصديق ما جاء به نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام فالإنجيل جاء مصدقًا للتوراة ومحلاً لهم بعض ما حرم الله عليهم ومسهلا عليهم وحاكمًا بينهم فيما اختلفوا فيه وجاء القرآن العظيم وهو أشرف كتاب وأعظم كتاب مصدق لما عندهم من الحق في التوراة والإنجيل ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ومع ذلك قابلوه بالتكذيب والإنكار واتباع الهوى والكذب على الله وعلى رسوله والكذب على التوراة وتحريفها كل ذلك من اتباعهم للهوى ولذلك غضب الله عليهم غضبًا بعد غضب وصاروا بذلك عبرة للعباد بجحدهم وكفرهم وعنادهم وبغيهم وسبة بين العالم لما فعلوا من القبائح نسأل الله العافية والسلامة، يعني فجدير بكم يا أمة محمد وحري بكم أن تبتعدوا عن أخلاقهم الذميمة وأن تبادروا وتسارعوا إلى فعل ما أمركم الله وترك ما نهى الله عنه وتصديق الله في أخباره والوقوف عند حدوده والمسارعة إلى مراضيه والابتعاد عن مناهيه هكذا يكون المتبعون وهكذا يكون الأخيار وهكذا يكون المصدقون يبتعدون عن صفات الأشرار وعن أخلاقهم الذميمة ويسارعون إلى صفات الأخيار وأخلاقهم العظيمة.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أَيْ بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا الله، والآيات البينات هِيَ: الطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَالْعَصَا وَالْيَدُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ وَالْمَنُّ وَالسَّلَوَى وَالْحَجَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ التِي شَاهَدُوهَا ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أَيْ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ الله في زمان موسى وأيامه، وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الْأَعْرَافِ:148].
قوله: وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، أَيْ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ فِي هَذَا الصَّنِيعِ الذِي صَنَعْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف:149].
وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
يُعَدِّدُ عَلَيْهِمْ خَطَأَهُمْ، وَمُخَالَفَتَهُمْ لِلْمِيثَاقِ، وَعُتُوَّهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ عَنْهُ، حَتَّى رَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ حَتَّى قَبِلُوهُ ثم خالفوه ولهذا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَقَدْ تَقَدَّمُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ.
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قَالَ عبدالرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال: أشربوا حُبَّهُ حَتَّى خَلُصَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عبداللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: قَالَ حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عبداللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِهِ.

الشيخ: وهذا واقع في الناس فإن العبد إذا أحب الشئ  وهويه قد يعميه عن مساويه وعما فيه من الباطل بسبب الهوى، ولهذا يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: حبك الشيء يعمي ويصم  يعني يعمي عن النظر في عيوبه ومعرفته عيوبه ويصمه عن النطق بذلك بسبب الهوى والحديث وإن كان ضعيفًا لأن ابن أبي مريم هذا لا يحتج به ضعيف، لكن يصلح في الشواهد ومن باب الدلالة على أن الأهواء والعياذ بالله إذا غلبت على الناس عمت أبصارهم وأصمت آذانهم عن النطق بالحق وعن النظر في الحق لأنه يعميهم ما وقع في قلوبهم من الهوى هكذا هؤلاء الذين عبدوا العجل وأشربت قلوبهم به عموا عن الحق مع أن التوراة وكتب الله السابقة كلها دالة على وجوب الإخلاص في العبادة لله وحده وأن الإله الحق وأن من سواه مخلوق وهو الخلاق العليم وهو المستحق للعبادة جل وعلا ولكن بسبب أهوائهم وميولهم عن الحق وقع في قلوبهم هذا الشيء الذي هو أوضح من الواضحات وأبين من البينات في بطلانه.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخَذَ مُوسَى العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يَبْقَ بَحْرٌ يَجْرِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَقَعُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُوسَى، اشْرَبُوا مِنْهُ، فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّهُ خَرَجَ عَلَى شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ.الشيخ: هذا من أخبار من بني إسرائيل، والسدي وأشباهه (......) وأخبار بني إسرائيل مثل ما أخبر النبي ﷺ: لا تصدقوهم ولا تكذبوهم عندهم الأعاجيب والغرائب إلا من شهد له نص الكتاب أو السنة بالصحة وأما ما ليس به نص لا من كتاب ولا سنة فإنه لا يصدق ولا يكذب بل يوقف حتى يوجد ما يدل على كذبه أو صحته والحاصل أن الله جل وعلا ابتلاهم بهذا العجل حتى انقسموا فيه ووقعوا فيما وقعوا فيه من الشرك بالله نسأل الله العافية، وصارت لهم عجائب وغرائب مع أنهم يشاهدونه ويعرفون أنه مخلوق وأنه (......) المعروف الذي عندهم يعرفونه ويشاهدونه لكن إذا عميت الأبصار فلا حيلة نسأل الله العافية.