باب غسل الرجلين وبيان أنه الفرض

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة المستمعون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله إلى درسٍ طيبٍ مباركٍ من دروس "المنتقى".

ضيفنا في هذا اللقاء هو سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَبَيَان أَنَّهُ الْفَرْضُ

- عَنْ عبدالله بْنِ عُمَرَ قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي سَفْرَةٍ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، قَالَ: فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ: أَخَّرْنَاهَا. وَيُرْوَى: أَرْهَقَتْنَا الْعَصْرُ، بِمَعْنَى: دَنَا وَقْتُهَا.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَجُلًا لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عبدالله قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَوْمًا تَوَضَّؤوا وَلَمْ يَمَسَّ أَعْقَابَهُمُ الْمَاءُ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

- وَعَنْ عبدالله بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ تَوَضَّأَ، وَتَرَكَ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفْرِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث كلها تدل على وجوب غسل الرِّجلين، وتقدم في هذا أحاديث كثيرة، كلها دالَّة على أنه ﷺ كان يغسل قدميه، يتوضأ ويتمضمض ويستنشق، ويغسل وجهه، ويغسل ذراعيه مع المرفقين، ويمسح رأسه مع أذنيه، ويغسل رجليه، وهذه الأحاديث تؤكد ما تقدم، هذه الأحاديث الصَّحيحة كلها تُؤكد ما تقدم، وأنه لا بدَّ من غسل الرِّجلين، ولا يتم الوضوء إلا بذلك، فغسلهما فرضٌ من فروض الوضوء؛ ولهذا لما رأى قومًا لم يغسلوا أعقابهم قال: ويل للأعقاب من النار، فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تساهل في غسل الرِّجلين، أو ترك بقعةً لم يغسلها فهو مُتعرض للنار؛ لإخلاله بالفرض الشرعي من غسل الرِّجلين؛ ولهذا أمر مَن رأى في قدمه لمعةً أن يُعيد الوضوء، قال في بعضها: أحسن وضوءك، وحديث عمر رواه مسلم، قال: أحسن وضوءك، وهنا أمره بأن يُحسن وضوءه.

وفي حديث خالد بن معدان عن بعض أزواج النبيِّ ﷺ عند أبي داود: فأمره أن يُعيد الصلاة والوضوء جميعًا.

فهذا يدلنا على أنَّ الواجب على المؤمن وعلى المؤمنة: العناية بغسل القدمين، والعناية بمُؤخرهما، وهو العقب، مؤخر القدم؛ لأنه قد يتساهل فيه وينبو الماء عن المطامن في مُؤخر القدم المنخفض، فالواجب أن يعتني بالقدمين، وأن يعتني بمؤخر القدم والعقب؛ حتى يعمَّهما الماء، ويعمّ الكعب، فيكون الوضوء مدخلًا للقدم كلها؛ ولهذا عند مسلمٍ عن أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ لما توضأ وغسل يديه أشرع في العضد، يعني: حتى أدخل المرفقين، ولما غسل رجليه أشرع في الساق، يعني: أدخل الكعبين، وهذا هو الواجب على الجميع، ولو كان دبقةً قليلةً قدر الظفر، فالواجب العناية بهذا، فإذا انتبه ورأى في قدميه لمعةً فإنه يغسل اللمعة إن كان لم يطل الفصل، أما إن كان الفصلُ قد طال فيلزمه الوضوء؛ لوجوب الترتيب والموالاة، وهذا قد طالت المدةُ فتفوت الموالاة، أما إذا كان قريبًا، انتبه قريبًا فإنه يغسل اللمعة ويكفي، والحمد لله.

س: في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] بعض المذاهب ترى وجوب المسح للرِّجلين دون الغسل؛ أخذًا بقراءة الكسر، ما رأي سماحتكم؟

الشيخ: هذا قول ضعيف، هذا قول الرافضة، لا يجوز هذا، الذي فعله النبي ﷺ هو غسلهما، فالنبي ﷺ مُفسر للقراءة، "وأرجلكم" معناه: اتباع، والصواب قراءة الفتح: "وأرجلكم" عطفًا على وجوه، ومَن قرأ بالكسر فهو من باب الاتباع، ولا يخرج ذلك عن كونها تُغسل؛ لأن الرسول غسلهما، وفعل النبي ﷺ يُفسر القرآن؛ ولهذا ذكر القراءُ والعلماءُ أنَّ الأرجح الفتح: "وأرجلكم" في القراءة.

