07 فصل في هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه

وَكَانَ إِذَا انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ، ثُمَّ يَتَسَوَّكُ، وَرُبَّمَا قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ "آلِ عِمْرَانَ"، مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى آخِرِهَا [آلِ عِمْرَانَ:190-200].

وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

الشيخ: علَّق بشيءٍ؟

الطالب: أخرجه البخاري في "الدعوات" باب "الدعاء إذا انتبه في الليل"، وفي "التهجد" باب "التهجد في الليل"، وفي "التوحيد" باب قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الأنعام:73]، وباب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وباب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح:15]، ومسلم في "صلاة المسافرين" باب "الدعاء في صلاة الليل" .....، والترمذي في "الدعوات" باب "جامع ما يقول إذا قام من الليل إلى الصلاة"، والنسائي في "صلاة الليل".

الشيخ: المعروف في الرواية أنه يقول هذا عند بدئه الصلاة، بعد التحريمة، لا عند الانتهاء، تُراجع الرِّوايات، كان يستفتح بهذا التَّهجد، ولعله يقوله بعض الأحيان إذا انتبه، تُراجع هذه المواضع.

.............

الشيخ: ما تصير سنةً، لكن مَن فعلها فلا بأس، إذا كانت ما فيها محذور ما فيها بأس، لكن ما تكون سنةً إلا بالثُّبوت.

وَكَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ آخِرَهُ، وَرُبَّمَا سَهِرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ.

وَكَانَ إِذَا نَامَ لَمْ يُوقِظُوهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَيْقِظُ.

وَكَانَ إِذَا عَرَّسَ بِلَيْلٍ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ ذِرَاعَهُ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ.

الشيخ: لئلا يثقل ..... لئلا يثقل.

هَكَذَا قَالَ الترمذي.

وَقَال أبو حاتم فِي "صَحِيحِهِ": كَانَ إِذَا عَرَّسَ بِاللَّيْلِ تَوَسَّدَ يَمِينَهُ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ نَصَبَ سَاعِدَهُ.

وَأَظُنُّ هَذَا وَهْمًا، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ الترمذي.

وَقَالَ أبو حاتم: وَالتَّعْرِيسُ إِنَّمَا يَكُونُ قُبَيْلَ الصُّبْحِ.

وَكَانَ نَوْمُهُ أَعْدَلَ النَّوْمِ.

الشيخ: علَّق بشيءٍ؟

الطالب: ..... أخرجه الترمذي في "الشمائل"، وإسناده قوي.

الشيخ: فقط؟

الطالب: نعم.

وَكَانَ نَوْمُهُ أَعْدَلَ النَّوْمِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مَا يَكُونُ مِنَ النَّوْمِ، وَالْأَطِبَّاءُ يَقُولُونَ: هُوَ ثُلُثُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثَمَان سَاعَاتٍ.

الشيخ: علَّق المحشي بشيء؟

الطالب: لا.

......

الشيخ: الأطباء يحكمون عن اجتهادهم، والناس يختلفون: أحدهم يكون ثمانيًا، وأحدهم يكون ستًّا، وأحدهم يكون خمسًا، الناس ما هم بواحدٍ في هذا الأمر، والأطفال لا يكفيهم ثمان ساعات.

المقصود من هذا أنَّ الواجب على المسلم ألا يحيف، وألا يُوصي بشيءٍ فيه حيف، وألا يضرّ الورثة، بل يدعهم على قسمة الله: إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارثٍ؛ ولهذا قال: غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء:12]، فليس لأحدٍ أن يُضارّ في وصيته، أو يُحابي بعض الورثة، بل يدعهم على قسمة الله.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي الرُّكُوبِ

رَكِبَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَرَكِبَ الْفَرَسَ مُسْرَجَةً تَارَةً، وَعَرِيًّا أُخْرَى، وَكَانَ يُجْرِيهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَكَانَ يَرْكَبُ وَحْدَهُ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَرُبَّمَا أَرْدَفَ خَلْفَهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَرُبَّمَا أَرْدَفَ خَلْفَهُ وَأَرْكَبَ أَمَامَهُ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْدَفَ الرِّجَالَ، وَأَرْدَفَ بَعْضَ نِسَائِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَرَاكِبِهِ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ.

وَأَمَّا الْبِغَالُ: فَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا بَغْلَةٌ وَاحِدَةٌ، أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ، وَلَمْ تَكُنِ الْبِغَالُ مَشْهُورَةً بِأَرْضِ الْعَرَبِ، بَلْ لَمَّا أُهْدِيَتْ لَهُ الْبَغْلَةُ قِيلَ: أَلَا نُنْزِيَ الْخَيْلَ عَلَى الْحُمُرِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.

