40 من حديث (ان الطلاق على عهد رسول اللَّه وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثّلاث واحدة)

1082- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاق الثَّلَاثِ وَاحِدَة، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

1083- وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟! حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.

1084- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَالَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ. وَفِي سَنَدِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ.

1085- وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ أبا رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله تعالى: عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاقُ على عهد النبي ﷺ طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر : "إنَّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة".

"أناة" بالتَّخفيف من غير همزٍ، يعني: كانت لهم به تُؤدة وعدم عجلةٍ.

"فلو أمضيناه عليهم" فأمضاه عليهم. رواه مسلم.

الحديث هذا رواه مسلم بإسنادٍ صحيحٍ معروفٍ عند أهل العلم، من طريق عبدالله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وله ألفاظ في بعضها أنَّ أبا الصَّهباء قال لابن عباسٍ: ألم يكن الطلاقُ على عهد النبي ﷺ طلاق الثلاث واحدة، وفي عهد الصديق، وفي أول خلافة عمر؟ قال: بلى.

وفي بعضها: كان الطلاقُ على عهد النبيِّ .. إلى آخره.

هذا الحديث الصحيح دلَّ على أنَّ الطلاق كان في عهد النبي ﷺ طلاق الثلاث، كان إذا طلَّق بالثلاث بكلمةٍ واحدةٍ قال: هي طالق بالثلاث، أو مُطلقة بالثلاث، كانت تُجعل واحدةً، كما إذا قال: سبحان الله ثلاثًا، أو لا إله إلا الله ثلاثًا، تُعتبر واحدةً، وهكذا كان في عهد الصديق، وفي أول خلافة عمر.

ثم إنَّ عمر رأى أنَّ الناس قد استكثروا من هذا وتتابعوا فيه، فأمضاه عليهم؛ ردعًا لهم عن الوقوع فيما حرَّم الله من إيقاع الطلاق بالثلاث، وهو اجتهاد منه في ذلك؛ ليرتدعوا عن هذا الشيء.

وبهذا أخذ جمهورُ الصحابة، والأئمة بعده من التابعين، والأئمة الأربعة وغيرهم، ساروا على ما سار عليه عمر، وأخذوا بالقضية التي قضى بها رضي الله عنه وأرضاه، وجعلوا طلاقَ الثلاث بلفظٍ واحدٍ مُحرِّمًا لها، مُبينًا لها، لا تحلّ إلا بعد زوجٍ، وهذا هو الذي عليه عمل عامَّة الفقهاء قديمًا وحديثًا، وتأوَّلوا هذا الحديث على تأويلات كثيرة:

فمنهم مَن قال: إنَّ المراد أنهم كانوا في العهد الأول كانوا لا يُطلقون بالثلاث إلا قليلًا، ثم أكثروا منه، وهو يمضى عليهم.

ومنهم مَن قال: إنه كان أنَّ قوله: أنت مُطلقة، ويُكثر منها: أنت مطلقة، أنت مطلقة، أنت مطلقة. ومنهم مَن رأى غير ذلك.

فالحاصل أنهم تأوَّلوا هذا الحديث على عدة تأويلات، وليس شيء منها واضحًا في المعنى، والأقرب والأظهر ما ذهب إليه ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، وقال به جماعة من التابعين، وذهب إليه ابن إسحاق صاحب "السيرة" وآخرون من أهل العلم، واختاره أبو العباس ابن تيمية، وابن القيم: أنه على ظاهره، وأنه كان الطلاقُ في عهد النبي ﷺ وفي عهد الصديق وفي عهد عمر في أول خلافته يُجعل واحدة إذا تلفظ بالثلاث، ولا يكون مُتعددًا إلا إذا كرره، أما إذا لم يُكرر فإنه يكون واحدةً، لكن عمر لما رأى الناسَ أكثروا من هذا وتتابعوا فيه أمضاه عليهم، وجعله كما لو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. أو أنت مطلقة، أنت مطلقة، جعلها تكون واحدةً، فأمضاه بلفظٍ واحدٍ، كما يُمضى لو كان بلفظٍ متعددٍ.

ولكن الاجتهاد يُخطئ ويُصيب، وأمر الطلاق يترتب عليه أمور عظيمة من الفرقة وتفريق الشَّمل، والتَّفريق بين الحبِّ ومحبوبه، وبين الوالدين والأولاد، فيترتب عليه صعوبات كثيرة، ومشاقّ عظيمة؛ فلهذا اختار جمعٌ من أهل العلم أنه واحدة، وأنَّ الحال على عهد النبي ﷺ وعلى عهد الصديق وأول خلافة عمر هي التي ينبغي أن تبقى، وأنَّ الاجتهاد الذي اجتهده عمر رضي الله عنه وأرضاه له وجهه في محلِّه وفي وقته إذا كان الناس يرتدعون، وإذا نُصحوا ينتصحون، وإذا ذكروا يتذكرون، أما لما تغيرت الأحوال وصار إمضاؤها عليهم لا يُردعهم ولا يمنعهم من إيقاع الطلاق فالمصلحة تقتضي جمع الشَّمل وعدم تفريق الشَّمل، وألا يمضي إلا واحدة فقط.

وهذا هو الذي فعله النبيُّ ﷺ مع أبي ركانة في الحديث الثاني: أنَّ أبا ركانة طلَّق امرأته ثلاثًا، فحزن عليها، فردَّها عليه النبيُّ وقال: إنها واحدة، قال: يا رسول الله، قد طلَّقتها ثلاثًا، قال: قد علمتُ، راجعها، فراجعها.

هكذا رواه أحمد في "المسند" بسندٍ جيدٍ، ورواه أبو داود بسندٍ فيه مَن هو مُبهم من أولاد أبي رافع، ولكن سند أحمد جيد؛ فإن ابن إسحاق صرح بالسماع، قال: حدَّثني داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، فزال ما يُخشى من التدليس، فيكون مَن رواه من طريق سعد بن إبراهيم بن يعقوب الزهري، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ. فهو سند جيد تقوم به الحُجَّة، ورواية غيره تعضده وتُؤيده في قصة أبي ركانة، وكلاهما يُؤيد رواية ابن عباس التي رواها مسلم بأنَّ الثلاث واحدة في عهد النبي ﷺ وعهد الصديق وعهد عمر في أول خلافته.

وأما قول المؤلف: أن رواية أبي داود أحسن. فليس بجيدٍ، بل رواية أحمد أصحّ وأولى؛ لأنَّ رواية أبي داود في البتة فيها مجاهيل ومَن لا تقوم به الحُجَّة، ولو كانوا من .....، فإنها لا تقوم به الحُجَّة؛ لعدم ظهور عدالتهم، فلا تكون الطريقة التي رواها أبو داود ..... أحسن، بل رواية أحمد من طريق محمد بن إسحاق: حدَّثني داود، أجود وأحسن.

وهذا هو الأرجح والأظهر: أنَّ طلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ يُعتبر واحدة، كما كان الحالُ في عهد النبي ﷺ، وفي عهد الصديق، وفي أول عهد عمر.

أما إذا كان مُفرَّقًا، كأن قال: طالق، ثم طالق، أو أنت طالق، أنت طالق، ولم ..... بالتأكيد، ولا إفهامًا، فهذا المعروف عند أهل العلم أنه يقع، ولا أعلم من الصَّحابة ولا مَن بعدهم مَن قال بأنه لا يقع إلا واحدة، وتتبعتُ هذا كثيرًا من دهرٍ طويلٍ فلم أقف على أحدٍ من الصحابة ولا من التابعين نصَّ على أنَّ هذا داخل في الحديث، هذا كان الطلاقُ على عهد النبي إلى آخره، وإنما هذا فيما إذا كان بفعلٍ واحدٍ كما قال ابن عباس، قال: أنت طالق .....

وهكذا ما ورد من التَّسبيحات والأذكار المتعددة، كالحديث: كان يُسبح مئة مرة. وحديث: لا إله إلا الله مئة مرة، مَن قال: "لا إله إلا الله" مئة مرة، لو قال: "سبحان الله" مئة مرة ما حصل المقصود، أو قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير" مئة مرة ما حصل المقصود حتى يُكررها، فهكذا الطَّلاق، إنما يكون الطلاقُ بالثلاث إذا كرر، أما إذا كان بلفظٍ واحدٍ فيكون واحدةً.