س: يستفسر كثيرٌ من الإخوان عن كتاب "الكشاف" للزمخشري، هل تنصحون بقراءته؟

الشيخ: كتاب "الكشاف" فيه مُؤاخذات من جهة الاعتزال ونفي القدر، فلا ينبغي مُطالعته إلا لأهل العلم والبصيرة؛ ليستفيدوا منه، وأما مَن ليس عنده علمٌ لا؛ لأنه قد يغتر بما يغلط فيه، لكن إذا كان مَن يطالعه من أهل العلم والبصيرة فلا بأس، ما يضره.

س: المؤلفون والكتاب الذين يقعون في أخطاء عقدية هل من المناسب أن نترك كتبهم؟

الشيخ: كل مَن كانت كتبه مدخولةً ينبغي تركها إلا لأهل العلم الذين يحتاجون إليها، إذا كان من أهل العلم الذين يعرفون الحقَّ من الباطل فلا بأس أن يُراجعوها للفائدة، أو للرد عليها، أما مَن ليس عنده بصيرة فالذي ينبغي له أن يتحرى كتب أهل السنة واستعمالها، ويحذر كتب أهل البدع.

س: في الأحاديث الواردة استشكل على بعض الناس ما توعد به المقصرون في الوضوء من تعذيب الأعقاب بالنار، كيف يكون ذلك دون سائر البدن؟

الشيخ: هذا من باب أنَّ محل المعصية يكون أزيد في العذاب، وإلا فالعذاب يعمّ الجميع، العصاة متوعدون بالنار: السارق، والزاني، وشارب الخمر كلهم متوعدون بالنار، ولكن كونه محلّ المعصية يخصّه زيادة عذابٍ مثلما جاء في حديث: ويل للأعقاب من النار، وبطون الأرجل أيضًا كذلك قد ينبو عنها الماء، فالواجب تعاهد بطون الأرجل حتى لا ينبو عنها الماء، فكون الوعيد للأعقاب أو لغيرها من البدن إنما هو لأنه أشدّ في العذاب؛ لأنه هو محل المعصية.

س: أخيرًا هل تُشرع الزيادة على ما ارتفع من الكعبين احتياطًا للعبادة؟

الشيخ: إذا أشرع في العضد يكفي، أما ما يُروى عن أبي هريرة من الزيادة إلى الركبة أو في اليدين إلى الإبط هذا لا وجه له، الصواب تركه، لكن يلاحظ المتوضئ حتى يشرع في الساق، حتى يدخل الكعبين يقينًا، ويشرع في العضد حتى يدخل المرفقين يقينًا.

 

بَابُ التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ

- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إذَا لَبِسْتُمْ وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَؤوا بِأَيَامِنِكُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

الشيخ: وهذا يدل على شرعية التَّيامن في الوضوء، وأنه يبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى، ورجله اليمنى قبل اليسرى، وكان النبي ﷺ يفعل ذلك، كان يتيامن؛ يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى، والرِّجل اليمنى قبل اليسرى، وهذا هو السنة؛ ولهذا في الحديث؛ حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ ﷺ يُحب التَّيمن. وفي اللفظ الآخر: يُعجبه التَّيمن في تنعله وترجله.

تنعله: لبس النَّعلين، يبدأ باليُمنى، وترجله: تسريح الشعر، رأسه يبدأ بشقِّه الأيمن، شقّ رأسه الأيمن قبل الأيسر، وطهوره ووضوئه وغسله: يبدأ بالأيمن.

الطُّهور بالضم: الفعل، وبالفتح الطَّهور: الماء المعدّ للطَّهارة، يُقال له: طَهور، مثل الوَضوء: الماء المعدّ للوضوء، وأما الفعل يُقال له: وُضوء، وطُهور، بالضم، وكان في وضوئه وغسله يتيامن، هذا هو الأفضل، وفي شأنه كله كان النبيُّ إذا لبس النَّعلين يتيامن.

وهكذا في لبس القميص يبدأ بإدخال كمِّه الأيمن قبل الأيسر، السَّراويل الكم الأيمن قبل الأيسر، هكذا السنة، وفي الخلع خلاف ذلك، في الخلع يبدأ بالأيسر من النَّعلين والقميص والسَّراويل ونحو ذلك، يبدأ بالأيسر عند الخلع، وفي اللبس يبدأ بالأيمن، هذا هو السنة.

وهكذا حديث أبي هريرة : يقول ﷺ: إذا لبستم أو توضأتم فابدؤوا بأيمانكم يعني: السنة في الوضوء وفي اللبس البداءة باليمين، كما في حديث عائشة: يبدأ باليمين في لباسه، وفي طهوره، هذا هو السنة.

