11 من قوله: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ..)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ۝ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرا كما كان أولا، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها في صلب آدم وانتهت البرية، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأويسي، حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب ، قال: لما توفي النبي ﷺ وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد: فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام.
الشيخ: وهذا الخبر منقطع؛ ليس بالصحيح والخضر قد مات قبل ذلك بمدة ودهر طويل، ويقال إنه جبرائيل قد جاءهم فالله أعلم، المقصود أن الخبر لو صح فالله أعلم هل هو جبرائيل أو من الملائكة أو من مؤمني الجن للتعزية، والآية الكريمة مع أشباهها من الآيات كلها دالة على أن جميع النفوس كلها ميتة، نفوس بني آدم ونفوس الجن والملائكة وجميع النفوس كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني ..... يوم القيامة وإلا قد يعطون في الدنيا ما شاءه الله من جزاء كما يجزي الكافر في أعماله الطيبة في الدنيا طعمة في الدنيا، وكما يجزى المؤمن في بعض أعماله في الدنيا ويعطى عليها في الآخرة كذلك فضل الله، لكن الجزاء الكامل والتام والوافي كله يوم القيامة.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ  وهذا هو الفوز زحزحه الله عن النار وأنجاه منها وفاز بالجنة والنعيم فهذا هو الفائز الحقيقي هذا هو السعيد وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ يعني يغتر به أكثر الخلق ولا ينتبه لهذا المتاع ويسلم من الغرور إلا القلائل من الناس وهم أهل الإيمان والتقوى وأكثر الخلق يغتر بهذا المتاع وله يغضب وله يرضا وله يطلب قد نسي الآخرة وأعرض عنها ولم يهمه إلا هذا المتاع العاجل هذا حال الأكثرين، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ[ص:24] وقال في آيات كثيرات: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8] وأما هذا الأثر فهو منقطع لأن محمد بن علي الباقر لم يدرك عليًا ولم يسمع من علي، فهو عن جعفر الصادق عن محمد الباقر بن علي بن الحسين عن جده وجد أبيه علي بن أبي طالب وبينهما مسافة ولم يدركه وهو منقطع، والخضر قد مات كما قال المحققون من أهل العلم من دهر طويل، وفي هذا تعزية إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، فهذه تعزية للسامعين؛ إما من ملك من الملائكة وإما من مؤمن من مؤمني الجن وليس بمستغرب. وإسناده ضعيف للانقطاع.
وقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرءوا فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ هذا حديث ثابت في الصحيحين، من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة.الشيخ: وهذا ثابت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد عن النبي ﷺ أنه قال: رباط في سبيل الله خير من الدنيا وماا عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروح يروحها في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما عليها.
 وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، ومن حديث محمد بن عمرو هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر، فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها قال: ثم تلا هذه الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.
وتقدم عند قوله تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ما رواه عن وكيع بن الجراح في تفسيره  عن الأعمش، عن زيد بن وهب. عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله ﷺ : من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن  وكيع به.
الشيخ: ورواه مسلم أيضاً في صحيحه.
وقوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية، قليلة زائلة، كما قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17] وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60]، وفي الحديث والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع إليه وقال قتادة في قوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ قال: هي متاع متروكة أوشكت- والله الذي لا إله إلا هو- أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من  هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155] إلى آخر الآيتين، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما نالهم من الذي من أهل الكتاب والمشركين، وآمرا لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله، فقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره، قال: كان النبي ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا قال: وكان رسول الله ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، هكذا ذكره مختصرا.
وقد ذكره البخاري  عند تفسير هذه الآية مطولا، فقال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد، حدثه أن رسول الله ﷺ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي.
الشيخ: وهو ما أسلم، هو مات على الكفر يعني قبل أن يظهر الإسلام قبل أن ينافق يعني أولاً أظهر الكفر وأبى أن يسلم، ولما وقعت غزوة بدر ورأى ظهور المسلمين أظهر الإسلام نفاقًا وبقي على نفاقه حتى مات منافقًا، نسأل الله العافية.
وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله ﷺ، ثم وقف، فنزل، ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبدالله بن أبي: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة : بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبيﷺ يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي ﷺ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي ﷺ يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد عبدالله بن أبي، قال: كذا وكذا، فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح، فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة  على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله، شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله ﷺ وكان رسول الله ﷺ، وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا الآية وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه [البقرة:109] الآية، وكان النبي ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله ﷺ بدرا، فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول ﷺ على الإسلام وأسلموا. فكل من قام بحق أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله والرجوع إلى الله .الشيخ: هذا هو الواجب، فعبدالله بن أبي كانوا قد اصطلحوا أن يملكوه عليه ويجعلوه ملكًا في المدينة ورئيسًا في المدينة فلما جاء الله بنبيه ﷺ وهاجر المدينة ورأى أن الأمر قد فاته وزال ما أريد به شرق بالأمر وكره ما جاء به النبي ﷺ لأنه فوته هذه الهداية ووجد في نفسه من ذلك الشيء الكثير والعياذ بالله حتى وقعت بدر لما وقعت غزوة بدر وقتل الله فيها صناديد قريش وكبارهم ورؤساءهم وظهر دين الله على أعداء الله قال الخبيث عبدالله بن أبي ومن معه من المنافقين قالوا: هذا أمر قد ظهر، هذا دين قد توجه وخافوا فبايعوا، وأظهروا الإسلام خوفًا من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم،..... النفاق والكبر والكراهة للحق حتى مات عبدالله على حاله منافقًا وصلى عليه النبي ﷺ لإظهاره الإسلام فأنزل الله في حقه وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84] نسأل الله العافية.
وهذا فيه عبرة وعظة وذكرى وأن المؤمن الداعي إلى الله لا ..... إلى أعداء فقد آذوا الرسل قبله وآذوا أهل الإيمان قبله، فالواجب عليه أن يصبر ويحتسب ويمضي في سبيله وفي دعوته إلى الله متحملا ما في ذلك من الأذى صابرًا على ما يناله من ذلك يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، هكذا أهل الإيمان في الأمم قبلنا وفي هذه الأمة المحمدية صبروا حتى بلغوا ما عليهم وجعل الله لهم العاقبة الحميدة في الدنيا وفي الآخرة كما قال فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] الله المستعان.
س: بالنسبة للإنسان إذا أظهر النفاق وهو يدعي أنه مسلم هل يصلى عليه؟
الشيخ: لا ما يصلى عليه لأنه منافق كافر إذا ثبت عنه أنه منافق ما يصلى عليه.وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۝ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد ﷺ، وأن ينوهوا بذكره في الناس، ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسالكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي ﷺ، أنه قال: من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار.
الشيخ: وهذا يدل على وجوب البيان على أهل العلم والدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته وتحذير الناس مما نهاهم الله عنه من الشرك والمعاصي والمخالفات ولهذا قال : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187] هم اليهود والنصارى هم أهل الكتاب التوراة والإنجيل وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني العلم وَلَا تَكْتُمُونَهُ العلم بمحمد عليه الصلاة والسلام أخذ الله عليهم الميثاق أن يبينوا ما عندهم من العلم بمحمد ﷺ وأن الله باعثه في آخر الزمان وأنه يبعث في العرب وأنه في مكة ثم في المدينة عندهم علوم بهذا ولكن جحدوها وأخفوها حسدًا وبغيًا وكراهة أن يكون هذا النبي في العرب وكراهة أن ..... ويتبعوه ..... مآكلهم التي قد تكون عند بعض الناس  يمنعوها إذا تابعوا محمدًا عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أنهم آثروا  الدنيا والحظ العاجل وقدموا مالهم عند الناس من حظوظ دنيوية ومكانة ومنزلة ورياسة وخافوا أن تذهب عليهم إذا تابعوا محمدًا ﷺ وبينوا أمره وأوضحوه للناس، فلهذا غضب الله عليهم ومقتهم وبين خسارهم ودمارهم وأنهم باعوا الدنيا بالآخرة، ..... والنصارى يغلب عليهم الجهل، أما اليهود فعندهم علوم كثيرة لكنهم ضيعوها وباعوها بالحظ العاجل ولم يستجيبوا لداعي الله ولم يعملوا بعلمهم فخسروا الدنيا والآخرة وباؤوا بغضب من الله على غضب، واستحقوا عذابه جل وعلا ومقته واستحقوا السمعة السيئة والذم في الدنيا والآخرة، وفي هذا تحذير أيضاً لأمة محمد ﷺ مما فعله اليهود فإن اليهود قوم بهت وقوم مغضوب عليهم وقوم باعوا الآخرة بالدنيا فلا يجوز لأهل الإيمان من أمة محمد أن يشابهوهم أو يقلدوهم أو يسيروا على مسيرتهم أو يسلكوا مسلكهم فإنه مسلك خبيث مسلك وخيم، فالواجب على الأمة أن يحذروا ذلك وأن يبينوا ما عندهم من العلوم للناس ويشرحوها للناس ويوضحوها للناس سئلوا أو لم يسألوا، فإذا سئلوا ولم يجيبوا صار الأمر أشد ولهذا في الحديث: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" وفي لفظ: "من سئل عن علم علمه وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" وفي هذا المعنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159، 160] وبين أن من كتم العلم ولم يبين يلعنه الله ويلعنه اللاعنون من خلقه وأنه لا يسلم من هذا إلا إذا كان ..... وبين ما عنده تاب إلى الله وأصلح في عمله وبين ما عنده من العلم.
