47 من حديث (ليس على خائن ولا مُنتَهِب ولا مُختلِس قطْعٌ)

1246- وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا إِخَالَكَ سَرَقْتَ، قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ، وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ثَلَاثًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

1247- وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ. وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ.

1248- وَعَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا يُغَرَّمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ.

1249- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّمْرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ، غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.

1250- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ فَشَفَعَ فِيهِ: هَلَّا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ، وَالْحَاكِمُ.

1251- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: جِيءَ بِسَارِقٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا سَرَقَ. قَالَ: اقْطَعُوهُ، فَقطعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَة، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَة كَذَلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الْخَامِسَة، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَاسْتَنْكَرَهُ.

1252- وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ نَحْوَهُ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَتْلَ فِي الْخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الخمسة كلها تتعلق بحدِّ السَّرقة.

الحديث الأول: حديث أبي أمية المخزومي: أنه جيء إلى النبي بلصٍّ، وهو السارق، وقد اعترف اعترافًا، ولم يجد معه متاعًا، كأنه أظهر التَّوبة والنَّدم، وليس معه متاع، ولم يثبت بالشهود، وإنما هو باعترافه، فقال له النبي: ما إخالك سرقت يعني: ما أظنّك سرقتَ، وأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فقال: بلى سرقتُ. وهذا مثلما قال لماعز، فإنَّ التائب الذي يأتي تائبًا نادمًا ينبغي ويُشرع أن يُلقن ما يجعله لا يستمر في إقراره، ويكتفي بالتوبة، ومَن تاب تاب الله عليه، لكنه صمم وأصرَّ بأنه قد سرق، مثلما صمم ماعزٌ حتى أُقيم عليه الحدّ، والغامدية والجهنية، فأمر به النبيُّ ﷺ أن يُقطع ويُحسم.

وهذا جاء من حديث أبي أمية، ومن حديث أبي هريرة، والحديث لا بأس بإسناده، كما قال الحافظ، وهو دليل على أن المقرَّ يُقطع بإقراره إذا لم ينزع ولم يرجع عن إقراره.

واختلف العلماء: هل تكفي مرة أو لا بدَّ من الإقرار مرتين؟

على قولين:

الجمهور على أنه يكفي مرة واحدة، متى أقرَّ مرة واحدة كفى، فيُقطع ويُغرم المال ما لم يرجع عن إقراره.

وذهب أحمد وجماعة إلى أنه لا بدَّ من الإقرار مرتين، واحتجُّوا بهذا الحديث.

وهذا الحديث ليس فيه حُجَّة، وإنما فيه التَّثبت من النبيِّ ﷺ حتى اعترف وأصرَّ على الاعتراف، ولو كان المقصود تكرار الإقرار لكان الأليق أن يُقال: ثلاثًا؛ لأنَّ الراوي شكَّ: هل قال مرتين أو ثلاثًا ..... تكون ثلاثًا حينئذٍ.

المقصود أنَّ الصواب قول الجمهور في هذا، وأنه يكفي مرة، متى اعترف مرة واستمر على ذلك ولم يرجع قُطع وغرم المال، والأصل في الأمور كلها أنَّ الإقرار مرة واحدة يكفي، حتى في الزنا كما تقدم عند جمعٍ من أهل العلم، وإن كان المشهور في الزنا أن يقرَّ أربع مرات كما تقدم، لكن الأصل في الأمور، الإقرارات الأصل فيها أنه يُكتفى بمرةٍ واحدةٍ، هذا هو الأصل، فلا يخرج عنه إلا بدليلٍ .....

وهذا كله إذا تعلق بالقطع، فأما ثبوت المال فيثبت بالإقرار مرة واحدة بلا شبهةٍ، وهكذا يثبت بشاهدٍ واحدٍ، وإنما يُطلب الشَّاهدان للقطع، فلو شهد واحدٌ فقط بأنه سرق، وحلف معه صاحبُ المال ثبت المال، المال الذي يثبت فقط؛ لأنَّ المال يثبت بالشاهد واليمين، لكن تحقيقه في القطع بشهادة عدلين؛ لأنَّ الحدود لها شأن: ادرؤوا الحدود بالشُّبهة، والحدود قد يعتريها غلط، فاحتيط بشاهدٍ ثانٍ، كما احتيط في الزنا واللِّواط بأربعة شهودٍ.

فإذا اعترف السَّارق بالسَّرقة وجب قطعه إذا رُفع للسلطان، أما قبل أن يُرفع للسلطان إذا ..... فيما بينهم وعفوا -أهل المال- ولم يرفعوه، فلا قطعَ عليه، مثلما جاء في حديث صفوان الآتي، لكن متى رُفع للسلطان فإنه يجب أن ينفذ، ولا تجوز الشَّفاعة بعد ذلك؛ حسمًا لمادة الشرِّ، وقضاءً على أسباب اختلال الأمن؛ فإنَّ الناس لو تساهلوا مع السُّراق وأشباههم اختلَّ الأمنُ، وعظمت المصيبةُ بهم، فمتى رُفع أمره إلى السلطان ونواب السلطان: كالأمير والشرطة فإنهم نواب السلطان؛ وجب إنفاذ ذلك، ولا يجوز العفو.

ولهذا لما أتى صفوان بن أمية بالسارق الذي أخذ رداءه، وأمر النبيُّ بقطعه قال: يا رسول الله، قد وهبته له. قال: هلا كان قبل أن تأتيني به؟ فأمر بقطعه عليه الصلاة والسلام ولم يلتفت إلى عفو صفوان بعدما رفعه للسلطان.

وهكذا سائر القضايا يجب أن يُنظر فيها من جهة الرفع وعدم الرفع: فما كانت بين الناس، بين الجيران، بين أهل البيت، إذا عفوا فلا بأس، أما متى رفعوا الأمر إلى السلطان فإنه يجب تنفيذه، سواء كان زنًا أو سرقةً أو غير ذلك.

وفي قصة المخزومية لما جاء أسامةُ يشفع غضب النبيُّ ﷺ وقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! فعُلم بذلك أنه متى رُفع أمر الحدود إلى ولي الأمر وجب أن تُنفذ، ولم يجز لأحدٍ الشَّفاعة، ولم يجز للسلطان قبول الشَّفاعة أيضًا.

وفي هذا أيضًا أنَّ السارق يُحسم حتى لا ينزفه الدم ويهلك، فالمقصود تأديبه، لا قتله، فيُحسم بزيتٍ مغليٍّ حتى تنسد أفواه العروق ويقف الدم بعد القطع، وهكذا في المحاربة.

وأما ما يتعلق بالمتاع الذي سُرق وثبت بالشُّهود فإنه لا يُلقن، بل يجب أن ينفذ فيه الحدّ؛ لأنه ظالم مُتعدٍّ، ثبت عليه الحدُّ بالشهود، فلا وجهَ لقوله: ما أظنك، أو ما إخالك، إنما يُقال هذا في حقِّ مَن اعترف، فإنَّ المعترف إنما يعترف تائبًا، نادمًا، مُقبلًا، غير مُدبرٍ، مُريدًا للخير، هذا هو الغالب على المعترفين، أما مَن ثبت عليه الحقُّ بالشهادة: بالزنا، أو السرقة، فإنه لا يُلقن، بل يجب أن يُؤخذ بالقوة، وينفذ عليه الحدُّ، ويُوبخ على ما فعل من تعديه على الناس وظلمه الناس.

ثم السَّرقة فيها مع العدوان على الأموال فيها ضرر عظيم على المجتمع؛ فإنه يُخيف المجتمع، ويجعل الناسَ في تعبٍ كبيرٍ في ليلهم ونهارهم، فيترتب على السَّرقة من الأذى والشرِّ، وربما أفضى إلى القتال مع أهل البيت، وربما قُتل السَّارقُ، أو قُتل صاحبُ البيت؛ لأنَّ الناس لا يسمحون بأن تُؤخذ أموالهم، بل سوف يُدافعون عنها، والسارق قد يكون معه سلاح، فشرُّه كبير، ليس مُقتصرًا على أخذ المال، بل قد يُفضي إلى القتال والفتن بين السارق وبين الجيران وأهل البيت، فيقع شرٌّ كبيرٌ، فمن حكمة الله، ومن رحمة الله لعباده أن جعل عقوبته عظيمة رادعة؛ حتى يحسم هذا الأمر العظيم الخطير الذي يضرّ المجتمع ضررًا كبيرًا في أمنه، وفي نفوسهم، وفي دمائهم، وفي أموالهم.

وحديث عبدالرحمن بن عوف فيه الدلالة على أنَّ السارق لا يغرم إذا أُقيم عليه الحدّ، لكنه ضعيف، كما ذكر النَّسائي؛ منقطع، فيغرم، يُقطع ويغرم إذا أنفق المال؛ بأن أخذ مالًا فتصرف فيه، أو طعامًا فأكله، أو ما أشبه ذلك، فإنه يغرم بالمثل، بمثل ذاك وقيمته المتقومة، ولا يُسمح عنه بالقطع، فهو مُتعدٍّ ظالم، فيُجمع عليه الأمران: القطع حقّ الله، والغرامة حقّ المسروق منه، فيُجمع بين الأمرين.

