180 من حديث: (ذكر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما عنده الدنيا..)

 
27/517- وعن أَبي أُمَامَةَ إِيَاسِ بنِ ثَعْلَبَةَ الأَنْصَارِيِّ الحارثيِّ قَالَ: ذَكَرَ أَصْحابُ رَسول اللَّه ﷺ يوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَلا تَسْمَعُونَ؟ أَلا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ الْبَذَاذَة مِن الإِيمَان، إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ رواهُ أَبو داود.
28/518- وعن أبي عبدِاللَّه جابر بن عبدِاللَّه رضي اللَّه عنهما قَالَ: بَعَثَنَا رسولُ اللَّه ﷺ، وَأَمَّرَ عَلَينَا أَبَا عُبَيْدَةَ ، نتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ، لَمْ يجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدةَ يُعْطِينَا تَمْرةً تَمْرَةً، فَقِيل: كَيْف كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمصُّهَا كَمَا يَمصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيهَا مِنَ المَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلى اللَّيْلِ، وكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصيِّنا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالمَاءِ فَنَأْكُلُهُ، قَالَ: وانْطَلَقْنَا عَلَى ساحِلِ البَحْرِ، فرُفِعَ لنَا عَلَى ساحِلِ البَحْرِ كهَيْئَةِ الكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتيْنَاهُ، فَإِذا هِي دَابَّةٌ تُدْعَى: العَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لا، بَلْ نحْنُ رسُلُ رسُولِ اللَّه ﷺ، وفي سبيلِ اللَّه، وقَدِ اضْطُرِرتُمْ؛ فَكلُوا، فَأَقَمْنَا علَيْهِ شَهْرًا، وَنَحْنُ ثَلاثُمئَةٍ، حتَّى سَمِنَّا، ولقَدْ رَأَيتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْبِ عَيْنِهِ بالْقِلالِ الدُّهْنَ، ونَقْطَعُ منْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ –أَو: كقَدْرِ الثَّوْرِ- ولَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبيْدَةَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فأَقْعَدَهُم في وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا منْ أَضْلاعِهِ فأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ منْ تَحْتِهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلمَّا قدِمنَا المدينَةَ أَتَيْنَا رسولَ اللَّه ﷺ، فَذَكرنَا ذلكَ لَهُ، فَقَالَ: هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ معَكمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ فَأَرْسَلْنَا إِلَى رسول اللَّه ﷺ مِنْهُ فَأَكَلَهُ. رواه مسلم.
29/519- وعن أَسْمَاءَ بنْتِ يَزِيدَ رضي اللَّه عنها قالت: "كانَ كُمُّ قمِيصِ رسول اللَّه ﷺ إِلى الرُّصْغِ" رواه أَبو داود، والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحثِّ على التقلل من الدنيا وعدم المكاثرة فيها؛ لأنها تصدّ عن الآخرة، قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۝ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1، 2]، فينبغي للمؤمن ألا يُشغل بها عن الآخرة، وأن يكتفي منها بما يسدّ حاجته.
ولهذا قال في الحديث الأول: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إنَّ البَذاذة من الإيمان البذاذة: عدم التَّكلف في الملبس ونحوه، وإن كانت عنده سعةٌ أظهر نعمة الله، قال النبيُّ ﷺ: إنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الجمال، وقال ﷺ: إنَّ الله يُحبُّ إذا أنعم على عبده نعمةً أن يرى أثرَ نعمته عليه، فإذا كانت عنده سعةٌ فليلبس ملابس أمثاله من أهل السعة من دون إسرافٍ ولا تكبُّرٍ، وإذا ترك ذلك بعض الأحيان لكسر النَّفس والتَّواضع فهذا من البذاذة.
وفي الحديث الثاني: أن الرسول ﷺ أرسل سَرِيَّةً إلى ساحل البحر تتلقَّى عِيْرًا لقريشٍ تأتي من الشام بالتِّجارة، وأمَّر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح، وكانوا ثلاثمئة، وليس معهم زادٌ يكفيهم، وليس معهم إلا جرابٌ من تمرٍ، فكان أبو عبيدة -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- يُزَوِّدهم تمرةً تمرة، قال الراوي عن جابرٍ: ماذا كنتم تصنعون؟ قال: كنا نمصُّها ثم نشرب عليها الماء يومنا ذلك، وهذا يدل على الصبر العظيم، والتَّقلل من الدنيا، فقد صبروا على جوعها وشدَّتها حتى فرَّج الله لهم، وأعطاهم الدنيا، ويسَّر لهم أمورهم.
فلمَّا وصلوا إلى البحر وجدوا دابَّةً عظيمةً يُقال لها: العنبر، سمكة عظيمة قد ألقاها البحر رزقًا لهم، فأكلوا منها شهرًا، يقطعون منها الفدر العظيمة، ويأكلون من شحمها ولحمها حتى سمنوا، وأقاموا عليها شهرًا، وهم ثلاثمئة، حتى أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر منهم، فجعلهم في وَقْب العين، من سعة عينها، ونصب ضِلَعًا من أضلاعها، فمرَّ من تحته الجملُ مع راكبه، وكانت دابَّةً عظيمةً كالكثيب، يعني: ........... الكبير من الرمل، والبحر فيه دوابٌّ صغيرة وكبيرة وعظيمة، جعلها الله رزقًا للعباد، فطعام البحر وميتته حلالٌ للمسلمين.
