185 من حديث: (إِن المسألةَ كد يكد بها الرجل وجهه،..)

 
12/533- وعن سمُرَةَ بنِ جُنْدبٍ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسَلَّم: إِنَّ المَسأَلَةَ كَدٌّ يكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسأَلَ الرَّجُلُ سُلْطانًا، أَوْ في أَمْرٍ لا بُدَّ مِنْهُ رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
الكَدُّ: الخَدشُ وَنحوُهُ.
13/534- وعن ابن مسعودٍ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: مَنْ أَصابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلها باللَّه فَيُوشِكُ اللَّه لَهُ بِرِزقٍ عاجِلٍ أَوْ آجِلٍ رواهُ أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ.
يُوشِكُ -بكسر الشين- أَي: يُسْرِعُ.
14/535- وعَنْ ثَوْبانَ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَن لا يسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بالجَنَّة؟ فقلتُ: أَنا، فَكَانَ لا يسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا. رواه أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ.

الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على شرعية الاستغناء بالله، والحرص على عدم الحاجة إلى الناس، وتقدمت الأحاديث الكثيرة في هذا: كقوله ﷺ: قد أفلح مَن أسلم، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه، وتقدَّم قوله ﷺ: اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفْلَى، اليد العليا: المعطية المنفقة، والسُّفلى: الآخذة السَّائلة، وابدأ بمَن تعول، وخير الصَّدقة ما كان عن ظهر غِنًى، ومَن يستعفف يُعفّه الله، ومَن يستغنِ يُغْنِه الله.
وقوله ﷺ: لأن يأخذ أحدُكم حبلَه فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ بها وجهه؛ خيرٌ له من سؤال الناس: أعطوه، أو منعوه.
وفي حديث سمرة يقول ﷺ: المسألة كَدٌّ يكدُّ بها الرجلُ وجهَه، إلا أن يسأل الرجلُ سلطانًا أو في أمرٍ لا بدَّ منه، فإذا كان السؤال في أمرٍ لا بدّ منه كما تقدَّم: تحمَّل حمالةً، أو أصابته فاقَةٌ؛ فإنه يسأل قدر حاجته، أو كان السؤال للسلطان من بيت المال لحاجةٍ به، فبيت المال للمسلمين، فإذا كان محتاجًا وسأل من السلطان المساعدة من بيت المال فلا بأس؛ للحاجة لا للتَّكَثُّر.

وكذلك الحديث الآخر: مَن أصابته فاقَةٌ فأنزلها بالله يُوشِك أن تسدّ فاقته، ومَن أنزلها بالناس لم يُغْنُوا عنه من الله شيئًا.
فالمقصود أنَّ مَن أصابته حاجةٌ فأنزلها بالناس لم تسدّ حاجته، أمَّا مَن أنزلها بالله، وسأل الله، وتضرع إليه؛ يُوشِك الله جلَّ وعلا أن يُعَجِّل له الرزق، ويُغنيه، ويسدّ حاجته قريبًا.
فالمشروع إنزال الحاجات بالله، والتّضرع إلى الله، وسؤاله من فضله، والأخذ بالأسباب، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب ولا يجلس: يبيع، يشتري، يزرع، يعمل كاتبًا، نجّارًا، حدّادًا، خرّازًا، إلى غير ذلك، مثلما تقدَّم في قوله ﷺ لما سُئِل: أيّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، وقال ﷺ: ما أكل أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده أخرجه البخاري في "الصحيح".
فهكذا يقول هنا: مَن أصابته فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تسدّ فاقته، أمَّا مَن أنزلها بالله فيُوشِك أن يُعَجِّل الله له برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ وأن يسدّ حاجته.

وهكذا حديث ثوبان: أنه بايع النبيّ ﷺ على ألا يسأل الناسَ شيئًا، وبايع النبيَّ ﷺ جماعةٌ من الصحابة ألا يسألوا الناسَ شيئًا، حتى كان أحدُهم يسقط سوطُه فلا يقول لأحدٍ: ناولنيهِ، بل ينزل عن فرسه أو عن دابَّته فيأخذ سوطه.
والمقصود من هذه الأحاديث وما جاء في معناها: الحثّ على القناعة والكسب والاستغناء عن سؤال الناس والحاجة إليهم، فالحاجة إليهم ذلٌّ ومهانةٌ وضعفٌ، والاستغناء عنهم عِزَّةٌ وكرامةٌ وفضلٌ، إلا للضَّرورة، فقد جاء في حديث قبيصة بن مخارق الهلالي أنَّ النبي ﷺ قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً يعني: تحمَّل دَينًا ليُصلح بين الناس، فحلَّت له المسألةُ حتى يُصيبها ثم يُمْسِك، أو أصابه دَينٌ ويعجز عن تسديده.
الثاني: ورجل أصابته فاقَةٌ فقر، كأن تتلف أمواله ونحو ذلك، فأصابته حاجة وشِدَّة، فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قِوَامًا من عيشٍ -أو قال: سِدادًا من عيشٍ ما يسدّ فاقته وحاجته.
الرجل الثالث: رجل كانت له ثروةٌ وسعةٌ، ثم أصابته نكسةٌ؛ فهلكت أموالُه، وأقام ثلاثة شهودٍ يشهدون أنه أصابته حاجة، فإن المسألة تحلّ له حتى يُصيب قِوَامًا من عيشٍ، قال ﷺ: وما سواهنَّ من المسألة يا قبيصة سُحْتٌ، يأكله صاحبُه سُحْتًا أخرجه مسلمٌ في "الصحيح".
فينبغي للمؤمن أن يتحرَّى، وألا يسأل إلا عند الضَّرورة.
وفَّق الله الجميع.