وأما قول مَن قال: إنه لا يغرم. فهو قول ضعيف مبني على هذا الأصل الضَّعيف، والأصول الصَّحيحة والقواعد المتَّبعة تُخالف ذلك.

وحديث صفوان تقدم الكلامُ عليه، وأنه إذا سرق الإنسانُ من نائمٍ ما هو تحت رأسه، أو ما هو فراش له، فإنه يُقطع؛ لأنه حِرزٌ، نومه عليه وتوسّده له حرزٌ له، فإذا سرق منه وسادته، أو سرق منه ما تحته، أو سرق عليه لحافه، فإنه يُقطع بهذا الشيء إذا اعترف به، أو قامت به البينة، ولو عفا بذلك لا يُقبل العفو لإسقاط الحدِّ، كما جرى لصفوان.

ويُستدل بذلك [على] أنَّ نوم الإنسان على شيءٍ، أو توسده بالشيء، أو تلحفه للشيء حرزٌ له، فآخذه منه ظالم له، مُتعدٍّ عليه وسارق.

والحديث الرابع حديث عبدالله بن عمرو، عن النبيِّ ﷺ: أنه سُئل عن الثَّمر المعلَّق. الثمر المعلَّق يعني: من تمرٍ أو عنبٍ أو غيرهما، فأصاب بفيه من ذي حاجةٍ فلا قطعَ عليه، ولا شيء عليه؛ لأنَّ الإنسان قد يحتاج إلى هذا الشيء، قد تتوق نفسه، قد يكون جائعًا، فمن رحمة الله أن عفا عن هذا الشيء؛ لأنه شيء يسير، ومَن خرج بشيءٍ منه فعليه العقوبة والغرامة؛ ولهذا قال: لم يتخذ خبنةً.

والخبنة: ما يضمّه إليه في ثوبه، أو في جيبه، أو في إنائه، يُمنع من ذلك، إنما يُعفا عمَّن أكل بنفسه عند وقوفه على الثمر، أما ما أخذه وخرج به فإنه يُحاسَب عليه، ويُعاقب عليه ويغرم.

وفي رواية النَّسائي وأحمد وجماعة: يغرم مثليه. فإذا أخذ كيلو يغرم كيلوين، وإذا أخذ وزنًا يغرم وزنتين، وهكذا عقوبة للسَّارق خاصةً؛ لظلمه وعدوانه وإخافته لأهل البيوت، وإخلاله بالأمن ..... الناس الآخرين أن ينهبوا أو يغصبوا، هؤلاء يغرمون بالمثل، لكن هذا عنده ظلم زائد، وشرٌّ زائد، وهو السَّارق، فمن حكمة الله أن شرع أن يغرم مثليه؛ ليكون أعظم في ردعه، مع الجلد والعقوبة.

أما مَن أخذ شيئًا منه بعد أن يُؤويه الجرين فهذا عليه القطع إذا بلغ المأخوذُ النِّصاب، وهو ربع الدينار.

وفي رواية النَّسائي: ومَن أخذ دون ذلك -يعني: دون النِّصاب- فعليه غرامة مثليه والعقوبة، فإذا أخذ دون النِّصاب عُوقب بالجلدات والتَّأديب، وعُوقب بغرامة مثليه، وهذا هو الصواب في هذه المسألة: أن السارق إذا أخذ ما لا يُوجب القطع غرم مثلي ذلك، غرم مثلي ما أخذ، مع العقوبة الرادعة: من جلدٍ وسجنٍ ونحو ذلك.

ولما أخذ غلمان حاطب بعضًا من الإبل وذبحوها وأكلوها غرمهم عمر مثلي قيمتها، وهكذا في حديث النَّسائي فيمَن أخذ شاةً خارج الحرز، فإنه يغرم مثليها، أما مَن أخذها من الحرز فإنه يُقطع.

فعُلم بذلك أنَّ مَن أخذ من الحرز ما يبلغ النِّصاب قُطع، ومتى اختلَّ ذلك فلم يبلغ النِّصاب، أو لم يكن هناك حرز، فإنه يغرم مثليه ويُعاقب بعقوبةٍ غير القطع عند اختلال شرط القطع: بأن كان من غير حرزٍ، أو كان أقلَّ من النِّصاب فإنه لا يُقطع، ولكن يغرم مثلي المأخوذ مع جلدات؛ نكالًا، تأديبًا وتحذيرًا من العود إلى مثل هذا.

أما حديث جابرٍ -وهو الأخير- فيدل على أنَّ السارق تُقطع أربعه، ويُقتل في الخامسة، لكن مداره على مصعب بن ثابت، وهو لا يُحتج به، وهكذا رواية الحارث بن حاطب لا تصلح للاحتجاج؛ ولهذا ذهب جمهورُ أهل العلم إلى أنه لا يُقتل، ولكن يُقطع في الأولى والثانية، ويُحبس حتى يتوب، فإذا سرق في الأولى قُطعت يمينه، وإذا سرق في الثانية تُقطع يده اليسرى، ثم بعد ذلك يُحبس ويُؤدب بغير القطع، هذا هو الذي تقتضيه الأدلة الشَّرعية، وهو الذي رآه عليٌّ ، وحكم به، وهو الأظهر والأقرب لما فيه من الإبقاء عليه؛ ليُبقِ له يد ..... وينتفع بها.

وذهب قومٌ من أهل العلم -يُروى عن الصديق وعن عمر وجماعة من أهل العلم- أنها تُقطع الأربعة: تُقطع اليد اليُمنى، ثم رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليمنى، ثم يُعاقب بعد ذلك بالحبس، والعياذ بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وذكر الشَّافعي رحمه الله وجماعة أنَّ القتل في الخامسة منسوخ، ولعلَّ الناسخ قوله ﷺ: لا يحل دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة، والسارق ليس من هؤلاء الثلاث فلا يُقتل.

لكن مَن رأى قتله احتجَّ بحديث جابرٍ وما جاء في معناه، وقاسه على الشَّارب يُقتل في الخامسة كما قاله قومٌ، ولكن الأظهر في هذا والأقرب في هذا أنه لا يُقطع بعد الثانية، بل يُحبس حتى يتوب، ويُعاقَب بما يراه وليُّ الأمر من العقوبات غير القطع؛ حتى تبقى له يد ينتفع بها، ورجلٌ يمشي عليها، كما أفتى بذلك عليٌّ ، ومعه جماعة من أهل العلم.

والحديث لا يصلح للاعتماد في هذه المسألة، والله أعلم.

س: إعادة اليد بعد قطعها؟

ج: هذا لا يجوز؛ لأنَّ القطع ما هو المقصود مجرد قطع اليد، إنما قطعها ..... بالكلية حتى لا ينتفع بها، وحتى تبقى إلى أن يموت ويعرف الناسُ ذلك، يكون رادعًا لغيره، فإعادتها خلاف الحكمة التي من أجلها شرع الله القطع، فإنه قد ينسى الأمر، ويظن أنه سليم اليد، وتُنسى القضية، المقصود من هذا الردع.

س: أُفتي بهذا قبل مدة: بجواز مثل هذا؟

ج: هذا غلط، هذا أفتى به قومٌ، وأنكره قومٌ، اختلف الكتاب في هذا، والصواب مع مَن أنكر ذلك، وهذه المسألة في جدول أعمال هيئة كبار العلماء ..... سوف نعلن ما يتم فيها، أما الذي يظهر لنا ونُفتي به أنه لا يجوز.

س: ...............؟

ج: نعم، الصواب في الرواية بالثاء: الثمر المعلَّق، ما هو بالتمر، ثم لو ثبت التَّمر بالتاء فحكم الثَّمر الآخر مثله، يعني: من العنب، والرمان، وأشباهه، الحكم واحد.

...............

س: لو رجع عن إقراره السَّارق .....؟

ج: يغرم المال ويُؤدب ويُحبس، ولكن لا يُقطع عند الجمهور. وذهب داود الظاهري وابن أبي ليلى رحمهما الله إلى أنه يُقطع ولو رجع؛ لأنه حقّ آدمي، فوجب قطعه، كما يجب تغريمه المال، أما أئمة بعض الجمهور فيقولون: لا يُقطع، ولكن يغرم المال ويُؤدب.

س: ................؟

ج: عملًا بالأصول، نعم .....، وقد أجمع المسلمون على أنَّ مَن ظلم فأخذ مالَ أحدٍ يغرم، يلزمه بإجماع المسلمين.

..............

س: أكل الإنسان بغير حاجةٍ ظاهر الحديث أنه يُمنع؟

ج: هو الأقرب، الأقرب والله أعلم أنه لا يفعل إلا إذا كانت له حاجة، الأصل في الأموال احترامها.

س: ...............؟

ج: في المال يصلح بينهم، أما القطع ما له دخل فيه، إذا وصل الحاكمُ يقطع، أما المال إذا سامح صاحبُ السَّرقة وقال: أنا سامح عن مالي، ما في بأس.

...............

بَابُ حَدِّ الشَّارِبِ وَبَيَانِ الْمُسْكِرِ

1253- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ. فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1254- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: جَلَدَ النَّبِيُّ ﷺ أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا.

1255- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّانِيَة فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَة فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الرَّابِعَة فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْأَرْبَعَةُ.

