باب النهي عن الانتفاع بجلد ما لا يؤكل لحمه

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس شرح كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ" للعلامة مجد الدِّين أبي البركات عبدالسلام ابن تيمية الحراني، سوف يتولى الشرح والتعليق على هذه الأحاديث سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بالشيخ عبدالعزيز، فأهلًا ومرحبًا بسماحة الشيخ.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

المقدم: سماحة الشيخ، وقف بنا الحديثُ في هذا الباب في:

باب النَّهي عن الانتفاع بجلد ما لا يُؤكل لحمه

- عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ ابْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: أَنْ تفترش.

- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ جُلُودِ النُّمُورِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

وَلِأَحْمَدَ: أُنْشِدُكُم اللَّهَ، أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رُكُوبِ صُفَفِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ.

- وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْحَرِيرِ، وَالذَّهَبِ، وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.

54- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تدل على تحريم استعمال جلود السباع، وأنه لا يحلّ افتراشها، ولا الركوب عليها، وبذلك لا يجوز أيضًا دباغها؛ لأنها وسيلة إلى ذلك.

ولعلَّ الحكمة في ذلك والله أعلم: أن افتراشها والجلوس عليها قد يُفضي إلى التَّخلق بأخلاق تلك السباع: من الظلم والجور والعدوان، فإنَّ الجلوس على جلودها أو لباس شيءٍ من جلودها أو ما أشبه ذلك قد يُفضي إلى أخلاقها.

وبكل حالٍ فالواجب على المؤمن امتثال أمر رسول الله ﷺ، والحذر عمَّا نهى عنه، فلا يجوز له افتراش جلود السباع: كالنمر والأسد والذئب ونحو ذلك، ولا يجعلها أيضًا في بيته: كفراشٍ، أو لحافٍ، أو على سيارته، أو على دابته، أو على جداره، كل ذلك ممنوع؛ لأنَّ العلة واضحة.

أما الذهب والحرير فهذا حديث معروف: الذهب يجوز للنساء، التَّحلي للنساء، والحرير للنِّساء؛ لقوله ﷺ: أحلّ الذهب والحرير لإناث أمتي، وحُرم على ذكورها، أما الذكر لا، ليس له لبس الذهب: لا خاتم، ولا غيره، وليس له لبس الحرير -الذكر- إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة، كما جاء في حديث عمر، الشيء القليل: كالأزرار، وخياطة الشقّ، والرقعة اليسيرة، أربع أصابع فأقلّ للذكر.

المقدم: سماحة الشيخ، أثابكم الله، الحذاء والفراء وغيرها القادمة من بلاد الكفار ما حكمها؟

الشيخ: إذا كانت من جلود السباع لا تُستعمل، إذا كانت من جلود السباع فالواجب عدم استعمالها؛ إلحاقًا لها بالافتراش، وأما إذا كان لا يعلم فيستعملها، إذا كان لا يعلم أنها من السباع فلا حرج، الأصل السلامة، والأصل الإباحة.

المقدم: وهل هناك فرق بين أهل الكتاب وغيرهم؟

الشيخ: المقصود جلود السِّباع، إذا عرف أنها من جلود السباع، سواء كانت قادمةً من اليهود أو النَّصارى أو غيرهم، أو من المسلمين، تلك اللحوم هي التي فيها التفريق، التفريق في اللحوم؛ يُباح طعام أهل الكتاب دون غيرهم، أما جلود السِّباع فلا تُباح، سواء جاءت من يهودٍ أو نصارى، أو فعلها المسلم.

المقدم: فيما يتعلق بالجلود: هل رميها يُعتبر من الإسراف؟

الشيخ: جلود السباع لا يسلخها بالكلية، يحرم عليه سلخها، لا يتعب عليها مرة، واحد، إذا مات السبعُ يُلقى ويُطرح، ولا يقتله لأجل جلده، يقتله لشرِّه، أما أن يقتل الأسد أو النَّمر أو الذئب أو الهرَّ ليأخذ جلده لا يجوز هذا.

 

بَابُ مَا جَاءَ فِي تَطْهِيرِ الدَّبَّاغِ

55- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مَولَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ! فَقَالَ: إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: أنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ أَلَا دَبَغْتُمُوهُ؟ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ.

56- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ: عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ: إنَّمَا يُقَالُ "الْإِهَابُ" لِجِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.

57- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ: إنَّ سَوْدَةَ مَكَانُ عَنْ.

58- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

 

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة إذا كانت الميتةُ مما يُؤكل لحمه: كالإبل والبقر والغنم ونحو ذلك، فلا بأس أن يُدبغ جلدها ويُنتفع به مثلما قال ﷺ: إنما حرم عليكم أكلها، لكن الدّباغ ذكاتها: ذكاة الجلد الدباغ، فإذا ماتت شاةٌ أو بقرةٌ أو بعيرٌ ثم أخذوا جلده أو جلد البقرة أو جلد الشَّاة ودبغوها فلا بأس؛ لقوله ﷺ: إذا دُبغ الإهابُ فقد طهر، دباغ الميتة طهورها، يُطهرها الماء والقرظ، القرظ: الدِّباغ الذي يُدبغ به، يقال له: قرظ، بفتح الراء.

هذه الأحاديث كلها تدل على أنَّ جلود الميتة إذا كانت مأكولةً فإنَّ جلدها يُباح استعماله بعد الدَّبغ، وهذا من تيسير الله ورحمته، كما أباح أكل أصلها إذا ذُكي، فهكذا الجلد إذا ذُكي، فذكاة الجلد دباغه.

أما السباع فلا مثلما تقدم؛ لأنَّ الله حرَّم أكلها ولو ذُبحت، فهكذا جلدها تبعٌ لها؛ لا يجوز دباغه، ولا استعماله، أما هذه فالله أباحها: إذا ذُبحت تُؤكل، فإذا ماتت فإنَّ ذكاة الجلد الدِّباغ، تُدبغ ويُستعمل فراشًا، وغير ذلك.

المقدم: قد يسأل سائل ويقول: ما هو الدباغ؟

الشيخ: الدّباغ: القرظ، شيء يُدبغ به الجلد حتى يزول ما فيه من آثار الميتة، ما فيه من الآثار التي تمنع الانتفاع به، كل شيء يحصل به المقصود حتى يصلح الجلد ويكون صالحًا لاستعماله قربة، أو الجلوس عليه، أو غير ذلك .. يعني: الدَّواء الذي يحصل به الدباغ، سواء قرظًا أو غيره، ما يحصل به الدّباغ من كون الجلد يكون صالحًا لافتراشه، أو صالحًا لأن يكون قربةً، صالحًا لأن يكون سقاءً، إلى غير ذلك، هو تطهير له.

المقدم: كيف نتأكد بأن الجلد قد طهر؟

الشيخ: بالتجارب، يعرفه الدباغون، يُعرف بالتَّجارب، الدَّباغون يعرفون هذا.

المقدم: ما سبب خلاف العلماء في جلود الميتة؟

الشيخ: سببه إطلاق بعض الأحاديث، لكن أحاديث السباع تُبين أنَّ المراد يُدبغ مأكول اللحم، والقاعدة: أن الأحاديث يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ، يُفسر بعضُها ببعضٍ، كالآيات الكريمات يُفسر بعضُها بعضًا، ويشرح بعضها بعضًا، فلما نهى عن جلود السباع دلَّ على أنَّ جلود ما ليس بسبع ومأكول اللحم يطهر بالدِّباغ.

بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ دُبِغَ

- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ. تَعْنِي: الشَّاةَ، فَقَالَ: فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا، قَالُوا: أَنَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ [الأنعام:145]، وَأَنْتُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ أَنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ، فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

الشيخ: مثلما تقدم أنها تُدبغ للانتفاع بها في غير الأكل، تُدبغ ليُنبذ فيها الماء، يُنبذ فيها السَّويق، يُنبذ فيها اللبن، تُستعمل فيما ينفع الناس، أما أكلها لا؛ لأنها ميتة، جزء من الميتة فلا تُؤكل، لو أراد يطبخ الجلد ما يجوز، أو يشويه ما يجوز، إنما تُدبغ لينتفع بها من غير أكلٍ، يُنتفع بها في النَّبيذ، في اتِّخاذها فراشًا، إلى غير ذلك.

 

بَابُ مَا جَاءَ فِي نَسْخِ تَطْهِيرِ الدِّبَاغِ

60- عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُم الْمُدَّةَ غَيْرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد.

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ: إنِّي كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ.

وَلِلْبُخَارِيِّ فِي "تَارِيخِهِ" عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَةٌ لَنَا مِنْ جُهَيْنَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إلَيْهِمْ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ.