ومعلوم أن الناس في حاجة إلى العلم، والطريق إلى الله لا بدّ أن يكون من طريق ما جاءت به رسله فإذا كتم العلماء العلم لم يعرف الناس هذا الطريق ولم يتبينوه حتى يسلكوه فلا طريق إلى معرفة الطريق الذي يوصل إلى الله وإلى الجنة والكرامة إلا من طريق الرسل، فإذا كتم العلماء ما عندهم لم يعلم الناس الطريق، فالواجب البيان والإيضاح في كل مكان وفي كل زمان، وما جاء به الرسول ﷺ من العلم والهدى وبيان طريق الحق الذي من سلكه نجا ومن تخلف عنه هلك والحذر من الكتمان لحظ عاجل فإن هذا هو طريق المغضوب عليهم وهو طريق الضالين وهو طريق علماء السوء فلا يجوز للمؤمن أن يتبعهم ولا أن يقلدهم في ذلك ولا أن يتشبه بهم في ذلك.
وقوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ : من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلة. وفي الصحيح أيضا المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين، فقال ابن عباس: وما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ۝ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.
وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما، وابن أبي حاتم، وابن جرير، والحاكم في مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه، ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فذكره.
الشيخ: والمعنى أن من فرح بما أتى بكتمان العلم وعدم بيان العلم أو بما أتى من المعاصي والبدع والخرافات وما يخالف أمر الله وأحب أن يحمد بما لم يفعل فهو متشبه باليهود في عملهم القبيح فله عذاب أليم بما أتى من كتمان العلم وتشبه في أعداء الله وفرحه بأشياء يتزين بها ويتظاهر بها وهو ليس من أهلها رياء وسمعة.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله ﷺ، كان إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ فإذا قدم رسول الله ﷺ من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا الآية، وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه.
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، قال: كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال: يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل؟ فقال أبو سعيد: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناسا من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله ﷺ بعثا، فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح، فقال مروان: أين هذا من هذا؟ فقال أبو سعيد: وهذا يعلم هذا؟ فقال مروان: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم صدق أبو سعيد، ثم قال أبو سعيد: وهذا يعلم ذاك- يعني رافع بن خديج-، ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة، فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على ما شهدت لك، فقال أبو سعيد: شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم، عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد ، وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم، فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، والله أعلم.
الشيخ: يعني عامة فيمن جحد الحق وأنكره وجحد ما فعله من الأشياء التي فعلها رياء وسمعة، ولا فرق بين ما فعله منافقين من تخلفهم عن الغزو واعتذارهم بأشياء باطلة يفرحون بما قالوا وهم ليسوا كذلك، فكل من جحد الحق وأنكره واستحسن الباطل أو ادعى ما ليس له وزعم أنه فعله فهو داخل في هذا، فإن الواجب إظهار الحق وبيانه والدعوة إليه وعدم الرياء وعدم السمعة، فمن ستر الحق وأخفاه وأحب ما أتى من ذلك أو فعل الباطل وزينه للناس وأحب ما فعله من ذلك أو تظاهر بأعمال صالحة رياء وسمعة وأحب أن يحمد بما لم يفعل من أشياء أخرى لم يفعلها كل ذلك داخل في هذه الآية التي فيها تحذير وهو يعم عمل اليهود ويعم عمل المنافقين نسأل الله العافية.