الشيخ: ألا ننزي؟

الطالب: ألا نُنزي الخيل على الحمر؟

الشيخ: نعم؛ لأنها تقع بينهما، تخرج البغلةُ بين الحمار والفرس -الحصان- وهذا لا يجوز.

فَصْلٌ

وَاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغَنَمَ، وَكَانَ لَهُ مِئَةُ شَاةٍ، وَكَانَ لَا يُحِبُّ أَنْ تَزِيدَ عَلَى مِئَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ بَهْمَةً ذَبَحَ مَكَانَهَا أُخْرَى.

وَاتَّخَذَ الرَّقِيقَ مِنَ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَكَانَ مَوَالِيهِ وَعُتَقَاؤُهُ مِنَ الْعَبِيدِ أَكْثَرَ مِنَ الْإِمَاءِ.

وَقَدْ رَوَى الترمذيُّ فِي "جَامِعِهِ" مِنْ حَدِيثِ أبي أمامة وَغَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا امْرِئٍ أَعْتَقَ امْرءًا مُسْلِمًا، كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ.

الشيخ: وهذا فيه الترغيب بالعتق؛ ولهذا قال: أيما امرئٍ مسلمٍ أعتق امرءًا مسلمًا كان فكاكَه من النار، يُجزئ كل عضو منه عضوًا منه، كل عضوٍ مقابل عضو في فكاكه وخلاصه من النار.

وهذا يدل على فضل عتق الرقاب، والله شرع الرِّقَّ في السَّبايا ليُعين المسلمين على حاجاتهم، وليخلص الذرية والإماء من الكفر، لكن في شرعية الرق مصالح للجميع: للنساء والذرية، يُسبون ويتسرون، فينتفع بهم المسلمون في الخدمة والبيع والشِّراء ونحو ذلك، ويخرجون من الكفر والضَّلال، ويستفيدون من المسلمين، وينتفعون بوجودهم بين المسلمين، ومع هذا شرع الله العتق ورغَّب فيه؛ حتى يحصل هذا وهذا: يحصل انتفاعهم بالإماء والرقيق من الرجال، ويحصل لهم بالعتق الفضل والأجر من الله .

س: .............؟

ج: العمال ما هم رقيق، العمال بالأجرة، والرقيق يُملكون بالسبي من الكفار، أو بالشراء من المسلمين.

وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوَيْنِ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ.

وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ أَفْضَلُ، وَأَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ يَعْدِلُ عِتْقَ أَمَتَيْنِ، فَكَانَ أَكْثَرُ عُتَقَائِهِ ﷺ مِنَ الْعَبِيدِ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْأُنْثَى عَلَى النِّصْفِ مِنَ الذَّكَرِ.

وَالثَّانِي: الْعَقِيقَةُ، فَإِنَّهُ عَنِ الْأُنْثَى شَاةٌ، وَعَنِ الذَّكَرِ شَاتَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ وَحِسَانٍ.

وَالثَّالِثُ: الشَّهَادَةُ، فَإِنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ.

وَالرَّابِعُ: الْمِيرَاثُ.

وَالْخَامِسُ: الدِّيَةُ.

الشيخ: يعني الأصل أنَّ الذكر والأنثى سواء، هذا هو الأصل في الأحكام، جعل اللهُ الرجلَ والأنثى سواء في الأحكام، إلا في هذه المسائل الخمسة مُستثناة:

إحداها في المواريث: للذكر مثل حظِّ الأُنثيين من الأولاد والإخوة، وهكذا الزوج مع الزوجة على النصف.

والثانية: في العقيقة، وهي النَّسيكة، يُسميها بعضُهم: التميمة، يعقّ عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، يوم السابع، فعلى الذكر ثنتان، والأنثى واحدة.

والمسألة الثالثة: الشهادة، شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؛ لأنه قال: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282].

والرابع: العتق، عتق عبدٍ يقوم مقام عتق أمتين.

والخامس في الدِّية: دية المرأة نصف دية الرجل، إلا فيما كان أقلَّ من الثلث فإنهما متساويان كما جاء في الحديث.

المقصود أنَّ هذه الخمس هي المستثناة، والباقي الرجل كالمرأة في الأحكام.

ولعلَّ السر في أنَّ الرجل أولى وأفضل في العتق؛ لأنَّ الرجل يشتغل في نفسه ويعمل ويكتسب، فعتقه ينفعه ولا يضرّه، أما الجارية فقد يكون عتقُها سببًا لضياعها وعدم استقامة حالها، وقد يتخطفها السُّفهاء، فإذا كانت تحت سيدٍ يملكها ويقوم عليها ويستنفع بها ويستخدمها كان أقربَ إلى حفظها وسلامتها، بخلاف ما إذا أعتقت؛ فقد تُهمل، وقد تخرج من يد سيدها، وقد تضيع، وقد تفسد أخلاقُها.

