01 مقدمة الكتاب

وهذا الكتاب على صغر حجمه من أكثرها فائدةً، وأعظمها جدوى، وهو عمدة كبيرة عظيمة لطالب العلم؛ لما اشتمل عليه من الأحاديث الجياد العظيمة المنتقاة.

يقول رحمه الله: (الحمد لله)، بعد التَّسمية يقول: (الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، قديمًا وحديثًا).

من عادة المؤلفين أنهم يبدؤون بالتَّسمية، ويثنون بالحمدلة؛ تأسيًا بكتاب الله العزيز؛ لأنه بُدئ بالتَّسمية والحمد، لما جمعه الصحابةُ جعلوا الفاتحةَ في أوله، وتأسيًا بالنبي ﷺ في مُخاطباته ومُراسلاته، فكان يُسمِّي الله جلَّ وعلا، وعملًا بالحديث المشهور: كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم، وفي بعض الروايات: فهو أبتر يعني: ناقص البركة. وفي بعضها: بالحمد، وفي بعضها: بذكر الله، وقد جرى الأئمَّةُ على البدء بالتَّسمية ثم بالحمدلة.

والحمد لله : هو الثَّناء عليه بجميع المحامد، مع محبَّته وتعظيمه وإجلاله .

ونِعَم الله كثيرة، كما قال الله : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وهي ظاهرة وباطنة، منها ما هو باطن يعرفه الإنسانُ من نفسه، ويدري عنه من نفسه، ولا يعلمه الناس. ومنها ما هو ظاهر يعرفه كلُّ أحدٍ، ونِعَم الله الظاهرة كثيرة، مما أوجد لنفع العباد: من سماء وأرض، وأنهار وبحار، وثمار وأنعام تنفع الناس، وشمس وقمر ينتفع بها الناس، إلى غير ذلك من نِعَم الله العظيمة.

وأعظمها بعث الأنبياء عليهم الصلاة السلام، فبعث الرسل وإنزال الكتب لهداية الخلق وإرشادهم إلى أسباب النَّجاة كل هذا من نِعَمِه العظيمة.

ومنها ما هو باطن: كون الإنسان يُؤمن بربه، ويُعطيه الله من قوة الإيمان واليقين والشوق إليه ، والأُنْس بمناجاته وذكره جلَّ وعلا.

وما يُعطاه العبد من صحةٍ وعافيةٍ في بدنه، وماله، وأولاده، فنِعَم الله لا تُحصى؛ لا ظاهرها، ولا باطنها، والصلاة والسلام على رسوله نبينا محمد.

والصلاة تُطلق على الثَّناء، وتُطلق على الرحمة، فالصلاة من الله على عبده في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية رحمه الله، التابعي الجليل.

وتُطلق على الرحمة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] يعني: يُثني عليكم ويرحمكم جلَّ وعلا.

فإذا جمع بين الصلاة والرحمة كانت الصلاةُ بمعنى الثَّناء، والرحمة بمعنى الإحسان والجود والكرم، كما قال في حقِّ الصابرين: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157] أي: ثناء من الله ورحمة لهم بتوفيقهم وتصبيرهم وإنزال السَّكينة على قلوبهم، إلى غير ذلك.

النبي: من النبأ والإخبار، يعني: يُنبئ عن الله، ويُخبر عن الله، وعمَّا كان فيما مضى، وعمَّا يكون في المستقبل.

والرسول: لأنه مُرسَلٌ، أرسله الله إلى أهل الأرض يُبلغهم أمر الله ونهيه، وأفضل الرسل وأكرمهم وأعظمهم شأنًا هو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وكلهم عظيم، وكلهم جليل عليهم الصلاة والسلام، قد رفعهم وشرفهم بالرسالة والعبودية الخاصَّة عليهم الصلاة والسلام، ولكن خاتمهم وأفضلهم وإمامهم هو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

ويُشرع لنا الإكثار من الصلاة والسلام عليه؛ فقد صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: مَن صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

وجاء الكتابُ والسنةُ بالدلالة على شرعية الصلاة والسلام عليه؛ كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، والآية تدل على شرعية الإكثار من الصَّلاة والسلام عليه، وأن ذلك قربةً عظيمةً أمر الله  بها.

وجاءت السنةُ بذلك أيضًا: في مواضع مطلقًا، وفي مواضع بعد الأذان؛ إذا انتهى المؤذنُ يُصلي على النبي ﷺ ويقول: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التامَّة ..، وكذا يوم الجمعة، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وأمام الدعاء: إذا حمد ربه يُصلي على الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يدعو، وذلك من أسباب الإجابة، ويُصلي على أصحابه وأتباعه تبعًا له عليه الصلاة والسلام، كما جاء في السنة.

(وعلى آله وصحبه الذين ساروا في نُصرة دينه سيرًا حثيثًا) هذا هو الواقع؛ فقد نصروا دينه، فالصحابة نصروا دينه وأيَّدوه وجاهدوا في سبيل الله: كسروا كسرى، وقصروا قيصر، ونصروا دين الله رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهكذا أتباعهم الذين ورثوا علمهم، لهم حقٌّ في الصلاة والسلام، يعني: تبعًا، والدعاء لهم تبعًا، وقد ساروا على نهج الصَّحابة في العلم والعمل والتَّوجيه إلى الخير، فلهم منا جزيل الدعاء رحمة الله عليهم، وأكرم مثواهم، وجزاهم عن أمة محمدٍ ﷺ خيرًا.

والعلماء ورثه الأنبياء كما جاء في الحديث الشريف من طرقٍ كثيرةٍ: (أكرم بهم وارثًا وموروثًا)، فالعلماء هم ورثة الأنبياء؛ ورثوا علمهم، والأنبياء ما ورَّثوا دينارًا ولا درهمًا، ما بعثهم الله لجمع الدراهم، ولا ليكنزوا الدنيا، وإنما بُعثوا ليبلغوا رسالات الله؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: نحن معاشر الأنبياء لا نُورث، ما تركناه صدقة، فالأنبياء لا يُورثون؛ لأنهم ما أُرسلوا ليجمعوا الدنيا، وليس من شأنهم جمع الدنيا، وإنما جاءوا ليُبلغوا رسالات الله، ويُنفقوا الدنيا، للدَّعوة إلى الله، وللتأليف على دين الله؛ فلهذا ما خلَّفوه فهو صدقة، يقوم وليُّ الأمر بعدهم بتصريفه في وجوه الخير ونفع المسلمين.

فالعلماء هم ورَّاثهم كما جاء في الحديث: فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وفي لفظٍ: كفضلي على أدناكم، وقال: والعلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يُورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ.

فالعلماء ورَّاث الأنبياء في علمهم، وتبليغ رسالات الله، وإرشاد الناس إلى دين الله.

فجديرٌ بطالب العلم أن يُعنى بهذا الأمر، وأن يكون له فيه اجتهاد كامل، وحرص عظيم؛ ليحصل تركة الأنبياء، ليرثوا الأنبياء بالعلم.

ويُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أنه خرج ذات يومٍ إلى السوق وقال: "أنتم هاهنا وتركة النبيِّ ﷺ تُقسم في المسجد!" فذهب الناسُ إلى ذلك لينظروا، فإذا هي حلقات العلم، فقالوا له، فقال: "هذه تركة محمدٍ عليه الصلاة والسلام" هذا إرثه، هو العلم النافع، والتَّوجيه إلى الخير، ونشر دين الله من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

ولهذا قال المؤلفُ: (أكرم بهم وارثًا وموروثًا) وارثًا: وهم العلماء، وموروثًا: وهو الرسول ﷺ والصحابة.

ثم بيَّن رحمه الله أنه ألَّف هذا الكتاب المختصر، وهو "بلوغ المرام"، وهو كما قال المؤلفُ مختصر؛ حذف أسانيده، ولم يُكثر المتون، ويبلغ عددها ألفًا وخمسمئة تقريبًا، ما بين حديثٍ مطوَّلٍ، وما بين حديثٍ مختصرٍ بالإشارة والطرف، لكنها أمهات في الأحكام، محررة، مهذبة، رحمه الله، فهو مختصر كما قال من الأدلة الحديثية، ومن الأحكام الشَّرعية، فهي أصول ينبني عليها غيرها بالأدلة الحديثية بالنسبة للحديث الشريف، وهو كلام النبي ﷺ وأفعاله وما أقرَّ عليه، هذا الحديث: أقواله وأفعاله وتقريراته عليه الصلاة والسلام.

(حررتُه) من الأحكام الشرعية، الأحكام جمع حكم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية: من واجب، ومحرم، ومكروه، ومندوب، ومباح. فالأحكام الشَّرعية هي مُقتضى الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله، يقال لها: الأحكام.

وهي أقسام خمسة: الواجب، والمحرم، والمكروه، والمندوب -المستحبّ- والمباح. ويُضاف إليها صحَّة العقود وبُطلانها.

كلها أحكام أُخذت من الأدلة الشرعية، ودلَّت عليها الأدلةُ الشرعية، فالحكم مُقتضى الدليل من إيجاب شيءٍ، أو تحريمه، أو كراهته، أو استحبابه، أو إباحته، أو صحَّته، أو بطلانه.

(حررتُه تحريرًا بالغًا) أي: تامًّا، قد بالغ فيه: في بيان صحة الحديث أو ضعفه، أو ما فيه من علةٍ، قد اعتنى رحمه الله بهذا عنايةً تامَّةً؛ (ليصير مَن يحفظه من بين أقرانه -أي: زُملائه- نابغًا بعلمه وفضله)، إذا حفظه واعتنى به نبغ في العلم والفضل على زملائه الذين لم يُعنوا كعنايته.

(وليستعين به الطالبُ المبتدي، ولا يستغني عنه الراغبُ المنتهي).