والدليل على أنَّ الأمر للسنية: أنَّ النبي ﷺ فعل هذا في اللباس، واللباس فيه الأفضلية فقط: لبس النَّعلين، لبس القميص، وأشباه ذلك.

والقول بالوجوب قول قوي؛ لأنَّ الأصل في الأوامر الوجوب، ولكن ظاهر ما ذكرت عائشةُ الاستحباب: يُعجبه، يُحب التيمن. والأفضل للمؤمن والأحوط للمؤمن في وضوئه أن يبدأ باليمين كما بدأ بها النبيُّ ﷺ في يديه، وفي رجليه، وكذلك الغسل: شقّه الأيمن قبل الأيسر، هذا هو الأفضل.

س: يعني بمعنى قول عائشة رضي الله عنها: "في شأنه كله" عام في كل شيءٍ؟

الشيخ: نعم، مثل: اللباس وأشباهه، مثل: لباس ما له كم أيمن وأيسر، ودخول المنزل، وما أشبه ذلك، حتى دخول المنزل يعمّه، دخول المنزل يبدأ بالأيمن، دخول المسجد بالأيمن، بخلاف الخروج فالأيسر، يعمّها كلام عائشة رضي الله عنها: "في شأنه كله".

س: ذكرتم الدخول عادةً عندنا عندما يبدؤون يبدؤون بالأيمن منهم، ولو كان صغيرًا، وكذلك أيضًا عند صبِّ القهوة يبدأ الشَّخصُ الذي يحمل القهوة من الذي يليه أيضًا هذا يدخل في ذلك؟

الشيخ: لا، ما يدخل؛ لأنَّ الصحابة كانوا يبدؤون به ﷺ، ثم هو يُعطي مَن عن يمينه، إذا دخل بالماء أو باللبن أو بشيءٍ يبدأ برئيس المجلس، ثم رئيس المجلس يُعطيه مَن عن يمينه، إلا أن يسمح مَن عن يمينه لإعطائه مَن عن يساره، كما فعله النبيُّ ﷺ.

س: إذًا لبس النَّعل هل هو مستحبّ؟

الشيخ: نعم، لبس النعل مستحب، كان النبي يلبس النَّعلين، ويقول ﷺ: لا يزال الرجلُ راكبًا ما انتعل.

س: وهل ثبت أنَّ الرسول ﷺ يلبس أحيانًا، ويحتفي أحيانًا؟

الشيخ: نعم، كان يحتفي وينتعل ﷺ، فلا بأس بالاحتفاء إذا كان يفعله بعض الأحيان حتى يُعود الرِّجل ذلك، وحتى لا يكون التَّرفه دائمًا.

س: يستفسر كثيرٌ من الإخوان عن حكم الصلاة في النَّعل خاصةً في المساجد المفروشة؟

الشيخ: الأقرب عندي أنه يخلعها؛ لأنها قد يكون فيها أوساخ تُقذر على الناس فرشهم، وتُقذر عليهم السُّجود، وربما يمتنعون من الصلاة في المساجد بسبب ذلك، فالأفضل في مثل هذا أن تخلع عند الباب، أما إذا كانت المساجد كالحال الأول: حصباء أو رمل، فالصلاة فيها أفضل في النَّعلين، كما كان النبيُّ يفعل ﷺ، أما اليوم لا، فرش، فالأفضل والله أعلم والأقرب عندي أنه يخلعها؛ حتى لا يُوسخ الفرش، وحتى لا يُنفر المصلين من الصلاة في المساجد.

س: أخيرًا سماحة الشيخ، الصلاة في الكنادر، هل تأخذ حكم النَّعل في المشروعية؟

الشيخ: إذا كان خلعها مُتيسرًا مثل النعل، أما إن كان خلعها لا، فهي مثل: المدعس، يُصلي فيها مثل المدعس، مثل الخفين، يعني: يُصلي فيها؛ لأنَّ خلعها يشقّ.

 

بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَكَرَاهَةِ مَا جَاوَزَهَا

- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَرَّةً مَرَّةً. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا.

- وَعَنْ عبدالله بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

- وَعَنْ عُثْمَانَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالَ: هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على شرعية التثليث في الوضوء، والسنة فيه التثليث، وأنَّ مَن توضأ مرةً أو مرتين فلا حرج، توضأ النبيُّ مرةً مرةً، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وإذا غسل أعضاءه على مرة مرة، غسل وجهه مرة، إذا تمضمض مرة، واستنشق مرة، وغسل وجهه مرة، ويديه مرة، ومسح رأسه ورجليه مرة، وغسل رجليه مرة، فلا بأس، كما ثبت هذا عن النبي ﷺ، وإن غسلها مرتين فلا بأس، وإن غسلها ثلاثًا فهو الكمال، وإن فرَّق: في بعضها مرة، وفي بعضها مرتين، أو بعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا فلا حرج، كل هذا فعله النبيُّ ﷺ، ولا حرج في ذلك.

