تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ..} (2)

قال ابن جرير: وقال آخرون: يعني بذلك: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] بعيسى قبل موت صاحب الكتاب.

ذكر مَن كان يُوجّه ذلك إلى أنَّه علم الحقَّ من الباطل؛ لأنَّ كل مَن نزل به الموت لم تخرج نفسُه حتى يتبين له الحقّ من الباطل في دينه.

قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباسٍ في الآية، قال: لا يموت يهودي حتى يُؤمن بعيسى.

حدثني ابن المثنى: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ كل صاحب كتابٍ يُؤمن بعيسى قبل موته، قبل موت صاحب الكتاب.

وقال ابن عباسٍ: لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن حميد: حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح: حدثنا حسين بن واقد، عن يزيد النَّحوي، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أنَّ عيسى عبدالله ورسوله، ولو عجل عليه بالسلاح.

حدثني إسحاق بن إبراهيم وحبيب بن الشَّهيد.

مداخلة: في نسخة (الشعب): حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن الحبيب بن الشَّهيد.

الشيخ: الذي يظهر أنَّه ابن حبيب بن الشهيد، جدّه: إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، نعم. انظر "التقريب"، الذي أعرف جدّه: حبيب بن الشهيد؛ تحرزًا من إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، فذكر جدّه لئلا يشتبه بإسحاق بن إبراهيم بن راهويه.

الطالب: إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، الشهيد أبو يعقوب البصري، عن أبيه، وعتاب بن بشير المحاربي، وعنه: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الدَّارقطني: ثقة، مأمون، توفي سنة سبعٍ وخمسين ومئتين. (الترمذي، والنسائي، وابن ماجه).

الشيخ: نعم، هذا هو، نعم، ابن حبيب بن الشهيد، فالواو غلط، بدل الواو: ابن.

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: هي في قراءة أبي: قبل موتهم، ليس يهودي يموت أبدًا حتى يُؤمن بعيسى. قيل لابن عباسٍ: أرأيت إن خرَّ من فوق بيتٍ؟ قال: يتكلّم به في الهوي. قيل: أرأيت إن ضربت عنق أحدهم؟ قال: يلجلج بها لسانه.

وكذا روى سفيان الثوري عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ، وإن ضُرب بالسيف تكلّم به. قال: وإن هوى تكلّم به وهو يهوي.

وكذا روى أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ.

فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباسٍ، وكذا صحَّ عن مجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين، وبه يقول الضَّحاك وجويبر.

وقاله السّدي، وحكاه عن ابن عباسٍ، ونقل قراءة أبي بن كعب: قبل موتهم.

وقال عبدالرزاق: عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يُؤمن بعيسى قبل أن يموت. وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدّم عنه، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء.

قال ابن جرير: وقال آخرون: معنى ذلك: وإنَّ من أهل الكتاب إلا ليُؤمنن بمحمدٍ ﷺ قبل موت الكتابي.

ذكر مَن قال ذلك: حدثني ابن المثنى: حدثنا الحجاج بن المنهال: حدثنا حماد، عن حميدٍ قال: قال عكرمة: لا يموت النَّصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمدٍ ﷺ [يعني في] قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

ثم قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنَّه لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد نزول عيسى إلا آمن به قبل موت عيسى .

ولا شكَّ أنَّ هذا الذي قاله ابنُ جرير هو الصَّحيح؛ لأنَّه المقصود من سياق الآي في تقرير بُطلان ما ادَّعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم مَن سلّم لهم من النَّصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنَّه لم يكن كذلك، وإنما شُبّه لهم، فقتلوا الشَّبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنَّه رفعه إليه، وإنَّه باقٍ حيّ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلَّت عليه الأحاديث المتواترة التي سنُوردها -إن شاء الله- قريبًا، فيقتل مسيح الضَّلالة، ويكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، يعني: لا يقبلها من أحدٍ من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السَّيف.

الشيخ: وهذا هو الذي جاءت به الأحاديث الصَّحيحة، وهو ظاهر السياق: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني: وما من أهل الكتاب، "إن" نافية، إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:158-159]، وينزل في آخر الزمان، ويحكم بشريعة محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، ولا يقبل من الناس إلا الإسلام أو السيف، لا يقبل الجزية، ثم يموت الموتة التي كتبها اللهُ عليه بعد ذلك -عليه الصلاة والسلام-، وهذا تواترت به الأخبار عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

وأمَّا قول مَن قال: إنَّ كل كتابي عند موته يُؤمن به، أو أنَّه يؤمن بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام-. فهذا بعيدٌ، وإنما المقصود الأول: أنَّ الله -جلَّ وعلا- سوف يُنزله، وسوف يعلم الناس ذلك مُشاهدةً وعيانًا، وينتهي الشَّك، ولا يبقى لأحدٍ شكٌّ، بل تكون المسألةُ واضحةً: أنَّه ﷺ نزل وقتل الدَّجال، وأقام شريعة الله، وبيَّن صحّة ما جاء به محمدٌ -عليه الصلاة والسلام-، وأنَّه الحقّ، فعند هذا يدخل الناس في دين الله، ويؤمنون بشريعته وما جاء به عيسى -عليه الصلاة والسلام-.

