تفسير قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا..}

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ۝ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ۝ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ۝ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:88- 91].

يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ؛ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: قَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، فَرَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ تَقُولُ: نَقْتُلُهُمْ. وفرقة تقول: لا، هم المؤمنون. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّها طيبة، وإنها تنفي الخبثَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد. أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.

وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَجَعَ يَوْمَئِذٍ بِثُلُثِ الْجَيْشِ، رَجَعَ بِثَلَاثِمِئَةٍ، وَبَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سَبْعِمِئَةٍ.

وقال العوفي: عن ابن عباسٍ: نزلت فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ، وكانوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنْ لَقِينَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ بَأْسٌ. وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ قَالَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: ارْكَبُوا إِلَى الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُظَاهِرُونَ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ. وَقَالَتْ فِئَةٌ أُخْرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَوْ كَمَا قَالُوا: أَتَقْتُلُونَ قَوْمًا قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ من أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا وَلَمْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ، نستحلّ دماءَهم وَأَمْوَالَهُمْ؟! فَكَانُوا كَذَلِكَ فِئَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ عِنْدَهُمْ لَا ينهى واحدًا من الفريقين عن شيءٍ، فنزلت: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا.

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عَنِ ابْنٍ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقَاوُلِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي شَأْنِ عَبْدِالله بن أُبَيٍّ حين استعذر مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ. وَهَذَا غَرِيبٌ، وقيل غير ذلك.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَيْ: رَدَّهُمْ وَأَوْقَعَهُمْ فِي الْخَطَأ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْكَسَهُمْ أَيْ: أَوْقَعَهُمْ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: أَهْلَكَهُمْ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَضَلَّهُمْ.

وَقَوْلُهُ: بِمَا كَسَبُوا أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمُ الرَّسُولَ، وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ.

أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أَيْ: لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى الهدى، ولا مخلص له إليه.

س: أحسن الله إليك، في قوله: "حين استعذر من رسول الله"، وإلَّا: منه رسول الله؟

ج: أيش الذي عندك؟

الطالب: أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبدالله بن أُبي حين استعذر من رسولِ الله.

الشيخ: أيش الذي عندك؟

الطالب: حين استعذر منه رسولُ الله.

الشيخ: هذا الصَّواب: "منه"، نعم: "منه رسول الله"، قال: مَن يعذرني من رجلٍ بلغني أذاه في أهلي؟ على المنبر، يعني: عبدالله بن أُبي، قبَّحه الله.

والحاصل: هذا يعمّ، أنَّ الواجبَ على أهل الإيمان ألا يختلفوا في شأن المنافقين، ولا في غيرهم، يجب عليهم أن يجتمعوا، وأن يتعاونوا، وإذا أشكل شيءٌ بحثوه بينهم حتى يصلوا إلى الحقِّ ويجتمعوا عليه ولا يختلفوا، سواء كانت نزلت في عبدالله بن أُبَيٍّ أو في غيره، المهم أنَّ الواجبَ على أهل السُّنة الاجتماع، على أهل الحقِّ أن يجتمعوا، وألا يختلفوا؛ لأنَّ الاختلافَ مطمعٌ للعدو، وسببٌ للخذلان، ولكن متى اجتمعت الكلمةُ صار ذلك من أسباب النَّصر: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

المقصود من هذا أنَّ الواجبَ على أهل الإيمان الثَّبات والاجتماع على الحقِّ، والتَّعاون على البرِّ والتقوى، والصِّدق في ذلك، والحذر من أسباب الخلاف؛ لأنَّ الخلافَ مطمعٌ للعدو، ويدخل منه العدو، وتحصل به المفسدة الكبيرة؛ ولهذا أنكر سبحانه على المؤمنين فقال: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] يعني: أرداهم وأضلّهم بسبب كسبهم الخبيث وأعمالهم الرَّديئة، فالأعمال السَّيئة من أسباب الضَّلال والزَّيغ، كما أنَّ الطَّاعات والهُدى من أسباب السَّعادة.

فالواجب على أهل الإيمان أن يتَّبعوا الحقَّ، وأن يستقيموا عليه، وأن يجتمعوا، وأن يحذروا أسبابَ الخلاف، وأن يحلّوا المشاكل بينهم على ضوء الكتاب والسّنة؛ حتى لا يطمع فيهم العدو، وحتى لا يجد سبيلًا.