هذا هو الأرجح، وهو الأظهر، وهو أقلّ ما يُحمل عليه حديث ابن عباسٍ، أقل شيءٍ، وأضيق شيءٍ أن يُحمل على هذا المعنى، ويُؤكد هذا حديث محمود بن لبيد: أن النبيَّ ﷺ سمع رجلًا طلَّق امرأته ثلاثًا فغضب وقال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! فهذا يدل على أنَّ الثلاث غير مرضيةٍ، وأنها لا تُعتبر، فتكون واحدةً؛ لأنها طلاق يُشبه اللَّعب، يُشبه ما لا حقيقةَ له؛ فلهذا كرهه النبيُّ ﷺ وغضب على مَن تكلم به.

ويشمل غضبه ﷺ أيضًا مَن كررها؛ لأنَّ تكرارها يُفضي إلى حرمانها عليه، والتفريق بينهما، والله جعل لهم فسحةً: طلقة، ثم طلقة، ثم الثالثة، فلا يجوز أن يُطلقها بالثلاث؛ لما فيه من التَّضييق على نفسه، وعدم قبول الرخصة التي يسَّر الله له؛ فلهذا غضب ﷺ لمن طلَّق ثلاثًا، قال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! فإن تحريم الثلاث يشمل ما كان بلفظٍ واحدٍ، وما كان بألفاظٍ؛ لأنه عصى ربه، وخالف الطريق الشرعي الذي ينبغي له أن يسلكه.

وهكذا ما رواه ابن عمر: "أما إن كنت طلَّقتها ثلاثًا فقد عصيتَ ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك"، ابن عمر صرَّح بهذا، وأنَّ الطلاق بالثلاث لا يجوز، وأنه معصية.

فمن هذا وهذا أخذ جمعٌ من أهل العلم تحريم إيقاع الطلاق، وهو مذهب أحمد رحمه الله وجماعة من أهل العلم، قالوا: إنه لا يجوز؛ لما فيه من التَّضييق على نفسه، وعدم قبول الرخصة التي جعل الله له للمُراجعة، فليس له أن يُطلقها بالثلاث مكررًا، ولا بالثلاث بلفظٍ واحدٍ؛ لأنَّ جمهور أهل العلم جعلوها مبينةً لها، فينبغي له أن يحذر هذا، وألا يدخل فيه؛ حتى لا يقع في الخلاف.

ومحمود بن لبيد صحابي صغير، أدرك النبيَّ ﷺ، ولم يُحفظ له سماع منه، ولكن مرسل الصَّحابي حُجَّة عند أهل العلم، ليس كمرسل التابعين؛ لأنَّ الصحابة في الغالب يروون عن غيرهم من الصحابة، والأندر خلاف ذلك، فتكون رواية الصَّحابي المرسلة حُجَّة؛ لأنها عن صحابيٍّ آخر تلقَّاها عن الصحابة الآخرين.

وأما حديث البتة، وأن رسول الله حلفه وقال: ما أردتُ إلا واحدةً. فقد ضعَّفه أحمد وجماعة وقالوا: إنه من رواية المجاهيل. والصواب ما رواه ابن إسحاق في هذه المسألة: أنه طلَّقها ثلاثًا، لا البتة. أما رواية البتة فليست بصحيحةٍ عند أهل العلم، والبتة تحتمل، فلو طلَّقها بكنايةٍ تحتمل، فإنه يُقبل قوله في ذلك أنه ما أراد إلا واحدة، وإذا كنا نقبل قوله إذا قال الطلاق ثلاثًا ..... واحدة، فبالكناية من باب أولى، إذا نوى واحدةً من باب أولى، والأحاديث التي فيه حتى لو نوى ثلاثًا لا تُجعل إلا واحدة على الصحيح، خلافًا للجمهور، فلو قال: أنت بائن، أو بتة، أو .....، أو ما أشبه ذلك فإنها تُجعل واحدة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثًا على الصحيح، ولو نواها ثلاثًا، فإن النية أضعف من اللفظ، إذ كان لو صرَّح باللفظ تكون واحدةً على الصحيح، فما كان بالنية من باب أولى أن يكون واحدةً حتى يُصرح بالثلاث مكررًا: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. أو أنت مطلقة، أنت مطلقة، أنت مطلقة. أو أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق. فإذا كررها بهذه الصَّراحة تقع الثلاث، إلا أن ينوي بقوله: أنت مطلقة، أنت مطلقة للتأكيد، أو الإفهام، فله نيته، والله أعلم.

................

1086- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1087- وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ: الطَّلَاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ.

1088- وَلِلْحَارِثِ ابْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَفَعَهُ: لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ فِي ثَلَاثٍ: الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعِتَاقُ، فَمَنْ قَالَهُنَّ فَقَدْ وَجَبْنَ. وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.

1089- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1090- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَثْبُتُ.

1091- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهمَا قَالَ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلِمُسْلِمٍ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا.

الشيخ: قال المؤلفُ رحمه الله: وعن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: ثلاث جدّهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة أخرجه الأربعةُ إلا النَّسائي، وصححه الحاكم.

هذا الحديث يدل على أنَّ هذه الثلاث لا هزلَ فيها، وأن الواجب التَّحفظ، وألا يتكلم إلا عن قصدٍ ونيةٍ، لا عن لعبٍ وهزلٍ؛ لأنها أمور عظيمة، تترتب عليها أحكام عظيمة، فلا ينبغي للعاقل أن يهزل بها:

النكاح: فإذا قال: زوجتُك. وقال الآخر: قبلتُ. وتوافرت الشروط وجبت، ولو قال: إني هازل.

وهكذا لو قال: هي طالق، أو أنت مطلقة. وقع، وإن قال: إنه هازل؛ فإنَّ هذا المقام ليس محل هزلٍ.

كذلك إذا قال: راجعتُ امرأتي، أو أنت مُراجعة، أو قد أمسكتُها، أو ما أشبه ذلك بعد طلاقه لها، وقت الرجعة أيضًا، فلا لعبَ في هذا، ولا هزل في هذا.

ورواية ابن عدي تُؤيد الرواية الأخرى، لكن زاد فيها بدل "الرجعة": "العتاق"، وهكذا رواية الحارث ابن أبي أسامة، وحديث عبادة بن الصامت تُؤيد رواية أبي هريرة، لكن سندها ضعيف، وفيها بدل "الرجعة": "العتاق".

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه هو أمثلها؛ ولهذا هو المعتمد، ولكن العتق في المعنى أعظم من الطلاق، فإذا كان الطلاقُ المبغوض إلى الله يقع ولا ينفع فيه الهزل، فالمحبوب إلى الله من باب أولى أن يقع ولا ينفع فيه الهزل، وهو العتق، فيكون رابعًا، وإن كانت الرواية فيها ضعف، لكن المعنى يعضد ذلك، فإنَّ العتق أمر محبوب إلى الله وقُربة وطاعة، فلا ينبغي فيه التَّساهل واللعب والهزل، بل ينبغي فيه الجدّ؛ لأنه شيء يتقرب به إلى الله ويقصد؛ لما فيه من الفضل العظيم، فلا يليق به الهزل وعدم الجدية.

وحديث أبي هريرة هذا في سنده عبدالرحمن بن حبيب، قد تكلم فيه بعضهم، وقال فيه النَّسائي: منكر الحديث. وبقية رجاله لا بأس بهم ثقات أئمة، وعدَّه ابن حبان من الثِّقات، قال فيه الحاكم: إنه من ثقات المدنيين، والنَّسائي لم يُوضح أسباب نكارة حديثه.

فعلى هذا يكون ما قاله الحاكم وصحَّحه الحاكم وأقرَّه المؤلفُ ولم ينتقده هنا هو الأوجه، وهو حديث ليس في رواته مطعن، وهذا الراوي المعين ليس هناك مطعن واضح وسبب واضح في تضعيف روايته، ثم اعتضد برواية عبادة بن الصامت، وإن كان فيها ضعف، واعتضد بالمعنى، المعنى يُؤيد ذلك؛ فالله جلَّ وعلا أنكر على الهازلين، وكفَّر مَن هزل بآياته وكتابه، فالهزل ليس محل مراعاةٍ ومحل عطفٍ، بل محل إنكارٍ، ومحل إمضاءٍ على صاحبه.

