05 - فصل: من مكايد الشيطان: الحيل والمكر والخداع

فصل

ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحِيَلُ، والمكر، والخداع الذي يتضمن تحليلَ ما حَرم الله، وإسقاط ما فَرضه، ومضادّتَه في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذَمّه.

فإن الرأي رأيان: رأيٌ يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والاعتبار، فهو الذي اعتبره السلف وعملوا به.

ورأيٌ يخالف النصوص، وتشهدُ له بالإبطال والإهْدار، فهو الذي ذَمُّوه وأنكروه. وكذلك الحيل نوعان: نوع يُتَوَصَّل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلُّص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي. فهذا النوع محمودٌ يُثاب فاعله ومُعَلِّمه.

ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرّمات، وقلب المظلوم ظالمًا والظالم مظلومًا، والحق باطلًا والباطل حقًا. فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمّه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا يجوز شيءٌ من الحيل في إبطال حق مسلم.

وقال الميموني: قلت لأبى عبد الله: من حلف على اليمين ثم احتال لإبطالها، فهل تجوز تلك الحيلة؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، قلت: أليس حيلتنا فيها أن نَتَبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولاً في شيء اتَبعناه؟ قال: بلى، هكذا هو، قلت: أوَليس هذا منا نحن حيلةً؟ قال: نعم.

فبيّن الإمام أحمد: أن مَن اتبع ما شُرع له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي عُلّقت بها الأحكام، ليس بمحتالٍ الحيل المذمومة، وإن سُميت حيلة، فليس الكلام فيها.

وغرضُ الإمام أحمد بهذا: الفرقُ بين سلوك الطريق المشروعة التي شُرعت لحصول مقصود الشارع، وبين الطريق التي تُسلك لإبطال مقصوده.

فهذا هو سِرّ الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن في النوع الثاني.

قال شيخنا رحمه الله: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه:

الشيخ: والمؤلف رحمه الله العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه هذا "إغاثة اللهفان في إبطال مكايد الشيطان" يبين أن الآراء والحيل وجميع التصرفات يجب أن تقيد بالشرع، فإن كان الرأي والحيلة وجميع التصرفات على الوجه الشرعي فأهلا وسهلا، فالواجب الأخذ بها لإزالة الباطل وإقامة الحق وتخليص الناس من الظلم، أما إذا كانت الآراء بالهوى واتباع الباطل والحيل لتحليل الحرام وإسقاط الواجبات فهذا كله من عمل اليهود، ولهذا جاء في الحديث: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتحلوا محارم الله بأدنى الحيل والله ذم الذين احتالوا على الصيد صيد السمك يوم السبت، في قوله جل وعلا: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] فكانوا يتحيلون وينصبون الشباك يوم الجمعة ويأخذون ما وقع فيها يوم الأحد، فيجيء الصيد يوم السبت ويقع في الشباك فهذا من حيلهم التي ذمهم الله عليها وعابهم.

قال شيخنا رحمه الله: فالدليل على تحريم هذا النوع وإبطاله من وجوه:

الوجه الأول: قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۝ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8، 9]، وقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ[النساء:142]، وقال في أهل العهد: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال:62]، فأخبر أن هؤلاء المخادعين مخدوعون وهم لا يشعرون، وأن الله تعالى خادعُ مَنْ خدعه، وأنه يكفي المخدوع شَرَّ مَنْ خدعه.

والمخادعة هي الاحتيال والمراوغة، بإظهار الخير مع إبطان خلافه، إذ يحصل مقصود المخادع، وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة، فإنهم يقولون: طريق خَيْدَع، إذا كان مخالفًا للقصد لا يُشعَر به، ولا يُفطن له، ويقال للسراب: الخيدع، لأنه يَغُرّ من يراه، وضَبٌّ خَدِع أي: مراوغ، كما قالوا: أخْدَعُ من ضَبٍّ، ومنه: "الحرْب خَدْعة"، وسوق خادعةٌ أي: متلونة، وأصله: الإخفاءُ والسَّتر، ومنه سميت الخِزانة مُخْدَعًا.

فلما كان القائل: "آمنت" مُظهرًا لهذه الكلمة، غير مريد لحقيقتها المطلوبة شرعًا، بل مريدًا لحكمها وثمرتها فقط مُخادعًا كان المتكلم بلفظ بعْتُ، واشتريت، وطلقت، ونكحت، وخالعت، وآجرت، وساقيت، وأوصيت -غير مريد لحقائقه الشرعية المطلوبة منها شرعا، بل مريدًا لأمور أخرى غير ما شُرِعت له، أو ضدّ ما شُرِعت له- مخادعًا. ذاك مخادعٌ في أصل الإيمان، وهذا مخادع في أعماله وشرائعه.

قال شيخنا رحمه الله: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين.

يؤيد ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه جاءه رجل، فقال: إن عَمي طلق امرأته ثلاثًا، أيُحِلّها له رجل؟ فقال: مَنْ يُخادعِ الله يخدعْه.

وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن العِينَة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله تعالى لا يُخْدَع، هذا ما حرّم الله تعالى ورسوله.

رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بِمُطَيَّن في كتاب "البيوع" له.

وعن ابن عباالسؤال: أنه سئل عن العِينة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يُخْدَع، هذا ممّا حرّم الله تعالى ورسوله.

رواه الحافظ أبو محمد النَّخْشَبِيُّ. فسمى الصحابةُ من أظهر عقد التبايع ومقصودُه به الربا خداعًا لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن، والمعوَّل عليهم في فَهْم القرآن.

وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثًا: لا يُحِلُّها إلا نكاح رَغْبة، لا نكاح دُلْسة.

قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة.

وقال أيوب السَّخْتِيَاني في المُحْتالين: يخُادعون الله كما يخادعون الصبيان،

الشيخ: وهذا من عمل المنافقين لأنهم لا إيمان لهم ولا تقوى تمنعهم وتردعهم؛ ولهذا يخادعون الله والذين آمنوا في إظهار الإسلام في إظهار التقوى بإظهار الورع وليسوا كذلك، وهذا من شابههم من العصاة بإظهار الأمانة وهو ليس كذلك، وبإظهار النكاح وهو ليس كذلك، وهكذا المعاملة بالبيع بيعة العينة وغيرها والربا يحصل بها المخادعة والله جل وعلا يعلم السر وأخفى لا تروج عليه حيلهم ومكرهم، فالواجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يكون باطنه كظاهره، وأن يحذر الحيل المحرمة والخداع الذي حرمه الله، ومن هذا الأساس العينة كونه يتظاهر ببيعها عليه بكذا ثم يشتريها بكذا حيلة على دفع دراهم قليلة ليرد عليه دراهم كثيرة، يبيع عليه المتاع بمائة ثم يشتريه بمائة مؤجلة ثم يشتريه منه بسبعين أو ستين حاضرة فالمعنى أنه أعطاه ستين حاضرًا وبمائة مؤجلة وهذا هو عين الربا، هذه مسألة العينة، وهكذا حيل النكاح يتزوجها ليس له حاجة فيها إنما تزوجها ليحلها لمن طلقها.