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عمير وأبي عبدالرحمن السلمي، عن علي ، قَالَ: عَمَدَ مُوسَى إِلَى الْعِجْلِ، فَوَضَعَ عَلَيْهِ الْمَبَارِدَ فَبَرَدَهُ بِهَا، وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ نَهَرٍ، فَمَا شَرِبَ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَعبد الْعِجْلَ إِلَّا اصْفَرَّ وَجْهُهُ مِثْلُ الذَّهَبِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ قَالَ: لَمَّا أُحْرِقَ الْعِجْلُ، بُرِدَ ثُمَّ نُسِفَ، فَحَسَوُا الْمَاءَ حَتَّى عَادَتْ وُجُوهُهُمْ كَالزَّعْفَرَانِ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ كِتَابِ الْقُشَيْرِيِّ: أَنَّهُ ما شرب أحد «منه» مِمَّنْ عبدالْعِجْلَ إِلَّا جُنَّ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَا هَاهُنَا، لِأَنَّ المقصود من هذا السياق: أنه ظهر عَلَى شِفَاهِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا: أَنَّهُمْ أُشْرِبُوا في قلوبهم الْعِجْلِ، يَعْنِي فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذ ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ  
 الشيخ: والحاصل أن الله جل وعلا أخبرنا أن موسى حرقه لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طه:97] الله أخبرنا أنه أتلفه عليهم بعدما حرقه وانتهى منه نسف في البحر حتى لا يبقى له عين ولا أثر وصارت لهم بقايا في نفوسهم مما وقع في قلوبهم من الشر نسأل الله العافية، إلا من هدى الله منهم وعرف الباطل ورجع إلى الحق والصواب ومن تاب تاب الله عليه وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
وَقَوْلُهُ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ بِئْسَمَا تَعْتَمِدُونَهُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ مِنْ كُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ اعْتِمَادِكُمْ فِي كُفْرِكُمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ وَهَذَا أَكْبَرُ ذُنُوبِكُمْ وأشد الأمر عَلَيْكُمْ إِذْ كَفَرْتُمْ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، الْمَبْعُوثِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَكَيْفَ تَدَّعُونَ لِأَنْفُسِكُمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ فَعَلْتُمْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ: مِنْ نَقْضِكُمُ الْمَوَاثِيقَ، وَكُفْرِكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعِبَادَتِكُمُ العجل من دون الله؟.
قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ۝ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۝ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أَكْذَبَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَيْ بِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ لو تَمَنَّوْهُ يَوْمَ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ إِلَّا مَاتَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَسَلُوا الْمَوْتَ.
وَقَالَ عبدالرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عبدالْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلُهُ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لو تمنى يهود الْمَوْتَ، لَمَاتُوا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا عَثَّامٌ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ قَالَ: لَا أَظُنُّهُ إِلَّا عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَشَرِقَ أَحَدُهُمْ بَرِيقِهِ، وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ  فِي تَفْسِيرِهِ: وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا، وَلَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عبدالْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي، حَدَّثَنَا فُرَاتٌ عَنْ عبدالْكَرِيمِ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عبداللَّهِ بْنِ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُرُورُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: مَا كَانُوا لِيَتَمَنَّوْهُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهُمْ، قُلْتُ: أَرَأَيْتُكَ لَوْ أَنَّهُمْ أَحَبُّوا الْمَوْتَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ تمنوا الموت أَتُرَاهُمْ كَانُوا مَيِّتِينَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانُوا لِيَمُوتُوا وَلَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، وَمَا كَانُوا لِيَتَمَنَّوْهُ.