وهو كتاب ينفع الطالب المبتدئ نفعًا كبيرًا، ولا يستغني عنه مَن بلغ في العلم القمة؛ لأنَّ فيه أمهات الأحاديث، وأمهات الأدلة، وكلٌّ محتاج إليها الطالب المبتدي، والراغب المنتهي، كلٌّ محتاج إلى ما فيه من الأحاديث العظيمة.

(وقد بينتُ) أي: أوضحتُ عقب كل حديثٍ مَن أخرجه من الأئمة، وقد صدق في ذلك، وقد بيَّن ذلك في هذا الكتاب؛ لإرادة نصح الأمة؛ لأنَّ إيضاح مَن خرَّج الأحاديث وبيان درجاتها في الصحة والضعف لا شكَّ أنه من نصح الأمة، والدِّين النَّصيحة.

والنَّصيحة لأي مؤلفٍ كان أن يُوضح الأدلة، وأن يُبين درجات الأحاديث، وأن لا يغفل عن ذلك، بل يُبين. هذا من النُّصح، والمؤلف قد فعل ذلك وأدَّى هذا الواجب، كثير من المؤلفين يجمعون الأحاديث ويعزونها، ولكن لا يُبينون درجاتها من الصحة والضعف، وبعضهم لا يعزوها، بل يأتي بها بدون خطامٍ ولا زمامٍ، وهذا نقص كبير.

وأحسن منه مَن عزاها إلى أهلها، ومَن رواها، ولكن إذا لم يتبعها ببيان درجاتها يكون العزو ناقصًا، إلا إذا عزاها إلى "الصحيحين"، فالصحيحان معروفان، وأنهما يُتلقيان بالقبول، ولكن قد يعزوها إلى غير "الصحيحين": إلى الأربع، أو "مسند أحمد" و"موطأ مالك" أو الدَّارقطني أو الدَّارمي أو الطَّبراني، فيحتاج طالبُ العلم إلى أن يعرف حالها: هل هي من الأحاديث الصَّحيحة أو الضَّعيفة أو الموضوعة.

الحاصل أن كثيرًا من الأئمة قد يتساهل في هذا، وهم كثير جدًّا، قد يعزونه، ولكن لا يُبينونه لأسبابٍ: منها أن بعضهم قد يُشغل عن ذلك بأمورٍ كثيرةٍ تشغله عن العناية بمراجعة الأدلة وبيان حالها.

ومنها أنه قد يكون قاصرًا، وليس بقُدرته أن يعرف مراتب الأدلة، ولكنه دعت الحاجةُ إلى أن يجمعها، وليس في قُدرته أن يُوضح درجاتها وحكمها عند أهل العلم.

وقد تكون هناك أسبابٌ أخرى تحول بينه وبين البيان.

والمؤلف قد وُفِّق في كتابه هذا رحمه الله إلى بيان حال الأحاديث التي يذكرها، وبيان حكمها من الصحة والضعف ونحو ذلك، وقد أحسن ذلك رحمه الله.

فإذا قال: أخرجه السبعة. فالمراد: الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده"، والستة الذين هم: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، الذين هم أهل السنن الأربع.

وإذا قال: الستة. فالمراد غير أحمد، وهم: البخاري ومسلم والسنن الأربع.

وإذا قال: الخمسة. فالمراد غير البخاري ومسلم، وهم: الإمام أحمد والسنن الأربع.

وقد يقول: رواه الأربعة وأحمد. قد يقول هذا وهذا، قد يُعبر بـ: رواه الخمسة. وقد يُعبر بـ: رواه أحمد والأربعة، فالعبارة واحدة، وإذا قال: رواه الأربعة. فالمراد أهل السنن الأربع.

وإذا قال: رواه الثلاثة. فالمراد: أبو داود والترمذي والنسائي فقط، دون ابن ماجه.

وإذا قال: متفق عليه. فالمراد البخاري ومسلم، وهي عبارة مشهورة عند أهل العلم، يقصدون بها البخاري ومسلم، إلا صاحب "المنتقى" المجد ابن تيمية رحمه الله، إذا قال في كتابه: متفق عليه. فإنه يريد: أحمد والبخاري ومسلمًا، ثلاث، ضمَّ إليهم أحمد.

وما سوى ذلك فهو مبين، ما عدا هذا فهو يُبينه، إذا كان غير هؤلاء بيَّنه: رواه الطبراني، رواه الدارقطني، رواه الدارمي، رواه صاحب "المختارة"، إلى غير ذلك.

س: وإذا قال: أخرجه الشَّيخان أو أخرجاه؟

ج: هما البخاري ومسلم.

وسميته (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) أي: بلوغ المقصد من أدلة الأحكام، وهذه مبالغة، وإلا فإنَّ طالب العلم يحتاج إلى المزيد، وإلا فـ"بلوغ المرام" فيه جملة أصول، فإنَّ مَن حفظه فقد بلغ المرام في الأصول، وليس معنى هذا أنه عرف كل شيءٍ في علم الحديث، هناك أحاديث كثيرة لم يذكرها المؤلفُ رحمه الله يحتاجها طالبُ العلم لمعرفة الأدلة والبحث.

(والله أسأل) لفظ الجلالة منصوب في محلِّ مفعول، من جهة الإعراب.

(والله أسأل أن لا يجعل ما علمنا علينا وبالًا، وأن يرزقنا العملَ بما يُرضيه ) هذا دعاء حسن ينبغي لكل طالبٍ أن يسأل ربَّه أن يجعل ما علمه إياه رحمةً له وإحسانًا إليه وسبًبا لنجاته، وأن لا يجعله وبالًا؛ لأنَّ مَن تعلم ولم يعمل صار علمه وبالًا عليه كاليهود.

ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يسأل ربه دائمًا أن يرزقه العمل بما علم، وأن يُعيذه من مُشابهة اليهود في التَّخلف عن العمل، هذا داء عُضال، وخطر عظيم، ينبغي لكل مؤمنٍ وكل طالب علمٍ أن يسأل ربَّه جلَّ وعلا كثيرًا في سجوده وتشهده في كل وقتٍ أن يُعلمه العلم النافع، وأن يرزقه العمل به، وأن لا يجعله وبالًا عليه.

فقد تقدم في كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في المقدمة التي قدَّمها لهذا الكتاب، وبيَّن حال هذا الكتاب، وأنه مختصر في أصول الأدلة الحديثية، وأنه محرر تحريرًا بالغًا للعلة التي ذكرها في المقدمة.

والآن يبدأ في بيان الأحاديث التي قدَّم لها، قال رحمه الله:

كتاب الطهارة

من عادة المؤلفين للأحاديث والفقه إذا أرادوا البدء في العبادات بدأوا بالطهارة، وبعضهم يقتصر على هذا فيبدأ بالطهارة أولًا، وبعضهم يذكر قبلها أشياء تتعلق بالعقيدة، وما يتعلق بالتوحيد والشرك، ثم يتكلم على ما يتعلق بالعبادات، وكثير منهم يقتصر على ما يتعلق بالعبادات كالمؤلف رحمه الله؛ بدأ بالعبادات، وقدم الطهارة؛ لأنَّ الطهارة شرط الصلاة، والصلاة أهم العبادات وأعظمها بعد التوحيد؛ ولهذا قدَّموا الطهارة.

ووجه مَن حذف أحاديث العقيدة؛ لأنَّ العقيدة لها كتب مؤلفة مستقلة؛ لعظم شأنها ألّفت فيها كتب، وذُكر فيها ما يتعلق بالعقيدة من الآيات والأحاديث؛ ولهذا رأوا أنَّ هذا كافٍ، وأنه لا مانع من البداءة بالطهارة والصَّلاة.

ومعلوم أنَّ أركان الإسلام خمسة، وأن أعظمها وأهمها هو الركن الأول، وهو الشَّهادتان؛ تحقيقًا لمعناهما، فلا بدَّ من الشَّهادتين؛ إذ لا إسلامَ إلا بذلك، ولا عبادات إلا بذلك، الشَّهادتان هما الركن الأول، وهما أصل الدين، وهما أساس الملة، ومعناهما توحيد الله بالعبادة، والإيمان به سبحانه، وأنه رب العالمين، وأنه المستحق للعبادة.

والإيمان برسوله محمدٍ ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا إلى جميع الثَّقلين، هذا الأصل الأصيل هو أصل الدين، وله مؤلفات كثيرة تُسمَّى: كتب العقيدة.

بعد ذلك الصلاة، فالصلاة لها شرائط، ولها أركان وواجبات، ومن أهم شرائطها الطهارة؛ ولذلك بدأ المؤلفُ رحمه الله بالطَّهارة.

وكان من المناسب للمؤلف هنا أن يذكر ما يتعلق باشتراط الطهارة، ولكنه ذكر ما يتعلق بالمياه التي تحصل بها الطَّهارة، ولم يذكر الأحاديث التي تدل على أنه لا بدَّ من الطهارة للصلاة، وهي عدة أحاديث:

  1. منها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: لا تُقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ.
  2. ومنها حديث عمر عند مسلم مرفوعًا: لا تُقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول.
  3. ومنها حديث عليٍّ عند السنن الأربع وأحمد: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التَّسليم.

فالمقصود أنَّ الطهارة لا بد منها في الصلاة، وأنها شرط لها؛ ولهذا ناسب ذكر المياه التي بها الطَّهارة.

والطهارة مصدر: طهر طهارة، وهي ارتفاع الأحداث وزوال الأخباث.

ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء يُسمَّى: طهارة، وإزالة النَّجاسة بالماء ونحوه يُسمَّى: طهارة.

والأصل هو الطَّهارة بالماء، وقد ينوب عنه أشياء محدودة.

ثم قال: (باب المياه) جمعها لأنها أنواع: منها الطاهر، ومنها الطهور، ومنها النَّجس، ومنها المكروه؛ لهذا جمعها.

