182 من: (باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذمّ السؤال من غير ضرورة)

 
57- باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذمّ السؤال من غير ضرورةٍ
قَالَ الله تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].
وقال تَعَالَى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].
وقال تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
وقال تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56، 57].
وَأَمَّا الأحاديث: فتقدم معظمُها في البابينِ السَّابقينِ، ومما لَمْ يتقدم:
1/522- عن أَبي هُرَيْرَةَ ، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: لَيس الغِنَى عَن كثْرَةِ العَرَضِ، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ متفقٌ عَلَيْهِ.
2/523- وعن عبداللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما: أَن رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: قَدْ أَفلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّه بِمَا آتَاهُ رواه مسلم.
3/524- وعن حَكيم بن حِزَام قَالَ: سَأَلْتُ رسولَ اللَّه ﷺ فَأَعْطَاني، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعطَاني، ثُمَّ قَالَ: يَا حَكيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَن أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيه، وَمَن أَخَذَهُ بِإِشرَافِ نَفْسٍ لَم يُبَارَكْ لهُ فيهِ، وكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، واليدُ العُلَيا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى.
قَالَ حَكيمٌ: فقلتُ: يَا رسول اللَّه، وَالَّذِي بَعثَكَ بالحَقِّ، لا أَرْزَأُ أَحدًا بَعدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنيَا.
فَكَانَ أَبُو بكرٍ يَدْعُو حَكيمًا لِيُعطيَهُ العَطَاءَ، فَيَأْبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمر دَعَاهُ لِيُعطيهُ، فَأَبَى أَن يَقْبلَهُ، فقالَ: يَا مَعشَرَ المُسْلمينَ، أُشْهِدُكُم عَلى حَكيمٍ؛ أَنِّي أَعْرضُ عَلَيه حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَهُ اللَّه لَهُ في هَذَا الْفَيءِ، فيَأْبَى أَن يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكيمٌ أَحدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى تُوُفِّي. متفقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الآيات الكريمات والأحاديث الثلاثة كلها تدل على أنه ينبغي للمؤمن القناعة، وعدم الجشع، وعدم الحرص على السؤال، وأن يرضى بما قسم الله له من الكسب، ولا يتكلَّف، يقول جلَّ وعلا: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، ويقول سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، ويقول جلَّ وعلا: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، ويقول : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ۝ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56- 58].
فالمؤمن يطلب الرزق من عند الله، ويفعل الأسباب: نجارة، حدادة، خرازة، تجارة، زراعة، وغير ذلك، فيطلب الرزقَ بالأسباب المباحة حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس، ويحرص على القناعة، وعدم التَّكلف، وعدم الإسراف، وعدم التَّبذير، حتى ينفعه القليل.
يقول ﷺ: ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غنى النفس، فكم من إنسانٍ عنده الأموال الكثيرة، وهو فقير القلب، فالغنى غنى النفس -غنى القلب- وليس كثرة الأموال، مَن أغنى اللهُ قلبَه فهو الغني، فينبغي للمؤمن أن يكون قنوعًا، غني القلب، لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، بل يتسبب ويطلب الرزق من عند الله، ويرضى بالقليل ويقنع، حتى يُفَرِّج الله الأمور.
الحديث الثاني
وفي الحديث الثاني: يقول ﷺ: قد أفلح مَن أسلم، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه، وفي اللفظ الآخر: طوبى لمَن أسلم، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه، فكثيرٌ من الناس لا يقنع إلا أن يسأل الناس، ويجمع الأموال بغير حلِّها، فهذا غلطٌ كبيرٌ، بل الواجب أن يقنع بالميسور، ويتحرى الحلال والكسب الطيب؛ حتى ترتاح نفسُه، وحتى يطمئنَّ.
الحديث الثالث
وفي الحديث الثالث: أنَّ حكيم بن حزام سأل النبيَّ ﷺ فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم قال: يا حكيم، إنَّ هذا المال حلوٌ خَضِرٌ، فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورِك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارَك له فيه، وكان كالَّذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، اليد العليا: المُعْطِية، واليد السُّفلى: الآخذة، ومَن يستعفف يُعفّه الله، ومَن يستغني يُغنِه الله.