وكان من حكمة الله أن جعل عتقَ الرجل أفضل من عتق الأمة، فيكون بقاؤها في الرق في كثيرٍ من الأحيان أنفع لها من إعتاقها: إذا كانت لا تُؤمن، أو لا تستطيع أن تستقلَّ بنفسها؛ لضعف بصيرتها، وضعف تصرفها، أو نحو ذلك؛ ولهذا ينبغي في العتق أن يتحرى المعتِقُ في المعتَق أن يكون صالحًا، وأن يكون يصلح للعتق، يستقلّ بنفسه ويستطيع العمل ويستغني عن سيده.

س: ..............؟

ج: هذا معروف، رواه أحمد وغيره، ثابت، وكان يذبح ما زاد عليه الصلاة والسلام .....

س: ...............؟

ج: مُخيَّر: إن شاء وزَّعها، وإن شاء دعا إليها مَن شاء من أقاربه وجيرانه، ونحو ذلك.

س: ..............؟

ج: الله أعلم .......

فَصْلٌ

وَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاشْتَرَى.

الشيخ: قد يتبادر أنَّ ..... مباح جيد وينفع الناس في الجهاد .....، ويتبع أمه في التَّحريم، البغل: حمار، قد يكون فيه حكمة أنَّ هذا فيه تحريم الخيل .....، وهي أقل شرفًا، وأقل فضلًا من الخيل، وأقل سيرًا، وإن كانت قويةً في الحمل، لكنها ليست مثل الخيل في السباق وقوة العدو والجهاد، وإلا قد تكون الحكمةُ والله أعلم هذا الشيء: أنَّ إنزاء الخيل على الحُمر يُفضي إلى تقليل الخيل، وإلى تحريم نسلها بعدما كانت حلالًا، فإنَّ نسلها إذا كان من الحُمر تبع الحمر، والخيل حلال، لكن قد تكون هذه هي الحكمة، وقد يكون هناك شيء لا نعلمه.

..........

وَكَانَ شِرَاؤُهُ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَيْعِهِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَكَادُ يُحْفَظُ عَنْهُ الْبَيْعُ إِلَّا فِي قَضَايَا يَسِيرَةٍ أَكْثَرُهَا لِغَيْرِهِ: كَبَيْعِهِ الْقَدَحَ وَالْحِلْسَ فِيمَنْ يَزِيدُ، وَبَيْعِهِ يعقوب المدبر -غلام أبي مذكور- وَبَيْعِهِ عَبْدًا أَسْوَدَ بِعَبْدَيْنِ. وَأَمَّا شِرَاؤُهُ فَكَثِيرٌ، وَآجَرَ وَاسْتَأْجَرَ.

الشيخ: وهذا يُبين أنه لا بأس في حقِّ الأشراف والكبار والعلماء، لا بأس أن يبيع ويشتري للمصلحة الشَّرعية، مع تحري ما شرع الله في البيع والشراء، والبُعد عمَّا حرم الله من الربا والغشِّ والخيانة، إذا كان سيد الخلق باع واشترى، وهو محمد ﷺ، فلا بأس بغيرهم من باب أولى أن يبيع ويشتري، وإذا باع العالِـمُ أو طالبُ العلم أو الأشرافُ من ذرية النبي ﷺ أو من بني هاشم، لا بأس بذلك، فقد سبقهم إمامهم وسيدهم فباع واشترى عليه الصلاة والسلام، لكن الواجب تحري الصدق في البيع والشراء، والأمانة والصدق، وعدم الكذب، وعدم الخيانة، هذا واجبٌ على جميع مَن يتعاطى البيع والشراء: أن يحذر الكذبَ والخيانة والغشَّ، ويتحرى الصدق وأداء الأمانة في ذلك.

وَاسْتِئْجَارُهُ أَكْثَرُ مِنْ إِيجَارِهِ، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ، وَأَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ خديجة فِي سَفَرِهِ بِمَالِهَا إِلَى الشَّامِ.

وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُضَارَبَةً: فَالْمُضَارِبُ أَمِينٌ، وَأَجِيرٌ، وَوَكِيلٌ، وَشَرِيكٌ. فَأَمِينٌ إِذَا قَبَضَ الْمَالَ، وَوَكِيلٌ إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ، وَأَجِيرٌ فِيمَا يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَشَرِيكٌ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ الرِّبْحُ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الحاكم فِي "مُسْتَدْرَكِهِ" مِنْ حَدِيثِ الربيع بن بدر، عَنْ أبي الزبير، عَنْ جابرٍ قَالَ: "آجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَفْسَهُ مِنْ خديجة بنت خويلد سَفْرَتَيْنِ إِلَى جَرَشَ، كُلُّ سَفْرَةٍ بِقَلُوصٍ". وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

الشيخ: لعله ..... يُنسب إلى جرش، نعم.