س: ..............؟

ج: يعني: في وقت عيسى، نعم، الذين في وقته، نعم.

فأخبرت هذه الآية الكريمة أنَّه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذٍ، ولا يتخلّف عن التَّصديق به واحدٌ منهم؛ ولهذا قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي: قبل موت عيسى الذي زعم اليهودُ ومَن وافقهم من النَّصارى أنَّه قُتل وصُلب، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السَّماء، وبعد نزوله إلى الأرض.

فأمَّا مَن فسّر هذه الآية بأنَّ المعنى: أن كل كتابي لا يموت حتى يُؤمن بعيسى أو بمحمدٍ -عليهما الصلاة والسلام-، فهذا هو الواقع، وذلك أنَّ كل أحدٍ عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلًا به، فيُؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانًا نافعًا له إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18]، وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [غافر:84].

وهذا يدلّ على ضعف ما احتجّ به ابنُ جرير في ردِّ هذا القول؛ حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا، لكان كلّ مَن آمن بمحمدٍ ﷺ أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما، وحينئذٍ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه؛ لأنَّه قد أخبر الصَّادق أنَّه يؤمن به قبل موته.

فهذا ليس بجيدٍ؛ إذ لا يلزم من إيمانه أنَّه يصير بذلك مسلمًا، ألا ترى قول ابن عباس: "ولو تردّى من شاهقٍ، أو ضُرب بالسيف، أو افترسه سبعٌ، فإنَّه لا بدَّ أن يُؤمن بعيسى"؟ فالإيمان في هذه الحال ليس بنافعٍ، ولا ينقل صاحبه عن كفره؛ لما قدّمناه، والله أعلم.

ومَن تأمّل جيدًا وأمعن النَّظر اتَّضح له أنَّه هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المرادُ بهذه الآية هذا، بل المراد بها الذي ذكرناه من تقرير وجود عيسى وبقاء حياته في السَّماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة؛ ليُكذّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنَّصارى الذين تباينت أقوالهم فيه، وتصادمت، وتعاكست، وتناقضت، وخلت عن الحقِّ، ففرّط هؤلاء اليهود، وأفرط هؤلاء النَّصارى؛ تنقَّصه اليهود بما رموه به وأمّه من العظائم، وأطراه النَّصارى بحيث ادّعوا فيه ما ليس فيه.

الشيخ: اليهود فرَّطوا، يعني: جفوا في حقِّ المسيح -عليه الصلاة والسلام-، وكفروا به، وزعموا أنَّه ولد بغي، ورموا أمّه، هذا هو التَّفريط والجفاء، والعياذ بالله.

والنَّصارى أفرطوا؛ غلوا وزادوا حتى عبدوه من دون الله، وقالوا: إنَّه ابن الله، أو إنَّه الله، وثالث ثلاثة.

فكلتا الطَّائفتين قد ضلّتا عن الحقِّ والهدى، ولم يُوفّق للحقِّ إلا أتباع محمدٍ ﷺ الذين آمنوا بأنَّه رسول الله، وأنَّه عبد الله ورسوله، وأنَّه خلقه الله من أنثى بلا ذكرٍ، قال الله له: "كن" فكان، وهكذا مَن آمن به من أهل الكتاب من النَّصارى ومن اليهود كما آمن به أصحابُ محمدٍ ﷺ، هؤلاء هم المصيبون للحقِّ، نعم.

س: ...............؟

ج: محل نظرٍ، أقول: هذا محلّ نظرٍ، ما عليه دليل واضح، لكن يوم القيامة يتمنون أن يرجعوا، الكفَّار يتمنون، ولا ينفعهم ذلك، قال الله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [الأنعام:28]، ولو قدّر أنَّ ما قاله ابنُ كثير صحيح فلا ينفعهم؛ لأنَّ الإيمان عند الاحتضار ما ينفع، نعم.

س: لكن عند نزول عيسى ..... يقبل منهم؟

ج: إيه، إذا أسلموا في وقته، إذا نزل من السَّماء وأسلموا قبل منهم، ما يقبل إلا الإسلام أو السيف، إذا نزل من السَّماء دعاهم إلى الله، فمَن دخل في الإسلام قبل منه، ومَن أبى قاتله، نعم.

س: ابن عباس أخذ بالعموم .....؟

ج: إيه، نعم، يعني: عند خروج روحه.

فرفعوه في مُقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى عمَّا يقول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا، وتنزّه وتقدّس، لا إله إلا هو.