الحاصل أنَّ رواية أبي هريرة وإن كان في أحد رواتها ما سمعت فإنه مُتأيد بالمعنى العظيم الذي دلَّت عليه الشريعة في التَّحذير من الهزل بالأمور الشرعية، وعدم الالتفات إلى صاحبها، وإمضاء الحكم عليه: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65- 66]، فالهازل قريب من المستهزئ، قريب من اللاعب، وهذه الأمور لا يُلعب فيها، ولا يُستهزأ بها، ولا يُهزل بها.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تكلم.

هذا من رحمة الله وإحسانه جلَّ وعلا: أنَّ العبد إذا لم يتكلم ولم يعمل فما يقع في نفسه معفو عنه، قد يقع في نفسه أنه يُطلق، قد يقع في نفسه أنه يعتق، قد يقع في نفسه أنه يزني، قد يقع في نفسه أنه يسرق، فإن لم ينفذ فلا شيء عليه، والحمد لله جلَّ وعلا: إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم.

وهذا يُشبه ما جاء في "الصحيحين" من حديث ابن عباسٍ وغيره: إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمَن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله له حسنة، وإن عملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف، ومَن همَّ بسيئةٍ ولم يعملها لم تُكتب عليه، وفي لفظٍ: كُتب له حسنة؛ لأنه تركها من جرائي.

فهذا يدل على أنَّ الهمَّ بالحسنات ينفع ويُؤجر عليه، أما الهمُّ بالسيئات من دون عملٍ فيُعفا عنه، هذا من كرم الله ، فإنَّ رحمته تغلب غضبه، وعطفه يغلب انتقامه ؛ فلهذا كتب للعبد الهمَّ بالحسنة حسنة، ولم يكتب لمن همَّ بالسيئة السيئة، بل عفا عنها، فإن تركها من أجل الله كتبها الله له حسنةً، فهذا من لطفه وإحسانه جلَّ وعلا.

فإذا همَّ بالطلاق أو عزم عليه ولم يتكلم ولم يعمل فلا طلاقَ، وهذا هو المقصود من ذكره هنا في باب الطلاق: أنَّ الإنسان قد يعزم على الطلاق، وقد ينوي أن يُطلق، وقد يحمل الدَّواة ليكتب، قد يتوجه للمحكمة ليكتب، ثم يرجع ويندم، فلا يقع الطلاقُ حتى يتكلم أو يعمل -يكتب طلاقه- فيقع الطلاق حينئذٍ؛ لأنه عمل مفيد مُبين بالكتابة لمقصده.

فالحاصل أنه ما دام لم يعمل ولم يتكلم وإن عزم على الطلاق، هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، ورُوي عن الزهري وبعض التابعين أنهم قالوا: يقع، كما ينفعه إيمانه وتقواه وخشيته لله. هذا غلط، بل الإيمان والتَّقوى من عمل القلوب، وأما الطلاق فليس من عمل القلوب، بل هو من عمل اللِّسان.

س: .............؟

ج: هذا من جنس الوكالة، لا يقع حتى يُكتب، ما يقع شيء، إذا قال: اكتب، أو أنت وكيلي في الطلاق، ولم يُطلق لا يقع حتى يتكلم الوكيلُ، حتى يُوقعه الوكيل، أو حتى يكتب الكاتبُ؛ لأنه بمعنى الوكالة.

وهكذا لو عزم في نفسه أنه يُراجع، وأنه يعتق، أو أنه يضرب فلانًا، أو يقتل فلانًا، أو يسرق ماله، كل هذا معفو عنه حتى يفعل، هذا من لطف الله .

والحديث الثالث: حديث ابن عباسٍ عن النبي ﷺ أنه قال: رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه أخرجه ابن ماجه والحاكم، وقال أبو حاتم: لا يثبت. الحديث سنده عند أهل العلم ضعيف، وقد حسنه النَّووي رحمه الله في "الروضة" وفي "الأربعين" مراعاةً لشواهده في المعنى؛ فإنَّ له شواهد من القرآن والسنة في المعنى؛ فلهذا حسَّنه.

وأبو حاتم وجماعة -كأحمد بن حنبل رحمه الله وجماعة- قالوا: لا يثبت، بل هو مخالف للنصوص. وأرادوا بهذا أنه مخالف لقوله جلَّ وعلا في الدِّيات: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ [النساء:92]، فألزمه العتق والدية، وهو قتل خطأ.

ولكن لا منافاةَ، ولا يرد عليه هذا؛ فإنَّ الرسول ﷺ بيَّن لنا أنَّ العبد لا يُؤاخذ بما روى حتى يعمل أو يتكلم، هكذا إذا أخطأ أو نسي، فقد قال الله جلَّ وعلا: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، وقال سبحانه: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وصحَّ عن رسول الله أنه قال: قال الله تعالى: قد فعلتُ، قال الله: نعم، فدلَّ ذلك على ..... جاء النص الخاصّ كما في قتل الخطأ وأشباهه مما يُؤخذ به المخطئ؛ سدًّا لباب التلاعب، وسدًّا لباب العدوان على الناس في دعوى الخطأ.

المقصود أنَّ الأصل هو ما دلَّ عليه الحديث، وله شواهد من القرآن العظيم والسنة المطهرة، فالأصل أنه معفو عنه، فإذا أكل ناسيًا في رمضان، يحسب أنه نسي الصيام فأكل أو شرب، فصومه صحيح، كذلك إذا سها في صلاته أو غلط في صلاته -أخطأ في صلاته- ولم يتعمد، لم تبطل صلاته، كمَن قام مع الإمام يحسب أنه يلزمه القيام إذا قام في خامسةٍ؛ لجهله، أو جلس وهو يلزمه القيام جهلًا، فهذا له شواهد كثيرة فيما يتعلق بالجهل والخطأ والنسيان، وكذلك الحجّ: إذا تطيب ناسيًا أو جاهلًا، أو غطى رأسه جاهلًا أو ناسيًا فلا شيء.

فالمقصود أنه في الحكم بالإجماع ..... وقع منه نسيان أو خطأ، أما في الأحكام فالأصل أنه لا يُؤخذ بالأحكام إلا ما قام عليه الدليل، فما قام عليه الدليل أُخذ به، كما في قتل الخطأ، وإتلاف الأموال، والصيد على قول الجمهور، وما أشبه ذلك.

س: .............؟

ج: عند الجمهور يلزم ..... القول الآخر؛ لأنه قال مُتعمِّدًا بنصِّ القرآن، الجمهور قالوا: إنَّ هذا منسوخ في ..... الله على العبد بقتل الخطأ، وهذا من باب الإتلاف، وهو محل نظرٍ هذا الصيد؛ لأنه ليس حقَّ آدمي، ليس من جنس قتل بني آدم، أمر الصيد أمر أوسع، والقول بعدم المؤاخذة به خطأ ليس بالبعيد؛ لأنه لا يُقاس على ابن آدم، فهو قياس بعيد، فدخوله تحت العموم أوجه وأظهر فيما يظهر لي من جهة المعنى.

وأما الإكراه: فالإكراه معلوم، جاء به النص من القرآن: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل:106]، فالأمر فيه أوضح، فإذا كان الإنسانُ إذا تكلم بالكفر مُكرهًا لا يُؤخذ، فإذا تكلم بالطلاق أو بالعتق مكرهًا فمن باب أولى.

فالحديث له شواهد كما عرفت من القرآن والسنة، وإن كان سنده ضعيفًا من حيث السند، لكن من حيث المعنى معناه قويم، والنصوص تدل عليه، والأصل الأخذ به، إلا ما خصَّه الدليل.

والحديث الرابع حديث ابن عباس: إذا حرَّم الرجلُ امرأته فليس بشيءٍ. ثم تلا قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، رواه البخاري، وفي رواية مسلم: فهو يمين يُكفرها.

روايتا ابن عباسٍ هاتان تُفسر إحداهما الأخرى، المعنى: أنه إذا حرَّمها ليس بطلاقٍ، ولا يُحرمها، بل عليه كفَّارة يمينٍ، حكمه حكم اليمين؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1- 2].