(عن أبي هريرة ) أي: رُوينا عن أبي هريرة، أو جاء الحديثُ عن أبي هريرة : قال رسول الله ﷺ في البحر: هو الطَّهور ماؤه، الحلُّ ميتته أخرجه الأربعة.

الأربعة تقدم بيانهم، وهم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، أهل السنن الأربع، ووفاتهم معروفة لدى أهل العلم: أبو داود توفي سنة 275هـ، والترمذي توفي سنة 279هـ، والنسائي ثلاث وثلاثمئة 303هـ، وهو آخرهم موتًا، وابن ماجه سنة 273هـ، رحمة الله عليهم.

كل هؤلاء من القرن الثالث، ولم يُدرك القرن الرابع منهم إلا النَّسائي؛ لأنه مات سنة 303هـ.

وهم أئمة حُفَّاظ، ألَّفوا السنن الأربع، وكانت هذه السنن مرجعًا كبيرًا لأهل العلم في أحاديث الأحكام.

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، وهو عبدالله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، الإمام المشهور، شيخ البخاري ومسلم، والحافظ الجليل رحمه الله، له مؤلفات: كـ"المسند" و"المصنف" وغيرهما، كانت وفاته سنة 235هـ.

وصححه الترمذي، تقدم بيان وفاته، وهو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي، الإمام المشهور، والحافظ الجليل، كان كفيف البصر، والظاهر أنه كُفَّ بعد أن جمع الحديث؛ لأنه جاء ما يدل على أنه قرأ الحديثَ وكتبه رحمه الله.

وصححه ابن خزيمة أيضًا، الإمام المشهور: محمد بن إسحاق بن خُزيمة النيسابوري المشهور، أبو بكر، كانت وفاته سنة 311هـ، وهو إمام جليل، صاحب الصحيح.

ورواه الإمام مالك، وهو إمام مشهور من الأئمة الأربعة، وهو إمام دار الهجرة في زمانه، وكان مضرب المثل في الحفظ والإتقان للحديث، وكانت وفاته سنة 179هـ، وهو من أعيان القرن الثاني.

والشافعي تلميذ مالك، وهو إمام جليل، وهو من أعيان المئة الثانية وأول الثالثة، توفي رحمه الله سنة 204هـ، عن أربعٍ وخمسين، وفاته مولد الإمام مسلم صاحب الصحيح.

والإمام أحمد مشهور، هو الإمام الرابع من الأئمة الأربعة، وهو تلميذ الشافعي رحمه الله، وهو أحمد بن محمد بن حنبل الشَّيباني، أبو عبدالله، كانت وفاته سنة 241هـ، آخر الأئمة الأربعة موتًا.

أولهم أبو حنيفة رحمه الله، كانت وفاته سنة 150هـ أو 151هـ، ثم مالك مات سنة 179هـ، ثم الشافعي رحمه الله سنة 204ه، ثم أحمد سنة 241هـ.

هؤلاء الأئمة الأربعة المشهورون في الفقه، ورووا هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

وأبو هريرة مشهور بالكنية، واختلفوا في اسمه واسم أبيه على أقوالٍ، أشهرها وأرجحها عند جمعٍ من أهل العلم -كابن عبد البر والنووي- أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وكان إمامًا جليلًا، وحافظًا عظيمًا، حفظ من الحديث الشيء الكثير، وذكر كثيرٌ من المحدثين أنه أحفظ الصحابة لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان يدرس الحديثَ ليلًا ونهارًا، ويُلازم النبيَّ ﷺ حتى حفظ شيئًا كثيرًا، ومن ذلك هذا الحديث: قال رسولُ الله ﷺ (في البحر) يعني: في ماء البحر: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.

وكان لهذا الحديث سببٌ: وهو أنه سُئل عليه الصلاة والسلام، سأله ناسٌ وقالوا: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضَّأنا به عطشنا، فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته، فبين أنَّ البحر طهور الماء، حِلُّ الميتة، أجابهم النبيُّ ﷺ عن سؤالهم، وأفادهم إفادةً أخرى عظيمة، وهي حلُّ ميتة البحر، وما ذاك إلا لأنَّ مَن جهل حكم الماء فهو بالجهل لحكم الحيوانات أشدّ، فأبان النبيُّ ﷺ الأمرين: أن البحر طهور الماء، حِلُّ الميتة، وإن كان الماء مالحًا، لكن لا يضرُّه ذلك، ولا يمنع من كونه طاهرًا طهورًا، يُغتسل به، ويُتوضأ به، ويُستخلص منه ماء شربٍ لا بأس، فهو طهور الماء، حِلُّ الميتة، قال الله جلَّ وعلا: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، هو الذي أنزل الماء من السَّماء، وأقره في الأرض، وجعل هذا البحر مالحًا، وجعل فيها الأنهار الحلوة، كل هذا من حكمته العظيمة، وقُدرته الباهرة ؛ أن جعل هذا عذبًا، وهذا ملحًا أُجَاجًا، وهذا نهر جارٍ، وهذا بحر قار، إلى غير ذلك، سبحان الحكيم العليم.

فالمقصود من ذلك الدلالة على أنَّ البحر طهور الماء، حِلُّ الميتة، والحمد لله على نعمته العظيمة.

والحديث المذكور صححه جماعةٌ من أهل العلم، وله طرق، وممن صححه ابن عبد البر، وابن خزيمة، والترمذي، وابن منده، ..... وغيرهم.

والشاهد فيه: أنَّ البحر طهور الماء، حل الميتة، فلنا الوضوء منه، والاغتسال، والشرب منه، كل ذلك جائز؛ لقوله ﷺ في البحر: هو الطَّهور ماؤه، الحل ميتته.

الحديث الثاني: حديث أبي سعيدٍ الخدري، وهو: سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري، كان من الحفاظ المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كانت وفاته بعد الحرة، بعد سنة 63ه.

يقول : عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الماء طهور لا يُنجِّسه شيء، هذا من جوامع الكلم، كلمة عظيمة من جوامع الكلم، يدلنا عليه الصلاة والسلام على أنَّ الماء لا يُنجسه شيء، هذا هو الأصل، إلا ما يأتي، فالأصل فيه الطَّهارة: في ماء الأنهار والبحار والآبار ومياه الأمطار، الأصل فيها الطَّهارة، الغُدران في البراري، كل ذلك الأصل فيه الطَّهارة حتى تعلم ما يُنجسه، وإلا فالأصل هو الطَّهارة، قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، وجعل هذا الماء طهرةً لنا، وهذا الماء الذي في الأرض مما أنزله الله من السَّماء وأقرّه في الأرض، كما قال : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18]، فهو سبحانه أنزله من السَّماء وأقره في الأرض؛ لينتفع به العباد، فالأصل فيه الطَّهارة حتى يبين ما يُنجسه.

ودلَّ حديث أبي أمامة على أنه كذلك، إلا إذا وجد ما يُنجسه من نجاسةٍ تغلب عليه: من ريحٍ، أو طعمٍ، أو لونٍ، فعند ذلك ينجس عند أهل العلم جميعًا.

وحديث أبي أمامة ضعَّفه أبو حاتم رحمه الله، وهو محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي، الحافظ الجليل، ضعَّفه لأنَّ فيه راويًا يقال له: رشدين بن سعد، ضعيف الرواية رحمه الله، وابن ماجه خرَّجه للعلم؛ ليعلم حاله، وابن ماجه هو صاحب السنن.

وقد أجمع الناسُ على ضعف رشدين، فالحديث ضعيف بذلك، ولكن العمدة على إجماع أهل العلم؛ فقد أجمع العلماء على أنَّ الماء إذا تغير طعمُه أو لونُه أو ريحُه بالنَّجاسة نجس، فالعمدة على ما أجمع عليه أهلُ العلم في هذا الباب.

وحديث أبي سعيدٍ دالٌّ على أنَّ الأصل في المياه الطَّهارة، وكان هذا الحديث في قصة بئر بضاعة، وكانت بئرًا معروفةً في المدينة، كان يُلقى فيها من النّتن وخرق ثياب النِّساء وغير ذلك أشياء، فاستنكر الناسُ ذلك، وسألوه، فأخبر ﷺ أنَّ الماء طهور، وأنَّ هذه البئر ما دامت لا يُغيرها ما تُلقيه الرياح فيها وما يقع فيها من هذه القاذورات؛ فإنَّ ماءها طهور؛ لأنه ماء قوي يدفع عن نفسه؛ ولهذا يذوب فيه ما يُلقى فيه، ويذهب فيه، ويستحيل فيه، ولا يُؤثر عليها؛ فلهذا قال فيه: إنَّ الماء طهور لا ينجسه شيء، هذه القاعدة، وهي قاعدة كلية: أن الماء طهور؛ مياه الآبار وغير مياه الآبار، إلا ما تغير -كما تقدم- فإنه ينجس بذلك إذا تغير بالنَّجاسة.

أما لو تغير بشيءٍ طاهر: كأن ألقت فيه الرياحُ الأوراقَ -أوراق الشجر- أو التراب، أو ما أشبه ذلك، أو نقلت إليه روائح من بعيدٍ من ميتةٍ أو غيرها؛ فإنَّ هذا لا يضره؛ لأنَّ هذا لم يقع فيه، أو وقع فيه ولم يُغيره بنجاسةٍ، وإنما تغير بطهارةٍ: كتبنٍ، أو تغير بأوراق الشجر، أو طول مكثٍ، أو تغير بالطحلب ونحوه، فهذا لا يضره، يبقى عليه اسم الماء، ما دام اسم الماء باقيًا فإنه طهور، ولو تغير بالطاهرات العادية التي لا تُخرجه عن كونه ماءً.