وقال أيوب السَّخْتِيَاني في المُحْتالين: يخُادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو آتوْا الأمر عِيانًا كان أهون عليّ.

وقال شَريك بن عبد الله القاضي في "كتاب الحيل": هو "كتاب المخادعة".

وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول ﷺ أنهم يريدون سِلْمه، وهم يقصدون بذلك المكْرُ به من حيث لا يشعر، فيظهرون له أمانًا، ويُبطنون له خلافه، كما أن المحلل والمرابي يُظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا: الطلاقُ بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر: ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد من بيع الألف الحالّة بالألفٍ والمائتين إلى أجل، فمخالفة ما يدلّ عليه العقد شرعًا أو عُرْفًا خَديعة.

قال: وتلخيص ذلك أن مخُادعة الله تعالى حرام، والحيلُ مخادعةٌ لله. بيان الأول: أن الله تعالى ذَمّ المنافقين بالمخادعة، وأخبر أنه خادِعُهم، وخَدْعُه للعبد عقوبةٌ تَستَلْزِمُ فِعْلَهُ للمُحَرَّم.

وبيان الثاني: أن ابن عباس وأنسًا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا: أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعةٌ لله تعالى، وهم أعلمُ بكتاب الله تعالى.

الثاني: أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه، كما تقدم.

الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام ومرادُه غيره: سُمِّي مخادعًا لله تعالى، وكذلك المرائي؛ فإن النفاق والرِّياء من باب واحد، فإذا كان هذا الذي أظهر قولًا غير مُعتقدٍ ولا مُريدٍ لما يُفهم منه، وهذا الذي أظهر فعلاً غير معتقد ولا مريد لما شرع له: مخادعًا، فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شُرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شُرع له، وإذا كان مشاركًا لهما في المعنى الذي به سُمِّيا مخادعين وجب أن يَشْركهما في اسم الخِداع، وعُلم أن الخداع اسمٌ لعموم الحيل، لا لخصوص هذا النفاق.

الوجه الثاني: أن الله سبحانه ذمّ المستهزئين بآياته، والمتكلم بالأقوال التي جعل الشارع لها حقائق ومقاصد، مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله تعالى التي يستحل بها الفروج، ومثل العهود والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقائقها المقوِّمة لها، ولا مقاصدها التي جُعلت هذه الألفاظ محصِّلة لها، بل يريد أن يراجع المرأة ليضرّها ويُسيء عشرتهَا، ولا حاجة له في نكاحها، أو ينكحها ليحلّها لمطلِّقها لا ليتخذِّها زوجا، أو يخلعها ليلبسها،

الشيخ: الأقرب يسلبها يعني يأخذ منها فلوس، فما له قصد إلا الطمع في مالها، أساء عشرتها حتى يسلبها مالها يعني يأخذ منها مالاً بغير حق. لعلها يسلبها يعني يسلبها مالها.

السؤال:...........................

الشيخ: ولو ما في بأس، إذا صار البيع بعد الشراء ما في بأس، التجار هكذا التجار يشترون السلعة ويبيعوها فإذا قال نعم أرجع عليّ غدا أو بعد غد تجد السلعة واشتراها وباعها بعد ذلك لا بأس، هذا في حديث حكيم بن حزام قال يا رسول الله: الرجل يأتيني بالسلعة فأبيعها عليه ثم أفد فأشتر قال: (لا، لا تبع ما ليس عندك) ما يبيع عليه الآن، يقول: راجعني غداً بعد غد اليوم الفلاني حتى أحضرها.

السؤال:...........................

الشيخ: إذا اشتراها برأس المال أو أكثر لا بأس ما في حيلة، مثل قول النبي ﷺ في الدنانير والدراهم لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، قال: أبيع الإبل بالبقيع فآخذ الدراهم من الدنانير والدنانير من الدراهم؟ قال: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) أما بيعها على الغير على غير صاحبها هذا هو محل النظر، إن كانت يمكن نقلها تنقل؛ لأن الرسول نهى أن تباع السلعة حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، أما إذا كانت كميات كبيرة لا يمكن نقلها تشبه الأرض وأشباهها مما لا ينقل بالتخلية يكون قبضه بالتخلية.

أو يخلعها ليسلبها، أو يبيع بيعًا جائزًا، ومقصوده به ما حرمه الله تعالى ورسوله، فهو ممن اتخذ آيات الله تعالى هزوًا.

يوضّحه:

الوجه الثالث: ما رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن عن أبي موسى الأشعري ، قال: قال رسول الله ﷺ: ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، ويستهزئون بآياته: طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك.

فجعل المتكلم بهذه العقود غيرَ مريدٍ لحقائقها وما شُرعت له، مستهزئًا بآيات الله تعالى، متلاعبًا بحدوده.

ورواه ابن بطة بإسناد جيد، ولفظه: خلعتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك.

الوجه الرابع: ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا على عهد رسول الله ﷺ، فقال: أيلَعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! الحديث، وقد تقدم.

فجعله لاعبًا بكتاب الله مع قصده الطلاق، لكنه خالف وجه الطلاق، وأراد به غير ما أراد الله تعالى به؛ فإن الله أراد أن يطلِّق طلاقًا يملك فيه ردّ المرأة إذا شاء، فطلق هو طلاقًا لا يملك فيه ردّها. وأيضًا فإن المرّتين والمرات في لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغات سائر الأمم، لِمَا كان مرّة بعد مرة، فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله تعالى، وما دلّ عليه كتابه،

الشيخ: وهذا استعجل ما جعل الله له فيه الأناة ولهذا سماه تلاعبًا أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم فالواجب تحري الطلاق الشرعي؛ طلقة واحدة فقط طلاق السنة حتى يكون له مهلة إذا أراد الرجعة طلقتين كان له مهلة؛ لأن الله قال: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] ................... يسبب له الحرج والمشقة عليه وقد يندم وتندم كذلك، الله جعل لهم فرج في الواحدة والثنتين.

فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتّب عليه الشارع حكمًا ضدّ ما قصده الشارع؟

السؤال:........................

الشيخ: تحل للأول، إن نكحها لرغبة ثم طلقها بعد الدخول بها.

السؤال:......................

الشيخ: ما في بأس، ما دام نكحها نكاح رغبة ما في بأس، العبرة بالنكاح، إذا نكحها لرغبة ثم طلقها بعد الدخول ولو رحمة لذاك ولو إحسانًا لذاك فلا بأس.

السؤال:........................

