02 من حديث (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة..)

باب الآنية

الأواني جمع إناء. والمراد بذلك الوعاء، والمراد هنا الأواني التي يكون فيها ماء الوضوء وما هو أعم من ذلك: كالطعام والشراب وغير ذلك.

ولما كان المتوضِّئ والمغتسل يحتاجان غالبًا إلى الأواني -فليس كلُّ أحدٍ يجد الأحواض والأنهار- ناسب ذكر حكم الأواني، وذكر ذلك المحدِّثون وبيَّنوا أحكامها، وهكذا الفقهاء بيَّنوا أحكام الأواني، وذكروا ما فيها بالأدلة؛ ليعلم المسلم حكم الآنية التي يستعملها.

والأصل في هذا الباب حِلُّ جميع الأواني، وطهارة جميع الأواني، هذا هو الأصل؛ أن جميع الأواني من حجرٍ أو طينٍ أو جلدٍ أو حديدٍ أو نحاسٍ أو غير ذلك الأصل فيها أنها حِلٌّ وطاهرةٌ، ولا بأس باستعمالها، هذا هو الأصل، وهو الأصل في الأعيان كما قال : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، والأصل أنَّ ما وُجد في الأرض فهو حِلٌّ لنا وجائزٌ لنا استعماله؛ لأنه خُلق من أجلنا، ونحن مخلوقون لعبادة ربنا، فجعل الله هذه الأشياء في هذه الدنيا لنا لنستعين بها على طاعته من المكلَّفين من الجنِّ والإنس، وأن يُعينوا غيرهم على طاعة الله.

فمَن استعملها في طاعة الله فقد استعملها لما خُلقت له، ومَن صرفها لغير ذلك فقد عصى واستعملها لغير ما خُلقت له.

وبهذا يُعلم أنَّ السؤال يتوجَّه إلى مَن حرم الأشياء، إذا حرَّم شيئًا يُقال له: لماذا حرَّمتَ؟ ولا يتوجه السؤال لمن أحلَّ وأباح واستعمل؛ لأنه على الأصل، إلا إذا جاء الاشتباهُ، واشتبه عليه المباحُ والمحظور؛ يُسأل مَن استباح ذلك عند الاشتباه، وإلا فالأصل توجيه السؤال لمن حرَّم ومنع؛ لأنه على خلاف الأصل، فيُقال: لِمَ حرَّمتَ هذا؟ ولِمَ منعتَ هذا؟ هو الأصل.

أما العبادات التي يُتقرب بها إلى الله فالأصل فيها المنع؛ لأنها توقيفية، ليس للناس أن يشرعوا لأنفسهم شيئًا من العبادة، بل هذا شأن الرسل عليهم الصلاة والسلام، أرسلهم جلَّ وعلا، هم المبلِّغون عن الله، فالعبادات ليس للرأي فيها مجال، بل إلى الله تعالى، هو الذي يشرعها لعباده، ويُرسل بها الرسل، ويُنزل بها الكتب، فما شرعه الله فهو المشروع، وما لم يشرعه الله فإنَّ التقرب به وتشريعه للناس يكون من قبيل البدع، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ، وما جاء في معناه.

هاتان قاعدتان عند أهل العلم عظيمتان، وهما: أنَّ الأصل في العبادات التَّوقيف، فلا يُقال: هذا مشروع، وهذا حرام، إلا بإذنٍ من الشَّارع.

أما الأصل في الأعيان -من مأكولٍ وملبوسٍ وأوانٍ تُستعمل وأشباه ذلك- فالأصل فيها الحِلُّ والإباحة، إلا ما حرَّمه الشرعُ، وهذا خلاف الأصل فيها، فيمتثل أمر الشرع فيما منع، ومن ذلك الذهب والفضَّة، فقد جاء الشرعُ بمنع اتِّخاذهما أوانٍ.

الحديث الثامن عشر: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة متفق عليه.

فإنها لهم أي: الكفار، كما هو المفهوم من السياق؛ ولأنهم معروفون باستحلالها واستعمالها.

والرسول ﷺ يُبين لنا أنَّ هذه للكفار ليست حِلًّا لهم، ولكنَّهم بالنظر إلى أنهم لا يُبالون يستعملونها؛ لعدم إيمانهم، وعدم أخذهم بأمر الله، فلا تتشبَّهوا بهم في ذلك أنتم.

والحكمة في ذلك -في منع المسلمين منها- مع الحكمة التي ذكرها النبيُّ ﷺ وهي النَّهي عن التَّشبه بالكفار في ذلك، وما ذكره العلماءُ: أنَّ فيها وسيلةً إلى الخيلاء والتَّكبر؛ لأنَّ مَن استعمل أواني الذهب والفضة قد يجرُّه هذا إلى التَّكبر والتَّعاظم على الناس، ووسيلة أيضًا لكسر قلوب الفقراء إذا رأوها وهم محرومون منها.

وفيها ما فيها من الرَّفاهية والتَّلذذ بالشيء النَّفيس، وبكلِّ حالٍ العمدة في هذا نهيه عليه الصلاة والسلام، وإنذار عن ذلك، وما عدا من العلل فهو محلُّ اجتهادٍ من العلماء، ويكفينا نهيه ﷺ عن ذلك، فإن ظهرت الحِكَم والأسرار في الحُكم فنور على نورٍ، وخير لطالب العلم، وإن لم تظهر ولم ينصّ عليها الشارعُ فلا ضررَ في ذلك؛ لأننا عبيد مأمورون، علينا أن نتمثل، سواء عرفنا الحكمةَ أم لم نعرف، وإنما صاحب الهوى وصاحب الجحود هو الذي يُحَكِّم رأيه ويُحكم عقله ولا يمتثل إلا ما أرشده إليه عقله، فهو ليس عبدًا لله، وإنما هو عبد لهواه وعقله.

أما المؤمن فشأنه أن يمتثل أمر الله، وأن يُبادر إلى طاعته سبحانه وطاعة رسوله ﷺ، وإن لم يتَّضح له أسرارُ ذلك وحكمةُ ذلك.

وحذيفة صحابي جليل، يُقال له: صاحب السرِّ؛ لأنَّ النبي أسرَّ إليه بأسماء المنافقين، وهو صحابي، وأبوه صحابي، قُتل أبوه يوم أُحُدٍ غلطًا، ومَن قتله هو من المسلمين، تُوفي حذيفة بعد مقتل عثمان بأربعين ليلة، وهو المشهور في تاريخ وفاته.

الحديث التاسع عشر: وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله ﷺ: الذي يشرب في إناء الفضَّة إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه.

ظاهر الحديث كون الإناء من الذهب أو الفضَّة، كله.

وثبت في حديث ابن عمر عند الدَّارقطني والبيهقي، وسنده حسن: مَن شرب في إناء ذهبٍ أو فضةٍ أو في إناءٍ فيه شيءٌ من ذلك فإنه يُجرجر في بطنه نار جهنم.

فهذا يدل على أنَّ المشترك الذي فيه شيء من الفضَّة، أو شيء من الخشب، أو غير ذلك؛ داخلٌ في النَّهي أيضًا، وأنه لا ينبغي استعمال إناء الفضَّة الذي هو إناء كامل من الفضَّة، ولا ما هو مخلوط أو مُموه بذلك؛ لأنَّ العلَّة والمعنى موجودان، وينبغي ترك ذلك، وأن تكون هذه الأشياء للكفار، لا لنا؛ لاستعجالهم العاجلة وإيثارهم لها، ولسنا مثلهم.

ويُستثنى من ذلك الضبّة في الإناء من الفضة -كما سيأتي في آخر الباب- فلا بأس أن يُضبب الإناءُ بشيءٍ من الفضَّة؛ لأنها أخفُّ من الذهب، وأقل كلفةً، وأقل شأنًا؛ فلهذا جاء فيها التَّسامح، بخلاف الذهب فإنها ممنوعة مطلقًا.

س: الجمع بين حديث ابن عمر وحديث الاستثناء لشيءٍ من الفضَّة؟

ج: هذا عام، وهذا خاصٌّ؛ حديث أنسٍ يدل على تخصيص حديث ابن عمر، والخاص مُقدَّم على العام، وحديث أم سلمة مثل حديث حذيفة؛ دالٌّ على تحريم إناء الذهب والفضة؛ لأنَّ حديث أم سلمة في الفضَّة، وزاد مسلم في روايةٍ: في إناء ذهبٍ أو فضَّةٍ، فهو مثل حديث حُذيفة في المنع من ذلك، وأنه لا يجوز له استعماله للشرب فيها والأكل فيها.

ويلحق بذلك عند أهل العلم استعمالها في الوضوء والغسل، وهو الشاهد من ذكره هنا، إذا حرم الأكلُ فيها والشُّرب، هكذا الاستعمال في الوضوء والغسل، وكلام الشارح ليس بجيدٍ عندما اعترض على هذا، والصواب ما قاله أهلُ العلم، حتى حكي بعضُهم إجماعًا أنَّ استعمالها في الوضوء والغسل كالأكل والشرب لا يجوز.

ثم أيضًا إيجاد مثل هذه الأواني وسيلة إلى استعمالها بالأكل والشرب فيها، فينبغي تركها بالكلية؛ لأنَّ في صنعها وجعلها أوانٍ وتهيئتها للشرب والأكل وسيلة إلى استعمالها في ذلك.

وهكذا استعمالها في الطَّهارة، هو وسيلة إلى الشرب والأكل، وهو امتهان أكبر؛ إذا حرم فيها الأكلُ والشربُ مع أنَّ الضَّرورة تدعو إلى ذلك، فتحريمها في استعمالها أظهر وأولى من حيث المعنى، ففيه امتهان أكثر، وفيه كسر لقلوب الفقراء، ويكون فيه الخيلاء أكثر.

فما قاله الجمهور -وهو كالإجماع من أهل العلم- أظهر وأولى، وأنه يحرم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب والطهارة وسائر أنواع الاستعمال: كأن تتَّخذ زينةً في المجالس لا يجوز ذلك؛ لأنها وسيلة إلى استعمالها في الأكل والشرب ونحو ذلك.

ويدخل في ذلك أكوابُ الشَّاي، وأكواب القهوة، ويدخل في ذلك أيضًا الملاعق؛ فإنها تُستعمل للشرب والأكل.

[الحديث العشرون: وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا دُبِغَ الإهابُ فقد طهر أخرجه مسلم.

الحديث الحادي والعشرون: وعن الأربعة: أيما إهابٍ دُبِغَ.