 

الشيخ: هذا الحديث عند أهل العلم مُضطرب، وليس بصحيحٍ، بل اختلف الرواةُ في روايته في رفعه ووقفه في رواية عبدالله بن عكيم وعن مشايخه، وهو حديث مضطرب، والأحاديث المتقدمة كلها صحيحة تدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدَّبغ، وأما حديث عبدالله بن عكيم فهو ضعيف؛ لاضطرابه وشذوذه ومُخالفته للأحاديث الصَّحيحة، لكن لو صحَّ فهو محمولٌ على عدم الانتفاع بالجلد قبل الدَّبغ، لو صحَّ وجب حمله على أنه لا يُنتفع بالإهاب قبل الدَّبغ، أما بعد الدَّبغ فقد دلَّت الأحاديثُ الصَّحيحة السَّابقة على أنه حلَّ إذا دُبغت الجلود؛ جلود الميتة المأكولة، فإنَّ دبغها تطهيرٌ لها، أما حديث عبدالله بن عكيم فهو حديث ضعيف مضطرب يُخالف الأحاديث الصَّحيحة؛ فلا يُعول عليه.

المقدم: سماحة الشيخ، ما تعريف النَّسخ؟

الشيخ: النَّسخ: إذا تعارض دليلان وعُلم التاريخ صار الآخرُ ناسخًا للمُتقدم، إذا كانا تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما، تعذر الجمع بينهما، وعُرف المتأخر؛ فالمتأخِّر ينسخ المتقدم؛ بأن يكون أحدهما يأمر، والآخر ينهى، فالمتأخر ينسخ المتقدم، إذا صحَّ الحديثان، ولم يمكن الجمع بينهما، وعُرف المتأخر، هذا معنى النَّسخ بشرطين:

أحدهما: تعذر الجمع.

والثاني: أن يكون الأخيرُ معلومًا، فالأخير ينسخ المتقدم.

المقدم: يلجأ بعضُ أهل العلم إذا تعارض عنده حديثان يلجأ إلى النَّسخ، هل هذا مسلم له؟

الشيخ: لا، ما يُسلم له، يلجأ إليه عند تعذر الجمع والعلم بالتَّاريخ، لا بدَّ من شرطين: أن يتعذر الجمع، وأن يُعلم التاريخ، مثل حديث الرسول: أمر بالقيام عند مرور الجنازة، ثم قعد. نهى عن الشرب قائمًا، ثم شرب قائمًا. يُجمع بينهما بأنَّ النهي للكراهة، وكونه جلس ولم يقم عند مرور الجنازة يدل على الجواز، وكونه شرب قائمًا يدل على الجواز، هذا الجمع بينهما، ولا حاجة للنَّسخ.

المقدم: إذًا هل هذا الحديث ناسخ لحديث الباب المتقدم؟

الشيخ: هذا ضعيف لا يصحّ، ولو صحَّ لكان يُحمل على النَّهي عن جلودها قبل الدّباغ.

المقدم: بالنسبة لسؤال وهو: هل تنسخ السنةُ القرآنَ الكريم؟

الشيخ: تخصّ ولا تنسخ، السنة تُفصل الكتاب ولا تنسخه، أما الكتاب فهو ينسخ السنة ويخصّها.

 

بَابُ نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَل لحمه إذَا ذُبِحَ

- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا أَمْسَى الْيَوْمُ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ خَيْبَرُ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا هَذِهِ النَّارُ؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: عَلَى أَيِّ لَحْمٍ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ: أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: أَوْ ذَاكَ. وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ: اغْسِلُوا.

- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِ الْحُمُرِ -يَعْنِي: يَوْمَ خَيْبَرَ- فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

الشيخ: هذا الحديث وما جاء في معناه يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية المعروفة، ولا يجوز ذبحها للأكل، ولا تحل لحومها، وهي نجسة؛ لأنَّ الله إنما أباح ركوبها والانتفاع بها، أما أكلها فلا، فهي حرام، تُركب وتُستعمل، ولكن لا يجوز ذبحها للأكل؛ لأنها محرَّمة الأكل، فبولها نجس، وروثها نجس، إنما أباح الله ركوبها والانتفاع بها.