قالوا: ميتة، ثم تذكروا أنهم مضطرون، وعرفوا أنه من صيد البحر؛ فأكلوا، وهذا رزقٌ ساقه الله إليهم، فإن البحر جعل الله فيه خيرًا عظيمًا، وأحلَّ لنا ميتته: هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته، أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، فهذا يدل على حلِّ ميتة البحر وسمكه العظيم ولو كان كالجبال، فالبحر فيه شيء عظيم، وفيه حوتٌ عظيم كالجبال، ومنها هذا الحوت الذي يُسَمَّى: العنبر، والذي ساقه الله للسرية، وهم ثلاثمئة، حتى أكلوا منه وشبعوا مدة إقامتهم على الساحل.
وفي حديث أسماء بنت يزيد الدلالة على أنَّه ﷺ ما كان يتكلَّف في القميص، وأنَّ كُمَّه كان إلى الرسغ، والرسغ: مفصل الذراع من الكفِّ، هذا هو الأفضل، أن يكون كم القميص إلى الرسغ؛ حتى لا يُؤذيه عند الأكل ونحوه.
والمقصود من هذا كله الحثّ على عدم التَّكلف في الدنيا، وألا تكون أكبر الهمِّ، وألا يشتغل بالتَّكاثر فيها حتى تصدّه عن الآخرة، بل يكتفي بما تيسَّر مما يُعينه على طاعة الله، ولا يشغله عن الآخرة، من طريق البيع والشراء، أو من طريق الزراعة، أو من طريق النِّجارة، أو من طريق الحدادة، أو من أي طريقٍ، فالمقصود أنه يتسبب ويعمل كما قال النبي ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن رواه مسلم في "الصحيح"، وسُئل: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ: لأن يأخذ أحدُكم حبلَه فيأتي بحزمةٍ من الحطب فيجعلها على ظهره، فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه؛ خيرٌ له من سؤال الناس: أعطوه، أو منعوه، فهو يعمل ويكدح ويطلب الرزق، ولا يحتاج إلى الناس، لكن لا يشغله التَّكاثر وطلب التَّوسع في الدنيا، بل يكون أكبر همّه الآخرة.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:
س: ما الصحيح في تفسير هذه الآية: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]؟
ج: يعني: يُثني على الله، ويقول أنه بخيرٍ، وأنه في نعمةٍ، ولا يجحد نعمةَ الله جلَّ وعلا، بل يذكر نعمة الله، وأنه بخير ونعمةٍ، على حسب ما عنده من الخير.
س: نِعمة الدين أم الملبس؟
ج: نِعمة الدين والدنيا.
س: أحيانًا يُنعم الله على إنسانٍ بنعمةٍ فيُكْثِر التَّحدث عنها؟
ج: إذا لم يقصد الرياء يقول: الحمد لله، أنا ممن يُحافظ على الصلاة، ممن يصوم رمضان، ممن حج البيت والحمد لله، على سبيل التَّحدث بنِعَم الله، لا على سبيل الرياء؛ فلا حرج في ذلك، أو يقول: أنا أبيع وأشتري والحمد لله وأتحرَّى الحلال، وأبتعد عن الربا والغشّ ونحو ذلك، حتى تكون في هذا نصيحةٌ لغيره.
س: ركوب البحر للنزهة؟
ج: ما أعلم فيه شيئًا، فإذا كان في مركبٍ سليمٍ ما يُخالف، مثل النُّزهة في البَرّ.
س: لو خاف ممن يسمعه؟
ج: المقصود أنه إذا دعت الحاجةُ والمصلحةُ إلى التَّحدث تحدث، ويقول: أعوذ بالله من شرِّ حاسدٍ إذا حسد، فلا يخاف إلا ربّه، ويتعوذ بالله من شرِّ كل ذي شرٍّ، ويتحدث بنِعم الله حتى لا يجحد نعمةَ الله عليه.
س: مَن كانت عادته أن يقول: أنا وأنا وأنا، هل يُنْصَح؟
ج: المقصود ألا يكون قصده الرياء، وإنما يتحدث بنِعم الله للشكر عليها وحثّ الناس على طلب الرزق، وأنه بخيرٍ، ولا يحتاج إلى ما عندهم.
س: الماء الذي يُقرأ عليه، ويُوضع شيء من الزعفران عليه، فيشربه المريض الممسوس؟
ج: ما فيه بأس إذا لم تكن فيه محادّة، فالمحادة لا تلزم، هذا طيب، أما إذا كان من سائر المرضى فلا بأس، فالزعفران قد ينفع الله به.
س: ميتة البحر حلالٌ على الإطلاق، يعني: على العموم؟
ج: نعم، الصحيح على العموم، وقال بعضهم: ما كان جنسه في البَرِّ مُحرَّمًا فميتته في البحر كذلك، ولكن ظاهر القرآن والسنة أنَّ كل ما في البحر حِلٌّ لنا، حيًّا وميتًا.
س: وما يعيش في البَرِّ والبحر؟
ج: مَن عاش في البر والبحر فحكمه حكم البر.
س: ما الصواب في: "أنا، أنا"؟ هل يكون فقط في الاستئذان؟
ج: أيش؟
س: ما الصواب في أن الإنسان لا يتحدث بقوله: "أنا أنا"؟
ج: إذا استأذن يقول: أنا فلان بن فلان.
س: هذا منهيٌّ عنه؟
ج: نعم، عليه أن يُصَرِّح باسمه، أما "أنا" فتشتبه.