الحديث الثاني والعشرون: وعن سلمه بن المحبق قال: قال رسولُ الله ﷺ: دباغ جلود الميتة طهورها، صحَّحه ابن حبانٍ.

الحديث الثالث والعشرون: وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: مرَّ النبيُّ ﷺ بشاةٍ يجرُّونها فقال: لو أخذتُم إهابها، فقالوا: إنها ميتة! فقال: يُطهرها الماء والقرظ أخرجه أبو داود والنَّسائي].

هذه الأحاديث الثلاثة: حديث ابن عباسٍ، وميمونة، وسلمة بن المحبق.

المحبق: يُقال بالفتح وبالكسر، وقال بعضُهم: يفتح عند المحدثين، ويكسره اللُّغويون.

والحاصل أنه لغتان: المحبَّق والمحبِّق. وقد أخرجه أبو داود والنَّسائي.

والأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها تدل على أنَّ جلود الميتة تُباح وتطهر بالدّباغ: كجلد الإبل والبقر والغنم وأشباهها مما يُؤكل لحمه، إذا ماتت ودُبِغَتْ طهرت، كما هو صريح حديث ابن عباسٍ: إذا دُبِغَ الإهابُ فقد طهر.

قال النَّووي رحمه الله: الإهاب جلد ما يُؤكل لحمه، ويُطلق على غيره جلد وأديم، ويُقال لجلد ما يُؤكل لحمه: إهاب، وتطهيره يُقال له: الدبغ.

وجاء في الرواية الثانية: أيما إهابٍ دُبِغَ فقد طهر.

وجاء في حديث سلمة: دباغ جلود الميتة طهورها أي: تطهيرها.

ويجوز "طَهورها" بالفتح، أي: أداة تطهيرها، يقال للماء الذي يُعدّ للتَّطهر: طهور.

والمعنى أنَّ الدباغ أداة الطهور، أو أنه هو تطهيرها، كما يقال: وضوء للفعل، وطهور للفعل، وكذلك الدّباغ تطهير لها من آثار النَّجاسة؛ لأنها تنجس بالموت، فيكون الدّباغ ذكاةً للجلد وطهورًا له.

وحديث ميمونة كذلك في نفس الموضوع، قال: يُطهرها الماء والقرظ، في حديث ابن عباسٍ عن ميمونة أنه كان عنده داجن قد ماتت، فقال: ألا أخذتُم إهابها فدبغتُموه فانتفعتُم به؟.

وهذه الروايات كلها تدل على أنَّ جلود الميتة يُطهرها الدباغ، وهذه أصح من حديث عبدالله بن عكيم الذي فيه: إذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ رواه أهلُ السنن. وفي رواياته: قبل أن يموت بشهرٍ، وفي بعضها أكثر من ذلك، وفي بعضها روى عن أشياخٍ له.

فهو حديث فيه اضطراب، وليس بشيءٍ عند أهل العلم، والأحاديث التي ذكرت تدل على ضعفه وعدم صحته، فهو حديثٌ ليس بشيءٍ، ولو صحَّ لكان محمولًا على الإهاب قبل الدَّبغ، فلا يُنتفع به، وأما بعد الدَّبغ فليس بمنهيٍّ عنه، ولكنه حديث ضعيف؛ لأنه مضطرب، وليس بشيءٍ عند أهل الحديث، وهذه الأحاديث الصَّحيحة تدل على ضعفه، وتُؤكد ما فيه من الاضطراب والضَّعف.

ولو فرضنا صحَّته كما قال أحمد رحمه الله في روايةٍ وذهب إليه؛ فإنَّ هذه الأحاديث تكون مقدمةً عليه، وهي الأرجح عند مَن لم يقل بالنَّسخ.

ومَن قال بالنسخ فليس ببعيدٍ؛ لأنَّ الأحاديث الصَّحيحة فيها الدلالة على تطهير الدّباغ من جلود الميتة، فلا يكون ناسخًا لها هو، وإن كان بعض الرِّوايات: قبل موته بشهرٍ أو كذا، فإن هذه الأحاديث أولى بأن تكون ناسخًا له؛ لأنها أظهر وأصح وأنفع للأمة، وأقرب إلى قواعد الشَّريعة، فتكون أولى، والترجيح أقرب إلى هذا؛ لأنَّ مقام التَّاريخ مجهولٌ، فلا يتم العلمُ بالنسخ إلا بعد أمرين: بعد العلم بالتاريخ، وتعذر الجمع، فالجمع غير مُتعذِّرٍ هنا، والتاريخ غير محفوظٍ، فالصواب التَّرجيح، أو الجواب بأنَّ المراد بالإهاب قبل الدَّبغ، أما بعد الدَّبغ فلا كراهةَ ولا نجاسةَ، بل هو طاهر.

ثم اختلف أهلُ العلم رحمة الله عليهم في هذا: هل هذا عام في كل الجلود -كجلود السباع وغيرها- أم هذا خاصّ بجلود ما يُؤكل لحمه -كالإبل والبقر والغنم؟

على أقوالٍ، وأحسنها وأظهرها وأقربها: أنَّ هذا في جلود ما يُؤكل لحمه؛ لأنه إذا مات صار نجسًا وحرم علينا، فجعل الله الدّباغ ذكاةً لجلده، أما لحمه فقد انتهى، صار خبيثًا بالموت، أما الجلد فقد جعل الله له طهورًا بالدباغ؛ لينتفع به مَن يحتاج إليه من الفقراء وغيرهم؛ رحمةً من الله .

فالعرب وغيرهم قد تعرض بهم الحاجةُ، فجعل الله الدِّباغ طهرةً وذكاةً للجلد، إن احتاج إليه وأحبَّ أن ينتفع به جاز ذلك بعد الدبغ.

والصواب أنه يستعمل الإهاب في المائعات واليابسات، هذا هو الصواب؛ لأنه طهر، وما دام طهر فيُستعمل في المياه وغيرها؛ لأنه قد تطهر بالدِّباغ.

وفيه مسألة أخرى: فيما يطهر بالدباغ وقيل أنه طاهر في الحياة: كالهرة والحمار والبغل على المختار أنه طاهر في الحياة، فلا ينفع الدِّباغ في جلودها، وقيل في كل شيءٍ ما عدا الخنزير والكلب، وقيل أقوال أخرى معروفة عند أهل العلم.

ولكن أقربها هو جلد ما يُؤكل لحمه فالدباغ ذكاته، كما في الرواية الأخرى من حديث ابن عباسٍ عند أحمد بسندٍ صحيحٍ: فإنَّ الدباغ ذكاته، والذكاة لا تكون إلا لما يُؤكل لحمه، لا يكون الدباغُ ذكاةً إلا لما يُؤكل لحمه.

وإن كان القول بأنَّ الأحاديث عامَّة قول جيد وقوي، له قوته؛ لعموم الأدلة، وأنَّ جميع الجلود تطهر بذلك، قول له قوته للعموم، ولكن أظهر الأقوال وأقربها للصواب أنَّ هذا في جلد ما يُؤكل لحمه، وأن الورع يقتضي ترك ما سوى ذلك ............

سؤال عن استعمال السَّاعات والأقلام الذَّهبية؟

ج: أما الأنثى فلا حرجَ، أما الرجال فلا يجوز؛ لأنَّ النبي ﷺ منع من التَّختم بالذهب، والتَّختم بالذهب أقل من الساعة، فالساعة من باب أولى، وأما الفضَّة فأمرها أسهل، وقد أباحه للرجل -التختم بالفضة- ولكن ترك الساعة الفضية أولى؛ لأنها أكثر من الخاتم، فالأولى في حقِّه والأحوط ترك ذلك.

وهكذا الأقلام من الذهب والفضَّة، الذهب يحرم بلا شكٍّ على الرجل، والفضة كذلك تركها أولى، وإن كان الأمر فيها أسهل.

س: الاضطراب في سند حديث عبدالله بن عكيم هل في السند أم في المتن؟

ج: فيهما جميعًا: في المتن والسند.

س: ما حكم اتِّخاذ أسنان من الذَّهب؟

ج: إذا دعت الحاجةُ إليه فلا بأس به، مثلما أمر النبي ﷺ باتِّخاذ أنفٍ من الذهب لمن قُطع أنفه، أما اتِّخاذه للزينة فلا يجوز. أما إذا دعت الحاجةُ فلا بأس؛ لأنها أصبغ من غيرها وأثبت وأقل تأثُّرًا بالأوساخ والرَّوائح غير المناسبة، ورُوي عن جماعةٍ من الصحابة أنهم ربطوا أسنانهم بالذهب، فإذا تيسر غير الذهب من أشياء أخرى تقوم مقامها فهذا أولى وأحسن.

الحديث الرابع والعشرون: وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قلتُ: يا رسول الله، إنا بأرض قومٍ أهل كتابٍ، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها متفق عليه.

أبو ثعلبة مشهور بكُنيته، الخُشني يُنسب إلى خشين، بطن من قُضاعة مشهور، وقُضاعة قيل أنها من العرب المستعربة، وقيل من قحطان.

واختلف المحدثون في اسمه واسم أبيه على أقوالٍ كثيرةٍ، ولكنه مشهور بكنيته ، وهو من أهل البادية، وكان يعتني بالصيد، وقد سأل النبيَّ ﷺ هذا السؤال: يا رسول الله، إنا بأرض قومٍ أهل كتاب –يعني: من اليهود والنَّصارى- أفنأكل في آنيتهم؟

هذا فيه أنَّ المؤمن يسأل أهلَ العلم فيما أشكل عليه، يسأل الرسول ﷺ في حياته، وأهل العلم الذين نقلوا عنه، وبعد وفاته يسأل العلماء عمَّا عندهم، فلا ينبغي إذا جهل شيئًا أن يسكت، بل يسأل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

فقال: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها.

وهذا يدل على أنه ينبغي توقِّي أواني المشركين؛ لأنه لا يُؤمن شرب الخمر فيها، أو أكل الميتة فيها، إلى غير ذلك مما يتساهلون فيه، لكن إذا احتاج إليها غسلها وأكل فيها، وهذا من باب النَّدب والتَّوجيه والأخذ بالأصلح، والدليل على أنه للنَّدب أنَّ طعام أهل الكتاب حِلٌّ لنا؛ لأنَّ الله أحلَّ لنا طعامهم ونساءهم، فدلَّ على أنَّ غسل أوانيهم ليس بواجبٍ علينا، كما أنَّ طعامهم حِلٌّ لنا، نأكل في أوانيهم، إذا أباح الله طعامَهم في أوانيهم دلَّ ذلك على أنه لا يلزم الغسل، إلا إذا كان هناك أسباب تُوجب ذلك: كوجود خمرٍ فيها، فيُغسل لتطهيرها منه، أو وجود ميتة، أو مات بالخنق كوقيذ، أو ما أشبه ذلك مما يُعتبر ميتةً.

