12 من قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ۝ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ۝ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
طريق أخرى: لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، أنبأنا خلاد بن يحيى، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبدالله بن عباس، عن عبدالله بن عباس، قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله ﷺ وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله ﷺ بالناس صلاة العشاء الآخرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره، قام فمر بي، فقال: من هذا؟ عبدالله؟ قلت: نعم، قال: فمه؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة. قال: فالحق الحق فلما أن دخل قال: افرشن عبدالله؟ فأتى بوسادة من مسوح.
.............. 
قال: فنام رسول الله ﷺ عليها حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه قاعدا، قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه حديثا في ذلك أيضا.
الشيخ: هذه زيادة سبحان الملك القدوس هذه زيادة معروفة والحديث رواه الشيخان في الصحيحين وليس فيهما هذه الزيادة ولم يرد فيهما أن العباس أمره أن يحضر، وإنما ذكر أنه بات عند خالته ميمونة فسمع النبي ﷺ لما قام من نومه يقرأ هذه الآيات، في رواية أنه نظر إلى السماء ثم قرأ هذه الآيات إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ [آل عمران:190] هذا المحفوظ.
 طريق أخرى: رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] إلى آخر السورة ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يدي نورا، ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا، ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس .
ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتت قريش اليهود، فقالوا: بم جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا النبي ﷺ فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه ، فنزلت إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] قال: فليتفكروا فيها، لفظ ابن مردويه.
وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الآية، وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية، والمشهور أنها مدنية، ودليله الحديث الآخر. قال ابن مردويه: حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن علي الحراني، حدثنا شجاع بن أشرس، حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم عن الكلبي وهو أبو جناب، عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا. فقال ابن عمر: ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ﷺ، فبكت وقالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال ذريني أتعبد لربي  قالت: فقلت والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد لربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قالت: فقال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن أبي جناب الكلبي عن عطاء قال: دخلت أنا وعبدالله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها، فسلمنا عليها، فقالت: من هؤلاء؟ قال: فقلنا: هذا عبدالله بن عمر وعبيد بن عمير. قالت: يا عبيد بن عمير. ما يمنعك من زيارتنا، قال: ما قال الأول: زر غبا تزدد حبا. قالت: إنا لنحب زيارتك وغشيانك. قال عبدالله بن عمر: دعينا من بطالتكما  هذه، أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله ﷺ قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي، حتى لصق جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي. قالت: إني لأحب قربك وأحب هواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه، قالت: ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم بكى حتى رأيت دموعه بلغت حجره، قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده، قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر، ثم قال: الصلاة يا رسول الله، فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ ومالي لا أبكي وقد نزل علي الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ إلى قوله سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ثم قال: ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها.
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سويد النخعي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه.
وهكذا رواه عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبدالعزيز: سمعت سنيدا يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه، قال من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله يعد بأصابعه عشرا. قال الحسن بن عبدالعزيز: فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن. قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم، حدثنا علي بن عياش، حدثنا عبدالرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هنية ثم قال: يقرؤهن وهو يعقلهن.
الشيخ: وهو يعقلهن يتدبرهن يتدبر ما فيها من المعاني لا يتلوها بلسان مجرد قراءة الألفاظ، بل يكون المؤمن في تفكر وتدبر ولهذا قال سبحانه في الآية الأخرى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] المهم التدبر والتعقل والعمل لا مجرد قراءة الألفاظ، وإن كانت قراءته عبادة وفيها أجر لكن ليس المقصود مجرد التلاوة، المقصود من هذا الكتاب العظيم التدبر والتعقل والعمل ولهذا ذم الله من لم يتدبر فقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فالأمر يحتاج إلى عناية من القارئ من التدبر والإقبال ليستفيد إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ  [الإسراء:9] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] وهذا إنما يحصل بالتدبر والنظر والتأمل للمعاني والاستفادة.