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ صَرِيحًا عَنِ الزُّهْرِيِّ.

1256- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1257- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِم.

1258- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَمْرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: هذا الباب في حدِّ الشارب، وبيان المسكر في حدِّ شارب الخمر، وفي بيان المسكر ما هو.

أما حدّ شارب الخمر فقد بينته الأحاديث، وأنه يُجلد أربعين جلدة، ويُضرب بالنِّعال والثياب والجريد ويُوبخ، وأما المسكر فهو كل ما غيَّر العقل، يقال له: مسكر، مما يجعل الإنسان لا يعلم ما يقول، بل يخلط من أي جنسٍ كان، سواء كان من عنبٍ، أو من تمرٍ، أو من عسلٍ، أو من ذرةٍ، أو من شعيرٍ، أو من غير ذلك، وهو مثلما قال النبيُّﷺ: كل مسكرٍ خمر.

اختلف الناسُ: هل الأصل هو أنه من عصر العنب أو يعمّ؟

فقال قومٌ: إنه يختص بعصر العنب، والباقي يُسمَّى: خمرًا تجوُّزًا.

والصواب أنَّ الخمر في لغة العرب وفي الإسلام: كل ما أسكر مطلقًا، ولا يختصّ بالعنب، كما يأتي حديث أنسٍ -الحديث السادس- أنه حين نزلت عليهم آيةُ الخمر ما كان عندهم إلا خمر التَّمر، الفضيخ.

فالحاصل أنَّ الصواب من حيث الشرع أنَّ الخمر هو كل ما أسكر من أي جنسٍ كان، وقول مَن قال من الفقهاء -كالكوفيين- أنه يختص بما حصل من العنب ليس بجيدٍ.

الحديث الأول حديث أنسٍ : أنَّ النبي ﷺ أُتي بشاربٍ، فجلده النبيُّ أربعين، وهكذا في عهد الصديق، فلما كان عمر استشار الناس. الحديث.

هذا يدل على أنَّ الشَّارب يُجلد وله حدّ؛ ليردعه عن هذا البلاء؛ لأنَّ تعاطي المسكرات فيه من الضَّرر والفساد على الشارب وعلى المجتمع ما لا يُحصيه إلا الله ، وكانت العربُ تُعظم الخمر وتتعاطاها، وتُنشد لها الأشعار، حتى حرَّمها الله في المدينة بعدما مضى زمنٌ طويلٌ من الهجرة؛ لما فيها من الفساد العظيم والشرِّ الكبير.

وكان الشَّاربُ يُضرب بالجريد، ويُضرب بالثياب، ويُضرب بالنِّعال، كما جاء في حديث أبي هريرة وغيره، ثم استقرَّ الأمر في حياته ﷺ على ضربه بالجريد، ثم في حياة الصديق ضربه بالجريد نحو أربعين، ثم إنَّ الحال في زمن عمر اشتدت، فلما فتح الله الفتوح وكثر المسلمون في الشام والعراق كتب خالد إلى عمر: إنَّ الناس قد استهانوا بالعقوبة، فشاور عمر الناس في ذلك، فقال عبدُالرحمن: أخفّ الحدود ثمانون. يعني: الحدود المقدرة في الجلد ثمانون، وهي حدّ القاذف، فإنه أخفّ من حدِّ الزنا، مئة جلدة، فجعله عمر ثمانين ردعًا للناس.

والسبب في هذا: أنه ﷺ لم يُحدد فيه حدًّا جازمًا لا يُزاد عليه، بدليل أنه ﷺ أمر بضربه بالنِّعال من غير تحديدٍ، وبالثياب وبالجريد من غير تحديدٍ، لكن أحصوا من الجلدات كما قال أنس نحو أربعين، فعلم عمر أنَّ الزيادة في هذا وأنَّ رفع العقوبة في هذا أمر لا حرجَ فيه، وهكذا كان عليٌّ في حدِّ الخمر؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يسنّه حدًّا لا يُزاد عليه، بل هو أشبه بالتَّعزير؛ فلهذا وافق عليٌّ على ما قال عمر، ووافق عثمان.

فعُلم بذلك أنَّ شارب الخمر لولي الأمر أن يعتني به من جهة الزيادة، إذا كانت الأربعون أو الثَّمانون لم تردعه، فلولي الأمر أن يزيد في ذلك ما يردع الناس عن تعاطي هذا الشر الكبير.

وقد وقع لعمر أيضًا زيادة في نصر بن الحجاج لما فُتن به النساء أجلاه من المدينة وحلق رأسه.

فالحاصل أنَّ هذا المنكر ليس حدّه مثل حدّ الزنا، أو حدّ السرقة، بل حدّه أن يُردع بما يردعه، ويُعاقب بما يردعه.

وفي حديث عليٍّ: أن عثمان لما أمر بجلد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأمر عليًّا أن يجلده، فقال للحسن: اجلده، فاعتذر الحسن وقال: "وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا"، فأمر عبدالله بن جعفر أن يجلده، وكان يعدّ عليه، فلما بلغ أربعين قال: أمسك. جلد النبيُّ أربعين، وجلد الصديقُ أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكله سنة، وهذا أحبّ إليه، يعني: جلده أربعين. ورُوي عن عليٍّ أنه جلد ثمانين أيضًا.

هذا كله يُبين لنا أنَّ الأمر فيه سعة، وأن الواجب ردع هؤلاء بما يحصل به المقصود: من أربعين، أو ثمانين، أو زيادة على ذلك من العقوبات كالسّجن ونحوه.

والبلاد تختلف، والأحوال تختلف: قد تكون في حال بعض البلاد ليس فيها شراب الخمر، وليس فيها توسع في ذلك، إنما هي نادرة، فقد يقتصر الوالي على أربعين كما كان في عهد النبي وعهد الصديق، وقد يكثر في بلدٍ، أو في إقليمٍ، فيعظم، فيحتاج إلى ثمانين كما فعل عمر، ويحتاج إلى السجن، ويحتاج إلى عقوبات أخرى غيرها رادعة لهؤلاء المجرمين.

وفيه دلالة على أنَّ تقيؤ الخمر يُحكم به بإثباتها على مَن تقيَّأها، فإنَّ في حديث الوليد أنه شهد عليه اثنان: أحدهما شهد أنه شربها، والآخر شهد أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها. وثبت عن ابن مسعودٍ جلد بالرائحة.

فالحاصل أنَّ الصواب في هذا أنه متى ثبت شربه الخمر بالاطلاع على شربه إياها، أو بإقراره بذلك، أو بالقيء والرائحة التي ليس فيها شبهة، والصواب أنه يثبت بالرائحة وبالقيء الذي لا شبهةَ فيه، أما إن كانت فيه شبهة فيُترك حتى يتضح الأمرُ من جهة القيء والرائحة.

والقاعدة: أن البينة كل ما أوضح الحكم، ولا يختص بالشاهدين، فإذا بان الأمرُ بغير الشهود عُمل بذلك، فالبينة: كل ما أوضح الحقَّ وأبانه.

والحديث الثالث حديث معاوية رضي الله عنه وأرضاه: أنَّ النبي ﷺ قال: إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه أخرجه أحمد وأهل السنن الأربعة.

الحديث هذا حديث جيد الإسناد، وله شواهد من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، وغيرهما، وهو دليل على أنَّ الشارب يُكرر عليه الحدّ، وأنه يُقتل في الرابعة، وجاء في بعض الروايات أنه يُقتل في الخامسة، لكن في الرابعة أثبت، وهذا من باب التَّعزير.

وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه منسوخ، جاء هذا عن الزهري، وعن قبيصة بن ذؤيب وجماعة، ذكره الشارح رحمه الله، واحتجوا بأنه جاء في بعض الروايات أنه جيء به في الرابعة فجلده ولم يقتله، قالوا: وهذا يدل على النَّسخ.

وليس هذا بصريحٍ في النَّسخ، ولكنه يدل على أنَّ ولي الأمر له النظر في ذلك، فإن شاء قتله، وإن شاء جلده.

وقد ذهبت الظَّاهرية وابن أبي ليلى -داود الظاهري وجماعة من أهل العلم- إلى القتل في الرابعة، وذهب الجمهور إلى أنَّ القتل منسوخ، وأنه يستمر في جلده ولو كرر أكثر من أربع مرات حتى يرتدع.

والصواب في هذا كما قال أبو العباس ابن تيمية وابن القيم وجماعة: أنَّ هذا يختلف؛ فإن رأى وليُّ الأمر أن الردع لا يحصل إلا بالقتل قتله، وإن رأى أن يستمر في الجلد ولو أكثر من أربعٍ، ولو أكثر من خمسٍ فلا بأس، فالقتل من باب التَّعزير.

وهذا هو الجواب عن الرواية الأخرى عند الترمذي: أنه شرب ولم يقتله، فهو من باب التَّعزير، فإن رأى وليُّ الأمر قتله قتله في الخامسة، أو في الرابعة، أو في أكثر من ذلك، وإن رأى كما قال الجمهور أن يستمر في الجلد ولم يرَ القتل فلا بأس؛ لأنَّ هذا كله جاء عن النبي عليه الصلاة والسَّلام.

