01 - مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم

قلت: السُّبُل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير: فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأيَّ سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصدًا له، فإن سلكها في طاعة، وجده عليها يُثبّطه عنها، ويقطعه، أو يُعُوِقه ويُبطّئه، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملًا له، وخادما، ومعينا، ومُمَنِّيًا،

الشيخ: ومشجعًا.

ولو اتفق له الهبوط إلي أسفل لأتاه من هناك. ومما يشهد لصحة أقوال السلف قوله تعالي: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ [فصلت:25].

قال الكلبي: "ألزمناهم قرناء من الشياطين".

وقال الزجاج: "أَجمع لهم مع الإضلال أن أُوهِمَهم أنهم ينالون مع ذلك حظّهم من الآخرة".

وقيل: لأمنّينهم ركوب الأهواء الداعية إلي العصيان، والبدع.

وقيل: أمنّيهم طولَ البقاء في نعيم الدنيا، فأُطِيل لهم الأمل فيها؛ ليُؤْثِرُوها على الآخرة.

وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ، البَتْك: القطع؛، وهو في هذا الموضع: قطع آذان البَحِيرة؛ عند جميع المفسرين .

ومن ها هنا كره جمهور أهل العلم تثقيب أذني الطفل للحَلَقِ، ورخّص بعضهم في ذلك للأنثى دون الذكر؛ لحاجتها إلي "الحلية"، واحتجوا بحديث أمّ زَرعٍ، وقيس: "أنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنيَّ"، وقال النبي ﷺ: كنتُ لك كأبي زَرْعٍ لأمّ زَرْع.

ونصَّ أحمد رحمه الله على جواز ذلك في حق البنت، وكراهته في حق الصبي.

الشيخ: وكان هذا معروفًا عند العرب، وأقره الإسلام، وهو ثقب الإذن ويعلق فيها الأقراط، الأخراص، كانت المرأة تلقي من أقراطها في ثوب بلال لما حث النبي ﷺ على الصدقة، هذا من زينتهن التي اعتادوها في الجاهلية والإسلام، وهو ما يكون في الآذان من الأقراط.

كما قال القائل:

مُنىً إنْ تكُنْ حَقًّا تَكُنْ أحْسَنَ المُنَى وإِلّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا

فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأمانيّ الباطلة، والوعود الكاذبة، وتفرح بها كما يفرح بها النساء، والصبيان، ويتحركون لها، فالأقوال الباطلة مصدرها، وعد الشيطان، وتمنيته؛ فإن الشيطان يُمنِّي أصحابها الظَّفر بالحق، وإدراكه، ويَعدُهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مُبطِلٍ فله نصيبٌ من قوله: يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120].

الشيخ: وما أكثر هذا، ما أكثر من غرّه الشيطان، وخدعه الشيطان بالأماني، والأوعاد الكاذبة الباطلة حتى غرق في الباطل، وهلك مع الهالكين، نسأل العافية.

ومن ذلك قوله تعالي: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ويَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلًا [البقرة:268].

قيل: يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268]، يخوّفكم به، يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم.

وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، قالوا: هي البخل في هذا الموضع خاصة.

ويُذكر عن مقاتل والكلبي: "كل فحشاء في القرآن فهي الزنا إلا في هذا الموضع؛ فإنها البخل".

والصواب أن الفحشاء على بابها، وهي كل فاحشة، فهي صفة لموصوف محذوفٍ، فحذف موصوفها إرادةً للعموم؛ أي بالفَعْلة الفحشاء، والخُلّة الفحشاء، ومن جملتها البخل.

فذكر سبحانه، وعد الشيطان، وأمره، يأمرهم بالشر، ويُخوِّفهم من فعل الخير.

الشيخ: وهكذا نوابه، هكذا نواب الشيطان يعدون بالفقر، ويشجعون على عدم الإنفاق، ويقولون: إنك إذا أنفقت ذهبت الأموال، وتعطلت أنت، والعيال، وفاتك كذا، وكذا، والدنيا لا تؤمن، وكذا، وكذا، حتى يثبطوه عن الإنفاق في سبيل الله، وعن إخراج الزكاة، ويأمرون بالفحشاء، ويقولون: إن هذه الدنيا أنت إن شاء الله بعد حين تتوب، بعد حين إذا طال عمرك إذا شيبت تتوب، فكما أملى عليهم الشيطان؛ أملوا على أصحابهم.

والفضل: إعطاء الخير.

الشيخ: في المقابل وعد الشيطان بالفقر، الله يعدهم الخير والفضل سبحانه، وفي المقابل أمره لهم بالفحشاء، الله يعدهم المغفرة، إذا تابوا إليه، وأنابوا، وأصلحوا، واستقاموا فهذا فضله، وجوده .

وفى الحديث المشهور: "إن للملَك بقلب ابن آدم لمّةً، وللشيطان لمّةً، فلمّةُ الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالوعد، ولمّةُ الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيبٌ بالوعد"، ثم قرأ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] الآية.

فالملك، والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل، والنهار، فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره، وآخر بضده، ومنهم من يكون زمنه نهارًا كله، وآخر بضده. نستعيذ بالله تعالى من شر الشيطان.

الشيخ: نسأل الله للجميع العافية، نعوذ بالله من شر الشيطان.