قَالَ فِي "النِّهَايَةِ": جُرَشُ -بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ، وَهُوَ بِفَتْحِهِمَا بَلَدٌ بِالشَّامِ.

س: .............؟

ج: في الشام؛ لأنه ذهب إلى الشَّام، نقل عمَّن قال مَن؟

الطالب: قَالَ فِي "النِّهَايَةِ": جُرَشُ -بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ، وَهُوَ بِفَتْحِهِمَا بَلَدٌ بِالشَّامِ.

الشيخ: القاموس حاضر؟ نعم، نعم.

قُلْتُ: إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا هُوَ الْمَفْتُوحُ الَّذِي بِالشَّامِ، وَلَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الربيع بن بدر هَذَا هُوَ عُلَيْلَةُ، ضَعَّفَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ.

..........

قَالَ النَّسَائِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، والأزديُّ: مَتْرُوكٌ. وَكَأَنَّ الحاكم ظَنَّهُ الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيدالله.

الشيخ: وهذا أمرٌ معروفٌ، كونه ﷺ سافر في التِّجارة لخديجة قبل النبوة هذا أمر معروف، كونه تولى أمر مالها وسافر في ذلك، ولما رأت أمانته وصدقه وعنايته بمالها رغبت في الزواج به، وطلبت إليه الزواج ..... عليه الصلاة والسلام وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، قبل أن يُوحى إليه بخمس عشرة سنة، قبل النبوة، وكان عمرها أربعين سنة، كانت أسنَّ منه بخمس عشرة سنة، حيث تزوَّجها وهو ابن خمسٍ وعشرين، وهي بنت أربعين، فجاء الوحيُ وهي عنده، فليس عنده زوجة سواها، وهي أم أكثر أولاده، هي: أم زينب، وأم رقية، وأم أم كلثوم، وأم فاطمة، فهي أم بناته جميعًا، وأم عبدالله، وأم القاسم، فهي أم أولاده ما عدا إبراهيم.

ولما نزل عليه الوحي واشتد عليه الأمرُ -اشتد عليه من جهة جبرائيل- جاء إليها وأخبرها بما رأى من الشدة، فقالت له: "كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكلَّ، وتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحقِّ"، وطمأنته عليه الصلاة والسلام، وذكرت خصاله الحميدة، وأنَّ مَن كان بهذه المثابة لا يُخزى، بل يُوفق ويُعان ويسلم من كل سوءٍ.

.........

الشيخ: المقصود أنَّ هذا معروف من طريق السير والتاريخ والأخبار، خديجة والنبي ﷺ قبل النبوة، نعم.

وَشَارَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ قَالَ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: أَمَا كُنْتَ شَرِيكِي؟ فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ: لَا تُدَارِي، وَلَا تُمَارِي.

"وَتُدَارِئُ" بِالْهَمْزَةِ مِنَ الْمُدَارَأَةِ، وَهِيَ مُدَافَعَةُ الْحَقِّ، فَإِنْ تُرِكَ هَمْزُهَا صَارَتْ مِنَ الْمُدَارَاةِ، وَهِيَ الْمُدَافَعَةُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

وَوَكَّلَ وَتَوَكَّلَ، وَكَانَ تَوْكِيلُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَوَكُّلِهِ.

وَأَهْدَى، وَقَبِلَ الْهَدِيَّةَ، وَأَثَابَ عَلَيْهَا، وَوَهَبَ وَاتَّهَبَ، فَقَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ جَارِيَةٌ: هَبْهَا لِي، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَفَادَى بِهَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَاسْتَدَانَ بِرَهْنٍ، وَبِغَيْرِ رَهْنٍ، وَاسْتَعَارَ، وَاشْتَرَى بِالثَّمَنِ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ.

الشيخ: كل هذا يدل على الجواز، كان ﷺ استعار واقترض واشترى إلى أجلٍ، وإلى غير أجلٍ، كل هذا يدل على جواز ذلك لأتباعه ﷺ ولأمته، وأنه لا حرج في القرض، ولا غضاضة في كونه يقترض من أخيه قرضًا، يتسلَّف منه قرضًا، أو يستعير منه حاجةً، لا غضاضةَ في هذا، ولا بأس، ليس مثل الطلب، لا، القرض أمره أوسع، والعارية أمرها أوسع.

وَضَمِنَ ضَمَانًا خَاصًّا عَلَى رَبِّهِ عَلَى أَعْمَالٍ مَنْ عَمِلَهَا كَانَ مَضْمُونًا لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَضَمَانًا عَامًّا لِدُيُونِ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً أَنَّهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ يُوفِيهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ.

الشيخ: وهو قوي القول بعمومه، وأن السلطان يحلّ محله في هذا، وأنَّ مَن مات وعليه ديون تُؤدَّى من بيت المال، إذا كان بيت المال يستطيع، إذا كانت الدُّيون في حقٍّ.

