93 من: (باب الإصلاح بَيْنَ الناس)

 
31- باب الإصلاح بَيْنَ الناس
قَالَ الله تَعَالَى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، وَقالَ تَعَالَى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وَقالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
1/248- وعن أَبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بيْنَ الاثْنَيْنِ صَدقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ صَدقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيبةُ صدقَةٌ، وبكُلِّ خطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
2/249- وعن أُمِّ كُلْثُوم بنتِ عُقْبَةَ بن أَبي مُعَيْطٍ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: سمِعْتُ رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية مسلمٍ زيادة: قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إِلا في ثَلاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، وَالإِصْلاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَديثَ المَرْأَةِ زَوْجَهَا.
3/250- وعن عائشة رضي اللَّه عنها قَالَتْ: سمِع رسولُ اللَّه ﷺ صَوْتَ خُصُومٍ بالْبَابِ عَالِية أَصْواتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شيءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: واللَّهِ لا أَفعَلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسولُ اللَّه ﷺ فَقَالَ: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّه لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟ فَقَالَ: أَنَا يَا رسولَ اللَّهِ، فَلهُ أَيُّ ذلِكَ أَحَبّ. متفقٌ عليه.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد:
فهذه الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ كلها تدل على فضل الإصلاح بين الناس، وأنه ينبغي للمؤمنين الإصلاح فيما بينهم، فإذا تنازع اثنان أو جماعة أصلحوا بينهم؛ لأن المؤمنين إخوة، والصلح من شأن الإخوة، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فالإصلاح بين الناس فيه مصالح كثيرة، وقطع الشحناء، وقطع الخصومة، والتأليف بين القلوب، فإن الصلح يؤلف بين القلوب، والحكم قد يُبقي فيها شيئًا من الشحناء، ولكن الصلح الذي يكون عن تراضٍ تكون القلوب فيه طيبة، ويسلم الناس من الشحناء التي تحصل بسبب الخصومات والأحكام.
فالمشروع للمؤمنين فيما بينهم الإصلاح مهما أمكن، وعدم إلجاء الخصمين إلى المخاصمة لدى المحاكم، بل يصلحون بينهم، فهذا يتنازل عن شيءٍ، أو هذا يُؤجِّل أو يسمح بشيءٍ من حقِّه، أو ما أشبهه، أو يساعدونه في شيءٍ حتى تكون المسألةُ بين الجميع على وجه التناصح بينهم، والتعاون، وعدم الإلجاء إلى الأحكام، فالصلح فيه خيرٌ عظيم، وفيه مصالح كثيرة.
ولهذا قال ﷺ: يُصبِح على كل سُلَامَى من الناس صدقة السُّلَامى: المفصل، وكل إنسان خلقه الله على ثلاثمئة وستين مفصل، فإذا تصدَّق بصدقةٍ، وسبَّح، وكبَّر، وهلَّل، وأعان الرجلَ في دابته فرفع له متاعه، أو أصلح بين اثنين، أو أزال الحجر عن الطريق؛ فكل هذه صدقات يحط الله بها عن هذه المفاصل، وهكذا بكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، والأمر بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر صدقة، كل هذه صدقات يُؤديها عن هذه النعم التي أنعم الله بها عليه من جهة المفاصل والصحة، ومن جملة ذلك الإصلاح بين الناس، أن تعدل بين اثنين، يعني: تُصلح بين اثنين، هذا مما شرعه الله جل وعلا.
كذلك الحديث الثاني: في الإصلاح بين الناس، وأنَّ الإصلاح بين الناس فيه خيرٌ كثيرٌ.
الحديث الثاني
كذلك حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، تقول رضي الله عنها أنها سمعت النبيَّ ﷺ يقول: ليس الكذَّابُ الذي يُصلح بين الناس فيقول خيرًا، أو ينمي خيرًا، لا يُسَمَّى كذَّابًا، بل هو مصلحٌ بين الطائفتين، أو بين القبيلتين، أو بين القريتين، أو بين الشخصين، قالت: "ولم أسمعه يُرَخِّص في شيءٍ مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاثٍ"، وفي رواية مسلم: "الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها"، لا بأس بالكذب فيها: الكذب في الحرب حتى يخدع العدو من دون إخلالٍ بعهدٍ ولا ذمَّةٍ، لكن يفعل شيئًا يُوهِم العدو خلاف المراد، فيحصل للقوة المسلمة فرصة في قتال عدوهم، مثل: أن يكون العدو متحصِّنًا، فيقول الأمير للجيش أو للسرية: نرتحل، فيرتحلون وقصدهم من هذا أن يخرج العدو، فإذا خرج كرُّوا عليهم، فإذا ظنَّ العدو أنهم انهزموا فتبعهم العدو فكروا عليه، وما أشبه ذلك مما يكون في مصلحة الحرب من دون أن يُخلّ بعهدٍ ولا ذمَّةٍ.