وجاء في بعض الروايات عند أحمد وأبي داود: أنه كان يُشرب فيها الخمر، ويُؤكل فيها الخنزير، فقال: اغسلوها، فإذا كانت بهذه المثابة مما يأكلون فيه الخنزير ومن الميتات التي ليس فيها ذكاة أو شرب الخمر وجب غسلُها لهذا، وإلا فالأصل الطَّهارة في الأواني، والأصل أنَّ الله أباح لنا طعامهم، ويكون في أوانيهم، فحِلٌّ لنا استعمالها، لكن أراد النبيُّ ﷺ التَّوقي والحيطة والأخذ بما هو الأسلم، ولا سيما إذا كانت الطَّائفةُ التي حول الإنسان يراها تشرب الخمر في أوانيها، وتستعمل فيها الميتة والخنزير؛ فإنه في هذه الحالة يتحتم غسلها لغسل الآثار.

ومما يدل على جواز استعمال أواني المشركين: حديث عمران بن حصين: أن النبي ﷺ وأصحابه توضَّؤوا من مُزادة امرأةٍ مشركةٍ، وهذا في حديثٍ طويلٍ أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين".

الحديث الخامس والعشرون: عن عمران بن حصينٍ : أن النبي ﷺ وأصحابه توضؤوا من مُزادة امرأةٍ مشركةٍ. متفق عليه في حديثٍ طويلٍ.

وهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ له شأن، فإنَّ النبي ﷺ في بعض مغازيه أصابه ظمأ، فبعث عليًّا وأحد الصَّحابة –رجلين- يلتمسان الماء، ففي طريقهما قابلتهما امرأةٌ بين مزادتين على جملٍ لها، فسألاها: أين الماء؟ قالت: عهدي به البارحة هذه الساعة. يعني: بينهم يوم وليلة من الماء، بعيد، فقالوا لها: توجَّهي معنا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: ذاك الذي يُذكر أنه الساحر! فذهبت معهما، فلما جاءت إليه أمر بأخذ الماء من هاتين الصَّفيحتين، وكانا مليئتين بالماء، وقال للناس: استقوا، فاستقى الناسُ في أوعيتهم ما يحتاجون من الماء، فطرح فيه البركة، وعادت كما كانت، كأنها لم تمسّ بشيءٍ، عادت المزادتان كما كانت ملأى، فتعجبت المرأةُ من هذا الأمر العظيم، ثم جمعوا لها ما تيسر من تمرٍ وغيره وأعطوها؛ لأنَّ أهل البادية يرغبون في مثل هذه الوسائل وغيرها، ولا سيما وقت الحاجة، فجمعوا لها ما شاء الله من تمرٍ وغيره وأعطوها، ثم انطلقت إلى أهلها وقالت: لقد جئتُكم من عند أسحر الناس، أو أنه هو رسول الله حقًّا! ثم كانت بعد ذلك سببًا لإسلام قومها، لما رأت أنَّ المسلمين يتجنَّبون فريقها، فقال بعضُهم لبعضٍ: إنهم ما تجنَّبونا إلا لما جرى على يد هذه الجارية. ودعا بعضُهم بعضًا إلى الإسلام فأسلموا، لما أخبرتهم بهذه الآية العظيمة والمعجزة العظيمة، وأنَّ الله بارك في هذا الماء فشرب القومُ واستقوا جميعًا، وبقي ماؤها كما كان، ومُزادتاها كما كانتا ملآنين، هذه من آيات الله العظيمة .

وفيه من الفوائد: استعمال أواني المشركين؛ فإنَّ المزادة من الجلد مدبوغ فيه ماؤهم، فدلَّ ذلك على أن أوانيهم من جلودٍ وغيرها طاهرة، هذا هو الأصل، ودلَّ على أن الدباغ طهور للجلد؛ لأنَّ هذا الجلد من ذبائحهم، وذبائحهم لها حكم الميتات، وطهرها الدباغ، واستعملوها في الماء، واستعملها المسلمون في الماء، فدلَّ ذلك على أنَّ الدباغ مطهر للجلود -لجلود الميتة- نستعمل في اليابس والرطب جميعًا كما جاء في الحديث.

وفيه علم من أعلام النبوة: فإنَّ الله جلَّ وعلا أنزل البركةَ في هذا الماء الذي كان في المزادتين حتى شرب منه الناسُ، واستقى منه الناس، وعادتا ملآنين كما كانتا أولًا ولم تنقص.

وفيه جواز الأخذ من الإنسان الذي فيه حاجة، إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك فلا بأس أن يُؤخذ منه، ولا سيما إذا كان لا يضرّه، ماء كثير ينقذ به العطشان ولا يضرّ صاحبه، فإذا وجد إنسان ماءً مع إنسانٍ وهو عطشان يخشى على نفسه لا بأس أن يأخذ من مائه ولو بقوةٍ ليُنقذ نفسه، فإنه ينقذ نفسه ولا يضرّ صاحبه.

الحديث السادس والعشرون: وعن أنس بن مالك : أنَّ قدح النبي ﷺ انكسر، فاتَّخذ مكان الشّعب سلسلةً من فضةٍ. أخرجه البخاري.

الشّعب: الصّدع والشّق.

سلسلة بالكسر، وما وقع في الشرح بالفتح فليس بجيدٍ، السِّلسلة المصدر: سلسله يُسلسله سلسلةً، أي: ربطه، وأما الأداة التي ربط بها هذه يُقال لها: سلسلة، وهي القطعة من الفضة أو الحديد التي يُربط بها الإناء، يقال لها: السلسلة بالكسر.

فالفعل بالفتح، والأداة التي ربط بها بالكسر.

هذا فيه دلالة على جواز ربط الشّعب بسلسلةٍ من فضةٍ، وأن المحرم كله من الفضة، أما المضبب بفضةٍ قليلةٍ لا تُخرجه عن كونه قدح خشبٍ أو نحوه فلا بأس به؛ لهذا الحديث الصحيح؛ لأنها مصلحة ظاهرة، فيه شيء قليل من الفضة مما يُمتهن وُيستهان به، بخلاف الذهب؛ فإنه لا يُباح شيء منه، فلا بأس باتِّخاذ السلسلة من الفضة، إذا انكسر القدح أو انشقَّ طرفه فربطته فلا بأس بذلك؛ لهذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله، وهو نصٌّ في مسألة القدح، وبقي هذا القدح عند أنسٍ إلى ما شاء الله.

باب إزالة النَّجاسة وبيانها

يعني: باب وجوب إزالة النَّجاسة، أو باب ما ورد من الأدلة في إزالة النَّجاسة وبيان النَّجاسة.

وإزالة النَّجاسة واجب أن تُزال بما جعله الله مُزيلًا، وتُزال بالماء الطهور، وتُزال أيضًا بأشياء أخرى: كالاستجمار في الدبر والقبل، فإنَّ هذا يُزيل النَّجاسة أيضًا ويُطهر المحل، وكذلك إزالتها بالحكِّ ومسح النَّعل والخفِّ بالتراب، كما جاء ذلك في السنة.

فالإزالة تكون تارةً بالماء، وتارةً بغيرها كما جاءت بذلك النُّصوص.

وقوله: (وبيانها) أي: بيان جنس النَّجاسات، ليس المراد بيان النَّجاسات كلها، وإنما بيان جنس النَّجاسات.

والنجس يُراد به الشيء القذر، سميت النَّجاسة بذلك لقذارتها: كالبول والعذرة ونحوها، وهو الشيء القذر الذي تتقذر منه النفوس؛ ولهذا قيل له: نجاسة.

وسُمي المشركون: نجسًا؛ لقذارة أعمالهم وعقائدهم وخبثها وبطلانها؛ ولمخالفتها للحقِّ؛ ولهذا سُميت: نجسًا؛ لأنهم تلبسوا بأشياء قذرة خبيثة، وبالعقائد الباطلة.

أنس بن مالك بن النَّضر الأنصاري الخزرجي، خادم النبي ﷺ، خدم النبيَّ ﷺ عشر سنين، وتُوفي النبي ﷺ وهو ابن عشرين سنةً.

وكان إمامًا عالمًا من علماء الصحابة، وعمَّر أكثر من مئة عام، عمَّره الله، دعا له النبيُّ ﷺ بالبركة في ماله وولده، والبسط في أجله، فأطال الله حياته، وعمَّر بعد رسول الله ﷺ أكثر من ثمانين عامًا بعد رسول الله ﷺ، ومات سنة 92 أو 93 من الهجرة، عاش قبل الهجرة تسع سنين أو عشر سنين، وتوفي وله مئة سنةٍ وسنتان أو ثلاث، ثم تُوفي .

قال: سُئل النبيُّ ﷺ عن الخمر تُتَّخذ خلًّا قال: لا أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي رحمه الله، وقال: حسن صحيح.

الحديث يدل على أنَّ الخمر لا يجوز أن تُخلل، إذا اشتدَّت وصارت مسكرةً لا يجوز أن يُخللها بفعله أو غيره، بل يجب أن تُراق وتُتلف.

ولهذا لما نزل تحريمُها في السنة السابعة أو الثامنة من الهجرة أمر النبي ﷺ بإراقتها، فلما سمع بذلك طلحةُ -وعنده جماعةٌ يتعاطون الشرب- أمر بإتلاف ما عندهم من الخمور وإراقتها.

وروى أبو داود وغيره: أنَّ أبا طلحة سأل النبيَّ ﷺ عن خمورٍ عنده لأيتامٍ: هل يبيعها أو يُريقها؟ فقال: لا، بل أرقها فأراقها.

فدلَّ ذلك على أنَّ الخمر متى وُجدت وجب أن تُراق؛ لئلا يشربها أحدٌ؛ وتعزيرًا لمن أبقاها، فيجب أن تُراق؛ لأنه منكر يجب أن يُزال، لكن لو تخلَّلت بدون أن تُخلل فالذي عليه جمهورُ أهل العلم أنه لا حرج فيها؛ لأنه زال شرُّها، فإذا زال ما فيها من المسكر وزالت شدَّتها وصارت خلًّا فإنَّ الخلَّ مباح، قال النبي ﷺ: نِعْم الإدام الخلُّ، والخلُّ الذي لا يُسكر هو ما حمض من عصير العنب وغيره، يُقال له: خلٌّ.