أما إذا تغير بشيءٍ يُخرجه عن كونه ماءً، ويُعطيه اسمًا آخر؛ فإنه ينتقل عن الماء إلى اسمٍ آخر، كما يقع في الألبان والأمراق وأشباه ذلك؛ فإنه إذا خلط فيه اللحم -طبخ باللحم- صار مرقًا، وإذا صُبَّ عليه اللبن صار لبنًا، وإذا جُعل فيه التَّمر وهرس فيه التَّمر أو الزبيب صار شرابًا نبيذًا، إذا خرج عن كون اسمه الماء لم يكن طهورًا، وصار إلى الطَّهارة فقط، يكون طاهرًا فقط: كمياه الفواكه وأشباهها.

فالمقصود أنه ما دام اسمه باقيًا فهو طهور، وإذا خرج عن اسمه صار لبنًا أو مرقًا أو شايًا أو قهوةً أو ما أشبه ذلك، خرج عن اسم الماء إلى شيءٍ آخر.

ويأتي إن شاء الله ما يتعلق بحكم النَّجاسة إذا وقعت في الماء ولم تُغيره، وهو ما يتعلق بحديث القُلتين في الدرس الآتي إن شاء الله، والله أعلم.

وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث أخرجه الأربعة.

تقدم أنَّ المراد بالأربعة هم أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان.

كان الأحسن أن يقول: ابن حبان والحاكم؛ لأن ابن حبان شيخ للحاكم، ولكن من باب التَّسامح في العبارة، فابن حبان هو شيخ الحاكم رحمه الله.

هذا الحديث تنازع العلماءُ في صحته: فزعم قومٌ أنه مضطرب، وأنه لا صحةَ له، وأنه معارض لحديث: الماء طهور لا يُنجسه شيء؛ لأنَّ له روايات كثيرة متعددة.

وقال آخرون: بل هو صحيح. وهذا هو الصواب: أنه صحيح، كما صححه الأئمةُ، ومنهم ابن خُزيمة رحمه الله، ومنهم ابن حبان، ومنهم الحاكم، وآخرون.

والحديث صحيح لا بأس به، ولا تعارض بينه وبين الأحاديث السَّابقة؛ فالأحاديث السابقة أحاديث منطوقة، حكمها منطوق صريح: أنَّ الماء طهور لا يُنجسه شيء، وهذا الحديث يدل على أنه إذا بلغ قُلتين لم يحمل الخبث، أي: لم يُؤثر فيه الخبثُ؛ لكثرته، يعني: غالبًا.

وفي لفظٍ: لم ينجَس تفتح الجيم، من باب: (نجِس)، وتضم من باب (نجُس)، لغتان معروفتان، أي: لم يكن نجسًا. وهذا وصف أغلبي.

أراد النبي ﷺ بهذا أنَّ الماء الكثير في الغالب لا تُؤثر فيه النَّجاسة العارضة العادية القليلة، وإنما تؤثر في المياه القليلة؛ ولهذا أمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلبُ -كما سيأتي- لأنه ماء قليل غالبًا في الإناء، وريق الكلب له تأثير من أثر الولوغ، فكانت المصلحةُ تقتضي إراقته؛ لأنه في الغالب يتأثر بولوغ الكلب في طعمه وما يتعلق بمنفعته.

فإذا كان الماء قليلًا تأثر وأُريق، وإن لم يَبِنْ فيه تغير الطعم واللون والريح، وإذا كان كثيرًا لم يتأثر في الغالب، بل يكون له حكم الطَّهارة، هذا هو الأغلب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إذا كان الماء قُلتين لم يحمل الخبث، مفهومه: أنه إذا كان أقلَّ يحمل وينجس، لكن يُعارض المفهوم حديث أبي سعيدٍ المتقدم وما جاء في معناه: أنَّ الماء طهور لا يُنجسه شيء.

والقاعدة: أن المنطوق عند أهل العلم مُقدَّم على المفهوم؛ لأنَّ المفهوم له معانٍ، قد يُراد، وقد لا يُراد، فوجب أن يُقدم عليه المنطوق، ولكن ما دون القُلتين يستفاد من حديث القُلتين أنه يحتاج إلى عنايةٍ ونظرٍ وتأمُّلٍ، وأن لا يتساهل فيه؛ لأنه مظنة التأثر بالنَّجاسة، فينبغي فيه أن يُلاحظ؛ فإن ظهرت فيه النَّجاسة بتغير طعمه أو لونه أو ريحه تُرك، أو كان ذلك التَّغير في القليل فإنه مظنة التأثر؛ فإنه يُراق كما في حديث: إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم، وإذا كان لا يتأثر؛ لكثرته أو لعدم ظهور أثر النَّجاسة فيه وإن كان قليلًا؛ فإنه طهور.

وعلى هذا القول جمعٌ من أهل العلم، وهو قول أهل المدينة، ومنهم مالك رحمه الله، وبعض من السلف والخلف، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، شيخ الإسلام، وابن القيم، وجماعة، وهو الأرجح من حيث الدليل؛ لأن المفاهيم لا تُعارض المنطوقات الصَّريحة؛ ولأنَّ المفهوم محتمل، والحكم الصريح لا يحتمل، فوجب الأخذ بالصريح؛ ولأنه أجمع أهلُ العلم على أنَّ الماء إذا تغير بالنَّجاسة بطعمٍ أو لونٍ أو ريحٍ نجس، وبقي ما عدا الإناء تحت النَّظر والتَّأمل؛ فإن ظهر فيه تغير أو ما يدل على التَّغير ويُخشى منه الشرّ والضَّرر لقلته أُلحق بالمتغير، كما في إراقة الماء إذا ولغ فيه الكلبُ، وما لا فلا.

فالحاصل أنَّ ما دون القلتين محل نظرٍ وعنايةٍ؛ فإن ظهر فيه التَّغير تُرك، وإلا فالأصل أنَّ الماء طهور لا يُنجسه شيء. وهذا هو الجمع بين الأخبار الواردة في هذا الشَّأن.

والقُلَّة بالضم: ما يُطيقه الرجل المعتدل الخلقة من القِرَب المعروفة من قلال هجر، قيل: إنها تَسَع أربع قربٍ غير كبيرةٍ، عاديةٍ من قلال الحجاز وشيء، فجُعلت خمس قربٍ على سبيل الاحتياط في تقدير جماعةٍ من أهل العلم.

فإذا كانت بهذه المثابة -وصل الماء قلتين- فهو محل لدفع النَّجاسة عن نفسه، وعدم التأثر غالبًا، وإذا كان أقلَّ من ذلك فهو في الغالب يتأثر، فيُعتنى به ويُلاحظ حتى لا يستعمل النَّجاسة.

أما حديث أبي هريرة فهو دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يغتسل في الماء الدائم أو يبول فيه وهو جنب، ليس له أن يغتسل وهو في جنب، وليس له أن يبول فيه؛ لأنَّ الماء الدائم ضعيف، لا يدفع عن نفسه، فإذا بِيل فيه واغتُسل فيه من الجنابة قذره على الناس، وربما تكاثرت هذه الأشياء حتى تُغيره وتُؤثر فيه، فسدّ الباب عليه الصلاة والسلام، ومنع من استعمال هذا الشيء؛ حفظًا للماء، ورفقًا بالناس؛ لأنهم في حاجةٍ دائمًا إلى الغدران في البراري، فالناس بحاجةٍ إليها: يشربون ويغتسلون ويسقون بهائمهم، فالبول فيها والاغتسال فيها يُؤثر فيها على الناس ويُكدره على الناس.

أما غير الجنب الذي يغتسل للتَّبرد فلا يُؤثر في الغالب؛ لأنه ليس به شيء، بخلاف الجنب؛ فقد يكون مُتلطخًا بأشياء من آثار الجنابة، وإن كان المني طاهرًا، ولكنه قذر المؤثر إذا فعل هذا وهذا قد يختلط المني بأشياء أخرى فيُؤدي ذلك إلى تقذير المياه، وربما أفضى إلى تنجيسها؛ ولهذا خصَّ الجنب بالنَّهي.

أما غير الجنب فقد يحتاج إلى هذا، وقد لا يحتاج إليه، حالة الجنب لازمة، وغير الجنب قد يحتاج إليه من باب التَّبرد أو النَّظافة، فليس هناك ما يُوجب الغسل، فأمره أوسع.

وإذا نهى عن كل واحدٍ منهما فالجمع بينهما أولى، فإذا نهى عن البول في الماء الدائم، أو الاغتسال في الماء الدائم وهو جنب، فالجمع بينهما -بأن يبول ويغتسل- هذا أولى، أشدّ في النَّهي.

ثم الصواب أنَّ هذا النهي للتحريم، وأما قول مَن قال بالكراهة فلا وجهَ له؛ لأنَّ الأصل في النَّهي التحريم، قال النبي ﷺ: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه.

وهكذا مَن قال بالتفصيل: إن كان كثيرًا فهو للكراهة، وإن كان قليلًا فهو للتحريم. فليس له وجه واضح، ثم هو يُسهل على الناس التَّساهل في هذه الأمور، والواجب سدّ الأبواب التي سدَّها الرسولُ ﷺ، وحمي ما حماه النبيُّ ﷺ، وهذه مقاصدها ظاهرة، ومصالحها ظاهرة، فيجب أن يكون النَّهيُ على ظاهره في الماء مطلقًا، ولو كان كثيرًا، ما دام الماء دائمًا.

أما الأنهار الجارية فأمرها واسع، الماء الجاري في الأنهار الجارية أمرها أسهل، فلا حرج في الغسل فيها، ولا البول فيها؛ لأنه ﷺ قال: الدائم الذي لا يجري، فمفهومه: أنَّ الجاري بخلاف ذلك.