الشيخ: إذا نكحها عن رغبة ثم طلقها حلت للأول، ولكن المحرم أن ينكح من أجل أن يحلها له.

السؤال: كيف نفرق بين الحيلة والكلام بالمعاريض؟

الشيخ: المعاريض إذا كان بحق مثل يقول له: فلان قدم اليوم شفت فلان وهو يخاف عليه فيقول ما رأيته يريد ما رأيته يعني في المحل الفلاني أو في بيته لأنه يخاف عليه بقصد الإحسان، أما الحيل التي يريد بها أكل الباطل وإسقاط الحق فهذه الحيل نعم يتأول ليأخذ مائة ريال نهبة أو سرقة ويحلف يقول عند القاضي ما أخذت منه شيئًا متأولاً أنه ما أخذ منه اليوم أو أمس ما ينفع التأويل هذا .

السؤال:............................

الوجه الخامس: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم مما بلاهم به في سورة {ن}، وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جَدُّوا نهارًا؛ بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من التمر، فأرادوا أن يجدّوا ليلًا ليسقط ذلك الحق، ولئلا يأتيهم مسكين، وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنّتهم طائفًا وهم نائمون، فأصبحت كالصّريم، وذلك لمّا تحيّلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرةٌ لكل محتال على إسقاط حقٍّ من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.

الوجه السادس: أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردةً، لمّا احتالوا على إباحة ما حرّمه الله سبحانه عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجُمعة، فلمّا وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد.

قال بعض الأئمة: ففي هذا زجرٌ عظيم لمن تعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبَّس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.

ومعلوم أنهم لم يستحلّوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام وكفرًا بالتوراة وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء، وباطنه باطن الاعتداء.

ولهذا والله أعلم مُسخوا قردةً؛ لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفى بعض ما يُذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحدّ والحقيقة، فلمّا مُسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى، بحيث لم يتمسَّكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله تعالى قردةً يشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة، جزاء وفاقًا.

يوضِّحه:

الشيخ: وهذا يوجب الحذر من الحيل، وأن الواجب على أهل الإسلام أن يتمسكوا بالحق، وأن يستقيموا عليه، وأن ينفذوا أمر الله ويدعوا محارم الله، وأن لا يتحيلوا على محارم الله بأي حيلة من الحيل التي يستحلون بها محارم الله من الربا كالعينة وغير ذلك، فهكذا هؤلاء لما استحلوا محارم الله مسخهم الله قردة، حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ففكروا في الحيلة التي يصيدون بها يوم السبت وكان الصيد يأتي يوم السبت كثيرًا شرعًا ابتلاء وامتحان، فإذا كانت الأيام الأخرى قلَّ فعند هذا دفعهم الطمع في هذا الصيد إلى أن يحتالوا على صيده يوم السبت فنصبوا الشباك التي تمسكه يوم الجمعة فإذا جاء يوم السبت ودخل في هذه الشباك وأراد الخروج عند انسحاب الماء لم يخرج تعثر، فصادوه يوم الأحد فقالوا: ما صدنا يوم السبت إنما صدنا يوم الأحد، وهم صادوه في الحقيقة يوم الجمعة أمسكوه يوم الجمعة وأخذوه يوم الأحد فعند هذا مسخهم الله قردة: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166]، نسأل الله العافية.

الوجه السابع: أن بني إسرائيل كانوا أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل، كما قصه الله تعالى في كتابه، وذلك أعظم من أكْلِ الصيد المحرّم في يوم بِعَيْنهِ، ولذلك كان الربا والظلم حرامًا في شريعتنا، والصيدُ يوم السبت غير مُحرم فيها، ثم إن أَكَلَةَ الربا وأموال الناس بالباطل لم يُعاقَبوا بالمسْخ، كما عُوقِب به مُسْتَحِلُّو الحرام بالحِيلة، وإن كانوا عُوقبوا بجنسٍ آخر، كعقوبات أمثالهم من العُصاة.

فيُشبه - والله أعلم - أن هؤلاء لما كانوا أعظم جُرْمًا، إذ هم بمنزلة المنافقين، ولا يعترفون بالذنب، بل قد فَسدَت عقيدتهم وأعمالهم، كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم؛ فإن من أكل الربا والصيد المحرَّم عالمًا بأنه حرام فقد اقترن بمعصيته اعترافُه بالتحريم، وهو إيمان بالله تعالى وآياته، ويترتب على ذلك مِن خَشْيَة الله تعالى، ورَجاء مَغْفِرته، وإمكان التوبة، ما قد يُفْضِي به إلى خيرٍ ورحمة. ومَنْ أكله مُسْتحلًّا له بنوع احتيال تأوّلَ فيه فهو مُصرٌّ على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حِلِّ الحرام، وذلك قد يُفضي به إلى شَرٍّ طويل. وقد جاء ذكرُ المسخ في عِدّة أحاديث، قد تقدم بعضها في هذا الكتاب، كقوله في حديث أبي مالك الأشعري الذي رواه البخاري في "صحيحه": ويَمسخ آخرين قِردة وخنازير إلى يوم القيامة.

وقوله في حديث أنس: لَيَبيتَنّ رجالٌ على أكلٍ وشربٍ وعَزْفٍ، فيُصْبِحُون على أرائكهم ممسوخِين قِرَدَةً وخنازير.

وفي حديث أبي أُمامة: يَبيتُ قوم على شرب الخمور وضرب القِيان، فيصبحون قردةً.

وحديث عائشة: يكون في أُمتي خسف ومسخ وقذف

وفي حديث أبي أمامة أيضًا: يبيت قوم من هذه الأمة على طُعْمٍ وشرب ولهو، فيصبحون وقد مُسِخوا قردةً وخنازيرَ.

وفي حديث عِمران بن حُصين: يكون في أمتي قَذْفٌ ومَسخٌ وخَسْفٌ.

وكذلك في حديث سَهْل بن سَعْدٍ.

وكذلك في حديث علي بن أبي طالب، وقوله: فلْيَرْتَقبوا عند ذلك ريحًا حَمْراء، وخَسْفًا، ومسخًا.

وفى حديثه الآخر: تمُسخ طائفة من أمتي قِردة، وطائفة خنازير.

وقوله في حديث أنس : لَيكونَنّ في هذه الأمة خَسْفٌ وقَذْفٌ ومسخٌ.

وفى حديث أبي هريرة : يُمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قِرَدة وخنازير، قالوا: يا رسول الله! أليس يَشْهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ قال: بلى، ويصومون، ويصلون، ويحجون، قالوا: فما بالهُم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقَيْناتِ، فباتوا على شُرْبهم ولَهْوِهم، فأصبحوا وقد مُسِخوا قِردةً وخنازير.