والخلُّ هو ما تقوى حموضته من عصير عنبٍ أو رمانٍ أو غير ذلك، يُسمَّى: خلًّا، والخلُّ إذا ما تخللت بنفسها من غير علاجٍ فلا حرجَ فيها: كالماء ينجس ثم تزول النَّجاسة بنفسها لكثرته، مثل: ماء المطر أصابته النَّجاسات وتغير، ثم زال التَّغير وذهب لونُ النَّجاسة وطعمها؛ فإنَّ الماء يعود طاهرًا طهورًا كما كان أول، وكذلك البئر إذا سقط فيها شيءٌ وزال التَّغير لكثرة مائها وما أشبه ذلك.

وهكذا الخمر إذا اشتدَّت نجست عند الجمهور، ووجب إراقتها، وإذا زال هذا التَّغير وهذا الاشتداد وعادت إليها طهارتها وصارت طيبةً وصارت خلًّا، لكن لا تُخلل بصبِّ ماءٍ عليها أو ملح أو عصر شيءٍ عليها، بل تُراق وتُتلف إذا اشتدَّت وظهرت علامات السُّكْر فيها.

وللناس في هذا أقوال ثلاثة:

أحدها: أن الخمر لا تطهر أبدًا، سواء تخللت بنفسها أم خللها أحدٌ، بل تجب إراقتها مطلقًا.

والثاني: أنها تطهر مطلقًا؛ خللها زيد أو عمرو، أو تخللت بنفسها، فإنها تُستعمل، وهذا مصادم للحديث.

والقول الثالث: التَّفصيل؛ فإن تخللت بنفسها أُبِيحَتْ، وإن خلَّلها غيرها وُضعت وأُريقت. وهذا أعدل الأقوال، وهو قول الجمهور، القول بالتَّفصيل هو أعدل الأقوال: إن تخلَّلت بنفسها أُبيحت، وإن خللها الغير حرمت ووجب إراقتها؛ سدًّا لذريعة حفظها وبقائها حتى تتخلل، فإنَّ الواجب إتلافها متى وُجد فيها الاشتداد.

وكان النبي ﷺ سمح لهم بأن ينبذوا الزَّبيب في السِّقاء اليوم واليومين والثلاثة، فإذا انقضت الثالثة شربه أو سقاه غيره، وإلا أراقه؛ لئلا يشتدَّ.

والجمهور على نجاستها وخبثها؛ أي: الخمر.

وقال بعضُ السَّلف والتَّابعين: لا تنجس، فهي في نفسها طاهرة؛ لأنَّ الخمر إما عنب وإما شبه ذلك لا تنجس، ولكن يجب أن تُراق وأن تُتلف كما يُتلف غيرها من المنكرات. قاله جماعةٌ من التابعين وبعض المتأخرين.

والمشهور عند الجمهور والأئمة الأربعة أنها تنجس بالاشتداد والسُّكْر؛ لأنَّ النَّجاسة هي القذارة، فهي لشدتها صارت قذرةً يجب اجتنابها وعدم لمسها وشربها، هذا يدل على أنها في النَّجاسة كالبول والغائط.

وإلى هذا يميل الشيخُ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فإنه يُوافق الجمهور، ويتبع السنة، ويتابع الجمهور ولا يُخالفهم، فدلَّ على أنه يرى نجاستها، أو لأنَّ القول بنجاستها مما يُعين على إتلافها وإراقتها والبُعد عنها، بخلاف ما إذا قيل بطهارتها؛ فإنه يتساهل المتساهلون ببقائها للانتفاع بها والاستفادة من خلِّها، فإذا عرف أنها نجسة، وأنها منكرة، يجب أن تُراق وأن تُتلف ويُبتعد عنها، وأن لا يبقى شيءٌ منها في بيت المسلم؛ لأنَّ بقاءها بقصد التَّخليل أو التَّخلل وسيلة إلى شربها واستعمالها، والمنكر يجب أن يُتلف وأن يُبادر إلى إتلافه قدر الطاقة والإمكان.

[الحديث الثامن والعشرون: وعنه قال: لما كان يوم خيبر أمر رسولُ الله ﷺ أبا طلحة فنادى: إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس متفق عليه].

حديث أنسٍ رضي الله عنه وأرضاه: أنَّ النبي ﷺ لما كان يوم خيبر، وهو يوم معروف وقع في أول السنة السابعة من الهجرة في صفر، جاء النبي ﷺ إلى خيبر وحاصرهم وقاتلهم وفتح بلادهم عليه الصلاة والسلام، ثم استعملهم في خيبر حرَّاثين فلاحين يفلحون الأرض؛ لأنَّ المسلمين كانوا مشغولين بالجهاد، ثم أمر بإجلائهم في آخر حياته؛ فأجلاهم بعد ذلك عمر .

قال في يوم خيبر لما وقع الناسُ في الحمر، فأصابت الناس مجاعةٌ؛ لأنه حاصر اليهود حصارًا شديدًا، وتأخَّر الفتح؛ فأصاب الناس مجاعةٌ، فوقع الناس ذات يومٍ في الحمر -حُمر أهل خيبر التي كانت خارج البلد- فأخذوها وذبحوها وطبخوها في القدور وظهر ريحها للناس، فسأل النبيُّ ﷺ عن هذا، فقالوا: الحمر طبخها الناس. فأمر بإكفاء القدور وقال: أكفئوها واكسروها، فقالوا: يا رسول الله، أو نغسلها؟ فقال: أو ذاك، فأمر بغسلها، وأمر بإراقة اللحوم، وأخبر أنها رجس، وأنها نجس خبيثة، فدلَّ ذلك على أنَّ الحمر لا يجوز أكلها.

وثبتت فيها أحاديث كثيرة عن النبي ﷺ: من حديث أنسٍ، وحديث عليٍّ ، وحديث ابن عمر، وجابر، وجماعة كثيرة من الصحابة .

وهي تُعدّ متواترةً؛ لكثرتها وصحَّتها عند جماعةٍ من أهل العلم، وهي مُحرَّمة.

قال ابن عبد البر -وهو أبو عمر، إمام أهل المغرب في زمانه، المتوفى سنة 463هـ- يقول رحمه الله: "وقد انعقد إجماعُ أهل العلم اليوم على تحريمها بلا خلافٍ، وما رُوي عن بعض السَّلف أنها حرمت لأنها دواب كانت تأكل القمامة والنَّجاسات حول البلد؛ قال ابن عباسٍ وجماعة أنها حرمت لأجل هذا.

والصواب أنها حرمت لذاتها، لا لأجل أنها ترعى خارج القرية؛ لأنها رجس، كما جاء في الحديث، حرمت لذاتها".

وثبت في "الصحيحين" عن عليٍّ رضي الله عنه وأرضاه: أنه حرَّم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وجاء هذا في روايات أخرى عن جابرٍ وغيره، وحديث عبدالله بن أبي أوفى.

فالمقصود أنَّ هذه الأحاديث مُتواترة على الصحيح، متواترة لفظًا ومعنًى؛ لأنَّ التواتر هو أن يجتمع جماعةٌ على حديثٍ واحدٍ ينقلونه، ويستحيل تواطؤهم على الكذب اتِّفاقًا أو خلفةً.

ومَن تأمل هذه الأحاديث الواردة عن الصحابة في الباب ودلالتها وعظم أسانيدها عرف أنها لا يمكن أن تقع صدفةً، وأن يتفق على هذا الحكم صدفةً، بل يستحيل عليها ذلك.

والحاصل أنَّ هذه الأحاديث صحيحة مُستفيضة ومُتواترة، دالة على تحريم الحمر الأهلية؛ لإجماع أهل العلم على ذلك فيما بعد عصر التابعين.

ورُوي عن ابن عباسٍ التَّوقف في ذلك، وأن الحمر من دواب القرية، ورُوي أنها تُباح للضَّرورة كالميتة، وهذا لا إشكال فيه، فالميتة تُباح للضَّرورة، وهكذا غيرها من المحرَّمات تُباح للضَّرورة.

س: ...............؟

ج: الحمر الإنسية المعروفة .......

س: ...............؟

ج: ظاهر هذا أنها كانت مباحةً لهم، ثم ذكر النبيُّ ﷺ تحريمها عليهم.

وفيه فائدة: وهي جواز النَّسخ قبل الفعل، يجوز أن يُنسخ الشيء قبل أن يُفعل؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: أكفئوها واكسروها، فقالوا: يا رسول الله، أو نغسلها؟ فقال: أو ذاك، استدلَّ به بعضُ أهل العلم على جواز النَّسخ قبل الفعل.

وقال آخرون: بل هذا يدل على أنَّ الأمر بالكسر ليس للوجوب، بل للنَّدب، فلما طلبوا الغسل قال: أو ذاك، فدلَّ على أنَّ الأمر بكسرها ليس للوجوب، وإنما هو للنَّدب؛ ولهذا أذن لهم ﷺ في غسلها بدل كسرها.

وفي هذا جواز الجمع بين الله ورسوله في الخبر ... هذا جاء له نظائر كثيرة، ويدل على جواز ذلك وأنه لا حرجَ أن يقول: إنَّ الله ورسوله يقولان كذا، وأمرا بكذا.

وأما ما جاء في حديث: بئس الخطيبُ أنت، لما قال الخطيب: "ومَن يعصهما فقد غوى" فحُمل على أنَّ ذلك في ..... المعصية؛ لأنه قال: "مَن يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومَن يعصهما ..".

وقيل: أنَّ هذا كان أولًا ثم نُسِخَ.

وقيل: أنَّ هذا في باب الخطب؛ لأنَّ الخطب ينبغي التَّوسع والانبساط والإيضاح.

وبكل حالٍ، فهو إما منسوخ، وإما شاذٌّ؛ للأحاديث الصَّحيحة الكثيرة الدالة على جواز الجمع بينهما؛ لحديث: ثلاث مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما في "الصحيحين"، وحديث أنسٍ هذا في "الصحيحين"، وجاء ذلك في أحاديث كثيرةٍ.

الحديث التاسع والعشرون: وعن عمرو بن خارجةَ قال: "خطبنا النبيُّ ﷺ بمنًى وهو على راحلته، ولعابها يسيل على كتفي". أخرجه أحمد والترمذي وصحَّحه.