(ثم يغتسلُ) فيه وجهان: بالرفع، وهو ظاهر، ورُوي بالنَّصب: (ثم يغتسلَ) بنصبه بأن محذوفة، كما قد يُنصب بعد الواو و(أو) في مواضع، وإن كان الشرطُ هنا ليس بتامٍّ؛ وهو أن ينصب بعد الواو أو بعد (أو)، لكن جاء النَّصب في الرواية على هذا المعنى، والمشهور في الرواية الرفع: (ثم يغتسلُ فيه)، ويجوز النَّصب بالعطف على لا يبولنَّ.

(لا يبولنَّ .. ثم لا يغتسل) أيضًا لا هذا ولا هذا؛ كونه يبول ثم يغتسل فيجمع بين السَّيئتين: كونه يبول ويغتسل وهو جنب؛ ولهذا صرح في رواية أبي داود بما هو واضح: لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ولا يغتسل فيه من الجنابة، فصرح فيه بالأمرين، وأنهما منهيان، لا مجرد الجمع، بل هذا وهذا، والمعنى واضح في ذلك؛ في النَّهي عن كل واحدٍ منهما مفردًا، وعن الجمع بينهما من باب أولى.

والسر في ذلك -والله أعلم- كما تقدم أنه وسيلة إلى التَّنجيس والتَّقذير فمُنِعَ.

أما حكم الماء: فالصواب أنه لا ينجس إلا إذا تغير كما تقدم، إذا تغير بنجاسةٍ: إذا بال فيه، أو اغتسل فيه، فالماء باقٍ على طهوريته ما لم يتغير بنجاسةٍ، هذا هو الأصل: إنَّ الماء طهور لا يُنَجِّسه شيء.

فلا يلزم من النَّهي تنجيس الماء، وهكذا إذا أدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثًا إذا قام من النوم، فنهى عن هذا، لا يجوز له حتى يغسلها ثلاثًا، لكن لو أدخل يده في الماء لا ينجس الماء ولا يفسد، فالماء على طهوريته؛ أخذًا بالأصل: إنَّ الماء طهور لا يُنَجِّسه شيء، ولكنه أساء حين أدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثًا، أساء فعليه التوبة والاستغفار.

والصواب أنه ممنوعٌ عن إدخال يديه حتى يغسلها ثلاثًا إذا قام من النوم، ولا سيما نوم الليل؛ فهو أشد، ولكن لو فعل أساء، ولكنه لا ينجس الماء، بل هو باقٍ على طهوريته، هذا هو الصواب؛ لأنَّ عندنا أصلًا، وهو أصل عظيم يجب أن نأخذ به، ويجب أن يبقى معنا دائمًا: إنَّ الماء طهور لا يُنجسه شيء.

س: حتى ولو كان جنبًا؟

ج: ولو كان جنبًا لا يفسد الماء.

والحديث التاسع: وعن رجلٍ صحب النبي ﷺ قال: نهى رسولُ الله ﷺ أن تغتسل المرأةُ بفضل الرجل، أو الرجلُ بفضل المرأة، وليغترفا جميعًا. رواه أبو داود والنَّسائي، وإسناده صحيح.

قد تكلم فيه بعضُهم فأخطأ، والصواب كما قال المؤلفُ: إسناده جيد، وكون الصَّحابي مبهمًا لا يضرّ؛ لأن الصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم وأرضاهم، فلا يضرّ كون الصحابي مبهمًا ما دام عُرف أنه صحابي، وفي روايةٍ أنه صحب النبيَّ ﷺ أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة، يدل على تثبت الراوي ومعرفته له معرفةً تامةً.

وذهب الجمهور إلى أنَّ النهي للكراهة، وترك الأولى، واحتجوا على هذا بأنَّ النبي ﷺ كان يغتسل مع أزواجه، ومعلوم أنه يفضل بعدها شيء، ويفضل بعده شيء، وأنَّ كلًّا منهما سوف يغتسل بفضل صاحبه، فيكون النَّهي للكراهة وترك الأولى؛ بدليل مَن فعله من أصحابه؛ ولحديث ابن عباسٍ الذي بعده: أنه كان يغتسل بفضل ميمونة، فدلَّ ذلك على أنَّ ذلك النَّهي ليس للتحريم، ولكنه للكراهة وترك الأولى عند الإمكان، عند إمكان وجود الماء الآخر الذي يغتسل فيه ويتوضأ به، أما إذا دعت الحاجةُ إلى هذا الذي فضل من المرأة فتزول الكراهة، والغسل واجب، والوضوء واجب، فلا كراهةَ مع الواجب مع الحاجة للماء، ولكن عند وجود الماء وتيسر الماء فالأولى أن لا يغتسل من فضلها، وأن لا تغتسل من فضله، وما يبقى في الإناء منه ومنها لهذا الحديث.

وما يبقى منها أشدّ؛ لحديث الحكم بن عمرو الغفاري: أن النبي ﷺ نهى عن الوضوء بفضل طهور المرأة. فما جاء من النَّهي عن الوضوء بفضل طهورها وغسلها يدل على أنها آكد في الكراهة.

وحديث الرجل هذا يدل على الأمرين، وأنهما جميعًا كلُّ واحدٍ لا يغتسل بفضل الآخر.

وبعضهم ذكر أنَّ فضله محل وفاقٍ، وأنه لا كراهةَ فيه، ولكن الدعاوى كثيرة، وظاهر هذا الحديث يدل على كراهة هذا وهذا، فلا تغتسل بفضله، ولا هو بفضلها عند عدم الحاجة، وعند الحاجة تزول الكراهة، وفعل النبي ﷺ يدل على أنَّ هذا النَّهي ليس للتحريم، ولكن من باب الكراهة، ومن باب ترك الأولى، فكونه اغتسل بفضل ميمونة لما اغتسلت بجفنةٍ، فجاء النبي ﷺ يغتسل منها فقالت: إني كنتُ جنبًا! فقال: إنَّ الماء لا يُجنب.

"يُجنِب" من أجنب الرباعي، ويقال: لا يَجنُب، من الثلاثي: جنب، ويقال: لا يجنب، من جَنِب، مثل: فرح، فهي ثلاث لغات: يجنب، ويجنب، ويجنب، المعنى: لا يكون له حكم الجنابة، الماء لا يتأثر، بل هو باقٍ على طهوريته.

فعُلم من هذه الرِّوايات الثلاث: رواية الرجل الذي صحب النبيَّ ﷺ، وحديث ابن عباسٍ، وقصة ميمونة، وهو في السُّنن، تزول الكراهة، فلا كراهةَ مع الحاجة إلى الشيء، أو تعين الشيء، إذا احتاج إليه أو تعين زالت الكراهة.

وكذلك إذا أراد أن يُبين الحكم للناس زالت الكراهة؛ ليعرف أنَّ الشرب قائمًا مكروه، أو تركه أولى، فإذا فعله لبيان الجواز وبيان الحكم الشرعي صار في حقِّه مندوبًا، وصار مأجورًا؛ لأنه أراد بهذا بيان الشريعة، مثلما أنَّ النبي ﷺ ينهى عن الشيء ثم يفعل خلافه؛ لبيان الجواز، فهو في حقِّه قُربة وطاعة، وهو مأجور بها عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أراد بذلك بيان التَّشريع؛ بيان حكم الشرع.

هكذا في القيام للجنازة: لما مرت قام لها، ثم جلس عليه الصلاة والسلام، من باب التَّشريع في أشياء كثيرة ينهى عن الشيء ثم يفعله، أو يأمر بشيءٍ ثم يتركه، هذا من باب بيان التَّشريع، وأنَّ الأمر ليس للوجوب، والنَّهي ليس للتحريم؛ فلهذا فعل ما نهى عنه، أو ترك ما أمر به، لا للمُخالفة، ولكن لقصد بيان التَّشريع، وأنَّ هذا الأمر ليس للوجوب، وأن النَّهي ليس للتحريم.

وهكذا أتباعه من العلماء إذا فعلوا ما نهى عنه نهي كراهةٍ، أو تركوا ما أمر به أمر استحبابٍ؛ لبيان حكم الشرع، وأنَّ الأمر ليس للوجوب، وأن النَّهي ليس للتحريم؛ يكون من باب التَّشريع وبيان الشرع، ويكون مأجورًا على هذا الشيء الذي فعله؛ لكونه أراد البيان والإيضاح، والله أعلم.

في رواية مسلم: عن ابن عباسٍ، رواها بعض ..... عن ابن عباسٍ، قال فيه: .....

س: ...............؟

ج: نستفيد من حديث ابن عمر الاحتياط، وأن لا نتساهل فيه كالكثير؛ لأنَّ هذا القليل قد يتأثر، فيحتاج إلى تأمل؛ لأنه قد يكون تأثر في طعمه أو لونه أو ريحه لقلته، ونحن بالعجلة وعدم التَّأمل لم نُراعِ هذا الشيء.

س: يعني: التأمل بالنَّظر في أحد أوصافه؟

ج: إيه، هل تغيرت أو ما تغيرت؟ بخلاف الكثير؛ فإنه في الغالب يبين ولا يحتاج إلى مزيد عنايةٍ لكثرته؛ ولهذا الغالب عليه أنه يقضي هذا الشيء، يقضي على ما وقع فيه لكثرته.

س: .................؟

ج: لا بأس به، ولكن في ابن حبان والحاكم وابن خزيمة، هؤلاء العلماء في تصحيحهم لين، ولكن ما صحَّحوه يُعتبر من باب الحسن إذا لم يُعارضه معارضٌ أقوى منه، إذا ما عارض ما هو أقوى منه لا يُلتفت إلى تحسينه وتصحيحه؛ لأنهم بالاستقراء يتساهلون: ابن حبان والحاكم وابن خزيمة أيضًا، وابن خزيمة أعلاهم، ثم ابن حبان، ثم الحاكم، فبالاستقراء قد وُجدت أشياء صحَّحها الحاكمُ، وإذا فيها موضوعات خفي عليه وضعها.

