تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..}

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا هُمَامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ ابن حُرَيثٍ.

الطالب: ..... أَبِي مُرَايَةَ.

الشيخ: حطّ عليه إشارة، يُراجع "المسند".

الطالب: في "المسند": عن أبي مراية.

في الحاشية: أبي مراية، عن النبي ﷺ، وعنه .....

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.

وَقَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ أَنْ يَرُدَّ التَّنَازُعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فَمَا حَكَمَ بِهِ الكتابُ والسُّنةُ وَشَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟

الشيخ: لأنَّ الله قال: فِي شَيْءٍ في سياق الشَّرط: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعمّ القليلَ والكثيرَ، والصَّغير والكبير، سواء كان النزاعُ بين العلماء، أو بين الأُمراء والعلماء، أو بين غيرهم، يجب ردُّه إلى الله والرسول؛ لأنَّ الخطابَ للأُمَّة كلِّها، الردُّ إلى الله الردُّ إلى القرآن، والردُّ إلى الرسول الردُّ إليه في حياته ﷺ، وبعد وفاته الردُّ إلى سُنَّته، وحكمه ﷺ حكم الله؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ يعمّ الكتابَ والسنةَ؛ لأنَّ ما جاء به الرسول هو حكم الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3- 4].

س: مَن قال: إنَّ هذه الآية حُجَّة في الإجماع؛ لأنَّهم إذا لم يتنازعوا .....؟

ج: الإجماع معروفٌ من آيةٍ أخرى: ومَن يتَّبع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء:115]، مأخوذٌ من آيةٍ أخرى، ومن قوله ﷺ: لا تجتمع أُمَّتي على ضلالةٍ، لا تزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ منصورة، فإذا اجتمعوا ففيهم الطَّائفة المنصورة.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ: رَدُّوا الْخُصُومَاتِ وَالْجَهَالَاتِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَن لم يتحاكم في محلِّ النِّزَاعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَرْجِعْ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.

وهذا معنى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، فمَن زعم أنَّه يجوز التَّحاكم إلى غير الله، أو أنَّه يوجد حكمٌ أحسن من حكم الله، أو يجوز أن يحكم بين الناس، فهذا مُنتفي الإيمان، ردَّة عن الإسلام، نسأل الله العافية.

والناس في هذا على أقسامٍ ثلاثةٍ: منهم مَن يُفضِّل بعضَ الأحكام القانونية على حكم الله، ومنهم مَن يجعلها مُساويةً، لا فرقَ بين هذا وهذا، وقسمٌ ثالثٌ يقول: حكم الله أفضل، ولكن هذا يجوز، لا حرج. كلّها ردّة عن الإسلام، يجب الاعتقاد والإيمان بأنَّ حكمَ الله هو الواجب، وأنَّ مَن حاد عنه فقد ضلَّ، لكن إن كان مُستحلًّا كفر، وإن كان لهوًى فذلك من كبائر الذنوب، ومن المعاصي، كما قد يفعل بعضُ الناس للرشوة أو لعداوةٍ لأحد الخصمين، أو لغير هذا.

س: ..............؟

ج: لا يجوز التَّحاكم إلى غير الله، يجب التَّحاكم إلى الشَّرع، إلى شرع الله المطهر: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49].

س: ما حكمه؟

ج: المستحلُّ يكفر، والذي ما هو بمُستحلٍّ يكون أتى كبيرةً عظيمةً.

س: قوله: "ردُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله" أليس الأقرب أن تكون "والجدالات" بالدال؟

ج: لا، الجهالات يعني: جهل الناس، وآراءهم الفاسدة.

س: الذي يُدْعَى إلى حكم الله ثم يقول: لا أريد إلَّا حكم غير حكم الله، فيأبى؟

ج: هذا ليس ببعيدٍ أن يكون مُرتدًّا، ظاهره إجازة غير حكم الله.

س: يقول: أريد أن أذهب إلى الشيخ فلان ..... القبائل، ويترك حكم الله .....؟

ج: ظاهر هذا الردّة عن الإسلام، ظاهر هذا أنَّه يكره حكمَ الله، وهذه ردَّة عن الإسلام: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، نسأل الله العافية، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.

وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59] أَيِ: التَّحَاكُمُ إِلَى كتاب الله وسنَّة رسوله والرّجوع إليهما في فصل النِّزاع، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ: وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وأحسن جزاءً. وهو قريبٌ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:60- 63].

هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، وَهُوَ مع ذلك يُريد أن يتحاكم فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ورجلٍ من اليهود تخاصما، فَجَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ. وَذَاكَ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ.

وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهَا ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ هَاهُنَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها.

الشيخ: المراد بالطَّاغوت يعني: مَن يحكم بغير ما أنزل الله، سواء كان كاهنًا أو مُنَجِّمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مسلمًا أو غير ذلك، فالطَّاغوت من الطُّغيان، وهو تجاوز الحدِّ، فكل مَن تجاوز الحدَّ الذي حدَّه اللهُ له، سواء كان يعبد من دون الله، أو يدعو إلى ذلك، أو من الكهَّان والمنجِّمين، أو ممن يحكم بالقوانين أو بالرشوة، كلّه طاغوتٌ، نسأل الله العافية.

س: ..............؟

ج: ما هي بولايةٍ شرعيَّةٍ، ولاية كفرية، يجب أن يتَّقوا الله، وأن يحكموا شرع الله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]، نسأل الله العافية، يجب إذا كان هناك دولة مسلمة تستطيع الجهاد يجب أن تُجاهد مَن لم يحكم بما أنزل الله حتى يحكم بما أنزل الله.

س: .............؟

ج: إذا كانت مودة مُوافقة للشَّرع فلا بأس، وإذا كانت مُخالفة للشَّرع يكون في حكم الطَّاغوت.

وَقَوْلُهُ: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ إِعْرَاضًا كَالْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:21]، وَهَؤُلَاءِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ.

الشيخ: وهذا من جنس ما يقوله كثيرٌ من البوادي أو رُؤساء القبائل، إذا وقعت بينهم مشاكل أبوا إلا أن يرجعوا إلى قوانين آبائهم وأسلافهم، من جنس عادة الجاهلية، يجب أن يخضعوا لحكم الله، وأن يردّوا ما تنازعوا فيه إلى حكم الله، ويجب على القُضاة أن يتحرَّوا شرعَ الله، يجب على القاضي أن يتحرَّى شرع الله .....، بل يجب أن يتحرَّى شرع الله في هذه القضية من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصَّلاة والسلام.

س: وإذا كان صلحًا؟

ج: الصلح لا بأس به، الصلح بين الناس لا بأس به إذا لم يحلّ حرامًا، ولم يُحرِّم حلالًا بالاجتهاد، لكن لا يتعمد تحريم حلالٍ، ولا تحليل حرامٍ، مثلما قال الله جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، الصُّلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحًا حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حرامًا.

س: بعض القبائل تخرج من المحكمة بعد حكم القاضي .....؟

ج: إذا لم يرضوا بحكم الله يدخلون في الآية، أمَّا إذا تنازعوا ولا قنعوا بالحكم، وتراضوا على الصّلح فيما بينهم، يُصلح بينهم زيدٌ أو عمرو؛ لأنَّه عندهم النِّزاع، الحكم ما أقنع أحدهما، فلا يزال فيه شرٌّ وعداوةٌ، وتنازل صاحبُ الحكم، قال: أنا أرضى بالصُّلح، ما في بأس.

س: .............؟

ج: المقصود إذا كان صلحًا، أمَّا إلزامٌ لا، ما يجوز، أمَّا إن كان بالتَّراضي لا بأس، أما إلزامٌ لا يجوز، ما يجوز الإلزام إلَّا بحكم الله، أمَّا إذا أصلح بينهم شيخُ قبيلتهم، أو أحدٌ من أقاربهم، أو بعضُ المسلمين أصلح بينهم فلا بأس، بشرط ألا يكون أحلَّ حرامًا، ولا حرَّم حلالًا، مثلًا: تنازعوا في دراهم، هذا يقول: إنها ألف. وهذا يقول: لا، ألفان. وأصلح بينهم تصير ألفًا وخمسمئة، تنازعوا في أرضٍ فقال: يُعطيه بعضَها ويُخلِّي بعضَها. تنازعوا في نخلٍ فأصلح بينهم فيه، وهكذا، نعم.

س: .............؟

ج: إذا تراضوا على أحدهما.

س: .............؟

ج: يلزم ذاك، إن أراد الشَّرع يلزم أن يُطيعه، مَن طلب الشَّرع يلزمه أن يُطيعه، ما يلزمه الصُّلح، الصُّلح ما يكون إلا عن تراضٍ، هذه قاعدة الصُّلح.