والحديث الرابع: حديث أبي هريرة، يقول ﷺ: إذا ضرب أحدُكم فليتَّقِ الوجه.

هذا يدل على تحريم ضرب الوجه، وأنه يعمّ الحدود والتَّعزيرات، والبهيمة والإنسان، فلا يُضرب في الوجه: لا بهيمة، ولا إنسان، لا في حدٍّ، ولا في غيره، فالوجه يُتَّقى.

ولعلَّ الحكمة في ذلك والله أعلم: أنه وجه الإنسان ووجه الحيوان، وأنَّ ضربه يُؤثر أثرًا كبيرًا، وربما أفضى إلى الموت، ثم الشَّيم في وجهه له شأن كبير، بخلاف الشيم في الظهر، أو في الجنب، فإنه أسهل ويُستر، أما هذا فلا يُستر، فالمصيبة به كبيرة، فمن رحمة الله أن نهى عن الضَّرب في الوجه؛ لأنه لا يتحمل؛ ولأنه شيء لا يُستطاع إخفاؤه، فلا يجوز لولي الأمر الضَّرب في الوجه: لا في الحدِّ، ولا في غيره.

وهكذا المقاتِل تُلحق بالوجه، المواضع التي يُعرف أنَّ الضرب فيها يقتل، فلا يُضرب فيها، يُضرب في الظهر، في الفخذين، وأشباه ذلك؛ حتى يحصل الردع من دون تسببٍ بقتله.

واختلفوا في الرأس: هل يُضرب في رأسه أم لا؟

والأقرب والله أعلم أنه لا مانعَ من ضرب الرأس إذا كان لا خطرَ فيه، أو ضرب خفيف من باب التَّخويف والتَّعزير، لكن الضَّرب الذي له أثر ويُخشى منه لا يكون إلا في المواضع التي ليس فيها خطر.

والحديث الخامس: حديث ابن عباسٍ في النَّهي عن إقامة الحدود في المساجد، وهكذا ما جاء في معناه من حديث حكيم بن حزام، المساجد لا تُقام فيها الحدود؛ لأنَّ إقامة الحدِّ في المسجد قد يُفضي إلى تقذيره أو تنجيسه، وإن كانت إقامةُ الحدِّ عبادة، والمساجد محل العبادة، لكن إقامة الحدود بها قد يُفضي إلى وقوع ما لا تُحمد عقباه من التَّقذير والتَّنجيس والضَّوضاء التي قد ترتفع معها الأصوات، فكان من حكمة الله أن شرع إقامة الحدود خارج المساجد، سواء حدّ الزنا للبكر، أو الرجم، أو القطع في السرقة، أو غير ذلك، تكون في خارج المساجد؛ صيانةً لها عما قد يقع من التَّقذير والنَّجاسة؛ وإبعادًا لها عن الضَّوضاء التي قد تقع أو المشاجرات.

والحديث السادس حديث أنسٍ: يدل على أنَّ الخمر مثلما تقدم يكون من العنب، ويكون من التمر، ويكون من غيرهما، وكانت خمورهم حين نزل تحريمُ الخمر من غير العنب، كان الغالبُ في المدينة هو التَّمر، والعنب ليس غالبًا في المدينة، إنما الغالب في الطَّائف ونحوها، أما المدينة فكان الغالبُ عليها التَّمر، وكانوا يتَّخذون خمورهم من التمر، وفي اليمن يتّخذ من الشَّعير، ومن الذرة، ويتّخذ من العسل، ويأتي حديث عمر في هذا الباب.

ولهذا ذهب جمهورُ أهل العلم إلى أنه لا يتعين بالجنس والمادة التي منها الخمر، بل من كل جنسٍ، والحكم يدور مع العلة؛ متى وُجد ما يُغير العقل حُكم عليه بأنه خمر، وهذا هو صريح كلام عمر كما يأتي إن شاء الله، وفَّق الله الجميع.

س: ثمرة خلاف الكوفيين مع الجمهور في هذا؟

ج: الظاهر أنَّ له ثمرة؛ أنَّ الجمهور يقولون: ما أسكر كثيره فقليله حرام. فإذا قلنا: إنَّ العنب أصله الخمر، فما أُخذ منه ولم يُسكر جُلد فيه؛ لأنَّ كثيره يُسكر، والكوفيون يقولون: إنما يكون خمرًا إذا اشتدَّ من التمر، أو من الذرة، ولا يُجلد بقليله، فلا يُسمَّى: خمرًا إلا إذا اشتدَّ.

ويحتاج إلى تحقيقٍ، لكن هذا هو مما يتبادر من الفرق بينهما، وإلا فلا يمكن أن الكوفيين يقولون: إنه إذا اشتدَّ قذف بالزبد من التمر، أو من العسل، لا يُسمَّى: خمرًا، إن كانوا قالوا هذا فهذا مُكابرة، لكن لعله فيما هو أقلّ مما يُسكر، يعني: فما أسكر كثيره فقليله حرام كما بيَّنه النبيُّ ﷺ.

ويحتاج في الحقيقة إلى مراجعة كتب الحنفية؛ لتحليل الفرق في هذا الباب: هل الفرق بينهم مجرد القليل، ما يُسكر كثيره، أو هناك فرقٌ آخر، يعني: في عدم الحكم على مَن شرب مما أسكر من التمر والعسل ونحو ذلك، وأن يكون تعزيرًا؟ هذا محل نظرٍ.

س: ...............؟

ج: هذا له وجهه مثلما تقدم، لكن قول النبي: ما أسكر كثيرُه فقليله حرام هذا واضح في المنع وإبطاله، لكن يُخشى أنَّ هناك فرقًا آخر، يُراجع كلام الحنفية إن شاء الله.

س: في حديث: مَن شرب الخمر لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب تاب اللهُ عليه، وإن عاد وشربها لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا، ومَن تاب تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب لم يتب الله عليه؟

ج: يُراجع، يُراجع حال سنده.

س: القول بأنَّ ولي الأمر له الخيار في القتل وعدمه، هو جمعٌ بين القولين؟

ج: نعم، جمع بين القولين، نعم، يعني: جمع بين القولين وإيضاح أنَّ النسخ ليس بثابتٍ.

س: إذا تبين أنه مخمورٌ من خلال تحليل دمه؟

ج: هذا محل نظرٍ؛ لأنَّ الأطباء قد تتعسر فيهم العدالة، قد لا تتحقق فيهم العدالة، وإلا لو عدلان شهدا في ذلك، وليس هناك شبهة في أنه شرب شيئًا يُشبهه، أو يلبس عليهم هذا الشيء فمحل نظرٍ.

س: ...............؟

ج: أيضًا الأطباء يعزّ فيهم وجود العدل.

س: الآن خرجت الحبوبُ المخدرة، ما يكون مثل الشراب وغيره حتى يتبين، ما يتبين إلا عن طريق الفحص؟

ج: أسأل الله أن يُيسر إقامة الحدّ إذا وضح الأمر والله المستعان، الله يُعيننا على إقامة الحدود متى وضحت وبانت بدون شبهةٍ.

س: الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أنسٍ جلد أربعين، فكيف يُقال أنه ما في حدٍّ محدود؟

ج: لأنَّ الرسول ما قال: يتعين هذا الشيء، أو مَن فعل هذا فاجلدوه أربعين فقط، إنما وقع شيء واقع: جلد أربعين، وضرب بالنعال، وضرب بالثياب، هذا مما يُبين عدم التَّحتم في التَّجريد.

س: بعد ذلك تحددت الآلةُ التي يُضرب بها؟

ج: الجريد المعروف، الجريد المعروف، الضرب بالجريد، وإذا ضرب بشيءٍ نحو الجريد -يعني- لا يزيد ضررًا على الجريد، الأمر واسع، مثل: النعال، ومثل: الثياب كما تقدم، قد يكون الضربُ بالنعال في بعض الأحيان أشدّ.

س: ...............؟

ج: ضربًا مُؤلمًا لا خطرَ فيه، ضربًا يُؤلمه ولا خطرَ فيه.

س: الضَّرب بالخيزران؟

ج: لا نعرف له أصلًا إلا إذا عرف أنه من جنس الجريد، وإلا الأصل منعه.

س: لفظ الحديث: لم يتب الله عليه يكون من أهل النار، وإلا أيش؟

ج: هذا من باب الوعيد إن صحَّ الخبر ..... مثل: مَن أتى كذا فله النار.

س: إذا شممت منه رائحة الخمر يكفي في الجلد؟

ج: فيه خلاف، لكن هذا هو الصواب إذا شهد بها شاهدان.

1259- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1260- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1261- وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1262- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَاقَهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1263- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1264- وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ: أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُمَا.

الشيخ: هذه الأحاديث الستة كلها تتعلق بالخمر، تقدم جملةٌ من الأحاديث في ذلك، وهذا حديث عمر ، يقول لما خطب الناسَ وحذَّرهم من الخمر قال: وهي من خمسة: من العنب، والعسل، والتمر، والحنطة، والشعير. قال: والخمر ما خامر العقل.

