162 من: (باب فضل الزهد في الدنيا والحثّ عَلَى التَّقلل منها وفضل الفقر)

 
55- باب فضل الزهد في الدنيا والحثّ عَلَى التَّقلل منها وفضل الفقر
قَالَ الله تَعَالَى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
وقال تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ۝ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:45- 46].
وقال تَعَالَى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
وقال تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14].
وقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].
وقال تَعَالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۝ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ۝ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ۝ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ [التكاثر:1- 5].
وقال تَعَالَى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
والآيات في الباب كثيرة مشهورة.
وأمَّا الأحاديث فأكثر مِنْ أن تُحصر، فنُنَبِّهُ بطرفٍ منها عَلَى مَا سواه:
1/457- عن عمرو بنِ عوفٍ الأَنْصاريِّ : أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ بَعَثَ أَبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجزْيَتِهَا، فَقَدمَ بِمالٍ منَ البَحْرَينِ، فَسَمِعَت الأَنصَارُ بقُدومِ أَبي عُبَيْدَةَ، فوافَوْا صَلاةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ اللَّه ﷺ، فَلَمَّا صَلَّى رسولُ اللَّه ﷺ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ اللَّه ﷺ حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أَظُنُّكُم سَمِعتُم أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟ فقالوا: أَجَل يَا رسول اللَّه، فقال: أَبْشِرُوا، وأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فواللَّه مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكنِّي أَخْشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ فَتُهْلِككُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ متفقٌ عليه.
2/458- وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ: جَلَسَ رسولُ اللَّه ﷺ عَلى المِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فقال: إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنيَا وَزينتهَا متفقٌ عليه.
3/459- وعنه : أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّه تَعالى مُسْتَخْلِفُكُم فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فاتَّقُوا الدُّنْيَا، واتَّقُوا النِّسَاءَ رواه مسلم.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الآيات الكريمات والأحاديث كلها تدل على فضل الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والحذر من الشغل بالدنيا وشهواتها العاجلة، فالواجب على المؤمن أن يَعُدَّ العُدَّة لآخرته، وأن يحذر شرَّ الدنيا وفتنتها، فإنَّها فتنة: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، فالواجب الحذر، كما قال جلَّ وعلا: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ [يونس:24]، فالدنيا فيها الخطر العظيم، والله ضرب لها الأمثال الدَّالة على زوالها.
فالواجب على المؤمن أن يحذر إيثارها على الآخرة، وأن يستعدَّ للقاء الله بما يسَّر الله له من الدنيا، ولا بأس أن يطلب الرزق، ولا بأس أن يتَّجر، فاليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفْلَى، ولكن ليحذر أن تشغله عن الآخرة، وأن يلهو بها عن الآخرة، أمَّا إذا أعانته على الآخرة: فاتَّجر وطلب الرزق، وتصدَّق، وأحسن، وعمل المشاريع الخيرية، ونحو هذا؛ فهذه هي اليد العليا، فإنَّ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأنَّ الغني الشاكر ينفع الله به الأمة.
وقد اختلف الناسُ أيّهما أفضل: الغني الشاكر، أو الفقير الصابر؟
والأفضل: الغني الشاكر الذي أعطاه الله المال، وأنفق، وأحسن إلى الناس، وأقام المشاريع الخيرية، وأنفق في وجوه البر.
فالرسول ﷺ خاف عليهم الدُّنيا، وبيَّن لهم حالها، والله بيَّن لهم في كتابه العظيم حالها، وأنها خطر، فضرب لها المثل بالأرض التي تزخرفت بالخضرة، ثم جاءتها الريح العاصف فذهبت وانتهت، فالدنيا هكذا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [الحديد:20]، هذه حالها، فبينما هو في نعيمٍ ودنيا وخيرٍ عظيمٍ إذ جاءه الأجلُ، أو جاءته آفةٌ فأهلكت المالَ وما عنده.