الشيخ: هذا من اجتهاد الحسن البصري وما قاله ابن عباس أظهر وهو مرفوع إلى النبي ﷺ، والمرفوع إلى النبي ﷺ والموقوف عن ابن عباس يدل على أنهم لو تمنوه لهلكوا ولهذا امتنعوا، قال الله عنهم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] يعني بأسباب ما قدمت أيديهم من الكفر والضلال والشرور لا يتمنون الموت لأنهم يعلمون أنهم إلى النار نعوذ بالله فهم تعمدوا الباطل وتعمدوا الجحود وتعمدوا الكفر ويعلمون أن مصيرهم النار لإيثارهم الدنيا على الآخرة وإيثارهم الهوى والبغي والعدوان ولهذا لا يتمنونه أبدًا ولهذا قال سبحانه وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] يعني بأسباب ما قدمت أيديهم من المعاصي والكفر والضلال، أما قول الحسن هذا فليس بشيء!
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ مَا سَمِعْتَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَهَذَا غَرِيبٌ عَنِ الْحَسَنِ. ثُمَّ هَذَا الذِي فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ، هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَهُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَاهَلَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ۝ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۝ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الْجُمْعَةِ:6-8] فَهُمْ عَلَيْهِمْ لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، قالوا لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهودا أَوْ نَصَارَى، دُعُوا إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَالدُّعَاءِ عَلَى أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، لما نَكَلُوا عَنْ ذَلِكَ، عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا جَازِمِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ، لَكَانُوا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا تَأَخَّرُوا، علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله وَفْدَ نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، فقال: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آلِ عِمْرَانَ:61] فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ لِبَعْضٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَاهَلْتُمْ هَذَا النَّبِيَّ لَا يَبْقَى مِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ، وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فَضَرَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ معهم أبا عبيدة بن الجراح أَمِينًا. وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ قول الله تعالى لنبيه أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مَرْيَمَ:75] أَيْ من كان في الضلالة منا ومنكم فَزَادَهُ اللَّهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَمَدَّ لَهُ وَاسْتَدْرَجَهُ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شاء الله تعالى.
وأما من فسر الآية على معنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فِي دَعْوَاكُمْ، فَتَمَنَّوُا الْآنَ الْمَوْتَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ هَؤُلَاءِ لِلْمُبَاهَلَةِ، كَمَا قَرَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ مَا قَارَبَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ قَالَ: الْقَوْلُ فِي تأويل قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لَنَبِيِّهِ ﷺ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِهِ، وَفَضَحَ بِهَا أَحْبَارَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نبيه ﷺ إلى قضية عادلة فِيمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْخِلَافِ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ الْفَرِيقَ الْآخَرَ مِنَ النَّصَارَى إذ خَالَفُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَجَادَلُوهُ فِيهِ إِلَى فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ المباهلة، فقال لفريق الْيَهُودِ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ ذلك غير ضاركم إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِيمَا تَدَّعُونَ مِنَ الْإِيمَانِ وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أُمْنِيَتَكُمْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا تَمَنَّيْتُمْ، فَإِنَّمَا تَصِيرُونَ إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا وَنَصَبِهَا وَكَدَرِ عَيْشِهَا وَالْفَوْزِ بِجِوَارِ اللَّهِ فِي جَنَّاتِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّ الدَّارَ الآخرة لكم خاصة دُونَنَا، وَإِنْ لَمْ تُعْطُوهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّكُمُ الْمُبْطِلُونَ وَنَحْنُ الْمُحِقُّونَ فِي دَعْوَانَا، وَانْكَشَفَ أَمْرُنَا وَأَمْرُكُمْ لَهُمْ، فَامْتَنَعَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهَا أَنَّهَا إِنْ تَمَنَّتِ الْمَوْتَ هَلَكَتْ فَذَهَبَتْ دُنْيَاهَا، وَصَارَتْ إِلَى خِزْيِ الْأَبَدِ فِي آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي ﷺ في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن، وآخره فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إِذْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ في دعواهم، أنهم يتمنون الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ وُجُودِ الصَّلَاحِ وَتَمَنِّي الْمَوْتِ، وَكَمْ مِنْ صَالِحٍ لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، بَلْ يَوَدُّ أَنْ يُعَمَّرَ لِيَزْدَادَ خَيْرًا وَتَرْتَفِعَ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ خَيْرُكُمْ مَنْ طَالَ عَمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَلَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا عَلَى هَذَا: فَهَا أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَأَنْتُمْ لَا تَتَمَنَّوْنَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قِيلَ لَهُمْ كَلَامٌ نَصَف: إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَاهِلُوا عَلَى ذَلِكَ وَادْعُوا عَلَى الْكَاذِبِينَ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُبَاهَلَةَ تَسْتَأْصِلُ الْكَاذِبَ لَا مَحَالَةَ، فَلَمَّا تَيَقَّنُوا ذَلِكَ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ، نَكَلُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ ﷺ وَنَعْتِهِ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَيَتَحَقَّقُونَهُ، فَعَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بَاطِلَهُمْ وَخِزْيَهُمْ وَضَلَالَهُمْ وَعِنَادَهُمْ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمُبَاهَلَةُ تَمَنِّيًا، لِأَنَّ كُلَّ مُحِقٍّ يَوَدُّ لَوْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُبْطِلَ الْمُنَاظِرَ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ في ذلك حجة له في بَيَانُ حَقِّهِ وَظُهُورُهُ، وَكَانَتِ الْمُبَاهَلَةُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِنْدَهُمْ عَزِيزَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ سُوءِ مَآلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء، وَعَاقَبَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ الْخَاسِرَةِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ لَوْ تَأَخَّرُوا عَنْ مَقَامِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُمْ. وَمَا يحاذرون منه وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ حَتَّى وَهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عبدالرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قال: الأعاجم، وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى سَنَدِ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ.
الشيخ: وهذا فيه نظر بل هو عام، المشركين يعم الأعاجم والعرب جميعًا هم أحرص الناس على حياة من جميع المشركين عربًا وجميعًا اليهود أحرص الناس على حياة من جميع المشركين عربهم وعجمهم.
 وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حياة. قال: المنافق أحرص الناس، وأحرص من المشرك على حياة، يود أحدهم أي يود أَحَدُ الْيَهُودِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ السِّيَاقِ، وقال أبو العالية: يود أحدهم، أي أحد الْمَجُوسُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ.
قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عن ابن عباس: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: هو كقول الفارسي «ده هزار سال» يَقُولُ: عَشَرَةُ آلَافِ سَنَةٍ . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَفْسِهِ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ هو قول الأعاجم هزار سال نَوْرُوزْ مَهْرَجَانْ 
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: حَبَّبَتْ إِلَيْهِمُ الْخَطِيئَةُ طول العمر، وقال مجاهد بْنُ إِسْحَاقَ.
الشيخ: وقال محمد بن إسحاق بدل مجاهد
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ أي وما هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ يُحِبُّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْيَهُودِيَّ قَدْ عَرَفَ مَا له في الآخرة من الخزي، بما ضيع ما عنده من العلم.
وقال العوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ عَادَوْا جبرائيل، قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ عُمَرَ: فَمَا ذَاكَ بِمُغِيثِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا مُنْجِيهِ مِنْهُ.
وَقَالَ عبدالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الآية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عَمَّرَ إِبْلِيسُ لَمْ يَنْفَعْهُ إِذْ كَانَ كَافِرًا،
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي خبير بصير بِمَا يَعْمَلُ عِبَادَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَسَيُجَازِي كل عامل بعمله.
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ  رَحِمَهُ اللَّهُ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بالتأويل جميعا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَدُوٌّ لَهُمْ، وَأَنْ مِيكَائِيلَ وَلِيٌّ لَهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الذِي مِنْ أَجْلِهِ قَالُوا ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ.
(ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عبدالْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرِ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ، عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذِمَّةَ اللَّهِ وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: ذَلِكَ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَلُوا عَمَّا شئتم قالوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ، أَخْبَرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة، ومن وليه من الملائكة؟
فقال النبي ﷺ، عَلَيْكُمْ عَهْدَ اللَّهِ لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟ فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَقَالَ: نَشَدْتُكُمْ بِالذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لئن عافاه الله من مرضه لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ: لُحُومَ الْإِبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ الله ، فإذا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ  قالوا: اللهم نعم، قال اللهم اشهد، وَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، قَالُوا: أَنْتَ الْآنَ فَحَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ، قَالَ: فَإِنَّ وَلِيِّي جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ قَالُوا: فعندها نفارقك، ولو كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ، قال: فما يمنعكم أَنْ تُصَدِّقُوهُ ؟ قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ- إلى قوله- لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فَعِنْدَهَا بَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ.
الشيخ: وهذا واضح في عنادهم وكفرهم وضلالهم فإنهم يعلمون أن جبرائيل هو السفير بين الله وبين الرسل جميعًا وهو يحمل الوحي من الله إلى الأنبياء إلى موسى وإلى هارون وإلى من قبلهم وإلى من بعدهم، ولكنه العناد والبغي والحسد نعوذ بالله نسأل الله العافية.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هاشم بن القاسم وعبدالرحمن بْنِ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنْ عبدالْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ به. ورواه أَحْمَدُ أَيْضًا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ عن عبدالحميد بنحوه.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، حدثنا عبداللَّهِ بْنِ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَزَادَ فِيهِ، قَالُوا فَأَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فأنشدكم بِاللَّهِ وَبِأَيَّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أنه جبريل وهو الذي يأتيني قالوا: اللهم نعم، ولكنه عدو لنا، وَهُوَ مَلَكٌ إِنَّمَا يَأْتِي بِالشِّدَّةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، فلولا ذلك اتبعناك، فأنزل الله تعالى فيهم: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ- إِلَى قَوْلِهِ- لا يَعْلَمُونَ.
وقال الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعِجْلِيُّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: يَا أَبَا القاسم، أخبرنا عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال هاتوا قالوا: فأخبرنا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا ينام قلبه قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قَالَ: يَلْتَقِي الْمَاءَانِ، فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَنَّثَتْ قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: كان يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ كَذَا قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْإِبِلَ فَحَرَّمَ لُحُومَهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ بيديه أو في يديه مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ يَسُوقُهُ حيث أمره الله تعالى قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته قالوا: صدقت، قالوا: إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ  قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلُ الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عبداللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي القاسم بن أبي بزة أن يهودا سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ صَاحِبِهِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، قَالَ: جِبْرِيلُ قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الْآيَةَ.
قَالَ ابن جرير: قال مجاهد: قالت يهود: يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لَنَا عَدُوٌّ، فَنَزَلَ: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية.
قال البخاري: قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قال عكرمة: جبرا وميكا وإسراف: عبد. إيل: اللَّهُ.
الشيخ: المعنى أن جبرائيل وميكائيل وإسرافيل بمعنى عبد الله، جبرا بمعنى عبد وإيل معناها الله فجبرائيل وميكائيل وإسرافيل ونحو ذلك كلها بمعنى تعبيد الله يعني عبد الله.
حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عبداللَّهِ بْنَ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعَ عبداللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أهل الجنة، وما ينزع الوالد إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بهذه جبرائيل آنِفًا قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: ذَاكَ عدو اليهود من الْمَلَائِكَةِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ وأما أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ، نَزَعَ الْوَلَدُ، وَإِذَا سبق ماء المرأة نَزَعَتْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنك رَسُولُ اللَّهِ. يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ رَجُلٍ عبداللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم قالوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجَ عبداللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن محمدا رسول الله. فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه، فقال: هَذَا الذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ.الشيخ: وهذا يدل على خبث اليهود وعنادهم واستكبارهم عن الحق وإقدامهم على الباطل بقلة حياء وقلة مبالاة نسأل الله العافية فهم يتعمدون الكذب ويجاهرون بالكذب ولا يبالون ويحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ويتكبرون عن اتباع الحق، ولهذا باؤوا بغضب على غضب نسأل الله العافية.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَرِيبٌ مِنْ هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وحكاية البخاري كما تقدم عَنْ عِكْرِمَةَ هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ إِيلَ هُوَ اللَّهُ، وَقَدْ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَرَوَاهُ عبد بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ الطَّحَّانِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ قَيْسٍ بن عَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد اللَّهِ، إِيلُ: اللَّهُ، وَرَوَاهُ يَزِيدُ النَّحْوِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ كَمَا سَيَأْتِي قريبا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَبْدٍ، وَالْكَلِمَةُ الْأُخْرَى هِيَ اسْمُ اللَّهِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ إِيلَ لَا تَتَغَيَّرُ فِي الْجَمِيعِ فَوِزَانُهُ عبداللَّهِ، عبدالرَّحْمَنِ، عبدالْمَلِكِ، عبدالْقُدُّوسِ، عبدالسَّلَامِ، عبدالْكَافِي، عبدالْجَلِيلِ، فَعبد مَوْجُودَةٌ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَاخْتَلَفَتِ الْأَسْمَاءُ المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِ الْعَرَبِ يُقَدِّمُونَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ.
(ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى، حَدَّثَنِي رِبْعِيُّ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: نَزَلَ عُمَرُ الرَّوْحَاءَ، فَرَأَى رِجَالًا يَبْتَدِرُونَ أَحْجَارًا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صلّى هاهنا، قال: فكره ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أدركته الصلاة بواد فصلّى، ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كَيْفَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ قَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْكَ قُلْتُ وَلِمَ ذلك؟ قالوا: لأنك تَغْشَانَا وَتَأْتِينَا، فَقُلْتُ: إِنِّي آتِيكُمْ فَأَعْجَبُ مِنَ القرآن كَيْفَ يُصَدِّقُ التَّوْرَاةَ وَمِنَ التَّوْرَاةِ كَيْفَ تُصَدِّقُ القرآن، قَالَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، ذَاكَ صَاحِبُكُمْ فَالْحَقْ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وما استرعاكم من حقه، وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، فقال له عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه، قالوا: فَأَنْتَ عَالِمُنَا وَكَبِيرُنَا فَأَجِبْهُ أَنْتَ،
............
قَالَ: أَمَا إذ نشدتنا بما نشدتنا، فإنا نعلم أنه رسول الله، قلت: ويحكم إذًا هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ الله وَلَا تَتْبَعُونَهُ وَلَا تُصَدِّقُونَهُ؟ قَالُوا: إِنَّ لَنَا عَدُوًّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَسِلْمًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ قُرن بنبوته عدونا من الملائكة، قُلْتُ: وَمَنْ عَدُوُّكُمْ، وَمَنْ سِلْمُكُمْ؟ قَالُوا: عَدُوُّنَا جبريل، وسلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبرائيل مَلَكُ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْعَذَابِ وَنَحْوِ ذلك، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة وَالتَّخْفِيفِ وَنَحْوِ هَذَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا مَنْزِلَتُهُمَا مِنْ رَبِّهِمَا ؟ قَالُوا: أَحَدُهُمَا عَنْ يمينه والآخر عن يساره، قال: فقلت: فو الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهُمَا وَالذِي بَيْنَهُمَا لَعَدُوٌّ لِمَنْ عَادَاهُمَا، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمَا، وما ينبغي لجبرائيل أَنْ يُسَالِمَ عَدُوَّ مِيكَائِيلَ، وَمَا يَنْبَغِي لِمِيكَائِيلَ أن يسالم عدو جبرائيل، قال: ثُمَّ قُمْتُ فَاتَّبَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَلَحِقْتُهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ خَوْخَةٍ لِبَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا أُقْرِئَكَ آيَاتٍ نَزَلْنَ قَبْلُ