عمرو بن خارجة الأنصاري، ويقال: الأسدي.

"على كتِفيْ" أو "على كتفَيَّ"، وعند أحمد: "بين كتفيَّ"، وهذا يدل على أنَّ الإبل لعابها طاهر؛ لأنَّ هذا هو الأصل في الأعيان الطَّهارة، والإبل مأكولة اللحم، وهي طاهرة في نفسها: لعابها وبولها وعرقها كله طاهر على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ أنَّ ما يُؤكل لحمه روثه وبوله كله طاهر؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ الذين استوخموا المدينة أن يذهبوا إلى إبل الصَّدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها، فدلَّ على طهارتها.

ولعاب الدابة المأكول لحمها -كالإبل والبقر والغنم والصيود- طاهر، وهكذا ما كان طاهرًا في الحياة، وإن كان لا يؤكل لحمه -كبني آدم- لعابه طاهر، ومثل: الهرة، لعابها طاهر؛ ولهذا لو شربت من الإناء لا ينجس، وهكذا البغال والحمير على الصحيح لعابها طاهر، وهكذا على الصحيح لعابها طاهر وسؤرها على الصحيح؛ لأنها من الطَّوافين علينا.

وحديث عمرو بن خارجة هذا حديثٌ طويلٌ، فيه أنَّ الله أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيةَ لوارثٍ، وسمعه يقول: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وسمعه يقول: مَن ادَّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، واختصره المؤلفُ فساق طرفًا منه للدلالة على طهارة لعاب الإبل ونحوها من مأكول اللحم.

واللُّعاب: ما يسيل من الفم ........

الحديث الثلاثون: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله ﷺ يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل". متفق عليه.

هذا الحديث يدل على طهارة المني، وأنه ليس بنجسٍ، ليس مثل البول والعذرة، لا، بل هو أصل الإنسان؛ لأن أصل الإنسان الماء، وهو طاهر، وليس بنجسٍ، ولكنه يُغسل من باب النَّظافة، يُغسل رطبه، ويُفرك يابسه، وليس غسله لنجاسته، ويجوز الصلاة في الثوب بعد غسله وحتِّه منه لهذا الحديث.

وجاء عن عائشة وابن عباسٍ وغيرهما أنهما لما سُئلا عن ذلك أمر السَّائل أن يحتَّه بعودٍ أو عظمٍ أو نحو ذلك ويُصلي.

وللناس في هذا خلافٌ: بعض أهل العلم يرى نجاسة المني.

والصواب أنه طاهر؛ لأنَّ ما دلَّ عليه حديثُ عائشة رضي الله عنها نصّ في هذه المسألة، كما جاء في الآثار الأخرى؛ ولأنه أصل ابن آدم، فدلَّ ذلك على أنه ليس بنجسٍ، بل هو طاهر، ويكفي فركه وحتُّه، ولكن غسله بالماء أكمل وأفضل لأمرين:

أحدهما: أنه أنظف.

والثاني: أنه أحوط لمراعاة القول الثاني.

[الحديث الثالث والثلاثون: وعن أبي السَّمح قال: قال رسولُ الله ﷺ: يُغسل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام.

أخرجه أبو داود والنَّسائي، وصححه الحاكم، وهو حديثٌ جيدٌ لا بأس بإسناده].

أبو السمح خادم النبيِّ ﷺ، واسمه إياد، وقيل غير ذلك، وليس لأبي السمح غير هذا الحديث الواحد.

أخبر أنه ﷺ قال: يُغسل من بول الجارية، ويُرشُّ من بول الغلام.

وجاء عند أحمد بسندٍ جيدٍ عن عليٍّ نحو هذا؛ أنه ﷺ قال: يُنضح بول الغلام الرضيع، ويُغسل بول الجارية.

وفي "الصحيحين" من حديث أم قيس الأسدية: أن النبي ﷺ أُتِيَ بصبيٍّ فبال عليه، فأُتِيَ بماءٍ فرشَّ على محلِّ البول ولم يغسله. وفي روايةٍ: فأتبعه إياه ولم يغسله.

وهذا الذي في "الصحيحين" مُطابق لحديث أبي السَّمح وحديث عليٍّ عند أحمد في "المسند" وغيرهما.

والخلاصة أنَّ هذه الأحاديث تدل على أنَّ الصبي حال صغره ولم يتغذَّ بالطعام، بل يتغذَّى بلبن أمه؛ فإنه يُرشُّ من بوله إذا بال على الإنسان، ويُنضح بوله بالماء حتى يعمَّه الماء، وليس هناك حاجة إلى عصره ودلكه ونحو ذلك، بل يكفي أن يُرشَّ بالماء حتى يعمَّه الماء.

أما الجارية -وهي البنت- فيُغسل بولها.

وفي حديث عليٍّ عند أحمد بإسنادٍ جيدٍ، قال قتادة: وهو أحد رواة السند. "هذا إذا لم يطعما، فإذا طعما غُسلا جميعًا". وهذا هو الصواب في هذه المسألة.

وهناك قولٌ آخر: أنهما يُغسلان جميعًا.

وقول ثالث: أنهما يُرشَّان جميعًا.

والصواب هو التَّفصيل.

ومَن قال: "إنهما يُرشَّان" فلعله لم تبلغه السنةُ، نقله الشارحُ عن الأوزاعي، ولعله ما بلغته السنة، السنة فيها التَّفصيل، وليس لأحدٍ كلام مع السنة، متى جاء نهرُ الله بطل نهر معقل، متى جاءت السنةُ شفت وكفت.

والصواب التفصيل؛ وهو أنه يُرشُّ ويُنضح بول الغلام إذا لم يأكل الطعام ولم يتغذَّى بالطعام، ويُغسل من بول الجارية.

وقد اشتهر الآن تغذية الأطفال بالألبان المجمدة المعروفة ......، فهل حكمه حكم مَن يعيش بلبن أمه فيُرش من بوله، أو حكمه حكم مَن تغذَّى بالأطعمة الأخرى؛ فإنه لم يتغذَّ من لبن أمه، والحديث إنما جاء فيمَن يتغذَّى بلبن أمه، لا بلبنٍ آخر؟ ماذا تقولون؟

الأطفال الآن كثيرٌ منهم يعيش على هذا ..... هذا الأقرب: أنه لا يكون مثل لبن أمه، بل يكون تغذَّى بشيءٍ آخر خرج عن كونه تغذَّى بلبن أمه ... فلو تغذَّى بألبان أخرى -كلبن البقر أو الغنم- فالأقرب في هذا أنه يُغسل كالجارية؛ أخذًا بالاحتياط، وعملًا بظاهر الحديث؛ فإنَّ الحديث فيما يتعلق بالرضيع الذي يتغذَّى بلبن أمه، وهذا ما صار رضيعًا الآن، صار يطعم من الخارج.

وهناك نوع آخر قريب من لبن الأم، فإذا شبّه بلبن الأم في باب الرش فهو وجه جيد بالنظر إلى أنه لم يتغذَّ بالطعام أو بما يتغذَّى به الناس الكبار، بل يتغذى بنوعٍ خاصٍّ يُشبه لبن الأم ويقرب منه ويُدانيه، وهذا له وجه؛ القول بالقياس على لبن الأم وجيه جدًّا، ولكن الاحتياط فصله؛ لأنه انفصل عن الأم، ولم يكن رضيعًا لها، فإذا احتاط الإنسانُ وعمل بما هو الأقرب إلى السَّلامة فهو حسن.

س: إذا رضع من امرأةٍ أخرى؟

ج: إذا تغذَّى بلبن امرأةٍ أخرى فإنه يُرشُّ، لا يُغسل؛ لأنَّ لبنهما مُتقارب.

............

الحديث الرابع والثلاثون: وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ قال في دم الحيض يُصيب الثوب: تحتُّه ثم تقرصه بالماء، ثم تـنضحه، ثم تُصلي فيه متفق عليه.

الشيخ: وفي لفظٍ: ثم تغسله، وفي رواية النَّسائي وغيره: تغسله بماءٍ وسدرٍ.

هذا الحديث بمجموع رواياته يدل على أنَّ دم الحيض يُغسل ويحكّ، إذا كان له جرمُ وأثرٌ يُحَكُّ بحجرٍ أو عظمٍ أو ظفرٍ، ثم يُغسل، ثم يُصلَّى فيه بعد ذلك.

فدلَّ على فوائد: منها أنَّ دم الحيض نجس كسائر الدماء؛ لأنه يُغسل، إذا أصاب الدمُ البدنَ أو الثوبَ يُغسل ويُحكُّ من باب كمال الطَّهارة، يُحَكُّ بحجرٍ أو ظفرٍ أو بعظمٍ أو ما أشبه ذلك، أو بعودٍ، يُحَكُّ بشيءٍ يُزيل هذا المتجمع، ثم يُغسل بعد ذلك بقية أثره، ثم يُصلَّى فيه، فدلَّ ذلك على نجاسته ووجوب غسله ووجوب إزالته، ودلَّ على أنَّ الثوب الذي فيه النَّجاسة لا يُصلَّى فيه، بل يُصلَّى في الثوب الطاهر.

الحديث الخامس والثلاثون: وعن أبي هريرة قال: قالت خولةُ: يا رسول الله، فإن لم يذهب الدَّمُ؟ قال: يكفيكِ الماء، ولا يضرك أثره أخرجه الترمذي، وسنده ضعيف.

هذا الحديث وإن كان ضعيفًا؛ لأنه من رواية ابن لهيعة، لكن يُستشهد به في هذا المقام؛ ولقوله جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

وعزاه صاحب "المنتقى" إلى أبي داود، وهو حديث له قوته؛ لأنَّ ابن لهيعة ليس بذاك المطروح، وإنما ضعف الحديث من سُوء حفظه؛ لما احترقت كتبه ساء حفظه، فهو يُستشهد به.

وحديث أسماء كافٍ في المقام، ولكن القاعدة في مثل هذه الأشياء: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، يفعل ما استطاع منها، فإذا غسله بالصَّابون أو الأُشنان أو السّدر وبقي له أثر لم يزل لا يضرّ، إذا بقي له أثر من حمرةٍ أو صفرةٍ بعد الغسل المطلوب لا يضرّ الأثر.