تقدم لنا أنَّ الصواب من كلام أئمة اللغة: أنَّ كلَّ ما أسكر فهو خمر من العنب أو غيره، وهنا قول عمر يُؤيد ذلك، وأنه لا يختص بالعنب، فكل ما أسكر يُسمَّى: خمرًا وإن كان من غير العنب، وقد يكون من هذه الخمسة كما قال عمر، يعني: أنها تكون في الغالب من هذه الخمسة، وليس قصد عمر الحصر، إنما قصده أنها تكون من هذه الخمسة في الغالب عند العرب، وقد تكون من غيرها كالذرة، وقد تكون من أشياء أخرى، والجامع مثلما قال: والخمر ما خامر العقل. يعني: خالطه حتى يُغيره، فالخمر فيها الستر، وفيها التَّغطية، وفيها المخالطة، فهي تُغير العقل وتُخالطه وتستره حتى لا يعي ولا يفهم، فما كان بهذه المثابة فهو خمر، من أي جنسٍ كان، فالواجب تركه، والحذر منه، وإقامة الحدِّ على مَن تعاطاه، والله جلَّ وعلا حرَّمها لما فيها من المفاسد الكثيرة، فإنَّ صاحبها قد يقع في أقبح الكبائر، قد يقع في الشرك، وقد يقع في القتل، وقد يقع في الزنا، وقد يقع في غير ذلك بأسباب زوال العقل.

وذكروا عن قيس بن عاصم الصَّحابي الجليل: أنه كان في الجاهلية لا يشربها، ويقول: كيف أرضى لنفسي أن أكون مجنونًا وأنا عاقل؟! وقد ثبت بالنُّصوص المستفيضة عن رسول الله ﷺ، بل المتواترة تحريمها، كما دلَّ عليه كتابُ الله، فاجتمع الكتابُ والسنةُ وإجماعُ أهل العلم على تحريمها وخبثها ووجوب العقوبة فيها.

والحديث الثاني حديث عبدالله بن عمر: كل مُسكرٍ خمر، وكل مُسكرٍ حرام.

هذا من جوامع الكلام: كل مسكرٍ خمر، وكل مُسكرٍ حرام رواه مسلم، الله أعطى نبيَّه جوامع الكلم، وهذا من جوامع الكلم.

هكذا قوله في حديث عائشة عند الشَّيخين: كل شرابٍ أسكر فهو حرام، ولكن قوله: كل مُسكرٍ خمر أجمع؛ لأنه يعمّ الشراب، ويعم الطعام، ويعم غير ذلك.

وروى أحمد وأبو داود وجماعة عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: أنَّ النبي عليه السلام قال: إنَّ الله حرَّم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكرٍ حرام، قال الراوي: والكوبة: الطبل، والميسر هو القمار كما هو معلوم.

وفي "سنن أبي داود" بإسنادٍ حسنٍ عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبيَّ ﷺ نهى عن كل مسكرٍ، وعن كل مُفترٍ.

فكل ما يحصل به فيض العقل ورخاوة الأعضاء وهدورها يُنهى عنه؛ لما فيه من الفساد، وما غيَّر العقلَ فهو الخمر، وما أرخى أعضاءه فهو المفتر.

فعلى المؤمن الحذر من كلِّ ما يضره ويُسبب عليه رخاوة في أعضائه وعطلًا في أعضائه؛ لأنَّ ذلك يضره عاجلًا وآجلًا، وهكذا كل ما يضره من أنواع الضرر الآخر: كأن يضرّ عينه، يضر سمعه، يضر قلبه، يضر أمعاءه، كل شيءٍ يضره يجب عليه اجتنابه؛ لقوله ﷺ: لا ضرر ولا ضرار، فالمسلم يتجنب ما يضره مطلقًا من أكلٍ أو شربٍ أو شمٍّ أو غير هذا من أنواع الضَّرر، لكن ما كان طريقه الإسكار فهو الخمر.

والحديث الثالث حديث جابرٍ: أن النبي ﷺ قال: ما أسكر كثيرُه فقليله حرام، وفي اللفظ الآخر: ما أسكر الفرق منه فكثيره حرام، هذا أيضًا من جوامع الكلم؛ لأنَّ الناس قد يلتبس عليهم الأمر، قد يشكون في بعض الأشياء، فجعل النبيُّ هذه القاعدة تمنع من تعاطي ما قد يضرهم وهم لا يشعرون، فما عُرف أنه يُسكر وجب تركه بالكلية وإن كان قليله لا يُسكر؛ لأنَّ قليله قد يجرّ إلى كثيره، فإذا تعاطى القليل ثم تعاطى القليل جرَّه إلى الكثير، فكان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن سدَّ الباب وحسم المادة؛ حتى لا يتعاطى ما يضرّ العبد ويُوقعه في الخمر وهو لا يشعر، فكل ما عُرف أنه يُسكر وجب تركه وإن كان قليله لا يُسكر.

ومن هذا الباب: الدخان، فإنَّ الدخان فيه أضرار كثيرة: تخدير وتفتير عند فقده، وتخدير وتفتير عند تعاطيه إذا أكثر منه أو طال عليه الأمد، وجزم بعضُ الفقهاء بأنه قد يُسكره إسكارًا واضحًا عند طول المدة، إذا تأخَّر عنه كثيرًا ثم تعاطاه أسكره.

وقد حدَّثني بعضُ مَن لا أتهم ممن رأى شخصًا تأخَّر عنه شرب الدخان ثم شربه وهو على مطيةٍ فسقط، ما تمالك أن يثبت على ناقته.

المقصود أنه علاوة على ما فيه من التَّخدير والتَّفتير والإسكار في بعض الأحيان فيه أضرار كثيرة، حتى قال بعضُ الأطباء: إنَّ أضراره تربو على أضرار الخمر؛ ولهذا الصحيح عند أهل العلم الذين أدركوه تحريمه، ومَن قال بكراهته فقد غلط؛ لأنه ما عرف مضرته؛ ولهذا جزم جمعٌ من أهل العلم الذين أدركوه في القرن العاشر وما بعده بأنه محرم، ولم يشتهر ولم يُعرف إلا في القرن العاشر وما بعده.

وهكذا الحشيشة التي يأكلونها تُسكر، وتزيد على الإسكار التَّخنيث، بأن يُبتلى صاحبُها بالتَّخنث والتَّأنث والميل إلى النساء، مع ما فيها من الإسكار، فهي محرَّمة وفيها الحدّ.

والحديث الرابع: حديث ابن عباسٍ في النَّبيذ، وهو يدل على أنه لا بأس بالنَّبيذ، وأنه ينبذ الإنسانُ عنبًا أو تمرًا أو زبيبًا أو غير هذا من الحلوى في ماءٍ، فإذا حُلي وحسن يشربه، لا بأس بهذا، لكن إذا خشي إسكاره تركه، أو رأى ما يدل على الإسكار من رغوة الزبد تركه؛ ولهذا كان النبيُّ يشربه اليوم والغد وبعد الغد، فإذا كان مساء الثالثة شربه وسقاه، يعني: شربه هو، أو سقاه غيره، فإذا كان فضل شيء أراقه؛ لأنه قد يشتدّ بعد ذلك، قد يقع في الخمر وهو لا يدري؛ فلهذا قالوا: يُباح ثلاثة أيام، ويُراق فيما بعد ذلك النَّبيذ؛ حتى لا يقع المسكر فيما حرَّم الله عليه. وهذا يحتاج إليه الناس في القرى والبلدان التي ماؤها ليس بعذبٍ، إن كانت المياه غير صالحةٍ يحتاج الناس إلى النَّبيذ؛ ليشربوا شيئًا طيبًا، وقد يفعله الناس حتى في البلاد التي مياهها مناسبة، المقصود أن النبيذ لا بأس به، لكن بشرط ألا يزيد على الثلاث.

الخامس حديث أم سلمة: إنَّ الله لم يجعل لكم شفاءكم فيما حرَّم عليكم خرجه البيهقي، وصححه ابن حبان.

هذا يدل على أنَّ ما حرم الله علينا ليس فيه شفاؤنا، ولسنا في حاجةٍ إليه، فلا يُتداوى بالخمر، ولا بالنَّجاسات، ولا بالميتات، ولا بغير ذلك، الله ما حرَّم علينا ما فيه شفاؤنا، ومن هذا حديث: عباد الله تداووا، ولا تداووا بحرامٍ، والحديث الآتي حديث طارق بن سويد: إنها ليست بدواءٍ، ولكنها داء الخمر، فالخمر داء، وهكذا ما حرَّم الله علينا هو داء من النَّجاسات، يُستثنى من هذا ما هو ضرورة فيه كالميتة للضَّرورة، يأكل منها الإنسانُ ما يسدّ رمقه، وأشباهها مما قد يضطر إليه الإنسان: كالكلب والخنزير وما أُهلَّ به لغير الله، إذا اشتدت به الضَّرورة أكل ما يسدّ حاجته؛ حتى لا يموت؛ لقوله جلَّ وعلا: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، والله أعلم.

س: النَّبيذ إذا وضعته بالثلاجة ما يخرب؟

ج: ولو، ولو بعد الثلاث يُترك، ما دام قرره الشارعُ لا نتجاوزه.