أما الزيادة فلا تجوز على الثلاث؛ لقوله: فقد أساء وتعدَّى وظلم، والحديث جيدٌ لا بأس بإسناده، فلا تجوز الزيادة، أما إن كان عنده شكٌّ: هل أتى بالثالثة؟ فلا حرج عليه يأتي بالثالثة، أما تعمد الرابعة بدون سببٍ فلا ينبغي تعمدها؛ لظاهر الحديث المذكور، وظاهره المنع والتحريم للزيادة على الثلاث.

والغسلة معناها أن يعمَّه بالماء، يعمّ العضو بالماء، ولو كان بغرفتين، هذا يُسمَّى: غسلة، إذا غسل العضو بغرفةٍ أو غرفتين يُسمَّى: غسلة، ثم يُعيد غسلة ثانية، ثم ثالثة، ولو بغرفات، فالغرفة ما تُسمَّى غسلة، الغرفة قد لا تعمّ العضو، فالمراد بالغسل كونه يعمّه بالماء مرتين، ثم يعمّه بالماء مرتين، ثم يعمّه بالماء ثلاثًا، ولو بغرفات.

وفَّق الله الجميع.

س: إذًا التَّنويع: تارةً يتوضأ مرة مرة، وتارة مرتين مرتين، وتارة ثلاثًا ثلاثًا، ما في شيء يا شيخ؟

الشيخ: كل هذا لا بأس؛ حتى يتعلم الناس، ويستفيد الناس.

س: يبقى الاستفسار عن التَّنويع في الوضوء الواحد مثلًا، فيغسل الوجه مرة، ويغسل اليدين مرتين، ويغسل الرِّجلين ثلاثًا ثلاثًا؟

الشيخ: لا بأس، نعم، فعله النبيُّ ﷺ.

بَابُ مَا يَقُولُ إذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ

- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَة، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.

وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ .. وَسَاقَ الْحَدِيثَ.

الشيخ: هذا يدل على سنية هذه الشَّهادة بعد الوضوء: من أسبغ الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء، هذا يدل على شرعية هذه الشَّهادة بعد الوضوء، يُسبغ الوضوء كما في الحديث: ما من مؤمنٍ يُسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المطهرين، وزاد الترمذي هذه الزيادة: اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المطهرين، وهي زيادة صحيحة.

فيُستحب للمُتوضئ أن يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المطهرين".

هذا فيه هذا الوعد العظيم: أنه فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء. هذا خيرٌ عظيمٌ.

وجاء في رواية النَّسائي: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك، مثل دعاء القيام من المجلس.

فيُستحب هذا وهذا، رواية النَّسائي جيدة أيضًا، فإذا أتى بهذا بعد الوضوء هذا سنة، وفيه فضل عظيم، أما رفع النَّظر إلى السماء في سنده ضعف، زيادة رفع النظر إلى السماء: مَن رفع فلا بأس، ومَن ترك فلا بأس، الأمر واسع، لكن زيادة رفع النظر فيها مجهول.

س: ذكرتم عن صحة: "اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين" البعض يُلاحظ على المتوضئين إذا فرغوا من الوضوء رفعوا السبابة وقالوا هذا الدُّعاء؟

الشيخ: إن رفع فلا بأس، وإلا يكفي، إذا أتى به يكفي، وإن رفع، أشار ورفع فلا بأس، لكن سند الرفع فيه ضعف، سند رفع البصر إلى السماء فيه ضعف، لكن إذا قالها ولو ما رفع شيئًا يكفي، يحصل المقصود والحمد لله.

 

بَابُ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ

- عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ: وَالصَّلَاةَ.

قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ؟ قَالَ: جَيِّدٌ.

- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، قَالَ: فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ: فَتَوَضَّأَ.