فَالسُّلْطَانُ ضَامِنٌ لِدُيُونِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يُخْلِفُوا وَفَاءً، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ يُوَفِّيهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالُوا: كَمَا يَرِثُهُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا، فَكَذَلِكَ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنَهُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً، وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.

وَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَرْضًا كَانَتْ لَهُ، جَعَلَهَا صَدَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَشَفَّعَ وَشُفِّعَ إِلَيْهِ، وَرَدَّتْ بريرةُ شَفَاعَتَهُ فِي مُرَاجَعَتِهَا مُغيثًا، فَلَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهَا، وَلَا عَتَبَ، وَهُوَ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ.

الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الإنسان إذا شفع ولم تُقبل شفاعته لا ينبغي له أن يزعل، ولا ينبغي له أن يغضب، فقد شفع النبيُّ إلى بريرة أن ترجع إلى زوجها لما عتقت، واختارت نفسها فلم ترضَ، فقالت: يا رسول الله، تأمرني أو تشفع؟ قال: بل أشفع، قالت: لا حاجةَ لي فيه. فإذا جاء إنسانٌ يقول: يا فلان، أنا أشفع إليك أن تهب فلانًا هذا الدَّين، وألا تُطالبه بهذا الدَّين. فلم يقبل، أو قال: أن تُنظره. وهو ليس بمُعْسِرٍ، بل غني، ولم يقبل، فلا حرج.

وَحَلَفَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، فَقَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53]، وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]، وَقَالَ تَعَالَى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

الشيخ: حلف في المواضع الثلاثة أنَّ الساعة حقٌّ، وأنَّ الله يبعث الناسَ يوم القيامة ويُجازيهم بأعمالهم، أمره الله أن يحلف على هذا عليه الصلاة والسلام.

وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي يُذَاكِرُ أبا بكر محمد بن داود الظاهري، وَلَا يُسَمِّيهِ بِالْفَقِيهِ، فَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ يَوْمًا هُوَ وَخَصْمٌ لَهُ، فَتَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى أبي بكر ابن داود، فَتَهَيَّأَ لِلْحَلِفِ، فَقَالَ لَهُ القاضي إسماعيلُ: أَوَتَحْلِفُ! وَمِثْلُكَ يَحْلِفُ يَا أبا بكر؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْحَلِفِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، قَالَ: أَيْنَ ذَلِكَ؟ فَسَرَدَهَا لَهُ أبو بكر، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ جِدًّا، وَدَعَاهُ بِالْفَقِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

الشيخ: رحمة الله عليه.

..........

وَكَانَ ﷺ يَسْتَثْنِي فِي يَمِينِهِ تَارَةً، وَيُكَفِّرُهَا تَارَةً، وَيَمْضِي فِيهَا تَارَةً.

الشيخ: يستثني يقول: إن شاء الله، وتارة يجزم ويُكفِّر إذا رأى المصلحةَ، وتارةً يمضي في يمينه ولا ينقضها، ولا يُخلف عليه الصلاة والسلام، ويقول: والله إن شاء الله إني لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرَها خيرًا منها إلا كفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير.

فالمؤمن هكذا: تارة يمضي في يمينه، وتارة يُكفِّرها ولا يمضي إذا رأى المصلحةَ، وتارةً يستثني يقول: والله إن شاء الله، لا يجزم، والله إن شاء الله، إذا قال: إن شاء الله، لم ..... الحنث: والله إن شاء الله ما أفعل هذا، فلو فعل ما صار كفَّارة؛ لأنه استثنى، ولو قال: والله لا أزوره، والله لا أُكلمه، ثم رأى المصلحة في كلامه وزيارته يُكفِّر عن يمينه، ولا ..... يُكفر كفارة يمينٍ، ويُكلم أخاه، ويزور أخاه، وهكذا أشباه ذلك، أو قال: والله لا أُسافر البلاد الفلانية. ولكن المصلحة تقتضي ذلك، يُكفِّر عن يمينه؛ لأنه رأى المصلحة في ذلك .....

وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ، وَالْكَفَّارَةُ تُحِلُّهَا بَعْدَ عَقْدِهَا؛ وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ: تَحِلَّةً.

وَكَانَ يُمَازِحُ وَيَقُولُ فِي مِزَاحِهِ الْحَقَّ، وَيُوَرِّي وَلَا يَقُولُ فِي تَوْرِيَتِهِ إِلَّا الْحَقَّ، مِثْلَ: أَنْ يُرِيدَ جِهَةً يَقْصِدُهَا، فَيَسْأَلُ عَنْ غَيْرِهَا: كَيْفَ طَرِيقُهَا؟ وَكَيْفَ مِيَاهُهَا وَمَسْلَكُهَا؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَكَانَ يُشِيرُ وَيَسْتَشِيرُ.