يقول الحافظُ رحمه الله: (وعن أبي هريرة ) تقدم لنا أنَّ أحسن ما قيل فيه: أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، الصحابي الجليل الحافظ، بل اشتهر عند أئمة الحديث أنه أحفظ الصحابة لحديث رسول الله ﷺ؛ لأسبابٍ مُبينةٍ في محلها.

قال: قال النبيُّ ﷺ: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلبُ أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب رواه مسلم، وفي لفظٍ له –أي: لمسلم: فليُرِقْه، وللترمذي: أُخراهن أو أولاهن.

هذا الحديث الصحيح وما جاء في معناه من الأحاديث؛ فإنَّ هذا الحديث له أصل في "الصحيحين"، وهو أن النبي ﷺ قال: إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسله سبع مراتٍ، هكذا رواه الشَّيخان، زاد مسلم: أولاهُنَّ بالتراب.

وله شاهد أيضًا من حديث عبدالله بن مغفل، وأحاديث أخرى في الباب كلها تدل على أنَّ ولوغ الكلب له خصوصية في تعداد الغسلات وخلط بعضها بالتراب، قيل: لأنه يشتمل على أمرٍ يضرّ الناس من وجهة الطبِّ ومن وجهة المعنى؛ فبُولغ في ذلك لهذا المعنى.

والصواب أنَّ ذلك لخبث نجاسته؛ لأنَّ الرسول ﷺ قال: طهور إناء أحدكم، ولو كان الطب لكان الأمر آخر، والصواب أنَّ الغسل لنجاسته وخبثه؛ لأنَّ الإناء ليس محلًّا للحدث، فعُلم أنه إنما غسل للنَّجس، والتَّطهير يكون لكل نجاسةٍ أو حدثٍ من جهة المكلفين، أما غير المكلفين فلا يكون إلا للنَّجس، فليس للحدث، فالجماد ليس منه حدثٌ، بل يكون من النَّجس، والإناء ليس مكلَّفًا بالطهارة المعنوية من الأحداث، وهكذا الأراضي، وغير ذلك.

فالحاصل أنَّ هذا يدل على أنَّ هذا الإناء أصابته نجاسةٌ؛ فلهذا شُرع تطهيرها بالماء والتراب، وجاء بهذا العدد، ولا بدَّ من سبعٍ لحكمةٍ بالغةٍ، ومن الظاهر في ذلك أنها المبالغة في السلامة من آثار ولوغه، ولعلَّ مع النَّجاسة شيئًا آخر قصده الشارع، وعلمه الشارع من شرِّ ولوغه وريقه، فيكون مع النَّجاسة أشياء أخرى اقتضت أن يكون الغسلُ بالتعداد بهذا العدد المعين مع التُّراب.

وهذا خاصٌّ بالكلب، ولا يُقاس عليه غيره؛ لأنَّ العبادات توقيفية؛ أي: أمور لا تُدرك بالرأي والقياس، وإنما بالتَّوقيف، ولم يأتِ في غير الكلب تعداد الغسل بهذا المعنى، وإنما جاء في الكلب خاصةً، فبول الأعرابي -كما سيأتي- صُبَّ عليه ماء فقط، وتُرك يسيل بالماء، وتفرَّق به الماء.

والحائض قال لها إذا أصابها دمُ الحيض: تحتُّـه وتقرصه بالماء، وتنضحه وتُصلي فيه.

ورُوي في بعضها: بماءٍ وسدرٍ بماءٍ وحجرٍ، تحكّه بالحجر، هذا يدل على أنَّ هذه الخصوصية لريق الكلب.

وبول الصبي جاء فيه أن يُنضح بالماء إذا كان لم يأكل الطعام، ويُغسل إذا كان يأكل الطعام، ولم يرد فيه التَّسبيع؛ فعُلم بذلك أنَّ هذا خاصٌّ بالكلب فقط.

وأما ما ولغ فيه فإنه يُراق؛ لأنَّ ريقه له أثر فيه، والأواني في العادة صغيرة، والماء الذي فيها قليل؛ فلهذا قال: فليُرِقْه، وإن كانت هذه الرواية انفرد بها بعضُ الرواة، ولكنه ثقة، فالأولى أن يُراق هذا الماء؛ لأنه في الغالب قليل، ليس من المياه الكثيرة التي تدفع عن نفسها كالقُلتين وما هو أكثر منها، فالغالب أنَّ هذه الأواني مياهها قليلة، فجاء فيه الإراقة، بخلاف ما لو كان حوضًا وماءً كثيرًا فإنه لا يُراق، والماء الطَّهور لا يُنجسه شيء كما تقدم، إذا ولغ في حوضٍ أو غديرٍ أو في جابيةٍ وما أشبه ذلك، أو في إناءٍ كبيرٍ بخلاف المعتاد؛ لا يُراق؛ لأنه يدفع عن نفسه حينئذٍ.

فكلام النبي ﷺ يُحمل على العادة المعروفة بين الناس، وأن الأواني ليست بالكبيرة، بل تُحمل وتُنقل من هنا وهنا.

وأما الحكمة في التراب والله أعلم: أن ذلك لإزالة الآثار التي تقع من الولوغ؛ لأنَّ في الولوغ أشياء قد تكون طبيةً، وقد تكون لأشياء أخرى مُؤذية، فيكون في غسلها بالتراب إزالة لها وقلعًا لأثرها.

وكونه في الأولى -كما في رواية مسلم- ليتعقّبها الماء فلا يبقى لها أثرٌ؛ لأنَّ الماء الذي بعده ستّ غسلات، الأخيرة تُنقي المحلَّ من التراب ومن بقية آثار الولوغ.

وأما رواية: إحداهنَّ أو أُخراهنَّ هذا شكٌّ من الراوي، والشَّاك يُقدَّم عليه مَن أثبت، فإنَّ مَن روى: أولاهُنَّ فقد أثبت بدون شكٍّ؛ فيكون أولى، أولى الغسلات تكون بالتراب، وإن جعلها في الثانية حصل المقصود، لكن الأولى أن يكون الترابُ في الأولى؛ لحديث عبدالله بن مغفل: وعفِّروه الثامنةَ بالتراب كما جاء في "الصَّحيحين".

كثيرٌ من أهل العلم على ذلك: أن التراب إذا نُظر إليه بمفرده صار ثامنًا، فإذا نُظر إليه بضمِّه إلى إحدى الغسلات صارت الغسلات سبعًا.

وقال بعضهم: بل يجب أن تكون ثمانٍ؛ أخذًا بظاهر حديث عبدالله بن مغفل : وعفِّروه الثامنة بالتراب.

وإذا فعل ذلك أخذ بحديث عبدالله بن مغفل فلا بأس، وهذا من باب الحيطة، ومن باب الأخذ بالظواهر، وإن اعتبر ما قاله الجمهور: من أنَّ المراد بالثامنة إن نظر إلى انفرادها فهي سابعة بالنظر إلى ضمِّها إلى الماء. وهو قول قريب وليس ببعيدٍ، وليس في الزيادة إلى الثامنة مضرة، بل هي خيرٌ لا شرٌّ؛ لظاهر حديث عبدالله بن مغفل، ولكن أغلب الأحاديث الصحيحة في "الصحيحين" وغيرهما ليس فيها إلا السبع، فإذا اكتفى بالسبع كفى، وحُمل قوله: في الثامنة على أنها بالنظر إلى كونها ترابًا يُعتبر ثامنةً، وبالنظر إلى كونها مضمومةً إلى إحدى الغسلات فهي سابعة، كما في الروايات الأخرى.

ويبقى أن نعرف حكم النَّجاسات الأخرى: فيكفي فيها المكاثرة بالماء وظنُّ النَّقاء، فإذا غسل بقية النَّجاسات بما يظن أنه أزال الأثر كفى، ولا يلزمه أن يكون سبعًا ولا ستًّا ولا خمسًا ولا ثلاثًا، المهم أن يُريق الماء على النَّجاسة بما يظن أنه أزال أثرها، ولم يبقَ لها بقيةٌ إذا كانت في ثوبٍ أو إناءٍ أو غير ذلك، فالعدد الخاصُّ بالسبع خاصٌّ بالكلب.

وحديث أبي قتادة الأنصاري -وهو الحارث بن ربعي الأنصاري، الفارس المعروف، صحابي جليل- أنَّ النبي ﷺ قال في الهرَّة: إنها ليست بنَجَسٍ بفتح الجيم، هو نجس العين، يُقال: نجس ومُتنجس؛ شيء طارئ، يُقال: نجس، هذا المشهور عند أئمَّة اللغة، فالنَّجس: ما كانت نجاسته ثابتةً: كالكلب والخنزير ..... ما أصابته نجاسة طارئة: كالثوب تطرأ عليه النَّجاسة يقال: نجس.

أخبر النبي ﷺ أنَّ الهرة ليست بنجسٍ، ثم علل بأنها من الطَّوافين، وفي روايةٍ أخرى: والطَّوافات.

هذا يدل على أنَّ العلة في رفع النَّجاسة عنها أنها من الطَّوافين علينا والطَّوافات، ومن رحمة الله أن سامح العباد وعفا عن آثار الهرة من جهة ولوغها، أو مما يُصيب الناس من جسدها، فإنها من الطَّوافين علينا، فولوغها في الماء أو أكلها من الطَّعام لا ينجس الطعام ولا ينجس الماء، بل ذلك عفو، وليست بنجسٍ؛ لأنها من الطَّوافين، مما نُبتلى به، فالله عفا عن ذلك، وإن كانت في نفسها محرَّمة الأكل؛ لأنَّ النبي ﷺ نهى عن ثمن السنور والكلب، فهي مُحرَّمة الأكل، وهي من السباع التي لا تُؤكل؛ لأنَّ الرسول ﷺ حرَّم كلَّ ذي نابٍ من السباع، وكلَّ ذي مخلبٍ من الطير. فهي من جنس السباع: كالثَّعلب والذئب والأسد والنَّمر والكلب، كلها محرمة.

