تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ..}

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا مُتعاونين، مُتساعدين، مُتعاضدين، مُتناصرين فيه.

وقوله: شُهَدَاءَ لِلَّهِ كما قال: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2] أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذٍ تكون صحيحةً، عادلةً حقًّا، خاليةً من التَّحريف والتَّبديل والكتمان؛ ولهذا قال: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أي: اشهد الحقَّ ولو عاد ضررها عليك.

الشيخ: يعني: اشهد شهادة الحقّ، والمعنى: اشهد بالحقِّ على الصغير والكبير، والغني والفقير، والأب والأم، وغير ذلك، نعم.

المقصود من هذه الآية العظيمة أمر العباد بالتَّآخي والتَّعاون والتَّواصي بالحقِّ، وعدم الجور والظُّلم والحيف والهوى، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقال سبحانه: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، وكذلك قوله ﷺ في الحديث الصحيح: إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا مَن ولَّاه الله أمركم، وفي الآية الكريمة: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].

فالواجب على المسلمين جميعًا ..... التعاون على البرِّ والتقوى، والقيام بالقسط، القيام بالعدل والتَّناصح؛ تحقيقًا لقوله -جلَّ وعلا-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، كانوا خير أُمَّةٍ لماذا؟

لما بينهم من التَّناصح والتَّعاون على البرِّ والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهذا الواجب، يجب أن يحقق، ويجب أن يحصل فيه التعاون والتواصي؛ لأنَّه واجب عظيم، والنفوس أمَّارة بالسوء، والشيطان يدعو إلى الباطل، والإنسان قد يميل إلى هواه، وإلى قريبه، وإلى صديقه، فلا بدَّ من تعاونٍ وصدقٍ وتواصٍ لمحاربة الهوى والشيطان ونوّاب الشيطان، فمتى توافرت هذه الخصال الحميدة في الأمّة تمَّت لها السَّعادة، ونصرها الله على عدوها، ومكَّن لها في الأرض، ومتى ظلمت وجارت وتعدّت الحدود تعرّضت لغضب الله وعقابه، وتعرّضت للفتن والملاحم والشُّرور الكثيرة.

والله -جلَّ وعلا- حكيم عليم، قد يُمهل، قد تظهر هذه الشُّرور في جهةٍ من الجهات، وفي أُمَّةٍ من الأمم، ويُملي لها، كما قال تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، وقبلها: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183].

فلا ينبغي للعاقل أن يغترّ بإملاء الله، وكونه يقيم على الظلم والشَّر والفساد، ويغترّ بإملاء الله، لا، احذر، قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، قد يُملى للظالم فيموت بظلمه، لم تُعجل له العقوبة، فتكون له العقوبة في الآخرة أشدّ، ولكن العاقل الفاهم البصير يُحاسِب نفسه عند القليل والكثير، ويقف عند حدود الله، ويُؤثر مراضي الله على هوى نفسه، وعلى هوى غيره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ بالعدل شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا، فلا تظلم لأنَّه فقير، ولا تعدل عن الحقِّ لأنَّه عدو، بل عليك بالقسط والعدل مع العدو، ومع الفقير، ومع الغني والكبير: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، كما في آية الأنعام، نعم.

وإذا سُئلت عن الأمر فقل الحقّ فيه، ولو عادت مضرّته عليك، فإنَّ الله سيجعل لمن أطاعه فرجًا ومخرجًا من كلِّ أمرٍ يضيق عليه.

وقوله: أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أي: وإن كانت الشهادةُ على والديك وقرابتك فلا تُراعهم فيها، بل اشهد بالحقِّ، وإن عاد ضررها عليهم، فإنَّ الحقَّ حاكمٌ على كل أحدٍ.

وقوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا أي: لا ترعاه لغناه، ولا تُشفق عليه لفقره، الله يتولّاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما.

وقوله: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا أي: فلا يحملنّكم الهوى والعصبية وبُغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حالٍ كان، كما قال تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

ومن هذا القبيل قول عبدالله بن رواحة لما بعثه النبي ﷺ يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يُرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتُكم من عند أحبّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبُغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. وسيأتي الحديث مُسندًا في سورة المائدة، إن شاء الله تعالى.

الشيخ: العجب من اليهود أنَّهم يعرفون العدل، ويعرفون الظلم، ثم يُصرّون على الظلم، ويُصرّون على الحسد والبغي والكفر بالله ورسوله على بصيرةٍ! هذا هو البلاء العظيم -نعوذ بالله-، فهؤلاء اليهود علموا أنهم على باطلٍ، ويُصرّون، ويقولون: بالعدل قامت السماوات والأرض. ثم يُخالفون العدل، ويجورون، ويتعدّون على المسلمين، ويكفرون بما جاء به نبيُّهم! هذا هو العجب العجاب! كيف طبع الله على هذه القلوب حتى مالت عن الهدى، وصارت إلى الباطل عن بصيرةٍ، وعن هوى، وعن عمدٍ، لا عن جهلٍ، بل عن عمدٍ؟! وهذا هو البلاء العظيم، نسأل الله العافية.

وقوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قال مجاهد وغير واحدٍ من السلف: تَلْوُوا أي: تحرفوا الشَّهادة وتُغيّروها، والذي هو التَّحريف وتعمّد الكذب، قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78]، والإعراض هو كتمان الشَّهادة وتركها.

الشيخ: والمعنى: أنَّ الواجب عليهم أن يأتوا بالشَّهادة صحيحة، واضحة، فلا يُشوّشوا عليها حتى لا تنفع، وهو الذي –يعني- يأتي بها على وجهٍ ليس بواضحٍ في الشَّهادة، يُدخلون فيها أشياء، كأنَّهم شاكّون، كأنهم لم يضبطوا، حتى لا تُقبل، أو يعرضون بكتمانها والجحد، وأن يقولوا: ما عندنا شهادة.

فتابع الهوى إمَّا أن يُغير الشَّهادة حتى لا تنفع، وإما أن يكتمها ويعرض عنها؛ إيثارًا للباطل، وإيثارًا للهوى، وإيثارًا للدنيا على الآخرة، وإيثارًا للقريب والصّديق، أو بُغْضًا للمحكوم عليه، نسأل الله العافية، نعم.

قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، وقال النبي ﷺ: خير الشُّهداء الذي يأتي بالشَّهادة قبل أن يُسألها؛ ولهذا توعدهم الله بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا أي: وسيُجازيكم بذلك.

س: أحسن الله إليك، من علامات الساعة: قوم يشهدون ولا يُستشهدون، وهذا فيه: قبل أن يُسألها؟

ج: هذا عند الحاجة إليها، عند الحاجة، أما أن يشهدوا ولا يُستشهدون فهذا لقِلّة مُبالاتهم بالشَّهادة، وتعمّدهم الزور، ولا يُبالون، أمَّا الذي يأتي بالشَّهادة قبل أن يُسألها عند الحاجة إليها، لا تساهلًا منه، ولكن لإسعافهم بما عنده من الشَّهادة، وعدم كتمانه إياها، بل يأتي بها قبل أن يُسألها عند الحاجة إلى ذلك؛ لجهلهم بها، أو نسيانهم إياها، فيأتي بها ويقول: عندي لكم شهادة. وهو صادقٌ، نعم.

س: .............؟

ج: لا، ما يجوز له، يجب عليه أن يُؤدِّي الشهادة، ولا يجوز له التساهل في هذا إذا كان ..... يطلب منهم سيارة يحملونه، بعير، حمار، بغل يحمله إذا دعت الحاجةُ إلى حمله .....

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:136].

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاةٍ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: بصّرنا فيه وزدنا هدًى وثبّتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله.

الشيخ: ومعنى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: استكملوا الإيمان واثبتوا عليه، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: إيمانًا كاملًا شاملًا لكلِّ ما أخبر الله به ورسوله، وبكل ما نهى الله عنه ورسوله، واثبتوا عليه والزموه، نعم.

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28].

وقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ يعني: القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.

وقال في القرآن: نَزَّلَ لأنَّه نزل مُفرَّقًا مُنَجَّمًا على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأمَّا الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملةً واحدةً؛ لهذا قال تعالى: وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ.

ثم قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا أي: فقد خرج عن طريق الهدى وبَعُدَ عن القصد كلَّ البُعد.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ۝ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:137-138].

الشيخ: بركة.

س: الحديث الذي ذكره المؤلف هل يصحّ: حديث خير الشهداء ...؟

ج: نعم، رواه مسلم في "الصحيح": ألا أُنبئكم بخير الشُّهداء؟ الذي يأتي بالشَّهادة قبل أن يُسألها، أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث زيد بن خالد .

س: .............؟

ج: هذا ذكره العلماء: تنزيل الكتاب، "نزل" يعني: شيئًا بعد شيءٍ، وجاء في القرآن أيضًا: "أنزل القرآن"، جاء هذا وهذا.

س: رجل مات أبوه، والأب تاركٌ للصلاة ..... يقول: هل آخذ حصيلتي من التركة؟

ج: إذا أخذ لا بأس -إن شاء الله-، الخلاف مشهور، إن كان لا يجحد وجوبها فالخلاف مشهور في هذا، إذا كان لا يجحد وجوبها، وإن تركه احتياطًا، وإخوانه مثله؟ كلّهم يُصلون؟ كلهم طيبون؟

س: الأب فقط.

ج: لا، ما يخالف، يأخذ خيرًا له من أن يذهب إلى غيره ما دام مثله .....

س: إذا ترتب على الشَّهادة أمرٌ يضرّ بالمسلمين؟

ج: أيش معنى: يضرّ بالمسلمين؟

س: إذا سُئل عن شيءٍ وأضرّ .....؟

ج: سُئل عن أيش؟ تأمّل كلامك! وبعد ذلك ..، نعم، تأمّل كلامك! نعم.