01 من قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ..)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه، وهي عبادته، وحده لا شريك له، ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس، واحدة، وهي آدم ، وخلق منها زوجها، وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر، من خلفه، وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا، وكيع عن أبي هلال عن قتادة، عن ابن عباس، قال: خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.
الشيخ: هذا موقوف، والمعنى قريب، لكنه موقوف، وفيه انقطاع، فإن قتادة لم يسمع من ابن عباس، وقتادة أيضًا هنا عنعن، والمقصود أن ابن عباس لم يرفعه إلى النبي ﷺ، وقتادة لم يقل سمعته، ولم يقل حدثني، وهو أيضاً لم يلقه........
والحاصل أن الرجل نهمة المرأة بلا شك، والرجل أوسع منها كونه يتعلق بالأرض، وقد يتعلق بغير ذلك، لكن تعلقه بالأرض أكثر للزراعة، وطلب الرزق.
وفي قوله جل وعلا: واتَّقُوا اللَّهَ، وأن التقوى هي عبادته ، وأن العباد مخلوقون لهذا الأمر وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ، والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ، وإن لازم التقوى العبادة، والعبادة هي تقوى الله.......، وكلتاهما تقتضي مراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها فاعبدوا الله، واتقوا الله، وآمنوا بالله، ونحو ذلك، فالمعنى فيها يتحد، وهو توحيد الله بالعبادة، والاستقامة على أمره، واتقاء أسباب غضبه.
وفي الحديث الصحيح: إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها، وفيها عوج.
وقوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1] أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء:1] أي واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم، وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون، وتعاهدون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها، وصلوها.
الشيخ: وهذان المعنيان كلاهما ظاهر فإن من عادة الناس التساؤل بالأرحام، والرب قد حث على صلة الأرحام، وحذر من قطيعتها، الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ المراد بها أرحامنا.......... والمعنى به والأرحام.
واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وكلاهما مطلوب، فإن قطيعة الرحم من أقبح الجرائم، وصلة الرحم من أفضل القربات، والله أمر العباد أن يصلوا أرحامهم، وحذرهم من قطيعتها فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22] أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ، وأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23]، وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: لا يدخل الجنة قاطع رحم فهذا يدل على أن قطيعة الرحم من الكبائر لهذا الوعيد، وأما التساؤل بالأرحام مثل ما يقول الإنسان: أسألك بحق أخيك، بحق أبي عليك، بحق أخي، بحق عمي، بحق والدتي، تَسَاءَلُونَ بِهِ ويروى عن عبد الله بن جعفر أنه كان إذا شدد على عمه علي قال: أسألك بحق جعفر عليك يعني حقه الذي هو الصلة صلة الرحم.
هذا التساؤل بين الناس، أما سؤاله هو فلا يتوسل بالرحم ولا بغيرها، يسأل بأسمائه وصفاته، وبالأعمال الصالحات، ولا يسأل الله بحق فلان، ولا بجاه فلان.. بل هو بدعة، وإنما سؤال الله يكون بأحد أمور ثلاثة: إما الأسماء والصفات، وإما التوحيد والإيمان، وإما الأعمال الصالحات، فالأسماء والصفات مثل قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والتوحيد مثل ما في الحديث: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الحديث. والأعمال مثل قصة أصحاب الغار لما سألوا الله [في] غار، لما سألوا الله بأعمالهم الصالحة لما انطبقت عليهم الصخرة وعجزوا أن يحركوها، قالوا: إنه لن ينجيكم من ذلك إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فتوجهوا إلى الله وسألوه بأعمال صالحة عملوها، أحدهم سأله ببره بوالديه، والثاني سأله بعفته عن الفواحش، والثالث سأله بأدائه الأمانة، فأزاح الله عنهم الصخرة حتى خرجوا، وهذا من فضله