الشيخ: وهذا معنى قول مالك: "وكان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها"، يعني: يُوهم الناس أنه يريد الجهة الفلانية، وهو ما أرادها؛ حتى يفجأ العدو على غرةٍ -غير مُستعدٍّ- مثل: يريد جهة الشمال، فيسأل عن جهةٍ في الجنوب، وعن مياهها وطريقها؛ ليُوهم الناس السَّامعين أنه سيُسافر إلى جهة الجنوب، وهو ما أراد الجنوبَ، إنما أراد الشمال، لكن لئلا تصل الأخبارُ إلى العدو فيستعدّ ويتأهَّب ويتحصَّن.

س: ............؟

ج: لا بأس، ولو في غير الغزو.

وَكَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيُجِيبُ الدَّعْوَةَ، وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالضَّعِيفِ.

الشيخ: هذا هديه: يعود المريض، ويُجيب الدَّعوة، ويطوف بالفقير والمسكين، ويُحسِن إلى الناس، ويبدأ بالسلام، ويردّ السلام عليه الصلاة والسلام.

وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالضَّعِيفِ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَسَمِعَ مَدِيحَ الشِّعْرِ وَأَثَابَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا قِيلَ فِيهِ مِنَ الْمَدِيحِ فَهُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا مِنْ مَحَامِدِهِ، وَأَثَابَ عَلَى الْحَقِّ.

وَأَمَّا مَدْحُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِالْكَذِبِ؛ فَلِذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يُحْثَى فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابُ.

فَصْلٌ

وَسَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَصَارَعَ، وَخَصَفَ نَعْلَهُ بِيَدِهِ، وَرَقَّعَ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ، وَرَقَّعَ دَلْوَهُ، وَحَلَبَ شَاتَهُ، وَفَلَّى ثَوْبَهُ، وَخَدَمَ أَهْلَهُ وَنَفْسَهُ، وَحَمَلَ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَرَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُوعِ تَارَةً، وَشَبِعَ تَارَةً، وَأَضَافَ وَأُضِيفَ، وَاحْتَجَمَ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ، وَعَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَاحْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ -وَهُوَ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ- وَتَدَاوَى، وَكَوَى، وَلَمْ يَكْتَوِ، وَرَقَى، وَلَمْ يَسْتَرْقِ، وَحَمَى الْمَرِيضَ مِمَّا يُؤْذِيهِ.

الشيخ: كوى غيره، كوى بعضَ أصحابه، ورقى بعض أصحابه عليه الصلاة والسلام، كل هذه أسباب فعلها عليه الصلاة والسلام؛ ليعلم الناسُ جوازها.

س: .............؟

ج: ما طلب أن يرقي عليه أحدٌ شيئًا، ولكن رقاه جبريلُ من غير طلبٍ، رقى، ورُقِيَ، ولم يسترقِ؛ لأنَّ ترك سؤال الناس أفضل إلا عند الحاجة، كما أمر أسماء بنت عميس أن تسترقي لأولاد جعفر.

س: ..............؟

ج: نعم، مشهور، وكان معروفًا.

............

الشيخ: كوى أصحابه من الشَّوك، كوى جماعةً من أصحابه: كخباب بن الأرت، وغيره اكتووا، أما هو لم يكتوِ، وقال في السبعين: لا يكتوون، فتركه أولى إلا عند الحاجة؛ ولهذا في الحديث الصحيح: الشفاء في ثلاثةٍ: كيّة نارٍ، أو شرطة محجمٍ، أو شربة عسلٍ، وما أُحبّ أن أكتوي رواه البخاري. وفي اللفظ الآخر: وأنا أنهى أمتي عن الكيِّ، قال العلماء: الكي يكون آخر الطب، وإذا استُغني عنه فهو أولى، وإن دعت الحاجةُ إليه فهو من العلاج.

س: ............؟

ج: هذا معنى كلام الأطباء؛ لأنه قال: ما أُحب أن أكتوي بعدما ذكر أنه دواء قال: وما أُحب أن أكتوي، دلَّ على أنه ينبغي أن يكون هو الآخر عند الحاجة.

وَأُصُولُ الطِّبِّ ثَلَاثَةٌ: الْحِمْيَةُ، وَحِفْظُ الصِّحَّةِ، وَاسْتِفْرَاغُ الْمَادَّةِ الْمُضِرَّةِ، وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِأُمَّتِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَحَمَى الْمَرِيضَ مِن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ.