س: ما العلة في التَّفريق بين بول الجارية وبول الغلام؟

ج: اختلف العلماء في العلَّة، ومعلوم أنَّ المسلمين عليهم الأخذ بالأحكام مطلقًا والعمل بها وإن لم يعرفوا علَّتها وحكمتها؛ لأنه يعلم أنَّ ربه عليم حكيم، لا يشرع شيئًا إلا وله حكمة: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11].

وعندنا قاعدة وهي: أن الشرع كله حكمة، مُنَزَّه عن العبث، لكن إذا ظهرت الحكمةُ فخيرٌ إلى خيرٍ، ونورٌ على نورٍ، وعلمٌ إلى علمٍ، ولكن ليس بشرط تحكيم العقول، نحن تابعون وعبيد مأمورون، علينا أن نمتثل وإن لم نعرف الحكمةَ والسرَّ من هذا الشيء، ومَن لا يعمل إلا إذا علم الحكمةَ وإلا فلا فهو تابعٌ لهواه، وليس بعبدٍ كامل الطاعة، وإنما كامل الطاعة مَن أطاع مولاه، واتَّبع شريعته وإن خفي عليه سرُّ ذلك الشيء المعين المأمور.

والعلماء قالوا في ذلك أقوالًا:

منهم مَن قال: إنَّ العلة أن بول الغلام ينتشر ويشقّ غسله؛ فيكفي النَّضح، وبول الجارية لا ينتشر، بل يكون في محلٍّ واحدٍ، فلا يشقّ غسله.

وقال آخرون: بل العلة غير هذا؛ وهي أنَّ الغلام يكثر حمله، والناس في الغالب يحملون الذكر ويحبونه كثيرًا، أكثر من الأنثى؛ فخفَّف الله غسل بوله إذا كان صغيرًا بالرشِّ؛ لكثرة حمله وتناوله بين الرجال والنساء، فكان من الرحمة أن شرع رشَّه فقط.

وقال آخرون علةً ثالثةً: وهي أنَّ العلة أنَّ أصل الذكر من الماء والطين، وهما طاهران، والأنثى أصلها اللحم والدم؛ لأنَّ حواء خُلقت من آدم، فكانت بناتها مثلها تُغسل أبوالهن، والذكر أصله من الطين فلا يُغسل، بل يُكتفى بالرشِّ.

وكل هذه أشياء مُحتملة، أقربها عندي -والله أعلم- وأقواها هو الأول: أن بول الغلام ينتشر هاهنا وهاهنا، ولا يبقى في محلٍّ، والشارع معروف عنه التيسير والتَّخفيف فيما تعمّ به البلوى؛ ولهذا جعل الهرَّ مباح السؤر؛ لأنه من الطَّوافين علينا، وهذه الحشرات الصغيرة التي تقع في الماء لا تضرّ، مثل الذباب وغيره؛ لأنَّ الناس يُبتلون بها، وكذلك على الصحيح: الحمار والبغل، وإن كانت مُحرَّمةَ الأكل فإنه يُعفا عن سؤرها وعرقها؛ لأنَّ الناس يركبونها وينتفعون بها، وتعمّ البلوى بها، فكلما كانت البلوى به أكثر كانت الرحمةُ والتَّوسعةُ فيه أكثر.

والولد تعمّ البلوى بحمله، ويكثر بوله على الناس وينتشر، ولا يقع في محلٍّ واحدٍ، بل ينتشر هاهنا وهاهنا، فكانت الرحمة بالتوسعة في ذلك والتيسير في ذلك.

س: هل الدماء نجسة؟

ج: كل الدماء نجسة عند أهل العلم قاطبةً، ولكن دم الحيض أشدها، ولكن يُعفا عن يسيرها؛ منها إذا وقع للإنسان جرحٌ أو رعافٌ أو نحو ذلك؛ لأنه مما تعمّ به البلوى على القاعدة، إذا كان الإنسانُ في ثوبه شيءٌ يسيرٌ لا يضرُّ، ولكن ينبغي تطهيره من هذه الآثار النَّجسة، لا يُترك، بل يُعفا عن اليسير مما قد تعمُّ به البلوى.

س: والدماء المسفوحة؟

ج: هي المرادة؛ الدماء المسفوحة خاصةً، أما الدم الذي يبقى في عروق الدابة المأكول لحمها فلا يُحكم بنجاستها، بل هي طاهرة مباحة ....... ما يبقى في العروق واللحوم يُباح أكله.

س: ما حكم الدم اليسير؟

ج: يُعفا عن الدم اليسير، مثل: الرعاف وأشباهه، إن أصاب الثوبَ شيءٌ يسيرٌ يُعفا عنه؛ لأنه تعمُّ به البلوى؛ لأنَّ الإنسان لا يسلم من جرحٍ في يده، أو بثرةٍ في عينه، أو شيء من لثته، فهذا الشيء اليسير يُعفا عنه، كما جاء عن الصَّحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في ذلك.

س: هل يقدر اليسير بقدر؟

ج: لا، بل هو حسب العُرف، كل إنسانٍ مسؤول عن نفسه، ما دام يسيرًا تعمّ به البلوى فهذا لا يضرّ.

وهذا كله عند التَّعمد، وأما إذا صلى بثوبٍ فيه نجاسة ما درى عنها إلا بعد الصلاة، فالصحيح أنه لا يضرّه ولو كان كثيرًا، كما لو كان ناسيًا له أو جاهلًا به، لكن هذا فيما يتعمد. واليسير لو تعمَّد وصلَّى بها فهذه يُعفا عنها.

.............

باب الوضوء

كان ينبغي أن يفتتح هذا الباب بحديث: لا تُقبل صلاة بلا طهورٍ، ولا صدقة من غلولٍ أخرجه مسلم.

وكذلك حديث أبي هريرة في "الصحيحين": أنه ﷺ قال: لا يقبل اللهُ صلاةَ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متفق عليه.

فكان من اللائق أن يذكرهما هنا؛ لأن هذين الحديثين من أصحِّ ما ورد في هذا الباب.

الحديث السادس والثلاثون: عن أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ أنه قال: لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك مع كل وضوءٍ أخرجه مالك وأحمد والنَّسائي، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقًا.

هؤلاء الأئمة معروفون، تقدمت ترجمتهم:

الإمام مالك الإمام المعروف، إمام أهل السنة في زمانه، وكان في المدينة المنورة، وهو أحد الأئمة الأربعة المشهورين، وكانت سنة وفاته 179ه.

وأحمد معروف، الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، أحد الأئمة الأربعة، وتلميذ الشافعي، كان معروفًا بالإمامة ونشر السنة وقمع البدعة، كان مولده 164ه، وكانت وفاته سنة 241ه.

والنَّسائي معروف، صاحب "السنن"، هو أبو عبد الرحمن عمرو بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر، معروف، وكان مولده سنة 215ه، وكانت وفاته سنة 303ه، وهو من أعيان القرن الثالث، وأدرك شيئًا من القرن الرابع، وهو آخر الأئمة الستة موتًا، وأولهم موتًا: البخاري 256ه، وآخرهم موتًا النسائي.

وابن خزيمة معروف: أبو بكر محمد بن إسحاق، ويُلقب بإمام الأئمة، وله مؤلفات كثيرة، منها: "الصحيح" وكتاب "التوحيد"، كان مولده سنة 223 أو 224، وكانت وفاته سنة 310 أو 311ه.

هذا الحديث حديث جيد صحيح، وعلَّقه البخاري رحمه الله في "الصحيح": لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك يعني: أمر إيجابٍ، هو الذي انتفى لأجل المشقَّة، وأما الاستحباب فهو موجود مأمور به استحبابًا؛ لأنَّ المستحب لا يشقّ؛ لأنه إن استطاع فعله وإلا تركه، فلا يشقّ، وإنما الذي يشقّ أمر الإيجاب الذي لا بدَّ من فعله وإلا يأثم، هذا هو الذي انتفى لأجل المشقَّة: لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك أمر إيجابٍ، ولكن هذا انتفى، ولكن أمر الاستحباب باقٍ، فيُستحب التَّسوك عند كل وضوءٍ؛ لأنه من باب النَّظافة للفم وتطييب النَّكهة.

وثبت عن عائشةَ رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال: السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب أخرجه أحمد والنَّسائي وغيرهما بسندٍ صحيحٍ، وهذا يدل على فضل السِّواك.

وثبت عن النبي ﷺ أنه كان يستاك عند الصلاة أيضًا في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة : أنه قال: لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاةٍ أخرجه مسلم. وفي البخاري: عند كلِّ صلاةٍ.

هذا يدل على أنه كان ﷺ يستاك عند الصلاة، لكنه مستحب، وليس بواجبٍ.

وكذلك يُستحب السواك إذا انتبه من النوم؛ لحديث حذيفة : أن النبي ﷺ كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك.

وكذلك يستاك عند دخول المنزل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺكان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك. رواه مسلم.

فالسواك مستحبٌّ في هذه المواضع لهذه الرواية: عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند دخول المنزل، وإذا انتبه من النوم، وعند دخول المنزل، وهكذا في كل مكانٍ يتغير فيه الفم فيُستحب له ويتأكد استعماله؛ لأنه يطيب النكهة، ويُنظف الأسنان، ويُزيل النعاس، ويُعين على الخير، فالسواك فيه فوائد كثيرة.

وأحسن ذلك ما كان من الأراك، وهكذا ما يقوم مقامه مما له القوة على التَّنظيف من غير جرحٍ.

الحديث السابع والثلاثون: عن حمران مولى عثمان: أنَّ عثمان دعا بوضوءٍ، فغسل كفَّيه ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستـنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مراتٍ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مراتٍ، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: "رأيتُ رسول الله ﷺ توضَّأ نحو وضوئي هذا". متفق عليه.

وحديث عثمان فيه الدلالة على صفة وضوء النبي ﷺ، وأنه كان يبدأ بغسل كفَّيه ثلاث مرات، وهكذا السنة: بعد نية الوضوء يُسمِّي الله؛ للحديث الذي سيأتي في آخر الباب: لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه.

فالسنة أن يُسمِّي الله جلَّ وعلا، وإن كان الحديثُ فيه ضعف، ولكن بمجموع الروايات يُؤخذ منه أنَّ لهذا الحديث أصلًا؛ ولهذا قال مجموعةٌ من الحفاظ: بمجموعها يكون الحديثُ حسنًا. كالقاعدة في مثل هذا.