الشيخ: يعني تساهلوا بالمعصية وهم يعرفون أنها معاصي تساهلوا، حملهم ضعف الإيمان والهوى على التساهل حتى نزلت بهم العقوبة العاجلة، نسأل الله العافية، وإلا قد يملى لهم كما هو الواقع: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [القلم:44] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بإملاء الله؛ ما وقع خسف ما وقع كذا يجب الحذر فعقوبة القلب أعظم من المسخ، هذا يعاقب بقلبه بالقسوة والإعراض أو الزيغ هذا من الله، نسأل الله العافية. 

فالواجب على كل مؤمن وعلى كل مسلم أن يحذر نقمة الله بالتساهل بالمعاصي والإصرار عليها والإقامة عليها فقد تكون عقوبته انحراف قلبه عن الهدى وزيغه عن الهدى وهذا أشد وأعظم، قد تكون العقوبة القسوة العظيمة حتى لا يبالي بالمعاصي ولا يبالي بالتساهل بأمر الله فالواجب الحذر دائمًا، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] فلا يجوز الركون إلى الهوى والشيطان والتساهل والاغترار بعفو الله ورحمته وهو سبحانه غفور رحيم شديد العقاب، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:50] وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] فالعاقل يحذر ولا يغره حلم الله وإملاؤه؛ بل يحذر أبدًا أينما كان ويبتعد عن معاصي الله أينما كان، يسارع إلى ما أوجب الله أينما كان، يرجو ثوابه ويخشى عقابه .

السؤال: ...........................

.....................

وفى حديث جُبير بن نُفَير: ليبْتَلَيَنّ آخِرُ هذه الأمة بالرّجْفِ، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا عاد الله تعالى عليهم بالرّجْفِ، والقَذْفِ، والمسخ، والصواعق.

وقال سالم بن أبي الجَعْد: ليأتينّ على الناس زمانٌ يجتمعون فيه على باب رجل، ينظرون أن يخرج إليهم فيطلبوا إليه الحاجة، فيخرج إليهم، وقد مُسِخَ قردًا أو خنزيرًا، ولَيَمُرّنّ الرجل على الرجل في حانوته يبيعُ، فيرجع إليه وقد مُسخَ قردًا أو خنزيرًا.

وقال أبو هريرة: لا تقومُ الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا، فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك،

الشيخ: وهذا من قسوة القلوب يخرجان إلى المعصية فيمسخ أحدهما قردًا أو خنزيرًا أو تنزل به عقوبة ويستمر الآخر في المعصية، نسأل الله العافية لا يتأثر، نسأل الله العافية.

السؤال:.....................

الشيخ: حسيًا نعم.

فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك، حتى يقضي شَهْوته، وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه، فيُخْسَف بأحدهما، فلا يَمنَع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك، حتى يقضي شهوته منه.

وقال عبد الرحمن بن غَنْمٍ: يوشك أن يقعد اثنان على ثِفالِ رَحًى يطحنان، فيُمْسخ أحدُهما، والآخرُ ينظر.

وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحًا تكون في آخر الزمان وظُلَم، فيفزعُ الناس إلى علمائهم، فيجدونهم قد مسخهم الله.

وقد ساق هذه الأحاديث والآثار وغيرها بأسانيدها: ابنُ أبي الدنيا في كتاب "ذَمِّ الملاهي".

فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولا بدّ، وهو واقعٌ في طائفتين:

- علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم، كما قلبوا دينه.

- والمجاهرين المتَهَتكين بالفسق والمحارم.

ومن لم يُمْسَخْ منهم في الدنيا مُسخ في قَبره، أو يوم القيامة.

وقد جاءَ في حديثٍ الله أَعلم بحاله: (يُحشر أكَلَة الربا يوم القيامة في صورة الخنازير والكلاب)؛ من أجلِ حيلتهم على الربا، كما مُسخ أصحاب داود لاحتيالهم على أخذ الحيتان يوم السبت.

وبكل حال فالمسخ لأجل الاستحلال بالاحتيال قد جاء في أحاديث كثيرة.

قال شيخنا رحمه الله: وإنما ذاك إذا استحلُّوا هذه المحرَّمات بالتأويلات الفاسدة؛ فإنهم لو استحلّوها مع اعتقاد أن الرسول ﷺ حرَّمها كانوا كفارًا، ولم يكونوا من أمته، ولو كانوا معترفين بأنها حرام لأوشك أن لا يعاقبوا بالمسخ، كسائر الذين يفعلون هذه المعاصي مع اعترافهم بأنها معصية، ولَمَا قيل فيهم: يَسْتَحِلّون، فإن المستحل للشيء هو الذي يفعله معتقدًا حِلّه، فيُشْبِهُ أن يكون استحلالهم للخمر يعني به: أنهم يُسَمّونهَا بغير اسمها، كما جاء في الحديث، فيشربون الأنبذة المحرّمة، ولا يسمونها خمرًا، واستحلالهُم المعازف باعتقادهم أن آلات اللهو مجردُ سمع صوت فيه لَذّة، وهذا لا يحرُم كأصوات الطيور، واستحلال الحرير وسائر أنواعه باعتقادهم أنه حلال في بعض الصور، كحال الجرب وحال الحكّة ونحوهما، فيقيسون عليه سائر الأحوال، ويقولون: لا فرق بين حالٍ وحال وهذه التأويلات ونحوها واقعة في الطوائف الثلاثة، الذين قال فيهم عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وَهَلْ أَفْسَدَ الدَّينَ إِلا الملُوكُ وَأحْبَارُ سَوءٍ ورُهْبَانهُا

الشيخ: يعني الملوك والعلماء والعباد، تقع هذه الكوارث بالعلماء المنحرفين وبالأمراء المنحرفين وفي العبّاد المنحرفين، نسأل الله العافية.

ومعلوم أنها لا تُغني عن أصحابها من الله شيئًا، بعد أن بَلّغ الرسول ﷺ، وبيّن تحريم هذه الأشياء بيانًا قاطعًا للعذرِ، مُقيمًا للحجة.

والحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي مالك الأشعري ، قال: قال رسول الله ﷺ: لَيَشْرَبَنّ ناس من أمتي الخمر، يُسمُّونها بغير اسمِها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يَخْسِفُ الله تعالى بهم الأرضَ، ويجعل منهم القردة والخنازير.

الشيخ: نسأل الله العافية والسلامة.

الوجه الثامن: أن النبي ﷺ قال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.. الحديث.

وهو أصل في إبطال الحيل، وبه احتج البخاري على ذلك، فإن مَن أراد أن يعامل رجلًا معاملةً يعطيه فيها ألفًا بألفٍ وخمس مئة إلى أجَلٍ، فأقرضه تسع مئة، وباعه ثوبًا بست مئة يساوي مئة؛ إنما نوى بإقراض التسع مئة تحصيل الربح الزائد، وإنما نوى بالست مئة التي أظهر أنها ثمن الثوب الربا.