هذا قول جماعةٍ من أهل العلم، والمسألة فيها خلاف كبير، قد سرد العلامةُ ابن القيم رحمه الله أقوالَ الناس في "إعلام الموقعين"، وبسط المقام في ذلك، والشارح صاحب "السبل" أشار إلى ذلك، واختار قول مَن قال: إنه ليس بشيءٍ إلا إذا كان فيه يمين فعليه كفَّارتها.

وهذا محل نظرٍ، والذي في الآية الكريمة إنما هو ما جرى للنبيِّ ﷺ، إما من تحريمه مارية، وإما من جهة تحريمه العسل، أو حلفه على مارية بأنه لا يعود إليها، فشرع الله له كفَّارة اليمين، إذا كان واقع من جنس ما وقع للنبي ﷺ ففيه كفَّارة اليمين، والله نهاه، أنكر عليه تحريم ما أحلَّ الله له: إما من جهة مارية الجارية، أو من جهة العسل الذي تظاهرت عليه عائشة وحفصة في أمره.

فالمقصود أنه ﷺ إما أن يكون حرَّم -كما هو ظاهر النص- العسلَ أو مارية، أو مع ذلك حلف ألا يقربها، أو ألا يشرب العسل بعد ذلك الذي فيه الرائحة التي قالوا: إنها رائحة كريهة. وأنَّ نحله رعت العرفط، وهو له رائحة ليست جيدةً، هذا مثلما جاء في الحديث فيه كفَّارة يمينٍ.

وهكذا إذا حرَّم الحلال بأن قال: عليه حرام ما يأكل طعامَ فلانٍ، أو لا يقرب جاريته، أو لا يُكلم فلانًا. هذا ليس له التَّحريم، ولا يجوز له التَّحريم، كما أنكر ذلك على نبيه ﷺ، والله لم يُبح لنا أن نُحرم الحلالَ، قال: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87]، فلا يجوز للمؤمن أن يُحرم ما أحلَّ الله، لكن متى وقع ذلك منه فعليه كفَّارة يمينٍ، كما وقع من النبي ﷺ في هذا المعنى.

أما تحريم الزوجة فليس من جنس تحريم الطعام والشراب ونحو ذلك؛ ولهذا الأرجح فيه أنه من جنس الظِّهار، والظِّهار فيه الكفَّارة المعروفة، المظاهر حرَّمها، إن قال: هي عليه كظهر أمه. معناه: هي عليه حرام كظهر أمه، فإذا قاله صريحًا قال: أنت عليَّ حرام، أو زوجتي عليَّ حرام، مطلقًا هكذا من غير تعليقٍ، فهذا من جنس الظهار، والأقرب فيه أنه تحرم عليه تحريم الظِّهار، فعليه الكفَّارة وتحل له، وقوله منكر لا يجوز، لكن متى قاله مع كونه مُنكرًا تجب الكفَّارة عقوبةً له على إقدامه على هذا المحرم، هذا هو الأظهر في هذا المعنى.

أما إذا قال: هي حرام عليه إن فعل كذا، أو إن كلَّم فلانًا. فالأقرب في هذا أنَّ حكمه حكم اليمين؛ لأنه حينئذٍ إنما أراد منع نفسه من هذا الكلام، أو من لقاء فلان، أو سفره إلى كذا، أو ما أشبه ذلك، وقد فصل هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم رحمة الله عليهما، وبينا أنَّ المعلق الذي يُراد به الحثّ أو المنع أو التَّصديق أو التَّكذيب هذا حكمه حكم اليمين، كما جاء عن جماعةٍ من السلف.

أما إذا كان التحريمُ مطلقًا، كأن يقول: هي عليَّ حرام، هي عليَّ كظهر أمي، أو هي حرام إذا دخل رمضان، أو إذا قدم أبوها، أو ما أشبه ذلك مما ليس فيه حثٌّ ولا منعٌ، فهذا حكمه حكم الظِّهار، هذا هو الأظهر فيه والأقرب والله جلَّ وعلا أعلم.

................

1092- وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، قَالَ: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1093- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ.

1094- وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ أَيْضًا.

1095- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ.

1096- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ -أَوْ يَفِيقَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

الشيخ: هذه الأحاديث لها تعلق بالطلاق، وقد سبق في الباب أحاديث كلها تتعلق بالطلاق، وسبق في الحديث الأول أنَّ الطلاق مبغوض إلى الله، وأنه أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ولكنه مع ذلك من رحمة الله، وهو مبغوض، وتركه أولى مهما أمكن، إلا إذا دعت إليه الحاجة، فهو من رحمة الله أنه سبحانه لم يجعل المرأةَ غلًّا في عنق الرجل ليس له التَّخلص منها، بل جعل له طريقًا إلى التَّخلص إذا لم تحصل المودةُ والمحبَّة والرحمة، ولم يحصل الوئام؛ ليرزقها الله غيره، ويرزقه غيرها: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء:130].

وتقدم أنَّ الطلاق تدخله الأحكام الخمسة: الوجوب، والتحريم، والنَّدب، والكراهة، والإباحة، كما تقدم هنا في حديث عائشة في قصة ابنة الجون: أنَّ النبي ﷺ لما تزوَّجها وأُدخلت عليه ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذتِ بمعاذٍ، وفي اللَّفظ الآخر: لقد عذتِ بعظيمٍ، الحقي بأهلك، رواه البخاري.

هذا يدل على أنَّه ﷺ طلَّق كما طلَّق غيره، فكما أنَّ غيره من الأمة يُطلقون، فهكذا هو أيضًا نكح وطلَّق عليه الصلاة والسلام، والطلاق سنة الله في عباده.

وابنة الجون هذه من كندة، من قحطان، أُرسلت له، أهداها إليه أبوها، كما جاء في عدة روايات وصفه لها بحسنها، فقبلها ﷺ وتزوَّجها، وجيء بها إليه كما روى البخاري في الصحيح، ويقال: إنَّ بعض النساء لما رأوا حسنها وجمالها خدعوها وقالوا لها أنها تحظى عنده إذا قالت: أعوذ بالله منك، كما روى جماعةٌ: كابن سعدٍ وجماعة، فقالت ذلك، فطلَّقها بقوله: الحقي بأهلك.

قد روى البخاريُّ في الصحيح من حديث أبي أسيد السَّاعدي: أنه ﷺ تزوَّجها، ولما جيء بها قالت هذا الكلام، فقال: الحقي بأهلك ..... ابن عبد البر رحمه الله الإجماع على أنه تزوجها، أنها أُهديت إليه بعدما تزوجها، كما ذكر الحافظ في "الفتح" أنَّ ابن عبد البر نقل إجماعَ أهل العلم أنها أُدخلت عليه بعدما تزوَّجها.

واحتجَّ العلماء بهذا على أنَّ "الحقي بأهلك" كناية يقع بها الطلاق كسائر الكنايات، وأنه لا يلزم صريح الطلاق، بل يجوز أن يكون الطلاقُ بالكنايات الدالة على المعنى، فهذه كناية دالة على المعنى، وقد تكون غير كنايةٍ إذا لم يُرد بها الطلاق، مثلما قال كعب بن مالك لما جاءه مندوبٌ من الرسول ﷺ حينما هُجروا، جاءه وصاحباه قال: إنَّ الرسول يأمرك أن تعتزل أهلك، قال: أُطلِّقها قال أم ماذا؟ قال: بل تعتزلها، فقال لها: الحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر.

فكان هذا ليس طلاقًا، إنما هو إذن بذهابها إلى أهلها، وهكذا الكنايات تكون على حسب نية صاحبها.

وفي هذا جوده وكرمه عليه الصلاة والسلام ورحمته وعدم شدته في هذه الأمور، فإنها لما استعاذت منه وقالت: أعوذ بالله منك. تكرم عليها وتركها عليه الصلاة والسلام، ولم يشتدّ في طلبها، أو يقول: الحقّ عليها؛ لأنها زوجتي، كما يفعل بعضُ الناس؛ إذا ساءت الحالُ بينه وبين زوجته اشتدَّ عليها أمره، وابتغى لها كل شرٍّ، ولم يزل يُعاكسها ويُؤذيها، ولا يقبل شيئًا من الصلح، ولا يقبل شيئًا من الفداء: لأيش تكرهني؟! لأيش تبغضني؟! لأيش تعافني؟!