سبحانه، ومن اطلاعه عباده على أسباب الإجابة، وعلى فضل الأعمال الصالحات، وأن لها أثرًا عنده سبحانه، ولاسيما بر الوالدين، والكف عما حرم الله، وأداء الأمانة، فإن هذه أعمال عظيمة، فلما سأل الأول ببر الوالدين تحركت الصخرة شيئا حتى رأوا السماء، ثم سأله الثاني بعفته عن الفواحش وعن الزنا بابنت عمه التي كان قد تمكن منها، ومكنته من نفسها بسبب حاجتها إلى المال، ثم ذكرته بالله لما جلس بين رجليها، وخوفته من الله ، فقام ولم يفعل شيئًا، وترك ذلك لله، وترك الذهب الذي أعطاها إياها، وقال: ربي إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئًا، لكن لا يستطيعون الخروج، ثم دعا الثالث بأداء الأمانة التي كانت عنده لبعض العمال، ونماها له لما أعطاه إياها، وقد نمت كثيرًا ففرج الله عنهم، فالمقصود أن التوسل لله يكون بهذا، بأسماء الله وصفاته، وبتوحيده ، والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وبالأعمال الصالحات، بالإيمان بالله، وببر الوالدين، وصلة الرحم، والكف عن المحارم، وأداء الأمانة، وحب الرسول ﷺ، والإيمان به، واتباع شريعته، والتعاون على البر والتقوى إلى غير هذا من أنواع البر.
س: ألا يسأل بحق النبي؟
الشيخ: لا، لا يسأل بحق النبي، ولا بحق غيره، ليست من المسائل، المسائل حبنا له، واتباعنا له، وإيماننا به، وإذا أراد بها حق علينا يعني اتباعه فليفصلها، وليقل بحق اتباعه، وإذا كان حق النبي عند الله فحق النبي عند الله شيء آخر، ليس من أعمالنا.
وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون، وتعاهدون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها، وصلوها، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، والضحاك، والربيع، وغير واحد، وقرأ بعضهم: أَرْحَامَكُمْ بالخفض على العطف على الضمير في بِهِ أي تساءلون بالله، وبالأرحام، كما قال مجاهد، وغيره.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا، أي هو مراقب لجميع أحوالكم، وأعمالكم، كما قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، وفي الحديث الصحيح اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك، وهذا إرشاد، وأمر بمراقبة الرقيب؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة، ليعطف بعضهم على بعض، ويحننهم على ضعفائهم.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله ﷺ حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار - أي من عريهم، وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، حتى ختم الآية، ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، ثم حضهم على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، وذكر تمام الحديث، وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة، وفيها: ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] الآية.
الشيخ: وهذا يبين لنا أن الواجب مراقبة الله، فإنه سبحانه رقيب علينا، وشهيد علينا، يعلم أحوالنا، وأعمالنا، وإخلاصنا، وضد ذلك، لا تخفى عليه خافية، يعلم الصادق من الكاذب، والمخلص من المرائي، والمؤمن من المكذب، فجدير بالعاقل وجدير بالمؤمن أن يراقب ربه في أعماله، وأن يجتهد في إتقانها وإكمالها، فإن الله يطلع عليها، ويعلم جدك وهزلك، وصدقك وكذبك، وإخلاصك وعدمك، فكن في أعمالك جادًا مخلصًا صادقًا متقنًا لعملك فأنت مشاهد ومراقب، ومن الإحسان بل من أكمل العبادة أن تعبد الله كأنك تراه، فالإحسان هو أعلى المراتب، الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، فكل محسن مسلم، وليس العكس فأعلى المراتب وأفضلها أن تكون في إسلامك وإيمانك محسنًا، تعبد الله كأنك تراه، تحسن أعمالك وتتقنها، ومعلوم أن العبد إذا استحضر في عمله أنه يشاهد الله أو أن الله يراقبه ويشاهده جد في العمل وأتقنه، بخلاف ما إذا غفل ولم ينتبه فإنه قد يسيئ العمل، ويقصر في العمل، لكن من استحضر أن الله يراه، ويطلع عليه، ويشاهده، أو صار له فوق ذلك يناجي ربه كأنه يراه، وكأنه يشاهده؛ فإنه يتقن العمل، ويحسنه، ويعتني به، ويستحي من ربه أن يقابله، ويقوم بين يديه بعمل ناقص قد قصر فيه.