والله يعلم ذلك من جِذْر قلبه، وهو يعلمه، ومَنْ عامَله يعلمه، ومن اطلّع على حقيقة الحال يعلمه، فليس له من عمله إلا ما نواه وقصده حقيقة، من إعطاء ألف حالّة، وأخذ ألف وخمس مئة مؤجّلة، وجعل صورة القَرْض وصورة البيع محلِّلًا لهذا المحرّم.

الشيخ: والمقصود أن الحيل لا تجوز، وأن الأعمال بالنيات لقول النبي ﷺ: إنما الأعمال بالنيات فليس لأحد أن يتحيل على محارم الله بأي صورة؛ بل يجب أن يحذر الحيل فإنها من عمل اليهود قبحهم الله، ولهذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل فلا يجوز أن يتحيل على الربا بأي حيلة بل يجب الحذر وأن تؤتى الأمور على وجهها، ولهذا حذر العلماء من الأشياء التي توصل إلى الباطل بالحيل مثل بيع العينة يبيع سلعة إلى أجل ثم يأخذها بأقل حيلة على أن يقرضه ألفًا بألف وخمسمائة فلما عرف أن هذا حرام باعه سلعة بألف وخمسمائة إلى أجل ثم اشتراها منه بألف فصار المعنى أنه أعطاه ألفًا بألف وخمسمائة ولهذا جاءت النصوص بتحريم هذه الحيلة. 

أما مسألة التورق فليست من هذا الباب، وهو أن يشتري سلعة إلى أجل لأنه محتاج ثم يبيعه على الناس ليقضي حاجته يتزوج ليقضي دينًا ليعمر سكنًا إلى أشبه ذلك هذه لا بأس هذه يقال لها تورق هذه ما فيها حيلة على الناس اشترى من زيد غنمًا أو إبلاً أو أرضًا إلى أجل معلوم بأقساط معلومة ثم باعها نقدًا على الناس حتى يستفيد من هذا المال المنقود بقضاء حاجاته من زواج أو استئجار لمسكن أو عمارة لمسكن أو نحو ذلك.

السؤال:.....................

الشيخ: هذه العينة إذا باعها بأقل صارت العينة.

السؤال:....................

الشيخ: إذا شراها له لا بأس، لكن ما يجوز البيع إلا بعدما يتم الشراء، التجار هكذا يشترون ثم يبيعون، إذا اشتراها وحازها وملكها ثم باعها على زيد أو عمرو أو عليك لا بأس.

السؤال:.................

الشيخ: ما يجوز بيع إلا بعد الشراء.

السؤال:..................

الشيخ: الأصل داخل في قوله : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [البقرة:282] من المداينة والتجار هكذا.

وشيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية يمنع ذلك يقول ابن القيم: راجعته مرارًا. ولكن هذا القول قول ضعيف، وإن اختاره الشيخ رحمه الله فقول ضعيف، فيه سد باب فيه رفق بالناس ورحمة للناس ما كل أحد يستطيع أن يقرضه فهذه المعاملة فيها رفق بالناس.

السؤال:...................

الشيخ: ولو لا يبيعها عليه سدًّا للباب إلا برأس المال أو بأكثر.

الوجه التاسع: ما رواه عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي ﷺ قال: البَيِّعان بالخيار حتى يَتَفَرقا، إلا أن يكون صَفْقَةَ خِيارٍ، ولا يحِلّ له أن يفارقه خَشْيَةَ أن يَسْتَقِيلَهُ. رواه أحمد، وأهل السنن؛ وحَسّنه الترمذي.

وقد استدل به الإمام أحمد، وقال: فيه إبطال الحيل. ووجه ذلك أن الشارع أثبتَ الخيار إلى حين التفرّق الذي يفعله المتعاقدان بداعية طباعهما، فحرّم رسول الله ﷺ أن يقصد المفارق منعَ الآخر من الاستقالة، وهى طلبُ الفسخ، سواء كان العقدُ لازمًا أو جائزًا؛ لأنه قصد بالتفرّق غيرَ ما جُعل التفرق في العرف له؛ فإنه قصد به إبطال حق أخيه من الخيار، ولم يوضع التفرقُ لذلك، وإنما جُعل التفرق لذَهاب كلٍّ واحد منهما في حاجته ومصلحته.

الشيخ: يعني لا يشايع بالتفرق حتى يلزمه بالبيع يقوم حسب حاله حسب العادة من دون قصد لهذا القصد، اشترى منه بعيرًا أو أرضًا وتم البيع ليس له أن يقوم حتى يلزمه البيع يخاف أنه يهون لا، يجلسان ويتفرقان كالعادة من دون قصد أما إذا تم البيع يقوم حتى يلزمه البيع فهذا لا يجوز ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله.

السؤال:.....................

الشيخ: خفي عليه الحديث، خفي عليه الأمر، وابن عمر له أشياء غريبة منها هذا، ومنها غسل العينين وإدخال عينيه بالماء حتى عمي ، ومنها أخذه من لحيته بعد الحج ما زاد على القبضة، ومنها تتبع آثار النبي ﷺ في الطرقات، كل هذا مما خالفه فيه العلماء والأئمة وكان اجتهادًا غير موفق، ورحمه.

الوجه العاشر: ما روى محمد بن عَمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: لا ترتكبوا ما ارتكبَتِ اليهود، وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل. رواه أبو عبد الله بن بَطّة: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام، حدثنا الحسن بن الصبّاح الزّعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرٍو.

وهذا إسناد جيد، يصحح مثله الترمذي.

وهو نصٌّ في تحريم استحلال محارم الله تعالى بالحيل، وإنما ذكر ﷺ أدنى الحيل تنبيهًا على أن مثل هذا المحرَّم العظيم الذي قد توعّد الله تعالى عليه بمحاربة من لم ينته عنه.

الشيخ: ومن ذلك قصة اليهود التي أشار لها الحديث، لما منعوا من الصيد يوم السبت تحيلوا كما في سورة الأعراف تحيلوا فنصبوا الشباك يوم الجمعة ثم أخذوا الصيد يوم الأحد، قالوا ما صدنا يوم السبت، كان الصيد يأتي شرعًا يوم السبت يكثر، فشق عليهم أنه جاء يوم السبت وما صادوه فتحيلوا ونصبوا الشباك يوم الجمعة حتى يدخلها فينحاز عنه الماء ويبقى في الشباك ويصيدوه يوم الأحد.

فمن أسهل الحيل على مَنْ أراد فعله: أن يعطيه مثلًا ألفًا إلا درهمًا باسم القَرْض، ويبيعه خِرْقةً تساوى درهمًا بخمس مئة.