أما كون الإنسان يحب أن يحمد بما ظهر من الخير ولم يرائي الناس، ولكنه بلغه الخير الذي فعله وبلغه أن الناس يثنون عليه ويرضون ما عمل ويشكرونه فهذا مثل ما قال النبي ﷺ: تلك عاجل بشرى المؤمن ما دام لم يقصد رياء ولا سمعة وإنما عمل لله وتعبد لله ولكن بلغه ما بلغه من رضا الناس لعمله وشكرهم له على عمله وحمدهم له على عمله فسر بذلك وفرح بذلك لا يضره ذلك،كذلك كما في الحديث الصحيح عن أبي ذر أنه سأل النبي ﷺعن ذلك فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن كونه يثنى عليه في الدنيا ويثنى عليه في الآخرة من غير رياء ولا سمعة  ولا تعد لحدود الله ولا كتمان لحق الله.
س: من أحب أن يحمد بما لم يفعل ولم يتسمع؟
الشيخ: لا ينبغي له الآية تعم، كونه ما فعل شيئًا ويحب أن يحمد بشيء ما فعله، كأن يقال له أنه متهجد بالليل وأنه متصدق وهو ما فعل شيء. هذا فيه شبهة.
س: كلام ابن عباس يدل على ...؟
الشيخ: هذا في اليهود، ابن عباس أخبر عن اليهود وأبو سعيد وزيد ورافع أخبروا عن المنافقين والآية تعم الجميع.
س: قوله: أين هذا من هذا؟
الشيخ: هذا من كلام ابن عباس، ولكن الصحابة الثلاثة ذكروا العموم.
وقد روى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري، عن محمد بن ثابت الأنصاري، أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون هلكت، قال لم ؟ قال: نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهوري الصوت، فقال رسول الله ﷺ ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ فقال: بلى يا رسول الله. فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب.الشيخ: وهذا ليس من ذاك ولهذا ما أنكر عليه النبي ﷺ ذلك، فإن كونه يحب الحمد على من فعل الخير وعلى من فعل المعروف لا يضره ذلك لأنه يشجعه ويعينه، وكونه يحب الجمال فليس من الخيلاء، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا فقال له رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، هل ذلك من الكبر؟ فقال: لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس وليس محبة الجمال وكذلك رفع الصوت إذا كان لم يقصد برفع الصوت المخالفة ولا إيذاء النبي ﷺ وإنما رفعه لعلة وأسباب، وكان ثابت خطيب النبي ﷺ إذا جاء الوفود كان هو الخطيب الذي يرفع صوته ليبلغ ما جاء به النبي ﷺ ويبين شمائل النبي وأخلاقه عليه الصلاة والسلام ويبين محاسن الإسلام ومكارم الأخلاق، هذا ليس من باب رفع الصوت على النبي ﷺ  بل هو من باب البلاغ ومن باب البيان عن رسول الله ﷺ والدلالة على ما جاء به الإسلام من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي ترغب الناس في الدخول فيه.
وهكذا الخطيب في مسجده ﷺ إذا كان يخطب الجمع عن الوعظ لإبلاغ الناس ليس من رفع الصوت الذي نهي عنه عند النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد، وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
 ثم قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي هو مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، والتقدير الذي لا أقدر منه.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ۝ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ۝ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهود، فقالوا: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، فأتوا النبي ﷺ فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه، فنزلت هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فليتفكروا فيها.
وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية، وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة، والله أعلم، ومعنى الآية أن الله تعالى يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات، وزروع وثمار، وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والروائح والطعوم والخواص.
الشيخ: وفي كلها آيات، الله جل وعلا خلق السماوات وجعله آية عظيمة ولهذا قال سبحانه لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] ففي خلق السماوات والأرض آيات وعبر لمن تدبر وتعقل، السماوات في ارتفاعها وعظمتها وارتفاعها وحملها ما فيها وهي على غير عمد في الفضاء من آياته العظيمة كل ما فيها من هذه الكواكب السيارات والثوابت وغير ذلك والأرض هذه في اتساعها وكثافتها وجبالها وأنهارها وبحارها وحيواناتها ومعادنها وأشجارها وسائر ما فيها من العجائب كلها آيات عظيمة دالة على قدرة الباري وأنه رب العالمين وأنه المستحق لأن يعبد في الأرض جل وعلا وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا. وكل ذلك تقدير العزيز العليم، ولهذا قال تعالى: لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون.الشيخ: يعني هذه العبر إنما هي لأولي الألباب يعني أولي البصائر والعقول النيرة الحية الصحيحة التي تفكر وتعقل وتفهم، أما القلوب المنحرفة التي قد أعمى الله بصيرتها فلا تنتبه لشيء صم بكم عمي فهم لا يعقلون؛ لأنهم ليس عندهم من البصائر ما يقبلوا به الأشياء بل قلوبهم في عمى وفي صمم وبعد عن الهدى ورضا بالشهوات والحض العاجل.