الشيخ: هذا يدل على أنه لا بدَّ من الموالاة، يغسل وجهه، ثم يديه، ثم يمسح، ثم يغسل رجليه في وقتٍ واحدٍ قبل أن تيبس أعضاؤه، يُوالي بينها؛ لأنَّ الرسول فعل هذا ﷺ، وهو المعلم، فعلينا أن نتأسَّى به، كما نُصلي كما صلَّى، نتوضأ كما توضأ، ونُوالي في الوضوء؛ ولهذا لما رأى في قدم إنسانٍ قدر الظُّفر أمره أن يُحسِن وضوءه، في حديث خالد بن معدان عن بعض أزواج النبيِّ ﷺ أمره أن يُعيد الصلاة والوضوء، فلو كانت الموالاةُ شرطًا لم يأمرهم بإعادة الوضوء، كان قال: اغسل اللّمعة فقط. فلما أمره أن يُعيد الوضوء دلَّ على أنه لا بدّ من موالاةٍ، وهذا إذا طال الفصلُ، لو ترك لمعةً في قدمه أو في يده، ثم طال الفصلُ؛ هذا يُعيد الوضوء، ويُعيد الصلاة، أما لو انتبه في الحال أنَّ في قدمه بقعةً في الحال فإنه يغسل القدم ويكفي؛ لأنَّ الموالاة لا زالت متصلةً، ما زال العملُ متصلًا، فإذا ترك في قدمه اليمنى لمعةً ثم لما غسل اليسرى انتبه يُعيد غسل اليمنى، ثم يغسل اليسرى، والحمد لله.

س: ما الفرق بين الموالاة والتَّرتيب؟

الشيخ: الترتيب: يبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم الرِّجلين، هذا الترتيب، والموالاة: يتوضأ مُواليًا، يعني: هذا بعد هذا، متصلًا، ما هو يغسل وجهه، ثم يروح يتفسح حتى ييبس وجهه، ثم يغسل يديه، أو يغسل وجهه ويديه ويروح يتفسح حتى ييبس ويمسح رأسه، لا، لا بدَّ [أن] يُوالي: هذا وراء هذا، متصلًا، يعني: هذا مع هذا في وقتٍ واحدٍ.

س: إذًا الموالاة واجبة أم شرط للوضوء؟

الشيخ: فرضٌ من فروض الوضوء.

س: في أيام الشِّتاء ومع شدة الريح قد يجفّ العضو قبل الفراغ من الوضوء؟

الشيخ: ما يضرّ، ما دام أنه مُوالٍ ما يضرّ، الشيء العارض ما يضرّ.

س: إذا توضأ الإنسانُ ولما وصل إلى رجله وجد بها علكةً أو بويةً فأخذ يُزيلها؟

الشيخ: هذا ما يضرّ؛ لأنه مشغول بالوضوء.

 

بَابُ جَوَازِ المعونة فِي الْوُضُوءِ

- عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. أَخْرَجَاهُ.

- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي الْوُضُوءِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: لا بأس بالتَّعاون في الوضوء، لا بأس أن يصبّ على المتوضِّئ، لا حرج في ذلك، كما أعان المغيرةُ النبيَّ ﷺ؛ كان يصبّ عليه الماء ويتوضأ، وكما في حديث صفوان، لا حرج في ذلك، إذا كان الإنسانُ يصبّ على الإنسان ويتوضأ لا حرج في ذلك، كما فعله المغيرةُ مع النبي ﷺ، وهكذا في الغسل إذا كان مع ستر العورة، أو الزوجة تُعين زوجها، أو الزوج يُعين زوجته لا بأس، أو مع ستر العورة؛ يصبّ عليه مع ستر العورة عن طريق لا يرى معه العورة لا بأس.

بَابُ الْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ

- عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي مَنْزِلِنَا، فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ، فَوُضِعَ لَهُ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ، فَاشْتَمَلَ بِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد.

الشيخ: المنديل ثبت عن النبيِّ ﷺ أنه تركه؛ لما اغتسل قدمت له ميمونةُ منديلًا فردَّه، وجاء ينفض الماء بيده، كما في "الصحيحين"، أما حديث قيسٍ هذا ففي سنده ضعف، ولو صحَّ فالمعنى أنه لا حرجَ في ذلك، إنما ترك المنديل أفضل بعد الغسل، أما في الوضوء فلا بأس أن يتنشف؛ لأنَّ الأصل في هذا هو الجواز، وقد رُوي في هذا أحاديث أنه تنشف في الوضوء تدل على الجواز، وهذا هو الأصل، لا بأس بالتَّنشف، لكن في الغسل الأفضل تركه، وإن تنشف فلا حرج؛ لأنَّ الرسول لم ينهَ عن هذا، وإنما ترك المنديل لما قدمته ميمونةُ، وجعل ينفض الماء بيده، فنفض الماء أفضل في الغسل، وإن تنشف فلا حرج، وأما في الوضوء فلأنه يتكرر كثيرًا فلا حرج: إن شاء تنشف، وإن شاء ترك ولا بأس، والحمد لله.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.