وكذلك المطلِّق ثلاثًا: من أسهل الأشياء عليه أن يُعْطي بعضَ السفهاء عشرة دراهم مثلًا، ويستعيره لِيَنْزُوَ على مطلَّقته، فتطيب له، بخلاف الطريق الشرعي، فإنه يصعب معه عَوْدُها حلالًا؛ إذ من الممكن أن لا يُطَلِّق، بل أن يموت المطلِّق أولًا قبله.

ثم إنه ﷺ نهانا عن التّشَبُّه باليهود، وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت بأن حفروا خنادق يوم الجمعة، تقعُ فيها الحيتان يوم السبت، ثم يأخذونها يوم الأحد، وهذا عند المحتالين جائز؛ لأن فعل الاصطياد لم يُوجد يوم السبت، وهو عند الفقهاء حرام؛ لأن المقصود هو الكَفّ عما يُنالُ به الصيد بطريق التسبُّب أو المباشرة.

ومن احتيالهم: أن الله لمَّا حرّم عليهم الشحوم تأوّلوا أن المراد نفس إدخاله الفَمَ، وأن الشحم هو الجامد دون المُذاب، فجَمَلوه فباعوه، وأكلوا ثَمَنه، وقالوا: ما أكلنا الشحمَ، ولم ينظروا في أن الله تعالى إذا حَرّم الانتفاع بشيء فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله؛ إذ البدل يسدّ مسدّه، فلا فرق بين حال جامده ووْدكهِ، فلو كان ثمنه حلالًا لم يكن في تحريمه كبير أمر.

وهذا هو:

الوجه الحادي عشر: وهو ما روى ابن عباس، قال: بلغ عمرَ أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا! ألم يعلَم أن رسول الله ﷺ قال: قاتل الله اليهودَ! حُرِّمت عليهم الشحومُ، فجملوها فباعوها متفق عليه.

قال الخطابي: جملوها معناه: أذابوها حتى تصير وَدَكًا، فيزول عنها اسم الشحم، يقال: جَملتُ الشحمَ، وأجملته، واجتملته؛ والجميل: الشحم المذاب.

وعن جابر بن عبد الله، أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن الله حَرّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله ﷺ! أرأيت شحومَ الميتة، فإنه يُطلىَ بها السُّفُن، ويُدهنُ بها الجلود، ويَستَصْبحُ بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود! إن الله لما حرّم عليهم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه رواه البخاري، وأصله متفق عليه.

قال الإمام أحمد -في رواية صالح وأبي الحارث- في أصحاب الحيل: عمدوا إلي السّنَن، فاحتالوا في نَقْضِها، فالشيء الذي قيل: إنه حرام احتالوا فيه حتي أحلُّوه. ثم احتج بهذا الحديث، وحديث: لعن اللهُ المحلِّل والمحلَّل له.

قال الخطابي وقد ذكر حديث الشحوم: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يُحتالُ بها للتوصِّل إلى المحرَّم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئاته، وتبديل اسمه.

وقد مُثِّلت حيلة أصحاب الشحوم بمن قيل له: لا تَقْرَبْ مال اليتيم، فباعه، وأخذ ثمنه فأكله، وقال: لم آكل نفس مال اليتيم، أو اشترى شيئًا في ذمَّته، ونَقَده، وقال: هذا قد ملكته، وصار عِوضه دَينًا في ذمتي؛ فإنما أكلت ما هو ملكي باطنًا وظاهرًا.

ولولا أن الله سبحانه رحم هذه الأمة بأن نَبِيَّها ﷺ نبَّههم على ما لُعنت به اليهود، وكان السابقون منها فُقهاء أتقياء، علموا مقصود الشارع، فاستقرّت الشريعة بتحريم المحرمات من الميتة والدم، ولحم الخنزير، وغيرها، وإن تبدّلت صورها، وبتحريم أثمانها لطرَّق الشيطان لأهل الحِيَل ما طرَّق لهم في الأثمان ونحوها؛ إذ البابان باب واحد على ما لا يخفى.

الوجه الثاني عشر: أن باب الحيل المحرمة مَدارُهُ على تسمية الشيء بغير اسمه، على تغيير صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمَّى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة؛ فإن المحلل مثلًا غَيّر اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسم المحلِّل إلى الزوج، وغيّر مُسمّى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقةُ حقيقة التحليل.

ومعلوم قطعًا أن لَعْنَ الرسول ﷺ على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم، الذي اللعنةُ من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يَزُلْ بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صُلب العقد إلى ما قبله؛ فإن المفسدة تابعة للحقيقة، لا للاسم، ولا لمجرد الصورة.

وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا، لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة، ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد، يعلمها مِنْ قلوبهما عالم السرائر. فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غَيّرا اسمه إلى المعاملة، وصورتَه إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومَكْرٌ، ومخادعة لله تعالى ولرسوله ﷺ.

وأيّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حَرّم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار وَدَكًا، وباعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا: إنما أكلنا الثمن، لا المثمَّن، فلم نأكل شحمًا.

وكذلك من استحلّ الخمر باسم النبيذ، كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، أنه قال: لَيَشْرَبَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، يُسمونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير.

وإنما أُتي هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنُّوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرّم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جَمْله، واستحلال أخذ الحِيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحةً لنفس الشحم.

بل الذي يستحل الشراب المسكر زاعمًا أنه ليس خمرًا، مع علمه أن معناه معنى الخمر، ومقصودَه مقصودُه، وعملَه عملُه: أفسدُ تأويلًا؛ فإن الخمر اسم لكل شراب مسكر، كما دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة، وقد جاء هذا الحديثُ عن النبي ﷺ من وجوه أخرى:

منها: ما رواه النسائي عنه ﷺ: يشرب ناسٌ من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها وإسناده صحيح.

ومنها: ما رواه ابن ماجه عن عُبادة بن الصامت يرفعه: يشرب ناسٌ من أمتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها،

رواه الإمام أحمد، ولفظه: ليستحلنّ طائفة من أمتي الخمر.

ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضًا من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله ﷺ: لا تذهبُ الليالي والأيام حتى تَشربَ طائفة من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها.

فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالًا، لمّا ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلوه، وكذلك شُبْهتهم في استحلال الحرير والمعازف، فإن الحرير قد أبيح للنساء، وأبيح للضرورة، وفى الحرب، وقد قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32]، والمعازف قد أبيح بعضها في العُرْس ونحوه، وأبيح الحُداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شُبه أصحاب الحيل.

فإذا كان من عقوبة هؤلاء أن يُمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة مَنْ جُرْمُهم أعظم، وفعلهم أقبح؟

فالقوم الذين يُخسَف بهم ويُمسَخون إنما فُعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد، الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء، ولذلك مُسخوا قردة وخنازير، كما مُسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد، الذي استحلوا به المحارم، وخُسف ببعضهم كما خُسف بقارون؛ لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكِبْر والخُيَلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه، فلمّا مَسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولمّا تكبّروا عن الحق أذلهّم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جَمع الله لهم بين هاتين العقوبتين، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83].