ولكن الهرَّة تأنس بالناس، وتطوف عليهم، وتُخالطهم في بيوتهم، فمن رحمة الله أن عفا عمَّا تُصيبه بفمها؛ لأنها تُخالط وتطوف على الناس، فإذا حكم بنجاستها تعب الناسُ من ذلك، وشقَّ عليهم ذلك، فمن رحمة الله أن رفع عن عباده الحرج والعسر والمشقَّة.

وأُلحق بذلك على الصحيح الحمار والبغل؛ فإنهما مُحرَّمان، ولكن يُعفا عن سؤرهما وعرقهما كالهرة؛ لأنهما من الطَّوافين علينا؛ ولأنَّ الناس يحتاجون للبغل والحمار: يركبونهما ويحملون عليهما الحاجات، ولا سيما قبل وجود السيارات كانت هذه الحيوانات هي آلة الركوب ونقل الحاجات مع الإبل.

أما الخيل: فهي مُباحة، فهي مما أباح الله أكله، فهي من جنس الإبل والغنم، بولها وعرقها وسؤرها كله طاهر، أما الحُمر والبغال فهي محرَّمة؛ ولهذا بُحث في سؤرها وفي عرقها، والصواب والذي عليه المحققون أنها مُلحقة بالهرة، وأنه يُتسامح في سؤرها، فإذا شرب الحمار أو البغل في إناءٍ فلا حرج في استعمال ما بقي من ذلك، وكذلك إذا ركبه عريًّا وعرق عليه على ظهر الحمار أو البغل فلا بأس بذلك، وكذلك ما يقع من مخاطٍ إذا حرَّك أنفه، كل ذلك يُعفا عنه؛ لأنَّ راكبه وسائسه يُصاب بذلك.

أما بوله وروثه فهو نجس كبقية الحيوانات المحرَّمة: روثه نجس، وبوله نجس، فالهرَّة بولها نجس، وروثها نجس، وهكذا بقية السباع والحيوانات المحرَّمة كلها بولها وأرواثها نجسة، فالكلام في السُّؤر والعرق، وهذا محل بحثٍ، والصواب أنه من الحمار والبغل والهرَّة يُعفا عنه، ويُؤخذ طهارته من كونه من الطَّوافين علينا والطَّوافات.

والحديث الرابع عشر: حديث أنسٍ ، ابن مالك الأنصاري: أنَّ النبي رأى أعرابيًّا بال في طائفة المسجد، فزجره الناس؛ أي: همُّوا به، تكلَّموا عليه، فقال النبيُّ ﷺ: دعوه، فلما قضى بوله -وفي روايةٍ: أقصى بوله، أي: أبعد بوله- دعاه النبيُّ ﷺ وعلَّمه أنَّ هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا القذر والبول، ولكنها بُنِيَتْ لذكر الله وقراءة القرآن والصلاة، لا لهذا.

وفي روايةٍ أخرى من حديث أبي هريرة عند البخاري نحو هذا أيضًا، قال فيه: إنما بُعثتُم مُيسرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين.

هذا يدل على أنه ينبغي الرفق بالجهلة وتعليمهم وإرشادهم إلى ما يجب عليهم؛ لأن هذا أبلغ في تعليمهم، وأبلغ في دعوتهم إلى الخير، وأبعد عن التنفير من دين الإسلام، وهذا الدين دين اليسر والتَّسهيل والرحمة: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، إنما بُعثتُم مُيسرين، ولم تُبعثوا مُعسرين.

والجاهل عدو نفسه يحتاج إلى رفقٍ، إلى حكمةٍ؛ حتى لا يزداد شرُّه، وحتى لا ينفر عن دين الله.

وأمر بسَجْلٍ من ماءٍ، وفي روايةٍ: "بدلوٍ من ماءٍ"، والدَّلو ملآن، فصُبَّ على بوله، فدلَّ ذلك على أن البول يطهر بالمكاثرة، إذا بال على أرضٍ أو شيءٍ في الأرض -كالبُسُط جمع بِساط- فإنه يُكاثر بالماء ويكفى ذلك، المكاثرة بالماء تكفي في طهارتها؛ فإنَّ الماء يكثر عليها ويذهب بأجزائها هاهنا وهاهنا؛ فتكون الأرضُ طاهرةً بالمكاثرة، ولو بغير نيَّةٍ، فلو صبَّ عليه ماءً بغير مَن له نيَّة، أو صبَّه مَن لم يعلم بالأرض، أو جاء المطر حصل المقصود؛ لأنَّ هذه من باب إزالة النَّجاسات، لا من باب طهارة الأحداث، فلا تحتاج إلى نيةٍ، المقصود هو المكاثرة بالماء الطيب الطهور، فيحصل بذلك زوال النَّجاسة.

والواجب على المعلمين والمسلمين: التَّعليم بالرفق واليسر، والتيسير والرحمة؛ حتى لا يُنفروا عن دينهم، وحتى يكون ذلك أبلغ لقبول الجاهل وانتفاعه بذلك.

والله المستعان.

..............

ثم يُلاحظ أيضًا إذا كانت النَّجاسة لها جرم -أي: لها جسم- فإنها تُنقل، إذا كانت النَّجاسة عذرةً أو قطعة دمٍ أو من اللحوم النَّجسة مثل: قطع لحوم الحمار، أو لحم الكلب، لها رطوبة؛ فتُنقل الأجزاء إلى بعيدٍ، والرطوبة التي بعدها هي التي يُراق عليها الماء، قطع العذرة ونحوها لا يُصبّ عليها الماء فقط، بل تُنقل وتُشال وتُخرج من المسجد، وإنما هذا في البول فقط، أما إذا كان بغير البول ينقل قطع الدم، قطع العذرة، قطع اللحوم النجسة، تُنقل ويصبّ الماء على آثارها ورطوبتها التي في الأرض.

س: هل الخنزير يُقاس على الكلب؟

ج: بعض الفقهاء قاسه على الكلب، ولكن لا دليلَ على ذلك، الأصل عدم القياس.

س: زيادة لفظ والطَّوافات؟

ج: رواه أبو داود وغيره، جيد لا بأس به.

س: تصحيح الترمذي وابن خُزيمة أيُّهما أفضل؟

ج: ابن خزيمة ما تتبعناه، لكن الترمذي مُتساهل رحمه الله، قد يكونان مُتقاربين، لكن الترمذي له أشياء وهم فيها؛ أحاديث كثيرة صحَّحها وليس كذلك؛ ولهذا صار أهلُ العلم يتحرَّجون من تصحيحه، ولا يعتمدون عليه إلا بعد النَّظر والتَّأمل. وابن خُزيمة له شيء من ذلك، هو من الأئمة رحمه الله، ولكن يظهر من شرطه أنه يتسامح بعض الشَّيء.

يقول رحمه الله: (وعن ابن عمر) هو عبدالله بن عمر بن الخطاب وعن أبيه.

عن النبي ﷺ أنه قال: أُحِلَّ لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان: الجراد والحوت، وأما الدَّمان: فالكبد والطّحال أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه، وفيه ضعف.

إذا أُطلق أحمد فالمراد به الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشَّيباني، الإمام المشهور، والمراد في "المسند"، فإذا كان في غير "المسند" قُيِّد "كالزهد" وأشباه ذلك.

وابن ماجه معروف: وهو عبدالله بن محمد بن ماجه القزويني، صاحب "السنن".

وفيه ضعف؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، عن أبيه، وعبد الرحمن لا يُساوي شيئًا، فالحديث ضعيف جدًّا، من سُوء حفظه؛ لهذا أشار المؤلفُ إلى هذا بقوله: (وفيه ضعف)، والضاد في "ضعف" تُفتح وتُضمّ في لغة العرب.

وقد جاء هذا الحديث من غير طريق عبد الرحمن بن زيد: عن طريق سليمان بن بلال -أحد رجال الشيخين- عن زيد بن أسلم، لكنه موقوف، لم يقل فيه: قال رسول الله ﷺ. بل وقفه على ابن عمر.

قال الحفاظ -كأبي حاتم الرازي وأبي زرعة الرازي والدَّارقطني رحمهم الله- قالوا: إنَّ المحفوظ هو الوقف، وأن ابن عمر رضي الله عنهما ما قال: قال رسولُ الله ﷺ. قال: أُحِلَّ لنا ميتتان هو من نفسه. وهذا هو الصواب: أنه موقوف، لا مرفوع، ولكن عبد الرحمن بن زيدٍ لقلة حفظه رفعه فغلط.

وهذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأنَّ قول الصَّحابي: "أُحِلَّ لنا كذا، حُرِّم علينا كذا، أُمِرْنا بكذا، ونُهينا عن كذا" حكمه حكم الرفع على الصحيح عند أهل الحديث؛ لأنه ليس هناك مُحلل ولا مُحرم إلا الشارع، وهو الرسول ﷺ فيما يُبلِّغه عن الله ، فحكمه حكم الرفع.

ومعلوم أنَّ الميتة حرام، والدم حرام، فبين النبيُّ ﷺ في هذا الحديث الذي معناه الرفع: أنَّ الميتة استُثني منها السمك والجراد، فليسا مُحرَّمين، الميتات مُحرَّمات بنص القرآن الكريم، إلا أنه يُستثنى من ذلك ميته الجراد، وميتة الحوت، وقد تقدم حديثُ أبي هريرة : هو الطهور ماؤه، والحلُّ ميتته؛ ولقوله : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، فإنَّ طعامه ما يطفو على ظاهره، وما يوجد من الحيوانات هو طعامه، وما يُصاد منه، فالله أباح لعباده هذا رحمةً منه وإحسانًا ورزقًا للعباد؛ لهذا المخلوق العظيم.