س: ..............؟

ج: ..... حصل فيها ما حصل أيضًا، نعم.

وقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً أَيْ: هُمْ يَوَدُّونَ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَسْتَوُوا أَنْتُمْ وَإِيَّاهُمْ فِيهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَبُغْضِهِمْ لَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: تَرَكُوا الْهِجْرَةَ. قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ. فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا أَيْ: لَا تُوَالُوهُمْ، وَلَا تَسْتَنْصِرُوا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.

ثمَّ استثنى اللهُ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ لَجَؤُوا وَتَحَيَّزُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مُهَادَنَةٌ، أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ، فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيَّ حَدَّثَهُمْ قَالَ: لما ظهر النبيُّ ﷺ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ، قَالَ سُرَاقَةُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ النِّعْمَةَ. فَقَالُوا: صَهٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: دَعُوهُ، مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى قَوْمِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُوَادِعَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَوْمُكَ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا لَمْ تَخْشُنْ قُلُوبُ قَوْمِكَ عَلَيْهِمْ. فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَقَالَ: اذْهَبْ مَعَهُ فَافْعَلْ مَا يُرِيدُ، فَصَالَحَهُمْ خَالِدٌ عَلَى أَلَّا يُعِينُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قريشٌ أسلموا معهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ.

وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فكان مَن وصل إليهم كان مَعَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ. وَهَذَا أَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ.

وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" فِي قِصَّةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَكَانَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي صلح محمدٍ ﷺ وَأَصْحَابِهِ وَعَهْدِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5].

وَقَوْلُهُ: أَوْ جَاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ الآية، هؤلاء قومٌ آخرون من المستثنين من الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ إِلَى الْمَصَافِّ وَهُمْ حَصِرَةٌ صُدُورُهُمْ، أَيْ: ضَيِّقَةٌ صُدُورُهُمْ، مُبْغِضِينَ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ، وَلَا يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، بَلْ هُمْ لَا لَكُمْ، وَلَا عَلَيْكُمْ.

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ أَيْ: مِنْ لُطْفِهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أَيِ: الْمُسَالَمَةَ، فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي: فليس لكم أن تُقاتلوهم مَا دَامَتْ حَالُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ كَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَحَضَرُوا الْقِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ: كَالْعَبَّاسِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ يومئذٍ عن قتل العبَّاس، وأمر بِأَسْرِهِ.

وَقَوْلُهُ: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ كَمَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَلَكِنْ نِيَّةُ هَؤُلَاءِ غَيْرُ نِيَّةِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ هؤلاء قومٌ مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَلِأَصْحَابِهِ الْإِسْلَامَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وأموالهم وذراريهم، ويُصانعون الكفَّار في الباطن، تعبدون مَعَهُمْ مَا يَعْبُدُونَ لِيَأْمَنُوا بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مَعَ أُولَئِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14]، وَقَالَ هَاهُنَا: كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا أَيِ: انْهَمَكُوا فِيهَا.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفِتْنَةُ هَاهُنَا الشِّرْكُ.

وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ فَيُسَلِّمُونَ رِيَاءً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ فَيَرْتَكِسُونَ فِي الْأَوْثَانِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْمَنُوا هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ المهادنة والصُّلح، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي: عن القتال، فَخُذُوهُمْ أُسَراء، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَيْ: أَيْنَ لَقِيتُمُوهُمْ، وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا أَيْ: بَيِّنًا واضحًا.

الشيخ: وهذه الآيات نزلت فيما يتعلَّق بالقتال قبل أن يتحتّم القتال، فقال جماعةٌ من أهل العلم: إنها منسوخة. وقال آخرون: غير منسوخةٍ. ولكن الحكمَ يدور مع العلّة وجودًا وعدمًا، فحيث قوي المسلمون قاتلوا وبدأوا بالقتال ودافعوا، وإذا لم يستطيعوا دافعوا فقط، ولم يبدأوا، فالنبي ﷺ أولًا نُهِيَ عن القتال، ثم أُذِنَ له في قتال مَن قاتله، والكفّ عمَّن اعتزل ولم يُقاتل، ثم أُمِرَ بالقتال في آية السَّيف: فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، وفي قوله : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، هذا هو آخر الأمر، وهو الأمر بالقتال والجهاد لجميع المشركين حتى يدخلوا في الإسلام، أو يُؤدُّوا الجزيةَ إن كانوا من أهلها: كاليهود، والنصارى، والمجوس، وهذا هو الذي عليه الجمهور: أنَّ الكفَّ عمَّن كفَّ أنَّه منسوخٌ، وأنَّ الشَّريعة استقرَّت على وجوب الجهاد والبدء مع القُدرة.