وقد جاء ذكر المسخ والخسف في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها.

فصل

وقد أخبر ﷺ أن طائفة من أمته تستحلّ الربا باسم البيع، كما أخبر عن استحلال الخمر باسم آخر.

فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعي، عن النبي ﷺ: يأتي على الناس زمان يستحلّونَ الربا بالبيع، يعني العِينة.

وهذا وإن كان مرسلًا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العِينة.

فإنه من المعلوم أن العينة عند مُسْتحِلِّها إنما يسميها بيعًا، وفي هذا الحديث بيانُ أنها ربًا لا بيع؛ فإن الأمة لم يستحلَّ أحد منها الرِّبا الصريح، وإنما استُحِلَّ باسم البيع وصورته، فصوّروه بصورة البيع، وأعاروه لفظه.

ومن المعلوم أن الربا لم يُحَرَّم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حُرِّم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة في الحِيَل الرِّبوية، كقيامها في صريحه سواءً، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما، ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفسُ الربا، وإنما توسّلا إليه بعقدٍ غير مقصود، وسمّياه باسم مستعار غير اسمه.

ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حُرِّم الربا لأجلها،

الشيخ: والعينة معروفة وهي التي يتعاطها كثير من الناس المتساهلون يأتي الإنسان إلى تاجر ويرغب في أنه يعطيه ألف ألف ومائة أو يعطيه عشرة آلاف أو إحدى عشر ألف يعلم أن هذا ربا ولا يجوز فيتحيلون فيبيع السلعة بإحدى عشر ألف أو اثنا عشر ألف مؤجلة ثم يبيعها عليه نقدًا بعشرة آلاف يأخذها منه، فالمعنى أنه أخذ عشرة ليدفع اثني عشر أو ثلاثة عشر بحيلة البيع، وتسمى العينة؛ لأنها أخذ عين بدين، أخذ عينًا وهي العشرة بدين وهو الاثني عشر أو الثلاثة عشر أو أكثر من ذلك.

ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حُرِّم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدًا من وجوه عديدة:

منها: أنه يُقدِم على مُطالبة الغريم المحتاج بقوة، لا يقدم بمثلها المُرْبي صريحًا؛ لأنه واثق بصورة العقد واسمه.

ومنها: أنه يطالِبُه مطالبةَ من يعتقد حلّ تلك الزّيادة وطِيبها، بخلاف مطالبة المُرْبي صريحًا. غير موجود في المادة الصوتية

ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مُدارَةٌ، والنفوس أرغبُ شيء في التجارة، فهو في ذلك بمنزلة من أحَبّ امرأة حبًّا شديدًا، ويمنعه من وصالها كونهُا مُحَرَّمَةً عليه، فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بَشاعة الحرام وشناعته، فصار يأتيها آمنًا، وهما يعلمان في الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصّلان به إلى الغرض.

ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التي حَرّم الحكيمُ الخبير لأجلها الربا والزنا قوةً؛ فإن الله حرّم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم، والدَّين اللازم الذي لا يَنْفَكّ عنه، وتوَلُّد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه، وتَسْلُبه متاعه وأثاثه وداره، كما هو الواقع في الواقع.

فالربا أخو القمار الّذي يجعل المقمور سليبًا حزينًا مَحْسورًا.

فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المتضمنة لمصالح العباد: تحريمه وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حَرّم التفرّق في الصرف قبل القبض، وأن يبيعَه دِرْهَمًا بدرهمٍ إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يُظنّ بالشارع مع كمال حكمته أن يُبيح التحيُّل والمكرَ على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدةً متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافًا مضاعفة؟

ولو سلك مثلَ هذا بعضُ الأطباء مع المرضى لأهلكهم؛ فإن ما حرّم الله تعالى ورسوله ﷺ من المحرمات؛ إنما هو حِمْيَةٌ لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيبُ مما يَضُرّ المريض حِمْيةٌ له، فإذا احتال المريض أو الطبيبُ على تناول ذلك المؤذي بتغيير صورته مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسمَّاه، ازداد المريض بتناوله مرضًا إلى مرضه، وترامَى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغيُّر صورته، ولا تبدُّل اسمه.

وأنت إذا تأمّلتَ الحيلَ المتضمنة لتحليل ما حرّم الله ، وإسقاطِ ما أوجب، وحَلِّ ما عَقَدَ وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورها وأسمائها، والوِجْدانُ شاهدٌ بذلك.

فالله سبحانه إنما حرّم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المُضرّة بالدنيا والدين، ولم يحرِّمها لأجل أسمائها وصورها، ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدُّل أسمائها وتغيُّر صُوَرها، ولو زالت تلك المفاسد بتغيير الصورة والأسماء لما لعن الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشّحم واسمه بإذابته، حتى استحدث اسم الوَدَك وصورته، ثم أكلوا ثمنه، وقالوا: لم نأكله، وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد.

فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادةٌ في المفسدة التي حُرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونِسْبَة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يُحَرِّم الشيء لمفسدةٍ، ويبيحه لأعظم منها.

ولهذا قال أيوب السختياني: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون. وقال ﷺ: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.

وقال بِشْر بن السريِّ -وهو من شيوخ الإمام أحمد -: نظرتُ في العلم، فإذا هو الحديث والرأيُ، فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنّة والنار، والحلالِ والحرام، والحثّ على صلة الأرحام، وجِماع الخير، ونظرت في الرأي، فإذا فيه المَكْرُ، والخديعة، والتَّشاحُّ، واستقصاء الحق، والمماراة في الدين، واستعمال الحِيل، والبعثُ على قَطيعة الأرحام، والتجرُّؤ على الحرام.

وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل وذُكر أصحاب الحيل، فقال: يحتالون لنقض سُنن رسول الله ﷺ.

والرأيُ الذي اشتُقَّت منه الحيل المتضمنةُ لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله: هو الذي اتفق السلفُ على ذَمِّه وعَيْبه.

فروى حَرْبٌ عن الشّعبي، قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إيّاكُم و"أرأيتَ، أرأيتَ"؛ فإنما هلك من كان قبلكم بـ"أرأيت، أرأيت"، ولا تقيسوا شيئًا بشيء، فتزلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها.

وعن الشعبي، عن مسروق، قال: قال عبد الله: ليس من عام إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقول: أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولا عامٌ أخْصَبُ من عام، ولكن ذهابُ خيارِكم وعلمائكم، ثم يحَدُثُ قوم يقيسون الأمور برأيهم، فَيَنْهدِم الإسلام ويَنْثَلِمُ.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إيّاكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، وتَفَلَّتتْ منهم أن يَعُوها، فاسْتَحْيَوْا حين سُئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوها برأيهم، فإياكم وإيّاهم.