س: حكم الصلاة وراء المدخن؟

ج: الصلاة صحيحة خلف كل فاسقٍ، الصحيح أنَّ الصلاة تصح خلف كل فاسقٍ، هذا هو المختار، لكن لا ينبغي أن يُتّخذ إمامًا، يعني: إذا تيسر أن يكون الإمامُ غيره يسعى في ذلك، فقد صلَّى ابنُ عمر خلف الحجاج، وهو من أفسق الناس، وصلَّى جمعٌ كبيرٌ من الأخيار خلفه، وأشباهه، المقصود أنَّ الصواب صحّتها خلف الفاسق الذي ليس بكافرٍ، لكن ينبغي لمن له الأمر ألا يُولي الإمامةَ إلا للعدول والأخيار.

س: الحشيشة يُقام الحدُّ على صاحبها؟

ج: نعم، لا شكَّ، ذكر الشيخُ تقي الدِّين أنها أخبث من الخمر، وبسط فيها الكلام رحمه الله، وأطال وقال: فيها أيضًا التَّخنث.

س: لأنها بجامع الخمر في الإسكار؟

ج: بجامع الإسكار، وتزيد عليه شرًّا آخر في تخنيث الرجل.

س: الأدوية التي تُستعمل في الأمراض النَّفسية تُتَّخذ من موادّ مُخدرة؟

ج: إذا كان شيء لا يضرّ، وإنما تُهدئ الأمراض، ولكن ما يحصل بها سكر، ولا تحصل أضرار على الناس، ولا عليه هو، إنما ..... لإجراء العملية؛ أو لأنه يضطرب فيُعطى شيئًا يُمسكه عن الاضطراب، الظاهر لا حرج؛ لأنَّ هذا خيره أكثر.

س: البيرة التي تُباع في الأسواق؟

ج: ما سمعنا عنها شيئًا، سألنا عنها قديمًا أنها ليس فيها شيء، يقال لي عن بعض الأطباء أنَّ فيها 1،5 أو 1% شيء من المخدرات، ما أدري عن صحَّته، وقد سألنا عنها قديمًا هذه الموجودة في المملكة فقالوا: إنها سليمة، فإن ثبت فيها ما يخدر حرمت.

س: الأصل الإباحة؟

ج: الأصل الإباحة، نعم.

س: ..............؟

ج: ما أتذكر، يمكن غاب عن بالي الآن.

س: عصير العنب المعلب هذا يجلس أكثر من سنة؟

ج: هذا ما هو نبيذ، هذا مستقل.

س: الحبوب المخدرة كلها يُقام على صاحبها الحدّ؟

ج: إذا كانت تُسكر، أما إن كانت تفتر لا، تعزير، إن كانت تُفتر فعليها التَّعزير.

س: بالنسبة للشمة والبيرو؟

ج: القاعدة مثلما سمعتم: إن ثبت أنها مُسكرة وجب منعها، والحدّ فيها، وإلا فالأصل الإباحة: كل مُسكرٍ خمر.

بَاب التَّعْزِيرِ وَحُكْمِ الصَّائِلِ

1265- عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدِّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1266- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ. رَوَاهُ أحمد، وأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، والبيهقي.

1267- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ، فَأَجِدُ فِي نَفْسِي، إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1268- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

1269- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: تَكُونُ فِتَنٌ، فَكُنْ فِيهَا عَبْدَاللَّهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُن الْقَاتِلَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

1270- وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ نَحْوَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ .

الشيخ: هذه الأحاديث تتعلق بالتَّعزير وبأحكام الصَّائل.

التَّعزير مصدر: عزر يُعزر تعزيرًا، يعني: التَّأديب الذي يمنع من تعاطي ما لا ينبغي، يقال: عزَّره يعني: منعه مما لا ينبغي، ويقال: عزره: نصره وحماه وعظمه، فهي كلمة مُشتركة، والمراد هنا: التأديب والتَّوبيخ والتَّقريع والمنع.

وحكم الصائل: مَن يصول على إنسانٍ من إنسانٍ أو دابَّةٍ، ماذا يُفعل به؟ وقد جاءت الشريعةُ بهذا وهذا؛ جاءت بأحكام الصَّائل، وجاءت بالتَّعزير.

والتعزير يكون عند أهل العلم في الذنوب التي لا حدَّ فيها مُقدر من الشارع، هذا محل التعزير، قالوا: وهو موكول إلى ولي الأمر. وحكاه بعضُهم إجماعًا أنه موكول إلى ولي الأمر ينظر فيه، إلا ما جاء فيه حدٌّ محدود من الشارع، فذاك مُلحق بالحدود.

أما الصَّائل فهو الذي يصول عليه من دابَّةٍ أو إنسانٍ يُريد الفتك به وإيذاءه، فتدفعه بما تستطيع، بالأسهل فالأسهل؛ دفعًا لشرِّه، وتوقيًا لخطره.

ومعلوم أنَّ الشريعة كاملة، جاءت بكل ما يحفظ على الإنسان دِينه ونفسه وماله وعِرضه، وجاءت بتحصيل المصالح النَّافعة المفيدة: تكثيرها، وتكميلها، كما أنها جاءت أيضًا بتعطيل المفاسد وتقليلها والقضاء عليها حسب الإمكان، وقد بعث الله نبيَّه ﷺ ليدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، فما من خيرٍ ينفع في الدنيا والآخرة إلا دعا إليه، وما من شرٍّ يضرّ في الدنيا والآخرة إلا حذَّر منه عليه الصلاة والسلام.

فالتَّعزير من هذا الباب، من باب حماية الناس من الشر، ومنعهم منه، سواء كان الشرُّ يتعلق بحقِّ الله، أو بحقِّ العباد، فالذي يُقدم على المعاصي التي ليس فيها حدٌّ محدود يُزجر ويُمنع، ومَن يتعدى على الناس يُزجر ويُمنع، وذلك بالتعزير، وهو يختلف بحسب الجريمة، وبحسب الفاعل، وبحسب حال الزمان من قوة السلطان وضعف السلطان، وجرأة الناس على الشرِّ وقلة ذلك، فعند جرأة الناس على الشرِّ وقلة الرادع يجب على ولي الأمر أن يزيد في التَّعزير، وأن يعظم الأمر؛ حتى يقلَّ الفساد، وعند قلة الفساد وارتداع الناس بأقلّ شيءٍ يكون التعزيرُ على حسب ذلك.

ثم الجريمة تختلف؛ فالجرائم تختلف: فبعضها أشدّ من بعضٍ، فكلما عظمت الجريمةُ وجب أن يكون التَّعزير أعظم، وكلما خفَّت صار التَّعزير بحسبها.

وفي هذا يقول ﷺ: لا يُجلد فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله، وفي لفظٍ: لا تجلدوا فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله بالنهي الصريح، وأما "لا يجلد" فهو خبر معناه النَّهي، وهو أبلغ في التَّحذير، مثل: لا تُشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد، هو أبلغ في التَّحذير.

ورُوي: "لا يجلد" بالجزم، كما قال الحافظُ في "الفتح"، ورُوي "فوق عشرة أسواط، وفوق عشر جلدات، وفوق عشر ضربات"، واختلف العلماءُ ما المراد بهذا؟

فقومٌ خالفوا هذا الحديث: إما لتأويله، وإما لأنه لم يبلغهم، فلم يحددوا بالتَّعزير بهذا المبلغ.

وحمله آخرون من أهل العلم على أنَّ المراد بذلك حظوظ الناس التي لا تعلق لها بمعاصي الله.

وقوله: إلا في حدٍّ من حدود الله يعني: إلا في معصيةٍ من معاصي الله، وقالوا: هذا فيما يقع بين الناس في حقوقهم، لا في معاصي الله، فلا يُؤدب بأكثر من عشرة أسواط: كتأديب الرجل زوجته، وتأديب الرجل ولده، وتأديب السيد خادمه، وما أشبه ذلك، والمعلم صبيه، وما أشبه ذلك من الحقوق التي تتعلق بالتأديب الدنيوي والحق الدنيوي، لا في معاصي الله .

وهذا القول أقرب هذه الأقوال وأظهرها، وهو الذي اختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمة الله عليهم؛ لأنَّ الرسول قال: إلا في حدٍّ من حدود الله، والحدّ يُطلق على المقدر: كحد الزنا، وحد السرقة، ويُطلق على المعاصي نفسها، يقال لها: حدّ، ويُطلق على الفروض المقدرة، يقال لها: حدّ، قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، هذه الفرائض المعينة، وقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، هذه معاصٍ نهى عن قربانها؛ لكونها مُحرمةً.

فما كان من المعاصي، وما كان من حقوق الله هذا لا حدَّ له، بل يُؤدبه وليُّ الأمر بما يرى، وإن كان فوق عشرة أسواطٍ؛ لأنه حدٌّ من حدود الله، أما ما كان من حقِّك مع ولدك، مع زوجتك، مع خادمك، فيكون الحدُّ عشرة أسواط وأقلّ، وهذا أظهرها وأبينها وأرجحها وأقربها.