...........
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ۝ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ۝ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ۝ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا  [النساء:1-4].
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم؛ ولهذا قال: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2] قال سفيان الثوري عن أبي صالح: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك. وقال سعيد بن جبير: لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول: لا تبدلوا أموالكم الحلال، وتأكلوا أموالهم الحرام. وقال سعيد بن المسيب، والزهري: لا تعط مهزولًا، وتأخذ سمينًا.
وقال إبراهيم النخعي والضحاك: لا تعط زيفًا، وتأخذ جيدًا. وقال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم.
وقوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء:2]. قال مجاهد وسعيد بن جبير وابن سيرين ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين؛ أي: لا تخلطوها فتأكلوها جميعًا.
وقوله: إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، قال ابن عباس: أي إثمًا عظيمًا. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله ﷺ عن قوله: حُوبًا كَبِيرًا قال: إثما كبيرًا، ولكن في إسناده محمد بن يوسف الكندي وهو ضعيف، وروي هكذا عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وأبي مالك وزيد بن أسلم وأبي سنان مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الحديث المروي في سنن أبي داود اغفر لنا حوبنا وخطايانا.
وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى عيينة، عن ابن سيرين، عن ابن عباس، أن أبا أيوب طلق امرأته، فقال له النبي ﷺ: يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوبًا قال ابن سيرين: الحوب الإثم، ثم قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف عن أنس أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب رضي الله عنها، فاستأذن النبي ﷺ فقال: إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها، ثم روى ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم عن حميد الطويل، سمعت أنس بن مالك أيضًا يقول: أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم امرأته فقال النبي ﷺ: إن طلاق أم سليم لحوب فكف. والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم، وخطأ كبير، فاجتنبوه.
وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى [النساء:3]؛ أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة، وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها؛ فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق، وفي ماله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله. حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها، وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية؛ فأنزل الله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ [النساء:127]، قالت عائشة: وقول الله في هذه الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء:127] رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال.
..............
الشيخ: وهذا هو الواجب؛ لأن اليتيمة قد لا تدافع عن نفسها، وقد لا تشعر بالواجب، فالواجب على من خطبها وعلى وليها القسط في مهرها، وأن تعطى مهر أمثالها، وكان بعض الناس إذا رغب فيها لأنها ذات جمال، أو لها مال عنده فيخلطه في أمواله رغب فيها تزوجها؛ ولكن لا يقسط في مهرها، بل يعطيها دون ذلك، وإذا كانت قليلة الجمال، أو قليلة المال، أو معدومة المال رغب عنها.
وبين الله جل وعلا أن الواجب القسط في ذلك، والعدل في ذلك، فإذا نكحها فليعدل، وإذا رغب عنها فلا بأس.
وقوله: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:2] أي انكحوا من شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثًا، وإن شاء أربعا كما قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1] أي منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع، فمن هذه الآية كما قال ابن عباس، وجمهور العلماء، لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله ﷺ المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله ﷺ أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع.
وقال بعضهم: بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله ﷺ في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين، وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري، وقد علقه البخاري، وقد روينا عن أنس أن رسول الله ﷺ تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة؛ لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع.
الشيخ: وهذا كالإجماع من أهل العلم، أنه لا يجوز أن يجمع بين أكثر من أربع، وأن النهاية أربع فقط؛ لأن المقام مقام امتنان، ومقام إحسان، فلو كان هناك زيادة لبينها الرب ، وفي الأحاديث الدالة على وجوب مفارقة ما زاد على الأربع في حق من أسلم وعنده أكثر من أربع أمره النبي ﷺ أن يفارق ما زاد على أربع، أما جمعه ﷺ بين التسع فهذا من خصائصه ﷺ، وليس لأحد أن يتأسى به في ذلك، وأما ما حكي عن بعض الشيعة من جواز الزيادة فهذا قول لا يعول عليه، ولا يلتفت إليه، وليسوا أهلاً لأن تذكر أقوالهم في الخلاف.