س: .............؟

ج: إذا تنازل ما في بأس، حكم القاضي حكم عليه بألف ريال، وتنازل عن مئتي ريالٍ، أو أصلح بينهم بعضُ إخوانهم، قال: أنت استحققتَ ألف ريالٍ، لكن نطلب منك أن تسمح عني بشيءٍ. ما في بأس.

الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51].

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَيْ: فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا سَاقَتْهُمُ الْمَقَادِيرُ إِلَيْكَ فِي مَصَائِبَ تَطْرُقُهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذلك: ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أَيْ: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ وَيَحْلِفُونَ مَا أَرَدْنَا بِذَهَابِنَا إلى غيرك وتحاكمنا إلى أعدائك إِلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ، أَيِ: الْمُدَارَاةَ وَالْمُصَانَعَةَ، لَا اعْتِقَادًا مِنَّا صِحَّةَ تِلْكَ الْحُكُومَةِ، كَمَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى إلى قوله: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].

وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَوْطِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عمر.

الشيخ: ابن عمرو، ابن عمرو، المعروف ابن عمرو بالواو، انظر "التقريب".

عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ المشركين.

مُداخلة: في نسخة الشّعب: من المسلمين.

الشيخ: حطّها نسخة: من المسلمين.

الطالب: صفوان ذكر رجلين: الأول: صفوان بن عمرو بن هرم السّكسكي، أبو عمرو، الحمصي، ثقة، من الخامسة، مات سنة خمسٍ وخمسين ..... (البخاري في "الأدب"، ومسلم، والأربعة).

الآخر: صفوان بن عمرو الحمصي، الصَّغير، صدوق، من الحادية عشرة. (النسائي).

الشيخ: المعروف هو الأول: السَّكسكي، هو المراد هنا، الذي يروي عن عكرمة بالواو، نعم.

قَالَ: كَانَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ كَاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ الْيَهُودِ فِيمَا يَتَنَافَرُونَ فِيهِ، فَتَنَافَرَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ المشركين، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا.

الشيخ: ظاهر السِّياق أنَّهم من المسلمين، نسخة "المسلمين" أظهر؛ لأنه عيبٌ عليهم، إنكارٌ عليهم، صوابه: من المسلمين. السِّياق يدل على أنه يعيبهم بهذا، وإن صحَّ هذا يعني: أبا برزة قبل أن يُسلم؛ لأنَّ أبا برزة من خيرة الصَّحابة ، كان في الجاهلية قبل إسلامه إن صحَّ.

............

أعد السَّند.

وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَوْطِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عمرو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

الشيخ: سندٌ جيدٌ إن سلم من شيخ الطَّبراني، إن كان شيخُ الطَّبراني ثقةً فهو سندٌ جيدٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فاكتفِ به يا محمَّد فيهم، فإنَّه عَالِمٌ بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيْ: لَا تُعَنِّفْهُمْ عَلَى مَا فِي قلوبهم، وَعِظْهُمْ أي: وانههم عمَّا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَسَرَائِرِ الشَّرِّ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا أَيْ: وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ رَادِعٍ لَهُمْ.

الشيخ: لكل قومٍ وارثٌ، كما كانوا في عهد النبي ﷺ لهم ورثة يتظاهرون بالإسلام، وهم أعداء الإسلام، يدعون إلى ضدِّه، وينتهزون الفرصَ ضدّ الإسلام، كالذين يُسمّون الآن: العلمانيين، هم المنافقون يتظاهرون بالإسلام، وهم ضدّ الإسلام في كل حالٍ، لكن إذا خافوا اعتذروا، قالوا: ما أردنا إلا كذا، وما أردنا إلا كذا. نسأل الله العافية.

وهذا يُوجب للمؤمن الحذر، وأن يتَّقي الله، ويُراقب الله في نفسه، وأن يكون ظاهرُه وباطنُه على الحقِّ، ويحذر صفات المنافقين الذين هدفهم اتِّباع أهوائهم؛ فتارةً مع المسلمين، وتارةً مع الكافرين، وتارةً يتظاهرون بأنهم أنصار الحقِّ، وأنهم ما أرادوا إلا كذا وكذا: إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، ما أردنا خلافَ ذلك. والله يعلم ما في قلوبهم من الشَّر والبلاء، نسأل الله العافية.