الذين قال الله فيهم وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۝ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105، 106] ثم وصف تعالى أولي الألباب، فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ. كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين: أن رسول الله ﷺ قال صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.الشيخ: والمعنى أن أوقاتهم مشغولة وليسوا غافلين بل هم ذاكرون لله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم وسائرون وواقفين في جميع أحوالهم، ذكر الله جل وعلا ليس زائلاً عنهم وليسوا بغافلين عنه، بل هم مشغولون بذكر الله بالقلوب والألسنة والجوارح، والذكر يكون بالعمل كالصلاة ونحوها، ويكون باللسان كالتهليل، ويكون بالقلوب كخوف الله ومحبته وتعظيمه .. ما يستحق ، والتفكر في دلائل قدرته وعظمته جل وعلا كل ذلك من الذكر الذي شرعه الله وعظم أهله ، ثم التفكر الذي يفيدهم وينفعهم في دنياهم وأخراهم.
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته.
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار.
وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقال الفضيل قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبى لمن كان قيله تذكرا وصمته تفكرا، ونظره عبرا، وقال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة، وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبدالعزيز: الكلام بذكر الله حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها. وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله.
وقال عبدالله بن المبارك: مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة، فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر: كنز الرجال، وكنز الأموال.
الشيخ: والمعنى أن الدنيا تصير إلى هذا، كنز الرجال يعود إلى المقبرة، وكنز الأموال يعود إلى المزبلة، ففي هذه عبر أموالهم التي جمعوا تجعل في المآكل والمشارب ثم تؤول في العاقبة إلى المزابل فهذا كنز الأموال، وكنز الرجال هذه المقابر كل ميت ينتهي وينقل إلى المقبرة، يعني فاعتبر فأنت صائر إلى هذا فإن المقابر هي مصير الناس ثم بعد المقابر ما هو أشد وما هو أعظم من النشر والحساب والجزاء، ثم ما يدري أين المنصرف هل ينصرف إلى الجنة أو إلى النار. وأما المزابل فهي  نهاية أموال الناس وهي غاية أموال الناس وما يجمعون في الأغلب تنتهي إلى بطونهم وبطونهم ينتهي ما خرج منها إلى المزابل.
وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين، فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]الشيخ: والخرابات التي في الصحاري فيها عبر، كانت مسكونة ثم ذهب أهلها وتركوها، الديار كان فيها أقوام ذهبوا وتركوها.
وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه.
وقال الحسن البصري: يا ابن آدم، كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة.
الشيخ: وهذا معنى الحديث الذي رواه أحمد وبعض أهل السنن عن المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ أنه قال: ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه.
وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة، انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة.
وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس، قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر.
وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلم عينيك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد.
وعن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز ، أنه بكى يوما بين أصحابه، فسئل عن ذلك، فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر.
وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبدالرحمن:
نزهة المؤمن الفكر لذة المؤمن العبر
نحمد الله وحده نحن كل على خطر
رب لاه وعمره قد تقضى وما شعر
رب عيش قد كان فوق المنى مونق الزهر
في خرير من العيون وظل من الشجر
وسرور من النبات وطيب من الثمر
غيرته وأهله سرعة الدهر بالغير
نحمد الله وحده إن في ذا لمعتبر
إن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبر
.............. 
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105- 106] ومدح عباده المؤمنين الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض قائلين رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا أي ما خلقت هذا الخلق عبثا، بل بالحق لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل، فقالوا سُبْحَانَكَ أي عن أن تخلق شيئا باطلا فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل.