ولنذكر الأحاديث في ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا معمر عن الزهري، قال ابن جعفر في حديثه: أنبأنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي ﷺ: اختر منهن أربعًا فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تمكث إلا قليلًا، وايم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن مالك، أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال.
وهكذا رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم، من طرق عن اسماعيل بن علية، وغندر، ويزيد بن زريع، وسعيد بن أبي عروبة، وسفيان الثوري، وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والفضل بن موسى، وغيرهم من الحفاظ، عن معمر بإسناده مثله إلى قوله: اختر منهن أربعا، ويأتي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد، وهي زيادة حسنة، وهي مضعفة لما علل البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي حيث قال بعد روايته له: سمعت البخاري يقول: هذا الحديث غير محفوظ. والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري، حدثت عن محمد بن أبي سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة فذكره. قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم، عن أبيه أن رجلًا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك، أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال. وهذا التعليل فيه نظر، والله أعلم-. وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلًا، وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلًا. وقال أبو زرعة: وهو أصح. وقال البيهقي: ورواه عقيل عن الزهري: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد عن محمد بن أبيه. وقال أبو حاتم: وهذا وهم إنما هو الزهري، عن محمد بن أبي سويد، بلغنا أن رسول الله ﷺ فذكره. قال البيهقي: ورواه يونس وابن عيينة عن الزهري عن محمد بن أبي سويد، وهذا كما علله البخاري، والإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقات على شرط الشيخين، ثم قد روي من غير طريق معمر بل والزهري.
..........
س: مناسبة أمر عمر؟
الشيخ: لعله لأنه تعدى الحدود، أبو رغال لما دل الكفار على طريق مكة لهدم الكعبة فكان مجرمًا، وهذا طلقهن في المرض؛ ليحرمهن الميراث، فأراد أن ينكل به لئلا يتأسى به أحد.
س:..........
س: ما مناسبة النهي عن التعدد بأكثر من أربع، هل النهي مناسبته لحديث النهي عن الزيادة عن أربع يخالف الأمر بمراجعتهن؟
الشيخ: طلق نساءه الأربع، يعني الأربع الأخيرات طلقهن عند الموت حتى يكون المال لأولاده.
س:...........
س: لكن هل له مناسبة هنا؟
الشيخ: حتى يرثن منه، يعني المقصود حتى يرثن منه، لا يحرمهن من الميراث، لأنه الآن قد شاهد الموت، لأنه إذا طلق في المرض، ورثن على الصحيح؛ لأنه متهم.
س:...........
س: هل العدد أربع هو الحد؟
الشيخ: هذا ما هو متعلق بالعدد حتى ولو واحدة، المقصود أن طلاقها ما هو بمحله في المرض، فهو متهم لأنه أراد حرمانهن، وأن يكون المال لأولاده.
س: واضح، لكن المؤلف يسوق الأحاديث في بيان..؟
الشيخ: هي تبع؛ لأن هذا نوع من الروايات التي يضعف بها البخاري رواية سالم عن أبيه، فهذا حديث، وهذا حديث منفصل، هذا منفصل عن هذا.
..............
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو علي الحافظ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا أبو بريد عمرو بن يزيد الجرمي، أخبرنا يونس بن عبيد الله، حدثنا سرار بن مجشر، عن أيوب، عن نافع، وسالم، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم، وأسلمن معه، فأمره النبي ﷺ أن يختار منهن أربعًا. هكذا أخرجه النسائي في سننه، قال أبو علي بن السكن: تفرد به سرار بن مجشر، وهو ثقة، وكذا وثقه ابن معين، قال أبو علي: وكذا رواه السميدع بن واهب عن سرار.