هذا من الغلط، ينبغي من المؤمن أن يكون سمحًا جوادًا كريمًا، إذا لم يكتب اللهُ الوئامَ فالحمد لله، الطلاق باب مفتوح واسع، أو المخالعة، ولا حاجة إلى الإيذاء والتَّشدد وتعطيل المرأة وتعطيل نفسه؛ ولهذا لما ساءت الحالُ بين ثابت بن قيس وامرأته، وجاءت إلى النبيِّ ﷺ قال لها: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة، ولم ينشزها ويُعطلها السنوات كما يفعل بعضُ الناس، لا ينبغي هذا، ينبغي للحاكم أن ينظر في الأمر، ومتى اتَّضح سوء الحال بينهما يُصلح بينهما: إما أن يتكرم الزوجُ بالطلاق مطلقًا، أو يقبل الفداء، أما التَّعطيل فليس من مصلحة الجميع إلا أن يكون هناك رجاء في الوئام، وظنَّ القاضي أنها مخدوعة، وأنها ستفيق، فلا بأس بالمدة اليسيرة التي ينظر فيها في الأمر، وتُمتحن الحال، ولا حاجةَ إلى العجلة، ولكن تركهما المدة الطويلة من أجل إرضاء الزوج وعناد الزوج ليس بلائقٍ، ولا يُوافق سنته ﷺ، ولا يُوافق ما فعله مع ثابت بن قيس وأهله، بل الأولى الكرم والجود، وأنَّ مَن عافك تعافه وتتركه ولا تُعطله، فالأمر إلى الله سبحانه، والله يقول سبحانه: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، والأمور لها حدٌّ محدود، وليس كل أحدٍ يُلائم مَن يخطبها ومَن تُهدى إليه، فقد تكون الأخلاقُ غير متلائمة، والله يكتب المودة والوفاق لمن يشاء، والبغضاء لمن يشاء .

وفي الحديث الثاني: حديث جابر، وحديث مسور، وحديث عبدالله بن عمرو، هذه الثلاثة تدل على أنه لا طلاقَ إلا بعد الملك، بعد النكاح، وأن الزوج إذا طلَّق قبل أن يملك المرأةَ فلا طلاقَ له.

وظاهر الأحاديث العموم، وأنه لا فرقَ بين منجزٍ ومُعلَّقٍ، ولا شكَّ أن المراد المعلَّق؛ لأنَّ المنجز لا يخفى على أحدٍ أنه لا يقع، لا يخفى على العقلاء فضلًا عن أهل العلم، ولا يقول عاقل أنه إذا قال: فلانة مطلقة، أنها تكون طالقًا وهي ليست زوجةً له، ولا يقال: عبد فلان حر، وهو ليس عبد له، ولا إذا قال: نذر عليَّ أن أذبح ناقةَ فلانٍ، أو شاةَ فلانٍ تقرُّبًا إلى الله، المقام في المعلَّق أظهر؛ لأنَّ المنجزات لا يخفى أمرها، وأنها لعب لا وجهَ لها، ولا يتوهم عاقلٌ أنَّ طلاقه لامرأةٍ ليست بعصمته ولم يُعلق طلاقها أنه شيء واقع، فإذا قال لامرأة فلان: أنت طالق، غير زوجته، اعتبره العقلاء لعبًا وهزلًا وسفيهًا، أو قال لعبد فلان: أنت حرٌّ، يقصد عتقه، هذا لا يخفى على أحدٍ.

المقصود أنَّ هذا في المعلقات أظهر؛ ولهذا ذهب الجمهورُ إلى [أنَّ] كلَّ مَن علَّق طلاق امرأةٍ قبل أن يتزوجها فهو باطل، وهكذا العتق على الصحيح، و..... الترمذي رحمه الله كما قال المؤلفُ، وقد روى الترمذي رحمه الله حديث عبدالله بن عمرو كما قال المؤلفُ، وقال: إنه قول أكثر أهل العلم. القول به هو قول أكثر أهل العلم. وقال: إنه حسن صحيح. وقال: إنه أحسن شيءٍ في هذا الباب.

والبخاري ترجم على هذا فقال: باب إذا طلَّق قبل النكاح. ثم ذكر الآية، وهي قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فاستنبط رحمه الله أنَّ الطلاق بعد النكاح لا قبل النكاح كما في الآية الكريمة.

وهكذا جاء عن ابن عباسٍ: أن الطلاق بعد النكاح، ولما قيل له: يُروى عن ابن مسعودٍ أنه قال: يقع. قال: يرحمه الله، إنَّ الله يقول: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ.

المقصود أنَّ حديث مسور وحديث جابر وحديث عبدالله بن عمرو كلها دالة على أنَّ الطلاق المعلَّق لا يقع، المعلق على امرأةٍ لم يتزوجها: إن تزوجت فلانة فهي طالق. وهكذا إذا قال: إذا ملكتُ فلانًا فهو حرٌّ. الصواب أنَّ هذا لا يقع؛ لأنه تعليق قبل أن يملك، فهو كالإنجاز، كما أنَّ الناجز لا يصح، فالمعلَّق لا يصح؛ لأنه علّق وهو لا يملك، فلا يصح، ولا يقع ذلك، وهذا من رحمة الله وإحسانه إلى عباده.

وقد ذهب بعضُهم إلى أنه إذا عيَّن من قبيلةٍ معينةٍ، أو عيَّن المرأةَ قال: إن تزوجتُ فلانة، أو إن تزوجتُ من بني فلانٍ فهي طالق. أما إذا عمَّم قال: كل امرأةٍ تزوجتُها فهي طالق. فلا.

وهذا التفصيل لا دليلَ عليه، ولا وجهَ له، والصواب أنه لا يقع مطلقًا، وهكذا العتق على الصحيح، وهكذا النذر على الصحيح، فإذا قال: إذا ملكتُ فلانًا فهو حرٌّ. أو إذا ملكتُ الحديقة الفلانية فهي نذرٌ لله. الصواب أنَّ هذا كله لا يقع؛ لأنه علَّقه وهو بغير ملكه.

زاد أبو داود في روايته: ولا نذرَ لابن آدم إلا فيما يبتغي به وجهَ الله، ولم يذكر: لا نذرَ فيما لا يملك؛ فإنَّ هذا اللَّفظ الذي ذكره المؤلفُ هو لفظ الترمذي رحمه الله، وابن ماجه لم يذكر الألفاظَ التي ذكرها المؤلفُ هنا، وإنما ذكر الطلاقَ فقط، ولم يسقِ المتنَ كله، حديث عبدالله بن عمرو، وإنما ما ذكره المؤلفُ يُطابق رواية الترمذي، وقد روى ابن ماجه بعضه؛ ولهذا لم يعزه المؤلفُ لابن ماجه؛ لأنه إنما روى بعضَه، وهو ما يتعلق بالطلاق فقط، وإسناده عنده جيد صحيح، شواهده كثيرة.

ومنها حديث جابر، وإن كان قد أعلَّه بعضُهم بالإرسال، ولكن القاعدة: أن الحديث إذا أرسله ثقةٌ، ووصله ثقةٌ، فلا تترجح رواية المرسل، بل الصواب أن ترجح رواية مَن وصله، وقد وصله ثقةٌ، فيكون معتمدًا، وهكذا رواية المسور إسنادها جيد عند ابن ماجه، والتعليل بأنه قد رُوي عن غير الزهري من طريقٍ آخر لا يقدح.

فالحاصل أنه حديث جيد صحيح من جهة تعدد طرقه، حسن من جهة ..... كل إسنادٍ فهو صحيح مُعتمد.

والحديث الخامس حديث عائشة: أن النبي ﷺ قال: رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يعقل -أو يفيق- والصغير حتى يكبر.

هذا أيضًا من لطف الله ورحمة الله؛ لأنَّ هؤلاء ليسوا من أهل التَّصرف: الصغير لم يستكمل العقل حتى يتصرف تصرفًا مستقيمًا، والمجنون لا عقلَ له، والنائم شبه المجنون لا يعقل، فإذا طلَّق النائمُ فلا طلاقَ له، وقد يسأل بعضُ الناس عن هذا، وسبحان الذي أوضح لعباده أحكامهم، قد يُطلق وهو في النوم، إذا استيقظ مُنزعجًا فلا يضرّه ذلك.