الشيخ: وهذا يبين أنه ينبغي لأهل الإيمان أن يكون لهم عناية بهذه الآيات، والتفكر في الحكمة حتى يستفيدوا من ذلك ما يوجب لهم الخضوع لله والاستقامة على أمره والمحافظة على دينه والحذر عما نهى عنه ، فإن هذه السموات وهذه الأرض وما فيها من العجائب والمخلوقات المتنوعة كلها من الدلائل على قدرته العظيمة وأنه رب العالمين وأنه الخلاق العليم وأنه المستحق لأن يعبد ، ولهذا قال في صفة أولي الألباب: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] وذم الجهلة والكفرة فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105] يعني هناك آيات في السماوات هذه النجوم والكواكب السيارة والثابتة وهذه الشمس وهذا القمر آيات وعجائب وعبر، ولكن ليس هناك من يعتبر ويتأمل ويتعظ إلا القليل، ولهذا قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كأين كثير يعني آيات كثيرات، كأين وكم كلها تدل على الكثرة، فالمعنى آيات كثيرات في الأرض يمرون عليها وينظرون إليها ويشاهدونها بأعينهم ولكن لا يتأملون ولا يتدبرون ولا يتعقلون كأنهم ما رأوا شيئًا، وهذا من غلظ القلوب وجهالتها وعدم عنايتها بما ينبغي لها أن تعتني به.
والمعنى الحث على الإقبال على تدبر هذه المخلوقات والنظر فيها بعين الاعتبار والاستفادة منها وأنها لم تخلق عبثًا ولا سدى، ولكنها خلقت لحكمة عظيمة ليعتبر بها أولوا الألباب وليستفيدوا منها عظمة الخالق سبحانه وأنه المستحق لأن يعبد ويعظم ويطاع أمره وينتهى عن نهيه، ولهذا قال في الآية الأخرى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3] ليس لهم عناية ولا تدبر ولا تعقل والله يقول في الآية الأخرى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] و يقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105-106] يعني آيات متعددة كثيرة لكن لا يتبصرون فيها ولا يتدبرونها ولا ينظرون فيما خلقت من أجله حتى يستفيدوا وحتى ينتبهوا  وحتى تكون هذه الآيات ... لخضوعهم لله وتعظيمهم لله وذلهم بين يديه واستكانتهم له وأداءهم حقه وبعدهم عما يغضبه .فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل،  يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم. ثم قالوا رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ أي يوم القيامة لا مجير لهم منك. ولا محيد لهم عما أردت بهم.الشيخ: يعني ما هناك شر أعظم من شر من سيق إلى النار على رؤوس الأشهاد، نعوذ بالله من سيق إلى النار على رؤوس الأشهاد فقد أخزي غاية الخزي نسأل الله العافية، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وفضحته على رؤوس الأشهاد بسبب كفره ومعاصيه وضلاله، فينبغي للعاقل أن يحذر هذه الفضيحة وهذا الخزي يوم القيامة، وذلك بالاستقامة على أمر الله والحذر من معاصيه والوقوف عند حدوده حتى يكون من وفد الجنة ومن السعداء الذين ..... الله يوم القيامة الفضل العظيم والصفات الحميدة والآيات التي تدل على كمال استقامته وكمال خضوعه لله وعلى فضل قيامه بحقه ، تنشر لهم آيات الفضائل ودلائل الفضائل وما يدل على سعادتهم وناجاتهم وينادى أين فلان ابن فلان، بخلاف أولئك الضالين الذين ينادى عليهم بالخزي والدمار والفضائح، ولهذا في الحديث الصحيح يقول ﷺ: يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه- عند مقعدته- يقال له: هذه غدرة فلان بن فلان يرفع له لواء ينظر إليه ويشاهد علامة على أنه كان في الدنيا غادرًا ناقضًا للعهود غير مستقيم على أمر الله نسأل الله العافية.رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أي داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول ﷺ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي يقول آمنوا بربكم فآمنا، أي فاستجبنا له واتبعناه، أي بإيماننا واتباعنا نبيك، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أي استرها، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا فيما بيننا وبينك، وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ أي ألحقنا بالصالحين.الشيخ: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا يعني استرها علينا وامحها عنا، يعني اغفر لنا الذنوب استرها علينا لا تفضحنا وامحها عنا .... هكذا أهل الإيمان وأهل التقوى يسألون ربهم جل وعلا غفر الذنوب وتكفير السيئات،كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ فهم يسألون ربهم غفرانها ومحوها عنهم وسترها عليهم، ومحوها من صحائفهم.رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ قيل: معناه على الإيمان برسلك، وقيل: معناه على ألسنة رسلك. وهذا أظهر.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد، عن أبي عقال، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله ﷺ عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وفودا إلى الله، وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة في أيديهم تثج  أوداجهم دما، يقولون ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضا. فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا وهذا الحديث يعد من غرائب المسند، ومنهم من يجعله موضوعا، والله أعلم.