وكذلك فيما يتعلق بالإصلاح بين الناس: يأتي قبيلة ويقول: أصحابكم يحبون الخير لكم، ويدعون لكم، ويحبون الصلح معكم، ويذهب للآخرين ويقول لهم كذلك حتى يجمع بينهم ويُصلح بينهم، ولو كان كاذبًا فيما قال، يعني: إذا كان الكذب لا يضر أحدًا من الناس، إنما كذب للإصلاح بين القبيلتين أو القريتين أو الشخصين، هذا من باب الإصلاح بين الناس، والصلح خير، ولا حرج في ذلك؛ لأنه لم يضر أحدًا، وإنما سعى في إزالة الشر والجمع بين القلوب.
الحديث الثالث
كذلك حديث عائشة رضي الله عنها: أنه سمع صوتَ خصومٍ في الباب، فخرج إليهم وأصلح بينهم عليه الصلاة والسلام، فهذا كله من باب الصلح.
ومن هذا قصة كعب بن مالك وابن أبي حدرد: لما تنازعوا خرج إليهم وأشار عليهم أن يضع كعب النصف، وابن أبي حدرد يُسلم البقية، فاصطلحوا على ذلك، فهذا من الصلح الجائز، فالقاضي إذا تيسر له الصلح أو الأمير أو شيخ القبيلة أو أحد مع جيرانه فكله أمر طيب، كله داخل في الإصلاح بين الناس: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]؛ لأن في ذلك جمع القلوب وترك الشحناء، أما الحكم فقد يُسبب شيئًا من الشَّحناء.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: هل ثبت في أجر المصلح حديث أنه كقائم الليل، صائم النهار؟
ج: جاء في حديث: ألا أُنَبِّئكم بخير أعمالكم؟ إصلاح ذات البين، وقال: وفساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين، فالمقصود أن الإصلاح بين الناس فيه خيرٌ كثيرٌ.
س: بعضهم يُزَكِّي طائفةً إلى الطائفة الثانية وهم ليسوا أهلًا، ويقول: هذا من الكذب الذي يجوز؟
ج: إذا كان للإصلاح بينهم فلا بأس، يقول: هم يزكونكم، ويُثنون عليكم، ويقول للآخرين: يثنون عليكم، حتى يجمع بينهم الصلح، من باب الإصلاح بينهم.
س: مع أنه يقول: عقيدتهم طيبة، وهم ليسوا كذلك؟
ج: لا، إذا كان شيئًا يُصلح بينهم يقول: ربعكم يثنون عليكم، يقول: ربعنا، ونُحب أن نُصلح بينهم، ونُحب أن نصلح ما بيننا، وإن هم إلا خير، ونحو هذا، فليس يكذب في العقيدة، إنما يكذب في الإصلاح بينهم.
س: الضابط في كذب الزوجة على زوجها أو الزوج على زوجته؟
ج: مثلما سمعت، يعني فيما يتعلق بهما، لا يضر الناس الآخرين، من باب: سأعطيكِ كذا، وأفعل لكِ كذا، وهي تقول: أبشر بالخير، أنا ما أخلفك، ولا أعصي لك أمرًا، ولا أفعل، ولا أفعل، فتُرضيه.
س: طيب، لو وعد الزوجة أن يشتري لها شيئًا وأخلف وعده؟
ج: هذا من الكذب، أو وعدته وأخلفت فكذلك.
س: يعني: هذا لا بأس به؟
ج: لا بأس به بينهما خاصة، ما يتعلق بالناس الآخرين.
س: حمل بعضُ العلماء كذب الرجل على امرأته والعكس على التورية؟
ج: لا، الكذب الصريح ما فيه بأس، وأيش يضر بينهما؟! هي تقول مثلًا: ابحث لنا عن بيتٍ غير هذا البيت، فيقول لها: سوف نشتري بيتًا أصلح من هذا، أعطني كذا، أعطني اللباس الفلاني، وهو يقول: إن شاء الله أبشري، فقط أمهليني وأنا أشتري إن شاء الله، وهكذا، وهو ناوٍ ألا يُسَوِّي شيئًا.
س: يكون مثل المماطلة؟
ج: لا، ما هو مماطلة، يكذب أنه سيفعل هذا الشيء وما هو بفاعله، فقط لتظن أنه سيفعل؛ حتى ترضى وتزول الشحناء التي بينهم في الوقت الحاضر.
س: هل يجوز للرجل أن يُطلق امرأته لطُهْرٍ جامعها فيه؟
ج: لا، ما يجوز، إذا لم تكن آيسةً وتأتيها العادة الشهرية، أما إذا كانت آيسةً -عجوز كبيرة أو حامل- فلا بأس أن يُطلقها في الطهر، أما إذا كانت تأتيها العادة ويخشى أن تحمل فلا يُطلق حتى يعرف أنها حملت أو حاضت ثم طهرت ثم يطلق قبل أن يطأ، هكذا أمر النبيُّ ﷺ ابنَ عمر.
س: يقول النبي ﷺ: ليس الكاذب ما معناه؟
ج: الذي يصلح بين الناس ليس بكذَّابٍ، هذا معناه، الذي يصلح بين الناس ليس بكذَّابٍ، فيقول خيرًا، أو ينمي خيرًا، إنما الكذَّاب الذي يكذب بدون إصلاح بين الناس، هذا الكذَّاب الذي يضرّ الناس، والذي ينفعهم ما هو كذَّاب.