قال البيهقي: وروينا من حديث قيس بن الحارث، أو الحارث بن قيس، وعروة بن مسعود الثقفي، وصفوان بن أمية يعني حديث غيلان بن سلمة.
فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله ﷺ سائرهن في بقاء العشر، وقد أسلمن، فلما أمره بإمساك أربع، وفراق سائرهن؛ دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال.
الشيخ: لاسيما والإمساك والبقاء على ما كان أولاً أسهل من الابتداء، فإذا جمع البقاء على ما كان أولاً، وما يتساهل فيه، فمنع الابتداء من باب أولى؛ ولهذا يجوز للمحرم إذا أحرم أن يبقي الطيب الذي عليه، وأن يبقي زوجته، لا يطلقها، وليس له أن يتطيب من جديد، وأن يحرم من جديد، إذا منع الرسول ﷺ من كان عنده أكثر من أربع أن يبقي منهن شيئًا، بل يفارقهن فمن باب أولى أن يمنعه من الابتداء بأكثر من الأربع، فالحاصل أن الحديث هذا بروايته كلها تدل على وجوب الاقتصار على أربع، وعدم الزيادة، وأنه لا يجوز لأحد أن يزيد على أربع في النكاح، أما في السراري والإماء فلا بأس، ملك اليمين ولو ملك مائة فلا بأس، لكن الزواج ليس له الزيادة على أربع، فإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم بالصواب.
حديث آخر في ذلك: روى أبو داود، وابن ماجه في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل، وعند ابن ماجه بنت الشمردل، حكى أبو داود أن منهم من يقول الشمرذل بالذال المعجمة عن قيس بن الحارث، وعند أبي داود في رواية الحارث بن قيس أن عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت للنبي ﷺ فقال: اختر منهن أربعًا، وهذا الإسناد حسن: وهذا الاختلاف لا يضر مثله لما للحديث من الشواهد.
حديث آخر في ذلك: قال الشافعي في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول أخبرني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن، عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الديلي ، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة فقال لي رسول الله ﷺ: اختر أربعًا أيتهن شئت، وفارق الأخرى فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها.
فهذه كلها شواهد لحديث غيلان كما قاله البيهقي رحمه الله.
وقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، أي فإن خفتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء:129] فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة، أو على الجواري: السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج.
وقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3]، قال بعضهم ذلك أدنى ألا تكثر عيالكم، قاله زيد بن أسلم، وسفيان بن عيينة، والشافعي رحمهم الله، وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28]؛ أي: فقرًا فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، وقال الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وتقول العرب: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري أيضًا، والصحيح قول الجمهور ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أي لا تجوروا، يقال: عال في الحكم إذا قسط، وظلم، وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
الشيخ: وهذا الصواب ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا يعني ذلك أدنى أن لا تجوروا، ذلك أقرب ألا تجوروا، ولو كان المراد العيلة لقال ذلك أدنى ألا تعيلوا يعني تفتقروا، وتكثر عيالكم لكن لما قال ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا يعني ألا تجوروا وتظلموا، فإن الواحدة والثنتين أقرب إلى العدل، والثلاثة أقرب من أربع، فإذا كان عنده قدرة وعنده سعة ولا يخشى الجور شرع له التعدد.
...........
س: كلمة العائلة هل تطلق على الفقير لفقره؟
الشيخ: العائلة تكنى بها عن العوائل، عن الأهل الذين يعولهم، والعائلة الأولاد.
س: الفرق بين الآيتين في الأولى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا، وفي الثانية: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ، ولَوْ حَرَصْتُمْ [النساء:129]؟
الشيخ: الفرق بينهما ظاهر، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا، فيما يستطيع ويقواه من القسم والنفقة ونحو ذلك، أما قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فهذا فيما لا يستطيعه، لا يستطيع الإنسان أن يعدل في كل شيء، فإن الشهوة والمحبة ليست في يده، فالذي يستطيعه هو المأمور به، والذي لا يستطيعه معفو عنه، فالذي يستطيعه هو القسم بينهن في الليالي والأيام، والنفقة بينهن، ومراعاة الخاطر، أما حب هذه مثل هذه، أو جماع هذه مثل جماع هذه لا، لا يستطيعه، ولهذا كان النبي ﷺ يقسم بين النساء فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك، ولا أملك.