وقد ثبت في "الصَّحيحين" من حديث جابرٍ وغيره قصة "العنبر" التي أخرجها الله للسرية التي كانت على ساحل البحر الأحمر، وهي سريةٌ كان فيها مئة مقاتل، كان القائدُ فيها أبو عبيدة، وكانوا في أشد الحاجة إلى الطعام، قد نفدت أزوادُهم، فأخرج الله لهم حوتًا عظيمًا مثل الجبل، فأكلوا منه مدةً طويلةً -شهرًا أو قريبًا منه- حتى سمنوا على إثر ذلك.

قالوا: جعل أبو عبيدة في قحف عينه اثنا عشر رجلًا؛ لسعة قحف عينه، وهو حوت عظيم جدًّا أخرجه الله لهم وجعله رزقًا لهم وهو ميت، فلما أخبروا النبيَّ ﷺ بذلك قال: هو رزقٌ ساقه الله لكم، هل معكم منه شيء؟ فقدَّموا له بعض الشيء عليه الصلاة والسلام؛ ليُطيب نفوسهم ويُبين لهم أنه حلٌّ.

والجراد كذلك لا يُذبح، فهو حلال حيًّا وميتًا، وليس من شأنه أن يُذبح، وكانوا يأكلونه في عهد النبي ﷺ، قال عبد الرحمن بن عوف: "غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزواتٍ نأكل الجراد"، سواء مات حتف أنفه أو بأسبابٍ: كأكياس يُجمع فيها أو ما يُشبه ذلك مما يُسبب موته فهو حلالٌ.

وأما الدَّمان: فالكبد والطحال، فإنهما دم، ولكنها ليست من الدم المسفوح، وإنما من الدم الجامد، لا يحرم علينا كالدِّماء التي تكون في العروق بعد الذبح، فإنها لا تضرّ، فهذا دم جامد أحلَّه الله لنا في نفس الذَّبيحة، في داخل الذبيحة؛ كأشباه ما يكون في عروقها وفي لحمها لا تحرم علينا، وإنما يحرم الدم المسفوح الذي ساح من البهيمة عند الذَّبح، أما ما بقي في عروقها ولحمها فإنه لا يحرم علينا.

وهكذا الكبد والطحال وما أشبه ذلك فيها، وإن كانا دمين جامدين فهما حلٌّ لنا، وهذا من تيسير الله ورحمته وإحسانه جلَّ وعلا.

والحديث السادس عشر: حديث أبي هريرة ، تقدم أنَّ أبا هريرة اختُلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرةٍ، وأنَّ أشهرها عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وعاش إلى آخر خلافة معاوية ، فتوفي في عهده سنة 56، وقيل: ثمانٍ وخمسين، وقيل: سبع وخمسين.

قال رسول الله ﷺ: إذا وقع الذُّبابُ الذباب معروف في شراب أحدكم، وفي روايةٍ أخرى: طعام أحدكم، وفي لفظٍ: في إناء أحدكم رواه البخاري في "الطب" وفي "بدء الخلق".

وله شاهد من حديث أبي سعيدٍ الخدري عند أحمد والنَّسائي وابن ماجه، وفيه ضعف حديث ابن ماجه.

وله شاهد عن أنسٍ عند البزار، وقال الحافظ: رجاله ثقات.

وقد طبع أخيرًا رواية البزار، وجمعها وتوَّلاها الدكتور الأعظمي، فيمكن المراجعة فيه.

فالمقصود أنَّ لهذا الحديث شاهدين:

  • أحدهما حديث أبي سعيدٍ، وهو جيد الإسناد، عند أحمد والنَّسائي وابن ماجه.
  • والثاني من حديث أنسٍ عند البزار، وقال الحافظ: رجاله ثقات.

وهو يدل على أنَّ وقوع الذباب في الشراب أو في الطعام أو في اللبن وما أشبه ذلك لا يُحرمه ولا يُنجسه، وأن السنة غمسه للعلة التي ذكرها النبي ﷺ، وأنه يُتَّقى بجناحه الذي فيه الداء، وأنَّ في أحد جناحيه الدَّاء، وفي الآخر شفاءً، فصار الذي فيه الدَّاء كالسلاح يُتَّقى به، فإذا وقع في شيءٍ اتَّقاه بالذي فيه الدَّاء، ورفع الذي فيه الدواء؛ ليسلم من الانغماس والسُّقوط، فأمر النبيُّ ﷺ أن يُغمس؛ حتى يكون دواؤه يُقابل داءه؛ فيكون الشَّارب للماء أو الدَّواء أو اللبن سليمًا منه، فدواؤه يُقابل داءه، فيبقى الشَّراب والطعام سليمًا.

ولم يأمر النبيُّ ﷺ بإراقة الشَّراب، ولا بترك الطعام، فدلَّ ذلك على أنَّ وجود هذا الذباب لا يُنجس الطعام، ولا يمنع من شربه وأكله.

وهكذا ما أشبه ذلك من الحشرات الصَّغيرة التي لا دم لها: كالبعوض، وإن كان فيها دم لكنه دم ضعيف، وهكذا النَّحلة والزنبور والحيوانات الصَّغيرة التي قد يُبتلى بها الناس، وهذه الأمور تقع في الشَّراب، كل ذلك يُعفا عنه، بل تُنقل وتُطرح؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: فليطرحه، فيغمسه ثم يرفعه ويطرحه، ويشرب شرابه، ويأكل طعامه.

ومن الفوائد: أنه لا يُنجّس الماء، وهذا هو الشاهد من ذكره في كتاب "الطهارة"، ومحله كان في كتاب "الأطعمة"، وذكره هنا ليُبين أنه لا يُنجس الشراب، سواء كان لبنًا أو غيره، بل يُطرح ويُشرب الشراب ويُؤكل الطعام.

وقد اعترض كثيرٌ من الأطباء الجهلة على هذا، وزعموا أنَّ في هذا تقذيرًا للطعام، فلم يُصيبوا ولم يُفلحوا في هذا الطَّعن، فالحديث صحيح، وله شواهد.

وفائدته معروفة: وهي أنَّ الغمس يجعل الدَّاء قد زال بمُقابله -الدواء- ومكافحة الدَّواء، فيسلم صاحبُ الطعام والشراب، فالأمر وضَّحه النبيُّ ﷺ وبيَّنه، فلا وجهَ للاعتراض على ذلك.

وقد شهد الأطباءُ المتبصِّرون بحُسن هذا العلاج، ولسنا في حاجةٍ إلى شهادتهم، ولكن من باب أنَّ هناك مَن يعترض، وهناك مَن يُجيب، فيُقابل هذا بهذا ويسلم حديث رسول الله ﷺ، وقد سلم بحمد الله.

واعتراض الأطباء مقابل بالأطباء الذين عرفوا وجه الصواب، وذكروا أنَّ هذا من محاسن الإسلام ودلائل صحَّة رسالة رسول الله ﷺ، وعلم على نبوته عليه الصلاة والسلام.

وفي رواية أبي سعيدٍ: وأنَّ في جناحيه سمًّا، سمَّاه: سُمًّا، وهو الدَّاء.

الحديث السابع عشر: عن أبي واقدٍ الليثي : أن النبي ﷺ قال: ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة فهو ميت أخرجه أبو داود والترمذي وحسَّنه، واللفظ له.

الذي في "سنن أبي داود" والترمذي: فهو ميتة.

أبو واقد الليثي هو الحارث بن عوف .

الذي في "سنن أبي داود" والترمذي: فهو ميتة، وهذا وقع من بعض النُّساخ: فهو ميت، والذي في الأصول: فهو ميتة.

وله شاهد أيضًا عند ابن ماجه من حديث ابن عمر، وهو بسند ٍحسنٍ، وشاهد آخر عند الحاكم عن أبي سعيدٍ بسندٍ جيدٍ أيضًا.

وهو دليل على أنَّ ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة -كالبعير والبقرة والغنم وسائر الصيود- فإنه يكون ميتةً محرمةً؛ لأنه لا بد أن يُذبح بالطريقة الشرعية، فإذا لم يُذبح بطريقٍ شرعيٍّ فما يُقطع منه وهو حيٌّ فله حكم الميتات.

جاء في بعض الروايات والطرق: أن النبي ﷺ قدم المدينة، وكان في المدينة مَن يجب الأسنمة ويقطع الأليات، فأنكر عليهم ذلك عليه الصلاة والسلام، وأخبرهم أنه ميتة.

فالحاصل أنَّ ما يُقطع من البهيمة -سواء كان أليةً أو أذنًا أو غير ذلك- فهو ميتة لا يجوز أكله، وإن كانت لحومًا تُؤكل بالذكاة الشرعية. والله أعلم.

وكان الأولى بهذه الأحاديث الثلاثة كتاب "الأطعمة"؛ لأنها تتعلق بالأطعمة، ولكن ذكرها هنا ليُبين طهارتها؛ فالذباب لا يُنجس الشراب، والجراد الميتة والطحال، وأنه لا ينجس، وأنه طاهر، وأنَّ ما يُقطع من الميتة فهو ميتة، وهو نجس، فإذا وقع في الماء نجسه إن كان قليلًا، أو غيَّر طعمه أو لونه أو ريحه.

هذا المقصود من ذكره هاهنا في كتاب "الطهارة".

س: قراءة "ابن ماجه" بالهاء أو بالتاء؟

ج: وقفتُ على كلام بعض أئمة الحديث -لا أذكره الآن- يُؤيد التَّسكين دائمًا: "ابن ماجه" بتسكينه، لا يُضمّ، ولم أقف على أي قاعدةٍ .. والمعروف -والله أعلم- أنه بالتَّسكين: ابن ماجه.

..............