فالمقصود أنه يُستحب التَّسمية في أول الوضوء مع النية، ثم يغسل كفَّيه ثلاث مراتٍ؛ لدلالة حديث عثمان وما جاء في معناه، ثم يبدأ في الوضوء: يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات بثلاث غرفات، السنة، وإن تمضمض مرةً واحدةً بغرفةٍ واحدةٍ كفى، وإن فصلها في عدة غرفات جاز ذلك، ولكن أفضلها أن تكون ثلاثًا بثلاث غرفات، وإن جعل الثلاثة بغرفةٍ واحدةٍ أجزأ.

ثم يغسل وجهه ثلاثًا، ويُجزئ واحدة كما هو معروف؛ لأنَّ النبي ﷺ توضأ مرةً مرةً، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، كل هذا ثابت عنه عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه يُجزئ واحدة، والأفضل اثنتان، والكمال ثلاثًا ثلاثًا.

ثم غسل يده اليمنى ثلاثًا إلى المرفق، والمرفق داخل في الغسل، فإلى بمعنى "مع" في الآية الكريمة والأحاديث؛ لأنه ثبت عنه ﷺ في "صحيح مسلم" أنه كان إذا توضَّأ وغسل يديه أشرع في العضد، وإذا غسل رجليه أشرع في الساق، فدلَّ ذلك على أنَّ الكعب في الرِّجْل داخلٌ، والمرفق في اليد داخلٌ في الوضوء، فإلى بمعنى "مع".

ثم مسح رأسه، وجاء في أحاديث أخرى، وستأتي، ثم غسل رجليه ثلاثًا إذا كان لابسًا النَّعلين.

ثم قال: "رأيتُ النبيَّ ﷺ توضَّأ نحو وضوئي هذا".

وفي روايةٍ أخرى في "الصحيحين" ثم قال: مَن توضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه.

فهذا يدل على فضل الوضوء، وأنَّ مَن فعله وصلَّى بعده ركعتين غفر الله له، فالوضوء من أسباب المغفرة نفسه، وإذا صلَّى بعده ركعتين فهذا سبب ثانٍ، فالمتوضِّئ إذا توضأ كما أمر الله ثم صلَّى ركعتين فقد أتى بسببين للمغفرة: أولهما الوضوء، فهو من أسباب المغفرة، فإنَّ الوضوء يحتُّ الذنوب، والصلاة بعده إذا أخلصها لله وأحضر فيها قلبه من أسباب المغفرة أيضًا.

ففي الحديث فوائد جمّة:

أولها: معرفة صفة وضوء الرسول ﷺ، وهذا هو الوضوء الكامل، وله وضوءان آخران أو ثلاثة؛ وهو أنه توضَّأ مرةً مرةً، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضَّأ مختلفًا: بعض الأعضاء مرتين، وبعضها أكثر ثلاثًا.

فالصفات: واحدة واحدة، اثنتان اثنتان، التَّفرقة بين الأعضاء: بعضها كذا، وبعضها كذا .. كلها جائزة، وأكملها وأفضلها ثلاثًا ثلاثًا، ما عدا مسح الرأس فواحدة.

وفيه من الفوائد: فضل الصحابة، ومنهم عثمان ، فقد نقلوا للناس أحواله ﷺ ووضوءه وأخلاقه وسيرته، فجزاهم الله خيرًا وضاعف مثوبتهم.

وفيه فضل عثمان : فمع كونه خليفة المسلمين، مشغولًا بالمهام العظيمة، ومع هذا كان يتوضأ للناس ويُعلمهم وضوء النبي ﷺ حتى يأخذوه عنه واضحًا بيِّنًا.

وفيه من الفوائد: ترتيب الوضوء، هكذا يكون مُرتَّبًا:

أولًا: غسل الكفَّين، ثم المضمضة والاستنشاق، ثم غسل الوجه، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرِّجْلَين.

والترتيب واجبٌ في أصح قولي العلماء، فلابد من الترتيب؛ لقوله ﷺ: ابدأوا بما بدأ الله به، فنفعل كما فعل النبي.

وفيه أنه لا بدَّ من الموالاة؛ إذا توضأ توضأ جميعًا، لا يتوضأ ثم يترك ثم يتوضأ البقية، بل يتوضأ جميعًا، يُوالي بين أعضائه، فالموالاة شرطٌ لا بدَّ منه، لا بدَّ أن يكون الوضوءُ مُتواليًا.

وفيه من الفوائد: شرعية تعليم الناس وضوء النبي ﷺ، فينبغي لأهل العلم أن يُعلِّموا الناس الوضوء بالفعل؛ لأنَّ بعض الناس قد لا يفهم بالقول، لكن إذا توضأت عندهم أمام المسجد أو في الصَّحراء إذا كنت في السَّفر حتى يروك كان هذا من باب التَّعليم الفعلي العملي، كما فعله عثمانُ، وفعل عليٌّ وغيرهم .

وفيه من الفوائد بالنظر إلى الروايات الأخرى لهذا الحديث: أنَّ الوضوء يُكفِّر الذنوب، وأنَّ الصلاة بعده إذا جمع قلبه فيها ولم يُحدِّث فيها نفسَه أنَّ هذا من أسباب المغفرة أيضًا.

الحديث الثامن والثلاثون: وعن عليٍّ في صفة وضوء النبي ﷺ قال: "ومسح برأسه واحدةً". أخرجه أبو داود، وأخرجه الترمذي والنَّسائي بإسنادٍ صحيحٍ، بل قال الترمذي: إنه أصح شيءٍ في الباب.

الحديث التاسع والثلاثون: وعن عبدالله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما في صفة الوضوء قال: "ومسح رسولُ الله ﷺ برأسه، فأقبل بيديه وأدبر" متفق عليه.

الحديث الأربعون: وفي لفظٍ لهما: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه".

الحديث الواحد والأربعون: وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في صفة الوضوء قال: "ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السَّباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه". أخرجه أبو داود والنَّسائي، وصححه ابن خزيمة.

هذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يمسح رأسه، ولم يكن يُكرر مسح الرأس، وإنما مرة واحدة، هذا هو المحفوظ.

ولما روى أبو داود أحاديث الوضوء، وذكر بعض الروايات التي فيها تكرير مسح الرأس قال: "الأحاديث الصحيحة ليس فيها تكرار مسح الرأس". وهذا هو المحفوظ عند أهل العلم: أنَّ مسح الرأس مرة واحدة فقط، وأما التَّكرير المطلق فيرجع إلى بقية الأعضاء دون الرأس.

وفي كيفية مسح الرأس: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه.

وجاء أنه مسح بأن أدار يده على رأسه، كل هذا ورد، فسواء فعل هذا أو فعل هذا فكله حسنٌ، ولكن أصحّ ما جاء في الباب: حديث عبدالله بن زيد، وفيه: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه.

وفيه حديث عبدالله بن عمرو، وعن علي أيضًا، وفي أحاديث أخرى: إدخال السَّباحتين في الصماخين هكذا .. عند مسح الرأس، وهكذا من تمام مسح الرأس؛ لأنَّ الأذنين من الرأس.

وابن مسعودٍ أدخل السَّباحتين -وهما الشاهدان- في صماخ الأذنين، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، ولو مسح بغير إبهاميه أجزأ، ولكن الأفضل بالإبهامين، وإدخال السباحتين في الأذنين، والمقصود إدخال الأصبع، ومَن أدخل غير السباحة أجزأ، ولو مسح بغير الإبهام أجزأ، ولكن هذا هو الأصل: يُدخل السباحتين ويمسح بالإبهامين، والله أعلم.

.............

الحديث الثاني والأربعون: عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا استيقظ أحدُكم من نومه فليستنثر ثلاثًا؛ فإنَّ الشيطان يبيت على خيشومه متفق عليه.

الحديث الثالث والأربعون: وعنه: إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

هذا يدل على شرعية الاستنثار ثلاثًا، وظاهره غير الاستنثار في الوضوء، فيتأكد الاستنثار ثلاثًا قبل الوضوء، فإن الاستنثار في الوضوء مُستقلٌّ.

فإنَّ الشيطان يبيت على خيشومه هذا من جنس الشيطان، ومعلوم أنَّ الشياطين تلتمس المواضع القذرة، وهي قذرة وتؤول إلى القذر وتدعوا إلى القذر، هذا من فعلها.

ولما طرد اللهُ الشيطانَ عن كل خيرٍ، وصار داعيةً لكل باطلٍ؛ صار محلَّ الأقذار، هي مأواه ومحله في كل شيءٍ.

فسَنَّ للمؤمن وشرع له أن يستنثر ثلاثًا بالماء؛ لإزالة الأذى الذي هو محل هذا العدو، والشياطين لهم تصرفات، ولهم ألوان، ولهم أحوال الله الذي يعلم بها ، فإنَّ جنس الشياطين في خلقهم وتصرفاتهم وتلوناتهم في جميع الأحوال لا تُشبه ما نحن فيه من حالٍ من بني آدم، لهم شأن؛ ولهذا قال: يجري من ابن آدم مجرى الدم، مع أن الشياطين تأكل وتشرب وتنكح، ولها ذرية، هذه الأحوال تدل على أنَّ لهم شأنًا غير شأننا، ولهم حالًا غير حالنا، قد يتضاءل ويكون روحًا مجردةً، وقد يكون شيئًا لطيفًا جدًّا، وقد يكون شيئًا كبيرًا جدًّا، له أحوال.

ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ هنا أنَّ الشيطان يبيت على خيشومه، ومعلوم أنَّ الخيشوم شيء ضيق لا يتسع لأجرام كثيرةٍ؛ فعُلم أن للشياطين تصرفات وألوانًا وأحوالًا لا يعلم كيفيتها إلا الذي خلقهم ، كل مؤمن عليه الامتثال والطاعة في كل شيءٍ، مع قطع النظر عن حالة الشيء الذي أمر من جهة حكمته، ومن جهة تفصيله، إنما عليه أن يأخذ بما علم من الشرع المطهر، وعليه أن يعمل به؛ لأنه عبد مأمور يعلم يقينًا أن الذي أمره أمره بما فيه صلاحه وسعادته، وإنه حكيم عليم: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].

فإن ظهر له مع هذا حكمٌ وأسرارٌ لهذه المأمورات وهذه المنهيَّات فإنه علمٌ إلى علمٍ، ونور على نورٍ، وهدى إلى هدى، وإن لم يظهر شيءٌ فهو مُستكفٍ بما عنده من العلم العام بحكمة الله ، وأنه إنما يأمر بما فيه مصلحة عظيمة، والعاقبة الحميدة للعباد.