.........
وقال هشيم عن أبي إسحاق قال: كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: إني لست بميزان أعول. رواه ابن جرير.
وقد روى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، حدثنا محمد بن شعيب، عن عمر بن محمد بن زيد، عن عبد الله بن عمر عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة عن النبي ﷺ: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا، قال: «لا تجوروا» قال ابن أبي حاتم: قال أبي هذا خطأ، والصحيح: عن عائشة موقوف، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك، وأبي رزين، والنخعي، والشعبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: لا تميلوا، وقد استشهد عكرمة رحمه الله ببيت أبي طالب الذي قدمناه، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة، وقد رواه ابن جرير، ثم أنشده جيدًا، واختار ذلك.
وقوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: النحلة المهر، وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: نحلة فريضة، وقال مقاتل، وقتادة، وابن جريج: نحلة أي فريضة. زاد ابن جريج: مسماه، وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي ﷺ أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبًا بغير حق، ومضمون كلامهم: أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتمًا، وأن يكون طيب النفس بذلك كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالًا طيبًا، ولهذا قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة عن علي قال: إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك فليبتع بها عسلًا، ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئا مريئا شفاء مباركًا.
الشيخ: هذا غريب عن علي، ومعناه أن ماء السماء ماء مبارك وشفاء، والعسل شيء مبارك، وما طابت به نفسها فقد قال الله فيه فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4] فهذا من أسباب الشفاء والعافية، وهذا استنباط له وجاهة لو صح.
..........
وقال هشيم عن سيار عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك، ونزل، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمير الخثعمي، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، عن عبد الرحمن بن البيلماني قال: قال رسول الله ﷺ، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً قالوا: يا رسول الله فما العلائق بينهم؟ قال: ما تراضى عليه أهلوهم، وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطاة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمر بن الخطاب قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: أنكحوا الأيامى- ثلاثا-، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله ما العلائق بينهم؟ قال: ما تراضى عليه أهلوهم ابن البيلماني ضعيف، ثم فيه انقطاع أيضًا.
...........
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ۝ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا  [النساء:5، 6].
ينهى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء، وهم أقسام، فتارة يكون الحجر للصغير، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للمجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل، أو الدين، وتارة للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل، وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه؛ حجر عليه.
الشيخ: ومن هنا قال العلماء: الحجر قسمان: حجر لحظ النفس، وحجر لحظ الغير، فالحجر لحظ النفس: هو الحجر على الصغير والمجنون، والسفيه الذي لا يستطيع التصرف بأمواله، وليس برشيد، يحجر عليه في ماله لحفظه، وسلامة ماله حتى لا يصرفه فيما لا ينبغي، ويكون التصرف للولي على الصغير، أو على المجنون، أو السفيه حتى يرشد، ويحسن التصرف.
القسم الثاني: الحجر لحظ الغير، وهو الحجر على من أفلس إذا أحاطت الديون بمال الإنسان، وليس عنده ما يقابل الديون، وطلب أصحاب الدين، أو بعضهم الحجر عليه حتى يسدد ما عليه، ويقضى [ما] عليه، ويرجع الأموال إلى الغرماء.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، قال: هم بنوك، والنساء.
الشيخ: يعني بنوك الصغار.
وكذا قال ابن مسعود، والحكم بن عتيبة، والحسن، والضحاك: هم النساء، والصبيان، وقال سعيد بن جبير: هم اليتامى، وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: هم النساء. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ﷺ إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيمها.