ولما ذبحوها يوم خيبر أمرهم ﷺ بإكفاء القدور وغسلها، وفي لفظٍ: اكسروها، ثم سألوه أن يغسلوها فقال: اغسلوها، وشدد في هذا عليه الصلاة والسلام، فهي رجس، سمَّاها النبيُّ: رجسًا، يعني: حرام، نجسة، فهي نجسة اللحم والبول والروث والدماء، لكن الله أباح ركوبها، فلا بأس أن يركب الحمار، ولا بأس أن يركب البغل، ولكن لحمه حرام: البغل والحمار جميعًا؛ للأحاديث الصَّحيحة الواردة في ذلك.

المقدم: لحوم الحمر الأهلية قبل التَّحريم هل كانت طاهرةً ثم تنجست بعد التَّحريم؟

الشيخ: المعروف أنها محرمة بالأصل، ما أُبيحت من الأصل، هي مُحرَّمة، تلك الحمر الوحشية التي هي تُسمَّى: بقر الوحش، وبعضهم يُسميها: الوضيحي، هذه حلال، البرية تُخالف الحمر هذه في اللون والصورة، تلك حمر وحشية صيد، أما الحمر الأهلية المعروفة هذه فهي محرمة ونجسة، كان الناس يستعملونها في الركوب، وفي السني عليها على سقي النخيل، ثم لما جاءت المكائن استغنوا عنها، وجاءت السيارات استغنوا عنها، فهي مُحرَّمة الأكل، نجسة البول والغائط، نجسة اللحوم؛ ولهذا لما نحرها المسلمون يوم خيبر أمر النبيُّ ﷺ بإكفاء القدور وغسلها، وأخبر أنها نجسة، أما الحمر الوحشية فهي صيد.

المقدم: المضطر إذا وجد حيوانًا مما يحل بالذكاة، ولكنه ميت، ووجد حمارًا أهليًّا حيًّا، هل يُقدم أكل الحمار أم الميتة؟

الشيخ: إذا كان مُضطرًّا يأكل من الميتة؛ الله أباح لنا الميتة، ولم يُبح الحمار الأهلي الحي، ينتفع به، ولكن ينتفع من الميتة.

المقدم: ما مقدار ما يأكله المضطر من الميتة؟

الشيخ: ما يسدّ حاجته، ما يسدّ جوعه.

 

أَبْوَابُ الْأَوَانِي

- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهما؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: إنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ: كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الشَّرَابِ فِي الْفِضَّةِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ. مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة، وهذا عامّ للرجال والنساء جميعًا، إنما أباح الله للنِّساء الحلية -حلية الذهب والفضة- أما الأواني فهي مُحرَّمة على الجميع، لا يجوز للرجل ولا للمرأة استعمال أواني الذهب والفضة؛ لقوله ﷺ: لا تشربوا في أواني الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا -يعني الكفرة- ولكم في الآخرة، وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم، وفي اللفظ الآخر: الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يُجرجر في بطنه نار جهنم.

فالواجب على المسلمين الحذر من ذلك، وأنه لا يجوز للمسلم أن يشرب في أواني الذهب والفضة، ولا يأكل فيها، حتى الكوب الذي يشرب فيه الشَّاي لا يجوز، وحتى الملعقة لا تجوز من الذهب والفضة، الملعقة وكوب الشاي والفناجين يجب أن تكون من غير الذهب والفضة، ولا يجوز أن تُستعمل أواني الذهب والفضة: لا للرجال، ولا للنساء، ولا أكوابها للشاي ولا لغيره، ولا أكواب القهوة، ولا الملاعق كلها، لا تجوز: لا من الذهب، ولا من الفضة؛ لأنَّ الرسول حرَّم ذلك، وأخبر أنها للكفَّار في الدنيا، ولنا في الآخرة.

المقدم: ما مناسبة ذكر هذا الباب في كتاب الطَّهارة؟

الشيخ: لأنَّ الأواني تُستعمل، الأواني يستعملها الإنسانُ في الوضوء، وفي الغسل، فناسب ذكرها في الطَّهارة؛ حتى لا يكون في الباب إناء من فضةٍ، ولا إناء من ذهبٍ للوضوء، ولا للغسل.

المقدم: النهي عن استعمال الذهب هل هو خاصّ بالرجال أم تدخل فيه النِّساء؟

الشيخ: يعمّ الجميع: الرجال والنساء، في الأواني إنما يُباح للنساء: الحلي، القلائد، والأسورة، وأشباه ذلك، أما الأواني والملاعق والفناجين والأكواب كلها تحرم على الجميع: الرجال والنساء؛ لعموم الأدلة.