ومما يدل على هذا أنَّ الرسول ﷺ أمر بجلد الذي أتى جارية امرأته؛ لأنها أحلتها له، أمر بجلده مئة جلدة على سبيل التَّعزير، وعمر جلد مئةً، وكرر ذلك في حقِّ مَن نقش على خاتمه؛ لما في هذا من العدوان والغشّ والخيانة، وعليًّا جلد العشرين لمن أكل في رمضان، وغير هذا مما فيهم القاعدة وقعت من الصحابة.

كل هذا يدل على أنه يختلف التَّعزير، وأنه يجوز فيه الزيادة على العشر إذا كان في حقِّ الله ، فأحسن ما حُمل عليه الحديث أنه فيما يتعلق بحقِّ المخلوق على المخلوق؛ لأنه قال: إلا في حدٍّ من حدود الله، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا فيما يتعلق بحقِّ المخلوقين، وعلى هذا لا يرد عليه شيء.

والحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي ﷺ أنه قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسائي، والبيهقي. وسكت عنه المؤلفُ، فظاهر أنه حسن عنده، وقد صرح بذلك فيما نُقل عنه، ورد على مَن قال: إنه موضوع. ورده على مَن ضعَّفه.

واختلف العلماء في هذا الحديث: منهم مَن قال: إنه موضوع. ومنهم مَن قال: إنه ضعيف؛ لأنه يدور على عبدالملك بن زيد بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل العدوي، جده أحد العشرة، فضعَّفه قومٌ، وحسَّن حاله آخرون منهم النَّسائي، فإنه حسَّن حاله، وكذلك تابعه ابنُ حبان، وجعله في "الثِّقات".

وظاهر عمل المؤلف في "التقريب" وهنا يدل على توثيقه؛ لأنه قال: وقال النَّسائي: لا بأس. وسكت على قول النَّسائي، وهنا سكت ولم يُعقبه بتضعيفٍ، فدلَّ ذلك على أنه حسن عنده.

وذكر المناوي أنَّ له شواهد، فهو من باب الحسن، والمعنى واضح، تكلم عليه ابنُ القيم رحمه الله: إما في "الإعلام"، وإما في "البدائع"، مما يدل على أنه صالح للاحتجاج، وأنَّ معناه غير مخالفٍ لقواعد الشريعة.

و"ذووا الهيئات" هم ذووا الشأن من ذوي المروءات والعلم والفضل والعبرة على الناس، والولاية على الناس ممن قد يترتب على الدِّقة في حقِّهم وتعزيرهم في كل شيءٍ، قد يترتب على هذا فساد كبير في الأمة، فإذا وقعت منهم الهفوة والزلة التي ليس فيها حدٌّ من حدود الله فينبغي أن يُقالوا إذا رأى وليُّ الأمر ذلك؛ حسمًا لمادة الشرِّ التي قد تترتب على عقابه، وإخفاء لهذه الزلة وعدم إظهارٍ لها؛ لأنه من ذوي الهيئات: إما أمير له شأن، وإما قاضٍ له شأن، وإما عامل له شأن، وإما شيخ قبيلةٍ له شأن، وإما كبير في الناس، فإذا زلَّ زلةً تُعتبر من صغائر الذنوب، أو تُعتبر نادرةً قد تخفى عليه، وقد يضطر إليها، فينبغي لولي الأمر أن يُقدر ذلك، وأن يعفو عنها، وأن يُخاطبه بما يليق بمقامه.

قالوا: ويشهد لهذا قصة النبي مع عبدالله بن أُبي؛ فإنه تسامح معه كثيرًا، مع أنه رأس النِّفاق، ويقع منه أشياء كثيرة، ومع هذا سامحه النبيُّ ﷺ فلم يجلده، ولم يقتله، كل ذلك مُراعاة لما قد يترتب على جلده أو حبسه أو قتله من الخطر.

فذووا الهيئات هم هؤلاء الذين يُخشى من عقوباتهم على الشيء القليل الذي ليس يصل الحدّ، يُخشى منه الفتنة، ويُراعى في ذلك أيضًا ما لهم من المقامات العظيمة، والجهود المشكورة في نصر الحقِّ وتأييد الحق، والقضاء على أسباب الفساد، فهذا هو ..... هذا القول هذا الحديث عند مَن قال بصحَّته، وهو حسن وقول جيد، والأقرب أنه لا بأس به؛ لشواهده ومُوافقته للقواعد والأصول.

والحديث الثالث حديث عليٍّ أنه قال: "ما كنتُ لأُقيم على أحدٍ حدًّا فيموت فأجد في نفسي، إلا شارب الخمر؛ فإنه لو مات وديته". رواه البخاري.

المؤلف سكت عنه، مسلم، وكأنه لم يتضح له شيء في مسلم عند تقييده هنا، وقد أخرجه مسلم رحمه الله أيضًا، وزاد مسلم: "لأنه لم يسنّه" يعني: لأنَّ الرسول ﷺ لم يُحدده حدًّا، يعني: دقيقًا مانعًا من الزيادة.

ويدل على أنه لم يسنه ولم يحدّه: أنه ﷺ أمر بأن يُضرب بالجريد والنِّعال وأطراف الثياب، وهذا لا ينضبط، هذا يدل على أنه أقرب إلى التَّعزير منه إلى الحدود المبتوتة؛ ولهذا قال عليٌّ في هذا: فإنه لو مات وديته؛ لأنَّ الرسول ﷺ لم يُحدد فيه حدًّا لا يُزاد فيه ولا ينقص، فيُخشى أنه إذا مات أن يكون ضاربه قد زاد عليه؛ فلهذا رأى أنه يُفدى خشية أن تكون هناك زيادة أوجبت موته، بخلاف الحدود؛ فإنها مُحددة، فإذا جُلد مئة جلدة على الوجه الشرعي ثم مات لا يضرّ، أو قُطعت يده في السَّرقة القطع الشَّرعي ثم مات لا يضرّ، لا يُفدى.

وحد القذف ثمانون جلدة كما شرع الله، ثم مات ما يُفدى، لكن شارب الخمر لم يكن فيه الحدّ، يعني: مُحدَّدًا مبتوتًا، كما في هذه الأمور، بل كان فيه شيء من التَّسامح؛ فلهذا ضُرب بالجريد والنِّعال والثياب، وجُلد نحو أربعين، وزاد فيه عمر ثمانين؛ لهذا المعنى؛ لأنَّ عمر رأى أنه ليس مبتوتًا لا يُزاد فيه ولا يُنقص، فزاد فيه أربعين، وزاد فيه الجلاء وحلق الرأس.

وهكذا عليٌّ وافق عمرَ في هذا المعنى، وأنه ليس مبتوتًا، بل لولي الأمر أن يزيد فيه، وعلى هذا يضمن لو مات احتياطًا، خشية أن تكون هناك زيادة سببت موته.

وقال آخرون: لا يُضمن كسائر الحدود؛ لأنه مأذون به شرعًا، فإذا مات والذي أقام الحدَّ عليه لم يُفرط فلا ضمانَ. وهذا هو الأرجح والأقرب؛ لموافقة الأصول أنه لا ضمانَ، فإن ضمنه وليُّ الأمر اجتهادًا منه، كما اجتهد عليٌّ فلا بأس، وإلا فالأصل أنه لا ضمانَ إذا جُلد كما شرع: ثمانين، أو أربعين؛ لردع الناس عن الفسوق والشرِّ، فلا بأس بذلك، وهذا هو الأصل، حتى التَّعزيرات الصواب فيها أنها لا تُضمن، إذا تحرى وليُّ الأمر التَّعزير الشَّرعي الذي يردعه عن الفساد فإنه لا يُضمن؛ لأنه مأذون به شرعًا في الجملة.

والحديث الرابع: حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.

يقول ﷺ: مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، هذا الحديث صحيح، وجاء بألفاظٍ بهذا المعنى: "مَن قُتل دون دِينه، دون أهله، دون دمه، كلها حقّ، فمَن قُتل دون هذه الأشياء وصال عليه صائل فهو شهيد؛ لأنه مظلوم، يعني: في الحكم الظاهر، وأمره إلى الله ، لكن في الحكم الظاهر هو شهيد؛ لأنه مظلوم، كما أنَّ المقتول في سبيل الله شهيد؛ لأنه مظلوم من جهة الكفَّار، فهو شهيد لأنه قُتل بغير حقٍّ، فيُرجى له الخير، وتُرجى له الجنة لأنه مظلوم، ويُرجى أن قتله يكون كفَّارةً له، سواء قُتل عن دينه، أو دمه، أو ماله، أو حريمه.

ويدل على هذا المعنى ما رواه مسلم في "الصحيح" عن أبي هريرة : أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، الرجل يأتيني يريد مالي، قال: لا تُعطه مالك، قال: فإن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلتُه؟ قال: فهو في النار.

هذا الحديث الصحيح يدل على أنَّ الدفاع عن المال لا بأس به، المال له شأن، وأنه إذا قُتل على ذلك فهو شهيد؛ لأنه مظلوم.