الشيخ: والله وعد عباده على ألسنة الرسل جزاءهم فأهل الإيمان بشرهم الله جل وعلا أن يؤتيهم ما وعدهم على ألسنة الرسل من دخول الجنة والنجاة من النار، والشهداء موعودون بأنهم من أهل الجنة فيسألون الله جل وعلا أن يعطيهم ما وعدهم من ذلك وهو يفيهم فإنه لا يخلف الميعاد ولكنه يفي بوعده جل وعلا ولا يخلف وعده قال جل وعلا: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] فهم في الجنة يسرحون فيها وأرواحهم ترجع إلى قناديل معلقة تحت العرش حتى يردها الله إلى أجسادها يوم يبعثون وهم في البرزخ ينعمون ويسرحون في الجنة حيث شاؤوا، أرواحهم ترجع إلى قناديل معلقة في العرش تكون فيها وتأوي إليها، وهكذا أرواح المؤمنين تسرح في الجنة كالطائر يعلق في شجر الجنة ويأكل من ثمارها حتى يردها الله إلى أجسادها يوم القيامة، فالمؤمنون عمومًا والشهداء خصوصًا موعودون بالجنة والكرامة والله سبحانه سوف يعطيهم ما وعدهم به وينجز لهم ما وعدهم بهم حين يقوم الأشهاد حين تقوم الساعة حين يحشر الناس إلى الله جل وعلا وحين ينصرف الناس من ذلك المجمع العظيم إلى الجنة أو إلى النار، فريق في الجنة وفريق في السعير، فالمؤمنون والشهداء بوجه أخص يدخلون الجنة، وأهل الكفر بالله والنفاق والضلال يحشرون إلى النار نعوذ بالله من ذلك، وأهل المعاصي على خطر عظيم منهم من يعفى عنه لأعماله الصالحة وتوحيده وإخلاصه، ومنهم من يساق إلى النار بأعماله السيئة التي مات ولم يتب منها حتى يطهر وحتى يمحص من سيئاته ثم بعد هذا يخرج من النار إلى الجنة.
.............. وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي على رؤوس الخلائق، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك، وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سريج، حدثنا المعتبر، حدثنا الفضل بن عيسى، حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبدالله حدثه أن رسول الله ﷺ قال: العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار حديث غريب.
وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله ﷺ مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني، عن ابن أبي مريم به. ثم رواه البخاري  من طرق عن مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي ﷺ وهي خالته، قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله ﷺ وأهله في طولها، فنام رسول الله ﷺ حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله ﷺ من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها، فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله ﷺ يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به. ورواه مسلم أيضا وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به.

الشيخ: وهذا يدل على فضيلة قراءة هذه الآيات وأنه يستحب لمن قام من النوم أن يقرأ هذه الآيات من سورة آل عمران وهي آخرها العشر الآيات من قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] كما قرأها النبي ﷺ عند قيامه من النوم وجعل يمسحه عن وجهه ويقرأ هذه الآيات حتى أكملها عليه الصلاة والسلام تأسيًا به ﷺ، ولأن في هذه الآيات من العظة والذكرى ما يجعل المؤمن يتدبر ويتعقل ما فيها من المعاني والأحكام وما ترشد إليه من القيام بأمر الله والعناية بطاعته وعبادته والحذر من مشابهة أعدائه والاستقامة على ما أمر به والصبر على ذلك.
وفيه أيضاً شرعية الاستنان،...... فالسنة أن يستاك عند الوضوء ويستاك عند الصلاة اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام.
وفيه أيضاً من الفوائد أن الإنسان إذا قام عن يسار الإمام ينقل إلى يمينه، ولهذا أخذ النبي ﷺ بأذنه ونقله إلى يمينه، فالواحد يقف عن اليمين مع الإمام لا يقف عن يساره ولكن عن يمينه، فإذا كان المأمومين اثنين وقفا خلفه وهكذا إذا كانوا أكثر من اثنين.
.............. 
س: صلاة الليل تصلى جماعة؟
الشيخ: لا بأس لكن لا تكون عادة إنما حسب الاتفاق والمصادفة.

........