فأنت يا عبدالله على خطرٍ: إمَّا في نفسك بموتٍ مُعَجَّلٍ، وإمَّا بذهاب ما في يديك، ولهذا قال ﷺ: إنما أخشى عليكم ما يُفْتَح عليكم من زهرة الدنيا، ويقول: إنَّ الدنيا حلوةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ الله مُسْتَخْلِفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النِّساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء، ويقول جلَّ وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ ...
فالمؤمن يحذر شرَّها وفتنتها، ويستعدّ للقاء الله، ولا يرضى بالفقر إذا تيسَّر له الغنى، فهو درجة عليا، فينبغي له أن يطلب الرزق، ويسعى في طلبه كما قال ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستَعِنْ بالله، ولما سُئِلَ: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور، وقال ﷺ: اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفْلَى، وابدأ بمَن تعول، وخير الصَّدقة ما كان عن ظهر غِنًى، ومَن يستغنِ يُغْنِه الله، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّه الله.
فأنت يا عبدالله تسعى في طلب الرزق الحلال؛ لتُنْفِق في سبيل الله، وتُحْسِن، وتتصدق، وتُواسي الفقير، فهذا خيرٌ عظيمٌ، لكن لا يشغلك ذلك عن الآخرة، فالزهد فيها لا يعني تركها، وإنما يعني: عدم صرفها في الشَّهوات والملذَّات والاشتغال بها عن الآخرة، فقد كان عبدُالرحمن بن عوف من أغنى الناس، وكذلك الصديقُ، وعمرُ أيضًا، ولم تشغلهم عن الآخرة.
فالمؤمن إذا رزقه الله الدنيا وصرفها في وجوهها فهو على خيرٍ عظيمٍ، وأجرٍ عظيمٍ، فهو ينفع الفقير والمسكين، ويصل الرحم، ويُقيم المشاريع الخيرية، إلى غير هذا من وجوه الخير.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: ما المقصود بالبحرين؟
ج: هجر، وهي جهة شرق المملكة، وكانت محلَّ المجوس، فقد عاشوا فيها.
س: ما المراد بقوله: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3]؟
ج: من باب الوعيد، سوف تعلمون ما فعلتم من التكاثر الذي ألهاكم عن الآخرة.
س: الزهد أخصُّ من الورع؟
ج: الورع غيره، فالزهد معناه: عدم الاستكثار، فكونه يزهد فيها يعني: لا تشغله عن الآخرة، والورع: ترك المشتبهات.
س: سائلٌ يقول أنَّه كان يُصلِّي المغرب، وبعدما صلَّى ركعتين نسي الجلوس للتشهد الأوسط، ونهض وأتى بالركعة الثالثة، ثم تشهد، ثم صلَّى ركعةً رابعةً؟
ج: هل كان ناسيًا؟
س: يجهل الحكم.
ج: أتى بالرابعة عن ترك الجلوس؟
س: نعم.
ج: ليس عليه شيء ما دام جاهلًا، لكن يُعَلَّم.
س: وما حكمه إن لم يكن جاهلًا؟
ج: ما هو .......... إلَّا جاهل.
س: الجزية إذا أُخِذَتْ؟
ج: ................ لبيت المال.
س: أقصد أنه إذا لم يكن جاهلًا وفعل هذا ناسيًا؟
ج: النَّاسي أشدّ وأشدّ.
س: إذا كان طالب علمٍ وأراد أن يُتاجر كي يكتسب مالًا ويتصدق على الفقراء، ألا يُخْشَى عليه أن يقع في حبِّ ..؟
ج: لا، لقد اتَّجر الصحابةُ وهم أفضل منا، وعملوا، ونفعوا الناس: فعبدالرحمن اتَّجر، والصديق اتَّجر، وعمر اتَّجر، وغيرهم من الصحابة اتَّجروا، والأنصار مزارعون، وعندهم المزارع العظيمة ، ونفع الله بهم المهاجرين.
س: لكن كثيرًا من طلاب العلم فعلوا ذلك ووقعوا في حبِّ ..؟
ج: لا، عليه بتجارةٍ لا تشغله عن طلب العلم وعن التَّفقه في الدين.