وقال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد: لا يجوز شيءٌ من الحيل.

وفى رواية صالح ابنه: الحيلُ لا نراها.

وقال في رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمرو في حديث: البيِّعان بالخيار، ولا يحلّ لواحد منهما أن يفارق صاحبه خشيَة أن يستقيله، قال: فيه إبطالُ الحِيل.

وقال في رواية أبى الحارث: هذه الحيلُ التي وضعها هؤلاء احتالوا في الشيء الذي قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحَلّوه، وقد قال رسول الله ﷺ: لعن الله اليهود! حُرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها، فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم، وقد لعن رسول الله ﷺ الحالَّ والمحلَّل له.

وقال في رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91]، وقال تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7].

الشيخ: وهذا الحيل شرها عظيم، كلما قل العلم وقل الخوف من الله كثرت الحيل فهي تارة لاستحلال الحرام كالمحلل والعينة وأشباه ذلك، وتارة لإسقاط الواجب كما نبه النبي على هذا في حديث أبي بكر الصديق في الزكاة إذا كانوا مجتمعين أربعين شاة أو خمسين أو ستين مثلًا فإذا قرب مجيء العامل تفرقوا حتى لا تجب عليهم الزكاة كل واحد صار لحاله ما عنده إلا عشرين أو ما عنده إلا ثلاثين إذا جاء العامل قال: أنا ما تم النصاب عندي، فتسقط الزكاة وهو كان مختلط مع صاحبه كانوا أربعين جميعًا خلطة فما كان من خليطين عليهما الزكاة يقتسمان بينهما فإذا جاء العامل تفرقوا حتى لا تؤخذ منهم الزكاة لإسقاط الواجب.

وهكذا ما أشبه ذلك من السعي لإسقاط الواجبات بالحيل من كفارات أو زكاة أو دين أو غير ذلك.

وقال في رواية أبى طالب في التّحَيُّل لإسقاط العِدّة من الحمل: سبحان الله! ما أعجب هذا! أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العِدّة من الحمل، فليس من امرأةٍ تُطلّق أو يموت زوجها إلا تعتدّ من أجل الحمل، ففرْج يُوطأ، ثم يعتقبها على المكان، فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملًا كيف يصنع؟ يطأها رجلٌ اليوم، ويطأها الآخر غدًا! هذا نقضٌ لكتاب الله والسنة، قال النبي ﷺ: لا توطأ حامل حتى تضَع، ولا غير ذاتِ حملٍ حتى تحيض؛ فلا تدري هي حامل أم لا؟ سبحان الله! ما أَسْمجَ هذا!

وقال في رواية حُبَيش بن سِنْدي في الرجل يشتري الجارية ثم يُعتقها من يومه ويتزوجها: أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب، وقال: هذا أخبث قول.

الشيخ: والمعنى أنه يتحيل يشتريها اليوم وعليه أن يستبرئها بحيضة فلا يصبر ويعتقها ثم يتزوجها ويقول أنا استبحتها بالملك إنما تزوجتها لأنها حرة والحرة ليس عليها استبراء وهي غير مطلقة فيتحيل في إسقاط الاستبراء بالحيضة.

وقال في رواية الميموني: إذا حلف على شيء، ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه.

وقال في رواية الميموني فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها، هل يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، فقال له الميموني: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولًا اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو، قلت: أوليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته، وهى على دَرَجه: إن صَعِدت أو نزلتِ فأنتِ طالق، قالوا: تحُمَل حملًا، ولا تنزل، فقال: هذا الحِنْثُ بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحِنْث.

وذُكر لأحمد أن امرأة كانت تريد أن تُفارق زوجَها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارْتَدَدْتِ عن الإسلام بِنْتِ منه، ففعلتْ. فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علَّمه أو رضي به فهو كافر.

وكذلك قال عبد الله بن المبارك، ثم قال: ما أرى الشيطانَ يحُسِن مثل هذا حتى جاء هؤلاء، فتعلَّمه منهم.

وقال يزيد بن هارون: أفتى أصحابُ الحِيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحا، أفْتَوا رجلًا حَلَف أن لا يطلِّق امرأته بوجه من الوجوه، فبُذل له مال كثير في طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يُباشرها.

وذُكرت الحيلة عند شَريك، فقال: من يُخادع الله يخدعه. وقال النضر بن شُمَيل: في "كتاب الحيل" ثلاث مئة وعشرون مسألة كلُّها كفر.

وقال حفصُ بن غياث: ينبغي أن يكتب عليه: "كتاب الفجور".

وقال عبد الله بن المبارك في قِصّة بنت أبى رَوْح، حيث أُمرت بالارتداد في أيام أبى غَسّان، فارتدَّت، ففُرِّق بينهما، وأُودعت السجن، فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أوفي بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هَوِيَهُ ولم يأمر به فهو كافر.

وقال أيوب السختياني: ويلٌ لهم! مَنْ يخدعون؟ يعني: أصحاب الحيل.

وقال بعض أهل الحيل: ما تَنْقِمون منا إلا أنّا عَمَدنا إلى أشياء كانت عليكم حرامًا؛ فاحْتَلْنا فيها حتى صارت حلالًا.

وقال زاذان: قال علي ، يعني وقد رأى مبادئ الحيل: إني أراكم تحلون أشياء قد حرَّمها الله، وتحرّمون أشياء قد أحلَّها الله.

قلت: ومَن تأمل الشريعة، ورُزق فيها فقه نَفْسٍ، رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم، وقابلتهم بنقيضها، وسَدّت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيّل الباطل.

السؤال:.........................

الشيخ: ما يجوز هذا، هذا ردة عن الإسلام من أجاز الربا وقال إنه حلال يكون ردة عن الإسلام، يكون ردة ما يجوز هذا هذا منكر عند جميع العلماء.

السؤال: .....................

الشيخ: على كل حال التحيل منكر سواء سماه فائدة أو غير فائدة................. كون الإنسان يتفقه يعرف المعنى يعرف الحكم الشرعي لا بدّ يكون على بصيرة حتى يعرف الحيلة ويعرف الأصل.

السؤال: ....................

الشيخ: إذا كان يدًا بيد مثل ما قال ﷺ الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح لا يباع شيئًا منها بالآخر مضاعفًا لكن إذا باعه بآخر يدًا بيد لا بأس ذهب بفضة يدًا بيد بر بشعير يدًا بيد، تمرًا بملح يدًا بيد لا بأس، ولهذا قال : فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم وهكذا ما أشبه يلحق بالبر كل ما أشبه بالذرة والدخن والأرز مثله وهكذا يلحق في الذهب والفضة ما أشبه من الموزونات.