المقدم: بعض النساء تستخدم ساعات غالية الثمن، هل في استعمالها سرف وتبذير؟

الشيخ: على كل حالٍ، استعمالها لا حرجَ فيه للنساء والرجال، لكن إذا كانت من ذهبٍ وفضةٍ فللنساء خاصة، والأحوط للمؤمن عدم التَّكلف؛ لئلا يقع في الإسراف، الأحوط للنساء وللرجال عدم التَّكلف في الأمور، وإذا كانت ساعات عادية بين النساء فليس من السرف، إذا كانت عادية، أما كون المرأة تحرص على أشياء تفوق بها الناس، غالية الأثمان، فينبغي تركها، ويُخشى عليها أن يكون هذا من السّرف والتَّبذير، يُخشى عليها من ذلك، فالأحوط هو استعمال الساعات العادية بين النساء، لا تزيد عليهن، تستعمل الساعات العادية، والملابس العادية التي عرفها الناسُ، هذا هو الأحوط للمؤمن: عدم التَّكلف، والمؤمنة كذلك.

المقدم: يذكر بعضُ العلماء الحكمة من تحريم استعمال الذهب، هل هذه الأحكام صحيحة؟

الشيخ: بعضُهم يقول: للفخر والخيلاء. وبعضهم يقول: لغير ذلك. والأقرب أنه للتَّشبه؛ لأنَّ الرسول قال: فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة، فالأقرب أنَّ العلة هو منع التَّشبه بالكفار؛ لأنَّ الكفار يتساهلون في الذهب والفضة، ويتساهلون في استعمالها، فالأقرب والله أعلم أنَّ العلة منع التَّشبه بالكفار في استعمال أواني الذهب والفضة؛ ولأنها فيها نوع من الإسراف، ونوع من التبذير، لا حاجةَ إليها، مع غلائها، بإمكان الإنسان أن يستعمل الأواني الأخرى من الحديد والنحاس والمواد الأخرى، من دون حاجةٍ للذهب والفضة.

وفيه شيء من التَّكلف والسّرف، فمن رحمة الله ومن إحسانه إلى عباده أن حرَّم عليهم استعمال أواني الذهب والفضة.

المقدم: ما الفرق بين الإناء والصّحفة؟

الشيخ: كلها أوانٍ: الصحفة إناء، والكوب إناء، والفنجان إناء، إنما أسماء عُرفية: الإناء هو ما يُستعمل فيه الماء والأكل ونحو ذلك، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، فالكوب إناء، والفنجان إناء؛ لأنه يُستعمل في حاجات، والملعقة إناء يُستعمل فيها، لكن لها أسماء خاصّة، سُميت بأسماء خاصّة في عُرف الناس.

المقدم: هل استخدام الفضة مثل الذهب في التَّحريم أم هو أخفّ؟

الشيخ: الذهب أشدّ في التحريم، وليس مثل الفضة، الفضة أسهل؛ ولهذا جاز من الفضة ما لا يجوز من الذهب، يجوز للرجل أن يتختم بخاتم الفضة، وليس له أن يتختم بخاتم الذهب، ويجوز أن يشدّ القدح المنكسر بشيءٍ من الفضة، دون الذهب، فالمقصود أنَّ الذهب أشدّ.

المقدم: بقي سؤالٌ في هذا الباب سماحة الشيخ، لعلكم تأذنون لنا به، وهو: بالنسبة إلى لبس الدّبلة من الذهب بالنسبة للرجال، ما حكمها؟

الشيخ: لا يجوز لبس الدبلة للرجال من الذهب؛ لأنَّ الرسول نهى عن التَّختم بالذهب، ولما رأى رجلًا بيده خاتم من ذهبٍ طرحه، وقال: يعمد أحدُكم إلى جمرةٍ من النار فيضعها في يده رواه مسلم في "الصحيح"، ونهى في "الصحيحين" من حديث البراء عن التَّختم بالذهب، فلا يجوز التَّختم بالذهب، سواء سُمي: دبلة، أو لم يُسم: دبلة.

ثم التَّختم بالدبلة أيضًا فيه تشبه بالكفار، هذه عادة جاءت من الكفار، فلا ينبغي استعمالها، لا من الذهب، ولا من غيره.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.