حديث آخر: فيه غرابة: قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبدالرحمن بن بشير بن نمير، حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي (ح) قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو قال: أنبأنا هشام بن عمار، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله ﷺ يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.الشيخ: المعنى صحيح لأنه كان يقرأها إذا قام من النوم عليه الصلاة والسلام يقرأها ويمسح وجهه بيده عليه الصلاة والسلام إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190]  إلى آخرها حتى يكمل السورة عليه الصلاة والسلام.
س: من السنة أن استئذان زوجته عند قيام الليل؟
الشيخ: لا ما هو بلازم هذا لو صح لكان من باب  الملاطفة لكن غالب روايات ابن مردويه وأشباهه ضعيفة......
س: هذا الوعيد ثابت لمن يقرأها ولم يتدبرها؟
الشيخ: كل هذه الروايات في صحتها نظر،.... والتفكر والتدبر يستحب! حث الله عليه ورغب فيه وهو بالجملة واجب ومتعين لأنه طريق إلى الفائدة.
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
يقول تعالى: فاستجاب لهم ربهم أي فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر:
وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من آل أم سلمة، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا، وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إلى آخرها، رواه ابن مردويه.
ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] وقوله تعالى: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مجيبا لهم أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي جميعكم في ثوابي سواء،  فَالَّذِينَ هَاجَرُوا أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران،  وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجأوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة:1] وقال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] وقوله تعالى:  وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه.
وقد ثبت في الصحيحين أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال نعم ثم قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال، فقال: نعم، إلا الدين، قاله لي جبريل آنفا.
الشيخ: لأن الدين لا يسقط بالشهادة في سبيل الله لأجل يوفى صاحبه أجره ولا يضيع على صاحبه، ولكن الشهيد موعود بالجنة والكرامة وإن كان عليه دين لكن لا يسقط دين الناس بل يعطون حقوقهم والله إذا رضي عن العبد وأكرمه .... وقضى عنه الدين فالديون لا تضيع والله لا يضيع حق الناس، بل يدخره لهم أعمالهم وينميها لهم ويريبها لهم ويضاعفها لهم ، وهذا من فضله وجوده أن من قاتل في سبيله أو جاهد في سبيله أو عمل أي عمل في سبيله فإن عمله محفوظ ...... عند الله ، قل أو كثر.
.............. 
 ولهذا قال تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله  ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا، كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراما وإن يعط... جزيلا فإنه لا يبالي
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال: قال الوليد بن مسلم، أخبرني حريز بن عثمان أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس، لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يبغي على مؤمن، فإذا أنزل بأحدكم شيء مما يحب، فليحمد الله، وإذا أنزل به شيء مما يكره، فليصبر وليحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب.
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ۝ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ۝ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ
يقول تعالى: لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا، وجميع ما هم فيه متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد وهذه الآية كقوله تعالى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر:4]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69،  70]، وقال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24].
الشيخ: وهذا واضح في توجيهه لعباده إلى أن لا يغتروا بالكثرة وما أعطوا من التقلب في البلاد والنعم الكثيرة والتنقلات بين أنواع النعم وبين صنوف البلاد كل ذلك متاع قليل لا ينبغي للعاقل أن يغتر به فإن الله يمدهم بهذا استدراجًا .... وعذابهم كما قال جل وعلا: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183]، ولهذا قال : وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] وهنا قوله : لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ۝ متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [آل عمران:196، 197] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بما أعطي من النعم من أموال ومراكب ومساكن وغير هذا فإنه كله متاع قليل والله ذكر لهذه الدنيا البقاء .... ونهايتها فلو أخذ كل بذنبه وكل كافر بذنبه لم يبق على وجه الأرض كافر ولا مؤمن ولرجع الناس كلهم إلى الحق ولكن الله بعلمه أنه يبتلي هؤلاء ويبتلي هؤلاء، فمن صبر واحتسب واستقام على الحق فله العاقبة الحميدة ومن اغتر بالعاجلة ومن شابه أهلها أو اغتر بما أعطيه من النعم حتى استعملها فيما يسخط الله فهو الهالك من حيث ظن أنه .... من حيث غفل عن مصيره نسأل الله العافية! .... إلى أسوأ حال لمن لم يشكر الله ولم يستقم على أمره بل غره الغرور وغره الشيطان. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال تعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:17] أي قليلا، وقال تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61] وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار، قال بعده: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ.الشيخ: خير للأبرار مطلقًا سواء كانوا في الدنيا أغنياء أو فقراء فهو خير لهم، ما يعطيهم الله يوم القيامة من النعيم ينسيهم ما مضى عليهم في الدنيا من شدة وفقر وغير ذلك، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فإذا أدخل النار سئل هل مر بك نعيم قط فيقول: ما مر بي نعيم قط، ينسى كل شيء، ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤسًا من أهل الجنة فيدخل الجنة، فيقال: هل مر بك شدة؟ فيقول: لا يا رب نسي ما أصابه من شدة في الدنيا ولواء في الدنيا أو مرض أو فقر أو غير ذلك كله زائل.