قال العلماء: ويجوز أن يدع الدفاعَ عن المال؛ لأنَّ النفس أغلى، فإذا رأى أن يدع الباغي يأخذ المال ولا يُدافع فلا بأس، ولا حرج عليه في ذلك؛ لئلا يُقتل؛ لأنَّ بعض الناس: بعض قُطَّاع الطريق وبعض السُّراق وبعض المنتهبين وبعض الظَّلمة لا يُبالي بقتل النَّفس، عند أقلّ شيءٍ يقتل، فإذا رأى أنَّ المقام يقتضي ترك هذا المعتدي يأخذ المالَ ولا يُدافع فلا بأس؛ لئلا يُهراق دمه بغير حقٍّ، فالمال أسهل، أما عن الحريم وعن الدِّين فيجب الدفاع مهما استطاع؛ لأنَّ الواجب حماية الدِّين، وحماية الأعراض، وحماية النفس، إلا في الفتن كما يأتي، إن كان في فتنةٍ فلا بأس ألا يُدافع عن نفسه.

وعلى هذا حديث عبدالله بن خباب بن الأرت المدني الزهري، حليف بني زهرة، عن أبيه عبدالله بن خباب، هذا قيل: له صحبة، وله رؤيا. وقال العجلي: إنه تابعي ثقة. والمشهور أنه صحابي صغير، قال عن أبيه، عن رسول الله ﷺ أنها تكون فتنٌ: فكن فيها عبدالله المقتول، ولا تكن القاتل.

هذا جاء من عدة طرقٍ، وهو صحيح؛ لأنَّ له شواهد كثيرة، وهو يدل على أنَّ الفتن إذا وقعت واشتبهت الأمورُ فإنَّ الأولى بالمؤمن ألا يكون قاتلًا، وأن يكون كخير ابني آدم، يكون كهابيل الذي قتله قابيل بسبب ما جرى بينهما من النزاع، فليكن كخير ابني آدم، ولا يُدافع؛ لأنَّ التباس الأمور واشتباه الأمور قد تُوقعه في قتل معصومٍ، فكونه يدع ولا يُدافع أولى له، وأفضل له؛ حتى لا يقتل معصومًا، هذا أحسن ما قيل في ذلك، أما إذا اتَّضحت الأمور وعرف أنَّ هذا باغٍ وهذا ظالم فإنه يُقاتل؛ ولهذا قاتل الصحابةُ مع عليٍّ ضد البُغاة من أهل الشام؛ لأنهم عرفوا أنَّ عليًّا أولى بأن يُقاتل معه، وأنه مبغيٌّ عليه، فجاز القتال، وتحرَّج آخرون: كمحمد بن مسلمة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وجماعة توقَّفوا.

والصواب أنه إذا ظهر الحقُّ فليُقاتل، وإذا اختلف الأمرُ فلا يُقاتل، وفي هذا المعنى قوله ﷺ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، هذا عند ظهور الظلم والعدوان من بعضهما على بعضٍ، هذا وعيد يعمّهما، أما إذا كان أحدُهما باغيًا، والآخر عادلًا؛ فإنه يُقاتل الباغي، وهكذا يُقاتل الظالم.

لو اعتدى قومٌ على قومٍ، فنصر المعتدى عليهم المظلومين من قُطَّاع الطريق وأشباههم، ينصر المظلومين ويُقاتل قطَّاع الطريق؛ لأنهم ظالمون إن كانوا مسلمين.

فالخلاصة أنَّ هذا الحديث وما جاء في معناه يُحمل على التباس الأمور، إذا التبست الأمورُ كما هو صريح في بعض الروايات، إذا التبست الأمور وخفي وجهُ الحقِّ فهذا وجه أنه يكون كخير ابني آدم، والأولى له ألا يُقاتل، والأفضل له ألا يُقاتل، أما إذا اتَّضح الأمرُ وعرف أنه محقّ، وأنَّ المعتدي عليه ظالم، فإنه لا بأس، بل يجب عليه أن يُدافع، ويجب عليه أن ينصر الحقَّ.

وعبدالله هذا قتلته الخوارج، كان فيمَن ينصح ويأمر باتِّباع عليٍّ رضي الله عنه وأرضاه، وينهاهم عن الخروج على المسلمين، فقتلوه، سألوه عن هذا الحديث، وأخبرهم أنه سمعه من أبيه يقول: إنها تكون فتنٌ، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، فقتلوه، وبقروا بطن امرأته، وكانت حُبلى، كما ذُكر في قصته.

ورُوي أنَّ عليًّا طلب منهم القود فقالوا: كلنا قتله. فلما سفكوا الدم ونهبوا الأموال قاتلهم عليٌّ رضي الله عنه وأرضاه، وقتلهم قتلةً شديدةً، ووجد فيهم المخدج المعروف الذي إحدى يديه كثدي المرأة، فسجد لله شكرًا لما رأى المخدج الذي هو علامة الخوارج، وكان قد اجتهد في دعوتهم إلى الخير، وأرسل لهم ابن عباس، ودعاهم إلى الله، وأرشدهم أن يكفوا عن القتال، وأن يرجعوا إلى الصواب، فتاب منهم جماعةٌ كثيرة، وأبى بقيتهم؛ فقاتلهم، وأعانه الله عليهم وقتلهم، والله أعلم.

س: قول عليٍّ: "لو مات شاربُ الخمر لوديته" يدل على أنَّ جلد شارب الخمر يُعتبر من التَّعزير؟

ج: هذا ظاهره يعني: أنه ليس بحدٍّ واضحٍ، بل هو أشبه بالتَّعزير، والتعزير قد يُخطئ فيه الإمام والمأموم، قد يزيدون فيه، فيكون من باب الحيطة.

س: الرسول جلد أربعين، ما يُعتبر حدًّا هذا؟

ج: لكن الرواية في "الصحيحين" أنه أمر بضربه بالنِّعال والجريد وأطراف الثياب، جاء هذا وهذا.

س: إلى مَن يُوكَّل تحديد التَّعزير؟

ج: إلى ولي الأمر: السلطان ومَن يُنيبه، وإذا رأى وليُّ الأمر إسناده للمحكمة لا بأس.

س: قد يكون هذا الذي يُسند إليه ليس على المستوى المطلوب من العلم والأمانة؟

ج: متطوع الناس منهم، أين يروحون الناس؟ مَن يولى هذا؟ أميرهم منهم، ومتطوعهم منهم، وإمامهم منهم، كلهم قد يكونون على غير المستوى، حتى السلطان نفسه قد يكون على غير المستوى، لكن ليس للناس مفرٌّ إلا هذا.

س: ...............؟

ج: إذا اشتبهت الأمورُ فيهم، وإذا اتَّضح الحقُّ يكون مع الحقِّ.

س: المقصود بولي الأمر هم العلماء؟

ج: ولي الأمر: السلطان والعلماء، يدخل فيهم ولاة الأمور.

س: لكن قد يكون جاهلًا؟

ج: إذا جهل يُسنده إلى العلماء، إذا جهل يُحيله إلى العلماء، القاعدة في أولي الأمر: أنهم العلماء والأمراء، هذا الصواب فيهم.

س: بعض المدرسين يزيدون في الضرب على أكثر من عشرة، ألا يدخل هذا في الحديث؟

ج: الأقرب أنه يدخل في هذا، لا يزيد على عشرة، المؤدِّب والرجلُ مع ولده ومع خادمه ومع زوجته كله من هذا الباب، هذا أحسن ما قيل في هذا.

س: حديث عبدالله بن خباب ورد من طريقٍ صحيحٍ؟

ج: ذكر المناوي أنه جاءت له طرق وشواهد، والحافظ ابن حجر كذلك.

س: لو مات في التَّعزير هل يُفدى؟

ج: الأقرب أنه لا يُفدى، وإن احتاط مثلما احتاط عليٌّ فلا بأس.

س: يكون هذا خاصًّا بشارب الخمر إذا مات؟

ج: لا، كل تعزيرٍ، مقصوده كل تعزيرٍ؛ لأنَّ العلة أنه شبه التَّعزير، ليس بحدٍّ واضحٍ يعني.

س: يجوز أن يصل التَّعزير إلى أربعمئة جلدة؟

ج: العلماء اختلفوا في هذا: منهم مَن قال: لا يصل الحدّ المحدود، بل يكون أنقص منه، فلا يصل أربعين، فيكون تسعًا وثلاثين.

وقال بعضهم: كل معصيةٍ بحسبها: إن كانت معصيةً تتعلق بالنساء فلا يصل إلى مئة جلدة، يعني: الزنا، في مسائل الزنا، وإن كانت في مسائل القذف لا يصل إلى ثمانين، وإن كانت في مسائل السُّكر لا يصل إلى أربعين، أو إلى ثمانين، على اختلاف الحدِّ، وإن كان في القذف لا يصل إلى ثمانين.

والقائلون أنه يُحدّ حدَّ المملوك، على هذا لا يصل إلى أربعين؛ لأنَّ حدَّ المملوك أربعون، أقلّه أربعون.

والقول المختار أنَّ هذا يختلف بحسب الجرائم، ولو زاد على مئةٍ، ولو زاد على أكثر من ذلك، ولو كرر التَّعازير تختلف، قد يكون بعضُها أشدَّ من الحدِّ؛ ولهذا جلد عمرُ مئةً في النَّقش، وكررها في عدة جمعٍ.

س: لو جُلد بالتَّعزير ومات؟

ج: لو وداه فهو أحوط، وإن ما وداه ما عليه شيء، إذا كان تحرى طاعة الله وتحرى منفعة المسلمين فلا بأس.