الشيخ: وهذا واضح؛ فإنَّ الحميةَ رأس الدَّواء، والمعدة بيت الدَّاء، وأصول الطبِّ هذه الثلاثة: الحمية عما يضرّ، وحفظ الصحة بما ينبغي من الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، والاستفراغ من المواد الضَّارة بالحجامة، بالفصد، بالقيء، إلى غير هذا من الاستفراغات التي تُزيل مواد الشَّر، قال الله جلَّ وعلا: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، فـكُلُوا وَاشْرَبُوا هذا فيه حفظ الصحة، وَلَا تُسْرِفُوا هذا فيه الحمية، وأما الاستفراغ فله أدلة كثيرة: منها الحلق عند الحاجة، حلق الرأس، وهو نوع استفراغٍ. ومنها الحجامة، فقد احتجم ﷺ، واحتجم أصحابه أيضًا. ومنها ما قد تدعو الحاجةُ إليه من الاستقاء إذا تغيرت الكبدُ، وصار الاستقاء أصلح قاء. ومنها الفصد إذا دعت الحاجةُ إليه.

............

فَحَمَى الْمَرِيضَ مِن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ خَشْيَةً مِنَ الضَّرَرِ.

الشيخ: يُروى عن الحارث بن كلدة المعروف -طبيب العرب- أنه كان يقول: "الحمية بيت الدَّواء، والمعدة بيت الدَّاء، وعوِّدوا كل بدنٍ ما اعتاد"، يعني: أن من حفظ الصحة تعويد البدن .....، وعدم الحرص على الشيء الغريب الذي قد تستنكره المعدة، وقد يُسبب لها مشاكل.

فَحَمَى الْمَرِيضَ مِن اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ خَشْيَةً مِنَ الضَّرَرِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

الشيخ: وهذا من الحمية، إذا صار الماءُ يضرّ المريض لا يتوضأ ولا يغتسل إذا كان يضرّه الماء، فإنَّ هذا من الحمية.

فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ حِمْيَةً لَهُ، كَمَا أَبَاحَهُ لِلْعَادِمِ، وَقَالَ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ حِفْظًا لِصِحَّتِهِ؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى قُوَّتِهِ الصَّوْمُ وَمَشَقَّةُ السَّفَرِ فَيُضْعِفَ الْقُوَّةَ وَالصِّحَّةَ.

وَقَالَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْمُحْرِمِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَيَسْتَفْرِغَ الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ وَالْأَبْخِرَةَ الرَّدِيئَةَ الَّتِي تُوَلِّد عَلَيْهِ الْقَمْلَ، كَمَا حَصَلَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَوْ تُوَلِّد عَلَيْهِ الْمَرَضَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ قَوَاعِدُ الطِّبِّ وَأُصُولُهُ، فَذَكَرَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا شَيْئًا وَصُورَةً تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ حِمْيَتِهِمْ، وَحِفْظِ صِحَّتِهِمْ، وَاسْتِفْرَاغِ مَوَادِّ أَذَاهُمْ؛ رَحْمَةً لِعِبَادِهِ، وَلُطْفًا بِهِمْ، وَرَأْفَةً بِهِمْ. وَهُوَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ.

الشيخ: وفات المؤلف قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] أنها من أجمع الآيات أيضًا لحفظ الصحة في الحمية عمَّا يضرّ، وقد ذكرها في غير هذا الموضع.

س: ............؟

ج: ما هو بحديثٍ، هو يُروى عن الحارث بن كلدة الطبيب.

فَصْلٌ

في هديه ﷺ في مُعاملته

كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ مُعَامَلَةً، وَكَانَ إِذَا اسْتَسْلَفَ سَلَفًا قَضَى خَيْرًا مِنْهُ، وَكَانَ إِذَا اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ سَلَفًا قَضَاهُ إِيَّاهُ وَدَعَا لَهُ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْحَمْدُ وَالْأَدَاءُ.

الشيخ: اللهم صلِّ وسلم عليه، كان أحسن الناس خلقًا، وكان أحسن الناس معاملةً، وكان أكرم الناس في كل شيءٍ عليه الصلاة والسلام، وكان إذا استدان أدَّى بإحسانٍ، وإذا اقترض أدَّى بإحسانٍ وزاد المقرض خيرًا، وأعطاه خيرًا مما أخذ منه، وقال: إنَّ خيار الناس أحسنُهم قضاءً، هكذا ينبغي للمؤمن إذا استدان أن يُوفي بإحسانٍ، وأن يحرص على الأداء، ويشكر أخاه على عمله وعلى إنظاره، وإذا أقرضه أخوه بادر بالقضاء حسب الإمكان، وشكر له عمله، ودعا له: إنَّ خيار الناس أحسنُهم قضاءً، وإذا زاده فلا بأس من دون شرطٍ.

وَاسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ أَرْبَعِينَ صَاعًا، فَاحْتَاجَ الْأَنْصَارِيُّ، فَأَتَاهُ فَقَالَ ﷺ: مَا جَاءَنَا مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، فَقَالَ الرَّجُلُ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَقُلْ إِلَّا خَيْرًا؛ فَأَنَا خَيْرُ مَنْ تَسَلَّفَ، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ فَضْلًا، وَأَرْبَعِينَ سُلْفَةً.