وقال جماعةٌ من أهل العلم -واختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ليست هذه الآيةُ منسوخةً، ولكن على حسب الأحوال؛ فمع العجز لا يجب البدء، ولكن يُقاتلون مَن قاتلهم، ويكفّون عمَّن كفَّ عنهم، وعلى ذلك آيات سورة النِّساء المذكورة، ومع القُدرة يبدؤون، وعلى هذا آية براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وما جاء في معناها، وجعلوا الأمر مناطًا بالقُدرة وعدم القُدرة، وأنَّه ليس هناك نسخٌ، ولكن مع القُدرة يجب الجهاد والبدء، ومع عدم القُدرة عندها يجب الدِّفاع لمن هجم وقاتل.

والقولان مُتقاربان في المعنى، سواء قلنا بالنَّسخ أو بعدم النَّسخ، فإذا وجد المسلمون القوّة والقُدرة جاهدوا في سبيل الله، وبدؤوا غيرهم، ودعوهم إلى دين الله، فمَن أسلم كفُّوا عنه، ومَن أبى قاتلوه إلا أن يبذل الجزية إذا كان من أهلها: كاليهود والنَّصارى والمجوس، وفي هذا المعنى يقول جلَّ وعلا: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، ويقول: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، الفتنة الشِّرك، وثبت عنه ﷺ أنَّه عامل المجوس معاملةَ أهل الكتاب؛ أخذ منهم الجزية وهم عبَّاد النار.

وبهذا يُعلم أنَّ الواجبَ على ولاة أمور المسلمين الجهاد مع القُدرة، سواء قلنا أنها منسوخة، أو غير منسوخة، يجب الجهاد مع القُدرة، وأمَّا مع العجز فإنما يجب الدِّفاع، نعم.

مُداخلة: في تخريج لرواية الحسن عن سُراقة، يقول: حديثٌ ضعيفٌ؛ علي بن زيد بن جُدعان مختلفٌ فيه، والرَّاجح ضعفه، والحسن لم يسمع من سُراقة كما في "جامع التَّحصيل" عن أحمد بن حنبل رحمه الله، وعلي بن المديني رحمه الله، وقد أنكر على علي بن زيد حيث روى عن الحسن أنَّ سُراقة حدَّثه. انتهى.

الشيخ: الأمر واسعٌ، سواء ثبت أو ما ثبت الحكم هو هذا: وجوب القتال مع القُدرة، وجواز الكفّ مع العجز.

س: جماعة في السَّفر بعضُهم معهم ماء، وبعضهم ليس معهم ماء، فهل يلزم مَن كان معه ماء أن يُعطي مَن ليس معه ماء؟

ج: إذا فضل عن حاجته يُعطيه، حاجة الشُّرب، أمَّا حاجة الوضوء ما هو بلزومٍ، مَن عجز يتيمم والحمد لله، ولا يلزم غيرَه أن يُعطيه إلا الشّرب والأكل؛ لإنقاذ النَّفس، وإذا بذل له وجب عليه أن يتوضَّأ.

س: قوله: أسألك النِّعمة؟

ج: إن صحَّ معناها أن تُنعم عليَّ بدعوة بني مدلج حتى لا يُقاتلوا، يعني: أنت الذي تسمح لي.

س: هل هو جائزٌ هذا السّؤال؟

ج: نعم جائز، يسأل الرسولَ أن يُعطيه الإذن، ما فيه شيء، تقول لولي الأمر: ائذن لي أن أقول لجماعتي، وأن أدعوهم إلى الله قبل أن تُقاتلوهم. ما فيه بأس، حتى بعد النبيِّ، لعلَّ الله يهديهم بأسبابه.

س: ..............؟

ج: عليه بالإذن، يعني حتى يتوجَّه إلى قومه.