الشيخ: وهذا ضعيف؛ لأن علي بن يزيد الألهاني ليس بشيء، فلا يعول عليه في ذلك، فالنساء فيهن الرشيد، وفيهن السفيه مثل الرجال، لكن السفه فيهن أكثر، الرشيدة منهن تتصرف في مالها كما تشاء في البيع والشراء والعطاء والصدقة، كالرجل الرشيد يتصرف، ويعطي، ولهذا أمر النبي ﷺ بلالاً يوم العيد أن يمر على النساء معه ﷺ، وكان النبي ﷺ خطبهن وذكرهن وحثهن على الصدقة، فجاءت امرأة بقرطها وخرصها، وغير ذلك في الثوب الذي جعله بلال لهن، فقبل منهن صدقاتهن، ولولا أنهن راشدات لما قبل منهن، فحثهن على الصدقة، وقال: يا معشر النساء، تصدقن، واكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قالت امرأة: لم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، لو أحسن إلى إحداكن الدهر يعني الزوج لو أحسن إلى إحداهن الدهر، ثم رأيت منه شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط! نسيت ما مضى، وهذا يقع لكثير منهن، وأما الرشيدة فتصرفها بلا شك كما تقدم نافذ كالرجل، وقد اعتقت ميمونة جارية لها، ولم تشاور النبي ﷺ في ذلك، فأمضى عتقها، وقال: إنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك، وهذا أمر معلوم في دين الإسلام، وهو محل إجماع أهل الملة، وإنما يمنع الرجل والمرأة إذا كانا سفيهين لا يحسنان التصرف، يعبثان بالأموال ويضيعانها في غير شيء، كتضييعها في الخمور، والمسكرات، وفي القمار، والملاهي، أو في أشباه ذلك مما لا فائدة فيه، فهذا يدل على السفه، وقلة الرشد، وقلة العقل.
وهكذا الصغير الذي لم يبلغ، والمجنون، والمعتوه كل هؤلاء يحجر عليهم مالهم، ويمنعون من التصرف فيها حتى يتم الرشد، ويعرف الرشد، ولهذا قال سبحانه: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا جعل الله الأموال قيامًا للناس يباع بها الحاجات، وتشترى، ويقضي بها الإنسان حاجة بيته، ويتصدق، ويحسن، ويصلح بين الناس، ويجاهد، إلى غير هذا من المصالح العظيمة، فالله جعل الأموال قيامًا للناس، فلا يجوز أن تترك لعبث العابثين، وسفه السفهاء.
ورواه ابن مردويه مطولًا، وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا حرب بن سريح، عن معاوية بن قرة، عن أبي هريرة، وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، قال: هم الخدم، وهم شياطين الإنس.
الشيخ: هذا لو صح فالمراد بالخدم السفهاء، لو صح المراد بالخدم السفهاء الصغار، السفهاء من خدم الرجال والنساء الذين لا يحسنون التصرف، فالواجب على صاحب البيت أن يتثبت، ولا يجعل أمواله في أيدي من لا يحسن التصرف.
.........
وقوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يقول: لا تعمد إلى مالك، وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك، أو بنيك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم، ومؤنتهم، ورزقهم.
الشيخ: وهذا إذا كانت المرأة لا تحسن، أو خشي منها إضاعة المال، أما إذا كانت امرأة عاقلة وجيدة التصرف فلا مانع أن يضع عندها حاجات البيت لتقوم باللازم، فالحاصل أن الواجب على الرجل أن يحفظ المال، ويصونه عن الضياع، فلا يجعله إلا في يد يثق به من زوجة، أو أم، أو أخت، أو وكيل موثوق مأمون؛ لأن المال له شأن، والله جعله قيامًا للناس فلا يجوز أن يضاع، ولا أن يجعل في أيدي من لا يحفظونه، ولا يحسنون التصرف فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها، وقد قال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه.
الشيخ: هذا غريب، ظاهر سنده الصحة لكن المتن غريب، في صحته نظر.
وقال مجاهد: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، يعني في البر، والصلة.
وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة، ومن تحت الحجر بالفعل، من الإنفاق في الكساوي، والأرزاق، والكلام الطيب، وتحسين الأخلاق.
وقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسدي، ومقاتل بن حيان: أي اختبروهم، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ قال مجاهد: يعني الحلم، قال الجمهور من العلماء: البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وفي سنن أبي داود عن علي قال: حفظت من رسول الله ﷺ: لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل، وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة عن النبي ﷺ قال: رفع القلم عن ثلاثة، الصبي حتى يحتلم، أو يستكمل خمس عشرة سنة، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق.
الشيخ: "أو يستكمل خمس عشرة سنة" هذه زيادة غريبة ليست معروفة في الحديث، المعروف في الحديث: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، أو قال: حتى يعقل، والصبي حتى يبلغ، فهذه الزيادة لا أصل لها في الحديث.
.........
وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر، قال: عرضت على النبي ﷺ يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الصغير، والكبير.
واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج، وهي الشعرة، هل تدل على بلوغ أم لا؟
على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغًا في حقهم؛ لأنه لا يتعجل بها إلى ضرب الجزية عليه، فلا يعالجها، والصحيح أنها بلوغ في الجميع؛ لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس، واحتمال المعالجة بعيد.
الشيخ: وهذا هو الصواب، أن الشعرة علامة من علامات الاحتلام، فالاحتلام يكون بثلاثة أمور:
الأمر الأول: إنزال المني بالاحتلام، أو بالنظر، أو بالتفكير، إذا نزل المني عن شهوة سواء يقظة، أو منامًا، لكن في الغالب أنه يكون في الاحتلام، فإنه يكون رجل مكلف تتعلق به جميع أحكام المكلفين من الصلوات، والصيام، ووجوب الصلاة، ووجوب الصيام، ووجوب الحج مع الاستطاعة، وغير ذلك من أحكام المكلفين.
الأمر الثاني: إكمال خمسة عشرة سنة لحديث ابن عمر المذكور في رواية من رواياته فأجازني، ورآني قد بلغت.
والأمر الثالث: الشعرة العانة، وهي الشعر الذي حول الفرج، فإذا أنبت الشعر المعروف الخشن حول فرج المرأة، وفرج الرجل صار بهذا رجلاً، وصارت المرأة بهذا امرأة.
ومن أدلة ذلك أنه ﷺ لما نزل بني قريظة على حكم سعد أمر بقتل بمقاتلتهم، وسبي ذريتهم، وأمر بكشف العانة، فالذي أنبت جعلوه في حكم الرجال فقتلوه، ومن لم ينبت جعل في حكم الصبيان فلم يقتل، وكان عطية الصحابي المعروف من جملة من لم ينبت، ولم يقتل، وكانت له رواية.
المقصود أن هذه الثلاث هي العلامات في حق الرجال، والنساء.
أولاً: إنزال المني مطلقًا، هذا بالإجماع. الثاني: بلوغ خمسة عشرة سنة. الثالث: الإنبات على الصحيح كما قال العلماء.
وتزيد المرأة بأمر رابع، وهو الحيض إذا حاضت صارت بالغة، فيكون لها أربع علامات، وللرجل ثلاث تزيد عليه بالحيض.
س: إذا لم يصل بعد خمسة عشرة سنة؟
الشيخ: يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرًا على الصحيح، وقال الجمهور: يقتل حدًا.
.........
ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضنا على النبي ﷺ يوم قريظة، فأمر أن ينظروا من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت فيمن لم ينبت، فخلى سبيلي. وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وإنما كان كذلك لأن سعد بن معاذ كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة، وسبي الذرية.
وقال أبو عبيد في الغريب: حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمر، أن غلامًا ابتهر جارية في شعره، فقال عمر : انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد، قال أبو عبيد: ابتهرها أي قذفها، والابتهار أن يقول: فعلت بها، وهو كاذب، فإن كان صادقًا فهو الابتيار، قال الكميت في شعره:
قبيح بمثلي نعت الفتاة إما ابتهارا، وإما ابتيارا

....