فقال حكيم لما سمع هذه النَّصيحة: "والذي بعثك بالحقِّ، لا أرزأ أحدًا بعدك"، يعني: ما أخذ من أحدٍ شيئًا أبدًا بعد الآن، واستغنى بما أعطاه الله، حتى صار الصديقُ وعمر يعرضان عليه العطاء فيأبى، ووفَّى بما قال، لكن إذا جاء الإنسان من بيت المال فلا بأس، مثلما قال ﷺ لعمر: ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تُتبعه نفسَك، فإذا جاءه من بيت المال -من العطاء- يقبله ولا بأس، أو هدية من أخٍ له في الله فلا بأس: تهادوا تحابّوا، فقد كان النبي ﷺ يقبل الهدية ويُثِيب عليها، ولكن لا يكون بإشراف نفسٍ، ولا بطمعٍ فيما عند الناس، بل يرضى بما قسم الله له، ويرضى بالأسباب المباحة الطيبة، حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس.
رزق الله الجميع التوفيق.

الأسئلة:
س: إذا أشرفت نفسُ الفقير المستحقّ فعلًا للعطاء والزكاة، فهل يكون مذمومًا، مع أنه يحتاج إلى ذلك بالفعل، وهو مستحقٌّ له شرعًا، أو المقصود الإشراف لما لا يستحقّ؟
ج: الأقرب -والله أعلم- أنه لما لا يستحق، يعني: التَّزود والاستكثار، وأما طلب الفقير حاجته فلا بأس، من الزكاة وغيرها.
س: إذا كان شخصٌ يسأل ولكن من أجل الدعوة: كبناء المساجد أو ..؟
ج: هذه شفاعة لأهل الخير يدعوهم فيها إلى الخير، فيشفع لمَن يعمرون مسجدًا، أو للذين يشترون كتبًا ليُوزِّعوها على الطلبة، أو في بناء مدرسة، فهذا داخلٌ في قوله: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً [النساء:85].
س: أيّهما أفضل: الأخذ من بيت المال أو العمل باليد؟
ج: العمل أفضل إذا تيسَّر.
س: إذا علم الشخصُ أنه مُتسول فهل يُعطى؟
ج: نعم، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] يُعطى السائل.
س: يقول سائلٌ: هل يجوز لعن الكافر المُعَيَّن؟ وهل هناك فرقٌ بين الحي والميت؟
ج: لا، يلعنه على العموم، يلعن اليهودَ والنَّصارى والكفَّار على العموم، إلا الكافر الذي يُؤذي المسلمين؛ فإنه إذا رأى وليُّ الأمر لعنه فلا بأس، إذا كان يُؤذيهم بالقتال أو بالمُضايقات، مثلما لعن النبيُّ ﷺ جماعةً من أهل مكة: كأبي جهلٍ، وعتبة بن ربيعة، لما آذوا المسلمين.
س: خادمة مقيمة في الرياض تريد الزواج، فهل للكفيل أن يمنع الزواج؟
ج: لا، هذه تبع المحكمة، إذا لم يكن لها أحدٌ فهي تبع المحكمة.
س: ما رأيكم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بالنسبة لأمثال أبي هريرة وغيره من الذين .............؟ يقول شيخ الإسلام أنَّه لو كان يشتغل بعملٍ أفضل من الكسب: كطلب العلم ونفع الناس وغير ذلك، بدون إشرافٍ واتِّكالٍ على الناس؛ فإن أُعطي من ذلك واشتغل بطلب العلم يكون أحسن مما لو ترك هذا العمل الأنفع للأُمَّة واشتغل ..
ج: العمدة على ما قال النبيُّ ﷺ: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، فالإنسان الذي عنده قدرة يعمل ويجتهد: بيع وشراء، أو نجارة، أو حدادة، أو غراسة، أو ..، أو ..، يعمل ما يستطيع، هذا هو المشروع للمؤمن عند القُدرة، أما إذا لم تكن لديه قدرة فله أن يسأل حتى يُصيب قِوَامًا من عيشٍ.