.............. 
وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن نصر، حدثنا أبو طاهر سهل بن عبدالله، أنبأنا هشام بن عمار، أنبأنا سعيد بن يحيى، أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي ﷺ قال إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» كذا رواه ابن مردويه عن عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن جناب، حدثنا عيسى بن يونس عن عبيدالله بن الوليد الوصافي، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قال: إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق، وهذا أشبه، والله أعلم
الشيخ: ...] الأبرار معروفون هم الذين بروا في أعمالهم وأقوالهم في حق الله وفي حق عباده هم الأبرار الذين أدوا الحق لله ولعباده ولهذا سموا أبرارًا، والأبناء لهم حق تربيتهم والإحسان إليهم والإنفاق على محتاجهم كما أن حق الآباء والأمهات في البر والإحسان إليهم هو أكبر وأعظم من حق الأولاد فهم أدوا حق الله وأدوا حق العباد فسموا أبرارًا لأجل برهم في أعمالهم وأقوالهم في حق الله وحق عباده فصارت الجنة مأواهم ومصيرهم.
 ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن، قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذر.الشيخ: والمقصود أن الأبرار هم الذين لا يظلمون الناس ولا يؤذون عباد الله ولا خلق الله.
وهذا ضعيف عن الحسن لأن فيه هذا الرجل المبهم والمعنى أنهم هم الذين لا يعتدون على الناس ولا على الخلق لو صح، فإن الذر لا يقتل إلا بحق فالحاصل أن البار والمؤمن شأنه أنه لا يتعدى على أحد لا على ... المكلفين ولا على غيرهم.
 وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خيثمة عن الأسود، قال: قال عبدالله يعني ابن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها، لئن كان برا لقد قال الله تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وكذا رواه عبدالرزاق عن الأعمش عن الثوري به. وقرأ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178].الشيخ: أما الكافر ... الموت خير له، لأنه كلما زاد في الحياة زاد في الشر وزاد في الإثم نعوذ بالله، أما المؤمن فقد أخبر النبي ﷺ أن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيرًا، فالمؤمن إذا طال عمره في الإسلام زاد خيرًا وصارت حياته نافعة له، وما عند الله خير للأبرار وإن الدنيا لا قيمة لها، ما عند الله لأهل الإيمان خير لهم لكن ليس المعنى أن .... خيرًا له وهو مؤمن تقي فإن المؤمن تزداد حسناته ويزداد عمله الصالح كلما طالت حياته ولهذا في الحديث: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله" وكذا من قوله .... فيما يتعلق بالمؤمن لأن المؤمن إذا رزقه الله الاستقامة وعافاه من الفتن فحياته تزيده خيرًا كلما زاد في الحياة زاد في الأعمال الصالحات وزاد في الحسنات حتى يدخل الجنة ولا ينافي هذا قوله سبحانه: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ يعني ليس معنى الآية أن معناها أن ما عند الله خير للبار إذا مات .... النعيم الذي في الجنة خير من نعيم الدنيا، وأما الكافر فلا شك أن حياته تضره.
.............. 
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر عن فرج بن فضالة، عن لقمان عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ويقول وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178].