وإذا لم يتيسر ذلك عند اليقظة كفى استنثاره عند الوضوء؛ فإنه حاصل به فعل المشروع، والسنة أن يُكرر ثلاثًا، وهو أبلغ، ومعلوم أنه يكفي واحدة، ولكن هنا أمر بالثلاث فيتأكد فعل الثلاث؛ لأنه أبلغ في النَّظافة وإزالة الأذى.

والأصل في الأوامر الوجوب، وذهب بعضُ العلماء إلى الشرعية والاستحباب، والأصل في الأوامر الوجوب لا الاستحباب، هذا هو الأصل، حتى يجيء شيءٌ يخص الأوامر التي ظاهرها الوجوب بأنها ليست للوجوب.

وهكذا الأصل في النَّواهي التَّحريم حتى يأتي ما يُخصص ويُبين أنه ليس للتحريم.

وبهذا تعلم أنه يتأكد على المؤمن أن يستنثر ثلاثًا إذا قام من نومه؛ عملًا بهذا الحديث الصحيح، فإذا لم يتيسر ذلك فعله في الوضوء؛ حتى يحصل هذه الفائدة العظيمة، وحتى يمتثل هذا الأمر العظيم.

وهكذا الحديث الثاني: إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده، وكذلك لو يعلم أنَّ اليد في جسمها وفي محلِّها، ولكن هذا الشيء يتعلق بعلم الله وحكمته ، فهو أعلم بأحوالنا، وهو اللطيف بعباده، وهو العالم بمصالحهم، فعلينا أن نمتثل؛ ولأنَّ اليد الله يعلم بها في هذا النوم، وإن كنت تعلم أنَّ يدك عندك، وأنها في فراشك لا تذهب بعيدًا، فكونه يُصيبها شيء، وكونها تبيت على شيءٍ، ويطرأ عليها ويمسّها شيء، هذا إلى الله ، ويمسّها عوارض من المكان الذي أنت فيه لا تعلمها أنت ولا تدري أين باتت؟ هل مسّها شيء أم لا؟

حتى قال العلماء: ولو كانت في جرابٍ، ولو كانت في خرقةٍ، فإنَّ السنة الامتثال والطاعة، فعليك أن تمتثل وإن كنت تعلم في ظاهر أمرك وظاهر عملك حال يدك.

ولكن الرسول ﷺ أمرك بأمرٍ لك فيه مصلحة، ولك فيه خير، وهو أعلم، وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى، فالذي أمر به فيه الخير لك وإن كنت لا تعلم شيئًا يُوجب ذلك، لكن ربك أحكم وأعلم، فعليك أن تغسلها ثلاثًا قبل أن تُدخلها في الإناء.

وظاهر الأمر الوجوب أيضًا، فينبغي أن لا تُدخلها في إناء وضوئك حتى تغسلها ثلاثًا، تُسمِّي الله وتغسلها ثلاثًا قبل أن تشرع في المضمضة والاستنشاق.

وعرفت أنَّ الأصل في الأمر الوجوب، وليس هناك صارف؛ فينبغي لك أن تُنفذ أمر الله في هذا الأمر، ولو قدر أنَّ الإنسان أدخل يده فإنَّ الصواب أنَّ الماء لا يفسد، الماء طهور لا يُنجسه شيء، فإذا أدخل يده ولم يغسلها أساء وخالف الأمر، ولكن الوضوء صحيح، والماء طهور، ليس به شيء.

س: هل هذا عند كل وضوءٍ أم بعد النوم؟

ج: إذا قام من النوم، وأما إذا قام من غير النوم فيُستحب ويتأكَّد كذلك.

س: هل هو عام في كل نومٍ من ليلٍ أو نهارٍ؟

ج: من العلماء مَن خصصه بنوم الليل، وألحق بعضُ السلف النهار بذلك؛ لعموم العلة في النوم، ولكن "بات" لا تُطلق عند العرب إلا على نوم الليل، فيتأكد في نوم الليل، وينبغي إلحاقه بنوم النهار من باب مراعاة العلة، فالأولى بالمؤمن أن يغسلها ثلاثًا أيضًا، ويتأكد حتى في نوم النهار، لكن في نوم الليل آكد؛ لأنه محل الحديث.

س: ما العلة التي تجمع بين نوم الليل والنهار؟

ج: بجامع العلة، وهو أن الإنسان في النوم يفقد شعوره بكل شيءٍ، بهذا الجامع يعمّ نوم الليل والنهار في المعنى، وغسل اليد يُستحب مطلقًا عند القيام من ليلٍ أو نهارٍ: كان يغسل يديه ﷺ ثلاثًا مطلقًا عند الوضوء، لكن إذا قام من النوم تأكَّد أكثر، وإن كانت من نوم الليل تأكَّد أكثر وأكثر.

الحديث الثامن: حديث لقيط بن صبرة .....، ويُقال: لقيط بن عامر، وهو أبو رزين العقيلي ... وقد جاء إلى رسول الله ﷺ ليسأل ولينتفع، فسأل عن أشياء رضي الله عنه وأرضاه، وأمره النبيُّ ﷺ بأشياء، ومن ذلك ما جاء هنا: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا. وفي الرواية الأخرى: إذا توضَّأت فمضمض.

هذا الحديث الصحيح رواه الأئمة الأربعة وغيرهم، وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وإسناده جيد، الإسناد صحيح، وهو يدل على شرعية إسباغ الوضوء.

وإسباغ الوضوء: هو إمرار الماء على الأعضاء، وهو واجب؛ لأنه لا يكون الوضوء وضوءًا شرعيًّا إلا بإسباغ الوضوء، وإسباغ الوضوء هو إتمامه وإكماله، فلا بدَّ من إسباغ الوضوء في أعضائه حتى يفعل ما أمره الله به جلَّ وعلا.

وخلل بين الأصابع كذلك كونه يُوصل الماء إلى الأعضاء أمر لازم، والمبالغة في ذلك حتى يتيقَّن ذلك أمرٌ مشروع للمؤمن، وخلل بين الأصابع لأنَّ الماء قد ينبو بين الأصابع، فإذا عمَّه الماء صار التَّخليل مستحبًّا من باب كمال الإسباغ.

وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا كذلك يُستحب؛ لأنَّ النبي ﷺ توضأ مرةً مرةً ويُبالغ، فدلَّ ذلك على أنَّ المبالغة سنة، بدليل الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين.

فلما علمنا أنَّ المرة تكفي علمنا أنَّ المبالغة سنة وقُربة، وليست بواجبةٍ، لكن من باب الكمال.

إلا أن تكون صائمًا لأنَّ الماء قد يذهب إلى جوفه من آثار المبالغة، فينبغي له التَّوقي وعدم المبالغة التي يُخشى منها هذا الشيء، بل السنة له أن يتمضمض ويستنشق، ولكن بدون مبالغةٍ؛ لئلا يدخل وينحدر الماء إلى جوفه، ومن تمام العناية بالوضوء وكماله: المبالغة في المضمضة والاستنشاق وتخليل الأصابع؛ ليكون وضوؤك كاملًا، وتكون قد أسبغت الماء في محلِّه.

وهكذا رواية: إذا توضَّأت فمضمض إسناده جيد عند أبي داود، وفيها دلالة على أنَّ المضمضة مأمورٌ بها، وقد جاء في فعله ﷺ، فهو تفسير للأمر الشَّرعي؛ أمر الله في سورة المائدة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الآية [المائدة:6]، فإنها داخلة في غسل الوجه؛ لأنَّ المضمضة والاستنشاق من غسل الوجه، ومجيء الأمر بها لتأكيد الوجوب.

وقد جاء في حديث أبي هريرة في "الصحيحين": إذا توضأ أحدُكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر، هذا كله يدل على وجوب الاستنشاق، والاستنشاق والمضمضة كلاهما واجب لكن مرة، والثنتان أفضل، والكمال ثلاث مرات.

وإذا وجب في الصُّغرى فالكبرى من باب أولى في غسل الجنابة والحيض؛ ولهذا كان ﷺ يتوضأ بالكبرى وضوء الصلاة، ثم يُكمل غسل الجنابة، وربما أبقى الرِّجْلين إلى آخر شيءٍ فيُكملها بعد ذلك، كل هذا ورد عنه ﷺ.

الحديث السادس والأربعون: وعن عثمان بن عفان : أنَّ النبي ﷺ كان يُخلل لحيته في الوضوء. أخرجه الترمذي، وصححه ابن خزيمة.

عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كانت وفاته في ذي الحجة سنة 35ه شهيدًا قتيلًا على يد الظلمة رضي الله عنه وأرضاه وأكرم مثواه.

الحديث هذا أعله بعضُهم بأحد رواته؛ لأنَّ في حفظه شيئًا، وصححه آخرون: كابن خزيمة وجماعة، وله شواهد من حديث أنسٍ وغيره.

والحق أنَّ أحاديث التَّخليل يشدُّ بعضُها بعضًا، وتدل على شرعية التَّخليل، وأنه سنة وإن لم يكن ﷺ يفعله دائمًا، بل يفعله بعض الأحيان؛ لأنك إذا نظرت في أحاديث الوضوء وجدتها دالةً على ذلك؛ لأنَّ النبي ﷺ ربما توضأ مرةً مرةً، وأمر الماء على لحيته ولم يُخللها، فدلَّ ذلك على أن التخليل منه وليس بواجبٍ، بل يُستحب فعله؛ لأنه ﷺ فعله تارةً وتركه تارةً.

وإذا فعله الإنسانُ تارةً وتركه تارةً كما فعله النبيُّ ﷺ كان هذا أقرب إلى فعل السنة والتأسي الكامل؛ حتى يعلم غيره أنه ليس بواجبٍ.

والنفوس إذا تعودت شيئًا قد تلزمه حتى تجعله كالأمر الواجب، فالشيء الذي فعله النبيُّ ﷺ وكان يُحافظ عليه نحافظ عليه، وما فعله تارةً وتركه تارةً نفعل مثله.

وإذا كان الناسُ في عهد النبي ﷺ في حاجةٍ إلى أن يتعلموا ويستفيدوا من فعله وتركه، فهكذا الناس بعد النبي ﷺ وفي كل وقتٍ بحاجةٍ إلى أن يستفيدوا من فعل العلماء؛ من الفعل والترك، وفي حاجةٍ إلى أن يستشعروا أنَّ هذا شيء واجب، هذا شيء لازم، هذا شيء مُستحب يجوز تركه؛ حتى لا تجعل المستحبّ واجبًا.