المقصود أنَّ الطلاق من النائم ومن الصغير ومن المجنون لا يقع؛ لهذا الحديث: رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل -أو يفيق-، وإسناده لا بأس به عندهم، وهذا من جهة العقاب، من جهة الصغير، أما الثواب فيُكتب له ثواب؛ ولهذا لما رفعت المرأةُ إلى الرسول ﷺ صبيًّا صغيرًا قالت: ألهذا حجٌّ؟ قال: نعم، ولك أجر، وقال: مروا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، فدلَّ على أنهم يُؤجرون، ولكن ليس عليهم إثم حتى يكبروا، وحتى يبلغوا الحلمَ.

أما الطَّلاق فمحل خلافٍ؛ فإن ظاهر الحديث أنه لا يقع منه: من طلاقٍ ونذرٍ وأشباهه؛ لأنَّ فيه إلزامات.

وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه يلزمه الطلاق إذا عقله وعرف أنه يُفرق بين الرجل وأهله، كما يقع في النكاح إذا تزوج، وكذلك يقع منه الطلاق.

والمسألة محل نظرٍ، محل احتمالٍ، وظاهر الحديث رفع القلم عنه فيما قد يضرّه؛ لأنَّ الطلاق قد يضرّه، وهو أشبه شيءٍ بالإثم، الشيء الذي يضره، بخلاف النكاح فإنه ينفعه، ومن جنس الصلاة، عبادة من جنس الصلاة، من جنس الذِّكر، وهو ينفعه ويصح منه، لكن الطلاق يُفرق بينه وبين أهله، فهو محل نظرٍ.

ومَن قال بوقوعه اعتمد المعنى، قال: إنه شيء يعقله، فأشبه بيعه إذا أذن له بالبيع والتَّصرف وعقل ذلك؛ لأنه يعقله ويفهمه، بخلاف النائم، وبخلاف المجنون فإنه لا عقلَ لهما بالكلية.

وعندي توقف في المسألة: هل يصحّ الطلاق منه .....؟ ولكن في هذا نظر، يحتاج إلى مزيد عنايةٍ إلى وقتٍ آخر إن شاء الله.

...............

بَابُ الرَّجْعَةِ

1097- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ ثُمَّ يُرَاجِعُ وَلَا يُشْهِدُ، فَقَالَ: أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ هَكَذَا مَوْقُوفًا، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

وأخرجه البيهقي بلفظ: أن عمران بن حصين سُئل عمَّن راجع امرأته ولم يُشهد، فقال: في غير سنةٍ، فليُشهد الآن.

وزاد الطبراني في روايةٍ: وليستغفر الله.

1098- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعُمَرَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بَابُ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَالْكَفَّارَةِ

1099- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.

1100- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وُقِفَ الْمُؤْلِي حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1101- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولِي. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

1102- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ إِيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

الشيخ: هذا كتاب الرجعة، والرجعة مصدر رجع الرجلُ امرأته رجعة، أو المصدر بمعنى: ردَّها إلى الزوجية، من أعمال الزوجية، وإلا فهي زوجه، لكن المعنى أنه ردَّها إلى حالها الأولى، وأمسكها على حالها الأولى؛ لأنَّ الطلاق يشعث النكاح ويُغبر عليه ويُشوشه، فالرجعة ترده إلى الحال الأولى، وتُزيل ما حصل من الشعث والتغير، وهي بحمد الله جائزة ومشروعة للمؤمن إذا رأى المصلحةَ في ذلك، والحجة في هذا قوله جلَّ وعلا لما ذكر الطلاق قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] يعني: الطلاق الرجعي، وأشار إلى هذا في قوله سبحانه: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1] في سورة الطلاق، فإذا رأى المصلحة شُرع له أن يُراجع، وإن رأى المصلحة في عدمها تركها ولم يراجع.

........... طلق امرأته ثم راجعها ولم يُشهد، فقال: أشهد على طلاقها ورجعتها. خرجه أبو داود، وإسناده صحيح. زاد البيهقي أنه قال: طلاق من غير سنةٍ. زاد الطبراني: وليستغفر الله.

هذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن الإشهاد على الطلاق والرجعة، وأنه يُشرع له ذلك؛ لقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2]، فإن الآية بعد الطلاق وبعد الرجعة؛ لتعمّ الطلاق وتعمّ الرجعة.

وقد أخذ الحافظُ رحمه الله برواية أبي داود، ولم يأتِ بها على وجهها، وهذا من العجب رحمه الله، ولعله حين كتب الحديث هنا كتبه من حفظه، فإنَّ في رواية أبي داود عن عمران قال: سئل عن الرجل يُطلق امرأته ثم يقع بها ولم يُشهد، فقال عمران: طلقت في غير سنةٍ، وراجعت في غير سنةٍ، فأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد.

فحذف المؤلفُ قوله: "طلقت في غير سنةٍ، وراجعت في غير سنةٍ"، ونسب هذا للبيهقي، وهو موجود في "سنن أبي داود"، وسنده صحيح كما قال المؤلف.

فهذا يدل على أنه أملاه من حفظه والله أعلم، ظنَّ أنَّ "في غير سنةٍ" ليست في أبي داود، وقد راجعتُها في نسختين: نسخة العون، ونسخة المتن، وهي هكذا، ويحتمل أن النسخة التي كانت عنده ليس فيها هذا الشيء، محتمل.

المقصود أن رواية أبي داود فيها أن عمران قال للسائل: طلقتَ في غير سنةٍ، وراجعتَ في غير سنةٍ، فأشهد على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تعد. فهذا يدل على شرعية الإشهاد على الطلاق والرجعة.

وذكر التركماني في "الجوهر النقي" نقلًا عن الطحاوي لما ذكر هذه الرواية قال: إنه ليس بين أهل العلم خلاف في أن الإشهاد سنة غير واجبٍ. وقال التركماني أيضًا: إنَّ هذا مثل قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ [الطلاق:2]، وأنه متى جامعها حصل المقصود. ونقل هذا عن جماعةٍ من السلف.

فالسنة أن يُشهد على الطلاق وعلى الرجعة، فإن طلَّق ولم يُشهد وقع الطلاق عند أهل العلم، لا أعلم فيه خلافًا بين أهل العلم، ومَن راجع وقعت الرجعة أيضًا وإن لم يُشهد، لكنه ترك السنة، وإذا جامعها بنية الرجعة وقعت الرجعة أيضًا، قال جمع من أهل العلم: ولو بغير نيةٍ، متى راجعها وقعت الرجعة أيضًا؛ لأنها أبلغ من الكلام، الجماع أبلغ.

والحديث الثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فأمر النبيُّ ﷺ عمر أن يُبلغه أن يُراجعها، وفيه أنه تغيظ لما بلغه ذلك، وأنكر على ابن عمر تطليقه لها في الحيض، وقال له: ليُراجعها، ثم ليُمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم يُطلقها إن شاء قبل أن يمسَّها، فتلك العدةُ التي أمر الله أن تُطلق لها النساء.

وقد ثبت هذا عن ابن عمر من طرقٍ، خرجه الشيخان رحمة الله عليهما، واحتجَّ به العلماء على أنَّ الطلاق في الحيض بدعة لا يجوز، وهكذا في طهرٍ جامعها فيه، ومثله النِّفاس، وإنما السنة أن يُطلق حال كونها طاهرًا من دون جماعٍ، أو في حال الحمل، هذا هو الطلاق الشرعي.

المرأة لها خمسة أحوال:

إحداها: أن تكون حائضًا.

والثاني: أن تكون نفساء.

والثالث: أن تكون طاهرًا في جماعٍ.

ففي هذه الأحوال الثلاث ليس له الطلاق، وليس له أن يُطلق في هذه الأحوال الثلاث.

الحال الرابعة: أن تكون طاهرًا لم يُجامعها، وليست بحاملٍ.

الخامسة: أن تكون حاملًا.

ففي هاتين الحالتين يُشرع له الطلاق، والطلاق في هذا المقام سني؛ ولهذا قال النبيُّ لابن عمر: ثم ليُطلقها طاهرًا أو حاملًا، والجمهور على أنه يقع الطلاق، المعروف عند الأئمة الأربعة والجمهور: أنه يقع الطلاق بدعيًّا، هو منهي عنه لكنه يقع مع ذلك عقوبةً له.

وذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنه لا يقع؛ لأنه على خلاف أمر الله، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ، فلا يقع؛ ولهذا أمره النبيُّ بردها، ولو كان واقعًا لكان أمره بردِّها وتطليقها بعد ..... تكثيرًا للطلاق، ومعلوم من قاعدة الشرع أنَّ الطلاق مبغوضٌ لله، وأن المطلوب تقليله لا تكثيره، فردّها ليُطلقها مرةً ثانيةً تكثير للطلاق، والظاهر من قاعدة الشرع عدم ذلك.

وقد تشبث الجمهور بقوله: فليُراجعها، قالوا: فالرجعة تكون عن طلاقٍ.

وقال آخرون: معنى فليُراجعها فليردّها، ليس المرادُ الرجعة الاصطلاحية، بل المراد الردّ، مثلما قال النبيُّ لبشير بن سعدٍ لما أعطى ابنه النعمان الغلام، قال: أرجعه، فالمراد ردّه، فالمراد هنا بقوله: فليُراجعها أي: يردّها إلى حالها الأولى، إلى عصمته، إلى سكنه، إلى كونها زوجةً له، ليس المراد الرجعة المعروفة التي تقع بعد الطلاق.

ومما يدل على هذا أنه لم يستفصله عن الطلاق، ولم يقل له: هل سبق هذا طلاق؟ فلو كان الطلاقُ واقعًا لاستفصله، قال: كم طلقت؟ وهل قبل هذا طلاق؟

وجاء في بعض الروايات عند مسلم أنه طلَّقها واحدةً، لكن الرسول لم يستفصله عند الفتوى، ومعلوم أنَّ المستفتى يستفصل، لا بدَّ من الاستفصال، هذه الواحدة قد تكون قبلها طلقتان فتحرم عليه، هذا يدل على أنه غير واقعٍ: عدم الاستفصال ..... محرم عليه، فهذا يدل على أنه غير واقعٍ.

وبهذا قال ابن عمر نفسه في روايةٍ عنه صحيحة رواها محمد بن عبدالسلام ..... بإسنادٍ جيدٍ صحيحٍ: أنه جاءه فقال: يا أبا عبدالرحمن، إني طلقتُ امرأتي وهي حائض، فقال: لا تعتدّ بها، أو لا يعتدّ بها.

وقاله طاوس بن كيسان اليماني، أحد التابعين المشهورين، من أصحاب ابن عباسٍ، وقاله خناس بن عمرو الهجري التابعي المعروف، واختاره أبو العباس ابن تيمية، وابن القيم، وجماعة من أهل العلم، وبعضهم حكاه -هذا القول- عن الرافضة والخوارج، ولكن ليس بصحيحٍ، هم قالوا بهذا، لكن .....، وهذا هو الأقرب والأظهر: عدم وقوعه؛ لأنه على خلاف أمر الله، والله قال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، وهذا ما طلَّقها للعدة، بل طلَّقها لغير العدة، فعليه التوبة إلى الله والاستغفار وعدم العودة إلى مثل هذا، وزوجته باقية في عصمته، فإذا أحبَّ أن يُطلقها بعد ذلك طلَّقها بعد أن تحيض حيضةً أخرى ثم تطهر ثم يُطلقها قبل أن يمسَّها، هذا هو الطلاق المعتمد.

وروى أبو داود كما تقدم أنه ردَّها عليه ولم يرها شيئًا، وعزاها المؤلفُ إلى مسلم، وهي في أبي داود بإسنادٍ جيدٍ، تقدم البحثُ في هذا.

ثم ذكر المؤلفُ رحمه الله باب الإيلاء والظِّهار والكفَّارة، وذكر أحاديث الإيلاء، وهي أربعة:

حديث عائشة أنه آلى من نسائه عليه الصلاة والسلام، وجعل الحرامَ حلالًا، وجعل اليمين كفَّارة. خرجه الترمذي.

قال المؤلفُ: ورواته ثقات.

في كلامه هنا رحمه الله نظر، قوله: "ورواته ثقات"، ورواه الترمذيُّ من طريق داود بن عليٍّ ..... داود بن علي بن عبدالله بن عباس أمير مكة، قال في "التقريب": مقبول. وهنا قال: ثقات. كأنه أملاه من حفظه ولم يُراجع السند؛ فسنده فيه ضعف.

قال ابن حبان في داود: إنه ذكره في "الثقات" وقال: إنه يُخطئ. ولم أجد أحدًا وثَّقه، قال ابن عديٍّ: لعل روايته عن أبيه لا بأس بها.

الحاصل أنَّ داود هذا ليس بذاك، ليس مشهورًا بالرواية؛ ولهذا قال الحافظ: مقبول. وقاعدته في المقبول: أنه الشَّخص الذي يُروى عنه رواية قليلة، ولا يرى فيه جرحًا، قد وثَّقه بعضُ الناس ممن -يعني- يتساهل في التَّوثيق: كابن حبان.

والحاصل أنَّ روايته ليست كما قال المؤلفُ: ثقات. بل فيه مَن هو دون ذلك، ولكن إيلاءه من نسائه أمر محفوظ، بل في الصحاح أنه آلى من نسائه شهرًا عليه الصلاة والسلام واعتزلهن، فلما مضى الشهرُ ..... عليه الصلاة والسلام، وكان بسبب قيامهن بطلب النَّفقة وتشديدهن في النَّفقة، فآلى منهن، ثم خيَّرهن الله بعد ذلك في آية الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ الآية [الأحزاب:28].

أما ما يتعلق ..... جعل الحلالَ حرامًا، فهذا في هذه الرواية فسَّره العلماء بامتناعه من مارية، أو امتناعه من العسل، فإنه حصل له في مارية أنه جامعها في بيت بعض نسائه، فصعب عليها ذلك، فحلف أنه لا يأتيها، أو حرَّم أنه يأتيها، على اختلاف الروايات، وكذلك العسل: شرب عسلًا عند زينب، وتظاهرت عليه حفصة وعائشة في ذلك وقالتا: إنَّ هذا العسل فيه رائحة غير طيبةٍ. وحلف ألا يعود له.

فالأظهر في هذا أنه في قصة مارية وقصة العسل، ثم أنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1- 2]، فجعله يمينًا، سواء كان العسل أو مارية؛ لأنها من جملة المال، فإن كان التَّحريمُ لمارية فاليمين، الإنسان إذا حرَّم شيئًا من ماله فاليمين، فلو قال: هذا الطعام عليَّ حرام، أو أمته عليه حرام. فهو يمين، بخلاف الزوجة ففي تحريمها نظر؛ فإنَّ جمعًا من أهل العلم قالوا: إن حكمه حكم المظاهر، وأما ما يتعلق بالجارية وتحريم الطعام أو اللباس أو كلام فلان فهذا كله في حكم اليمين عند أهل العلم، وهذا هو الواقع من النبي ﷺ؛ هو أنه امتنع من مارية، أو من العسل بلفظ اليمين، أو بلفظ التحريم، أو أحدهما على الصحيح، والأقرب بلفظ اليمين، وظاهر الآية الكريمة أنه وقع منه التَّحريم: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، وهو إما للعسل، وإما لمارية بسبب تظاهر النساء عليه، وكلامهن في العسل، أو في مارية.

وهذا يدلنا على فائدةٍ كبيرةٍ: وهي أن الزوج إذا حرَّم جاريته، أو حرَّم شيئًا من الطعام فإنه يكفيه كفَّارة اليمين، وهكذا لو حلف قال: والله لا آكل هذا، أو والله لا أشربه، أو والله لا أطأ فلانة. كفَّارة يمين كافية في هذا.

والإيلاء هو أن يقول، هو أن يحلف أنه لا يُجامع زوجته أو زوجاته مدة معلومة، يقال له: إيلاء، فإن كان أربعة أشهر فأقلّ كفت الفيئةُ ولا كفَّارة عليه، فإن كان أزيد من ذلك -أكثر من ذلك- أُلزم كما يأتي، كما ذكر ابن عمر وسليمان بن يسار، يُوقف: فإما أن يفي ويرجع ويُعطى زوجته، وإما أن يُطلق، فهذا معنى قوله سبحانه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226- 227]، فالصواب أنه ليس بطلاقٍ، ولكن يُوقف، هذا هو الصواب.

وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه طلاق، وليس بجيدٍ، والصواب أنه ليس بطلاقٍ، ولكنه يُوقف بعد مضي الأربعة، إذا كان إيلاؤه أكثر من أربعة، وهكذا لو امتنع من جماعها بغير إيلاءٍ مضارة لها، فإنه يُوقف بعد الأربعة كالمولي من باب أولى: فإما أن يطأ ويفي، وإما أن يُطلق، فإن أبى ألزمه الحاكمُ وقضى عليه.

ورواية الشافعي هذه ذكر البيهقي رحمه الله أنه رواها عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان، هذا سند صحيح على شرط الشَّيخين.

والحديث الرابع حديث ابن عباسٍ: كان إيلاءُ الجاهلية السنة والسنتين، فجعله الله أربعة أشهر، كانت الجاهليةُ تُؤذي النساء وتضارهن بالإيلاء وغيره، والظِّهار وغيره، فجعله الله أربعة أشهر، وبعد الأربعة يُوقف: فإما أن يفي، وإما أن يُطلق.

وذكر أبو داود رحمه الله في "سننه" عن ابن عباسٍ: أنه كان في أول الإسلام يُطلقون كثيرًا، وليس له حدٌّ محدود، وإذا أراد أن يضار المرأة طلَّق، ثم راجع، ثم طلَّق، ثم راجع، وهكذا، كلما أشرفت على نهاية العدة راجع، فيُؤذيها ويضارها، فنسخ الله ذلك، وحصل الطلاق في ثلاثٍ، وأنزل قوله سبحانه: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229].

هكذا رواه أبو داود بإسنادٍ جيدٍ عن ابن عباسٍ في نسخ الطلاق إلى ثلاثٍ، وهذا من رحمته ولطفه بالمسلمين؛ بالرجال لئلا يتلاعبوا، وبالنساء لئلا يضرهن الرجال في هذا المقام، فجعل سبحانه الطلاقَ ثلاثًا فقط، فإذا طلَّق فله الرجعة، ثم إذا طلَّق فله الرجعة، ثم إذا طلَّق الثالثة فلا رجعةَ له؛ لقوله سبحانه: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ [البقرة:230] يعني: بعد الطلقتين، والله أعلم.

...............

1103- وَعَن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي وَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، قَالَ: فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ.

وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَادَ فِيهِ: كَفِّرْ وَلَا تَعُدْ.

1104- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتِي، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا، فَانْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ لَيْلَةً، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: حَرِّرْ رَقَبَةً، قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قُلْتُ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ؟! قَالَ: أَطْعِمْ عِرْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ.

الشيخ: هذان الحديثان يتعلقان بالظِّهار، والظهار بيَّن الله حكمه في كتابه العظيم، وأنه منكر من القول وزور، وأن نساءهم لسن أمهاتهم، وبيَّن جلَّ وعلا أنَّ الواجب في ذلك هو الكفَّارة التي أوضحها في كتابه، وهي العتق وصيام وإطعام على حسب حال العبد، والعتق مقدم، ثم الصيام عند العجز، ثم الإطعام قبل التماس.

وفي حديث ابن عباسٍ هذا أنَّ رجلًا ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها قبل أن يُكفر، فذكر ذلك للنبي ﷺ، فأمره أن يُكفر وألا يعود، يعني حتى يُكفِّر.

وهذا يدل على أنَّ الواجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وألا يقربها حتى يُكفر، ومتى قربها فإنَّ الكفَّارة لا تسقط، بل هي ثابتة وباقية تستقر عليه؛ ولهذا في رواية ..... كفِّر ولا تعد.

وقد أعلَّ بعضُهم -كالنسائي- حديثَ ابن عباسٍ هذا بالإرسال، ورواه أبو داود وغيره مرسلًا ومتَّصلًا؛ مرسلًا عن عكرمة، ومتَّصلًا عن ..... عن ابن عباسٍ، وكلاهما جيد، والمرسل شاهد للمتصل، والمتصل جيد أيضًا، وسبق لنا غير مرةٍ أنَّ القاعدة المعتمدة عند أئمة التحقيق من أئمة الحديث: أنَّ مَن وصل من الثِّقات مُقدم على مَن أرسل، كما أن مَن أتى بالرواية متصلةً غير منقطعةٍ مقدم على مَن أتى بها منقطعةً، فالذي رواه عن عكرمة عن ابن عباس متصلًا لا بأس به، وهو ثقة، فتكون رواية عكرمة المرسلة شاملة لذلك.

والتابعي قد ينشط فيصل الحديث ويرفعه متصلًا، وقد يكون له شغل أو عنده شيء من الكسل فيرويه عن النبي ﷺ رأسًا فيقول: قال رسولُ الله كذا، ونهى رسولُ الله عن كذا؛ اعتمادًا على روايته عن الصَّحابة، كما يقوله واحدٌ منا الآن: قال رسولُ الله كذا. ولا يحتاج إلى أن يأتي بالسند كله.

فإذا قال عكرمة، أو ابن جبير، أو ابن المسيب أو غيرهم: قال رسول الله كذا، ثم جاء عنه في الرواية الأخرى متصلة عن أبي هريرة، عن ابن عباسٍ، عن فلانٍ، فهي لا تُنافي هذه، وتقدم قول الحافظ العراقي: "واحكم بوصل ثقةٍ في الأظهر".

وقال في "النخبة": "وزيادة راويهما -أي: الصحيح والحسن- مقبولة ما لم تقع منافيةً لمن هو أوثق".

الزيادة مقبولة ومعمول بها، وإن كان ذلك خلاف قول الأكثرين؛ فإن الأكثرين يعتمدون الكثرة، فإذا كان المرسل أوثق قدَّموا روايته، أو أكثر قدَّموا روايته. وهذا ليس بجيدٍ، والصواب أنه لا يُقدم، بل يُقدم مَن وصل وإن كان دون مَن أرسل، كما قالوا في: لا نكاحَ إلا بوليٍّ، الصواب أنه متَّصل، وإن كان مَن أرسل كالجبل: كشعبة.

الحاصل أن الثقة إذا وصل مُقدَّم على مَن هو أوثق منه، وإن كان واحدًا على عددٍ؛ لأنه مثل حديث مستقل، رواية مستقلة، كما لو روى حديثًا مستقلًّا مرفوعًا، والآخرون رووا الحديثَ موقوفًا أو مُرسلًا، فكما أنَّ حديثه المستقل مقبول، فهكذا الزيادة ما لم تقع منافيةً لرواية الثِّقات.

وفي هذا الحديث -حديث ابن عباسٍ- الدلالة على أنَّ الواجب على المؤمن ألا يقرب المظاهرة منها حتى يفعل ما أمره الله به من الكفَّارة، فإن قربها أثم وعليه التوبة، والكفَّارة باقية ولا تُكرر، بل هي واحدة.

وزعم بعضُ السلف أنها تُكرر فتكون كفَّارتين، ولكنه قول ضعيف، والصواب الذي عليه الجمهور، وهو ظاهر القرآن الكريم، وظاهر الحديث: أنها لا تُكرر، ولكن يُمسك حتى يُكفر.

وحديث سلمة بن صخر البياضي وما جاء في معناه من قصة أوس بن الصامت -أخي عبادة- كلتا القصتين تدل على أنَّ الواجب على مَن ظاهر أن يفعل ما أمره الله به، وألا يقربها حتى يفعل الكفَّارة؛ ولهذا أمر النبيُّ ﷺ سلمة بن صخر وأوس بن الصامت أمرهما بالكفَّارة، وهي عتق رقبةٍ، فإن عجز صام شهرين مُتتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكينًا، وهذا هو الواجب.

ثم الحكم في الظِّهار من الزوجة كظهر الأم كذلك لو ظاهر منها كظهر الجدة، أو الخالة، أو العمة، أو البنت، الحكم واحد عند جمهور أهل العلم، لا يختص بالأم، فإذا قال: أنت عليَّ كظهر أختي، أو كظهر جدتي، أو كظهر عمتي، فالحكم واحد عند الجمهور؛ إذ المقصود أنه حرَّمها، فإن قوله: أنت عليَّ كظهر أمي معناه: أنت عليَّ حرام كظهر أمي، أو كظهر أختي، أو كظهر عمتي، أو ما أشبه ذلك، والله أعلم.