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه،  لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد ﷺ وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودا أو نصارى،
الشيخ: وهذا ممن من الله عليهم ورزقهم الاستقامة ونفعهم الله بما علموا من التوراة والإنجيل كعبدالله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود والنصارى، نفعهم الله بعلمهم السابق، وهداهم إلى الإيمان فآمنوا بالرسل الماضين وآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فتمت لهم السعادة.
وقد قال تعالى في سورة القصص: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ۝ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ۝ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:52-54].
 وقد قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة:121]. وقد قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159]، وقال تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]، وقال تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ۝ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109] وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا كما وجد في عبدالله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود، ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق.
الشيخ: يعني أفضل وألين أقرب إلى الدخول في الإسلام من اليهود لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] فالنصارى أقل علمًا وأقل عنادًا  من اليهود واليهود أكثر علمًا وأكثر عنادًا نسأل الله العافية الذين اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً باعوا الآخرة بالدنيا، أما هؤلاء المؤمنين فلم يشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً بل آثروا ما عند الله وتابعوا الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وصدقوا بالحق فنفعهم علمهم وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء .
وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] إلى قوله تعالى: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [المائدة:85] ، وهكذا قال هاهنا  أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الآية.
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب ، لما قرأ سورة كهيعص بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة، بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي ﷺ إلى أصحابه وقال إن أخا لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه.
الشيخ: في الرواية المشهورة أنه لما  سمع سورة مريم أخذ قذاة من الأرض وقال ما زاد هذا على ما جاء به عيسى مثل هذا وقال: هذا هو الحق. أما الذين ماتوا على دين عيسى وعلى دين موسى فهم من أهل الحق وهم من طوائف الحق ومن الفرقة الناجية وإنما الفرق التي هلكت هي التي خالفت ما جاء به موسى وعيسى، ثم لما أدركوا محمدًا ﷺ هدى الله كثيرًا من النصارى ودخلوا في دين الله وابتعد اليهود وكذبوا وكذبوا نسأل الله العافية ولم يسلم منهم إلا النادر.
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله ﷺ استغفروا لأخيكم فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة.الشيخ: وهذا إن صح فهذا من المنافقين هذه العبارات وأشباهها تصدر من أهل النفاق الذين ما عندهم إيمان بالنبي ﷺ وهم ينتهزون الفرص حتى يلقوا بعض الكلمات الرديئة.
 فنزلت  وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ الآية، ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن عن النبي ﷺ، ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد، عن أنس بن مالك، بنحو ما تقدم ورواه أيضا ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ حين مات النجاشي إن أخاكم أصحمة قد مات، فخرج رسول الله ﷺ فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعا، فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة، فأنزل الله: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية .
وقال أبو داود «: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
وقد روى الحافظ أبو عبدالله الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو العباس السياري بمرو، حدثنا عبدالله بن علي الغزال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا ابن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه، قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم، فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: لا، دواء بنصرة الله خير من دواء بنصرة الناس، قال: وفيه نزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ الآية. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد وإن من أهل الكتاب يعني مسلمة أهل الكتاب. وقال عباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قول الله  وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية، قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد ﷺ فاتبعوه، وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد ﷺ وبالذي اتبعوا محمدا ﷺ، رواهما ابن أبي حاتم.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى، قال: قال رسول الله ﷺ ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم: ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي.
الشيخ: وهذا فضل الله يعطيه أجره على إيمانه بمن سبق إيمانه بموسى وعيسى، ويعطى أجرًا ثانيًا على إيمانه بمحمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا فضل الله على أمة محمد يعطون أجرهم مرتين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28] فهو يضاعف لهذه الأمة الأجر ويثيبها على أعمالها الطيبة بأجور عظيمة بالمضاعفة فهو فضله يعطيه من يشاء .

وقوله تعالى: لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم، بل يبذلون ذلك مجانا، ولهذا قال تعالى:  أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، قال مجاهد: سريع الحساب يعني سريع الإحصاء، رواه ابن أبي حاتم وغيره.