الشيخ: أو سلفة، يعني: قرضًا، يعني: ردَّ عليه الأربعين التي هي قرضه، وزاده أربعين أخرى فضلًا منه، ردَّ ثمانين، وقد أخذ أربعين.

س: .............؟

ج: بعد ذلك أتى الله بالمال فردَّ عليه.

س: ..............؟

ج: ما هو في الحال، يعني بعد وقتٍ يعني.

فَأَعْطَاهُ ثَمَانِينَ. ذَكَرَهُ البزار.

وَاقْتَرَضَ بَعِيرًا، فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا.

الشيخ: وفي لفظٍ آخر أنه أغلظ له، وكان يهوديًّا، فأراد الصحابةُ أن يقعوا به، فقال: دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا، وفي لفظٍ: كنتُ أحقّ أن تُعينوني على الوفاء، ثم أسلم اليهودي وقال: إنَّ الأنبياء لا تزيدهم شدةُ الأمر عليهم -أو قال: الإغلاظ عليهم- إلا خيرًا، وإلا حلمًا. فأراد أن يمتحنه بهذا قال: إنَّكم يا آل بني عبد المطلب قومٌ مُطْلٌ، أو كما قال من الكلمات السَّيئة، فلم يزد ذلك النبي إلا حلمًا عليه الصلاة والسلام، فلما رأى حلمَه ومنعه الصحابة أن يقولوا إلا خيرًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأسلم.

وَاشْتَرَى مَرَّةً شَيْئًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ، فَأُرْبِحَ فِيهِ، فَبَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ عَلَى أَرَامِلِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: لَا أَشْتَرِي بَعْدَ هَذَا شَيْئًا إِلَّا وَعِنْدِي ثَمَنُهُ ذَكَرَهُ أبو داود.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: رواه أبو داود في "البيوع" باب "في التَّسليف بالدَّين" من حديث شريك، عن سماك، عن .....، عن ابن عباسٍ.

الشيخ: وهذا فيه ضعف.

الطالب: وشريك بن عبدالله القاضي سيئ الحفظ، وسماك رواته عن ..... مُضطربة، والحديث ضعيف.

الشيخ: يعني فيه علتان، وحديث البزار علَّق عليه؟

الطالب: ذكره البزار من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح .....

الشيخ: طيب، نعم.

وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الشِّرَاءَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلٍ، فَهَذَا شَيْءٌ، وَهَذَا شَيْءٌ.

وَتَقَاضَاهُ غَرِيمٌ لَهُ دَيْنًا، فَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَهْ يَا عمر، كُنْتُ أَحْوَجَ إِلَى أَنْ تَأْمُرَنِي بِالْوَفَاءِ، وَكَانَ أَحْوَجَ إِلَى أَنْ تَأْمُرَهُ بِالصَّبْرِ.

وَبَاعَهُ يَهُودِيٌّ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ، فَجَاءَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ يَتَقَاضَاهُ ثَمَنَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَحِلَّ الْأَجَلُ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّكُمْ لَمَطْلٌ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَنَهَاهُمْ، فَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إِلَّا حِلْمًا، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ قَدْ عَرَفْتُهُ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَهَا. فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ.

الشيخ: الظاهر أنها مطل، جمع ماطل، مثل: .....

الطالب: .........

الشيخ: لا، مطل جمع مطل.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي مَشْيِهِ وَحْدَهُ وَمَعَ أَصْحَابِهِ

كَانَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا.

الشيخ: مثل: عاذل وعذل .....

وَكَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ مِشْيَةً، وَأَحْسَنَهَا، وَأَسْكَنَهَا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، وَإِنَّا لَنُجْهِد أَنْفُسَنَا، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.

الشيخ: والمعنى أنه كان حيًّا في مشيه، ليس بميتٍ، بعض الناس إذا مشى يكون مُتماوتًا ضعيفًا، وليس هذا من خلقه ﷺ، كان قويًّا في مشيه عليه الصلاة والسلام كأنما ينحطُّ من صَبَبٍ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ". وَقَالَ مَرَّةً: "إِذَا مَشَى تَقَلَّعَ".

قُلْتُ: وَالتَّقَلُّعُ: الِارْتِفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ بِجُمْلَتِهِ، كَحَالِ الْمُنْحَطِّ مِنَ الصَّبَبِ، وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعَزْمِ وَالْهِمَّةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَهِيَ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ وَأَرْوَحُهَا لِلْأَعْضَاءِ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ مِشْيَةِ الْهَوَجِ وَالْمَهَانَةِ وَالتَّمَاوُتِ، فَإِنَّ الْمَاشِيَ إِمَّا أَنْ يَتَمَاوَتَ فِي مَشْيِهِ، وَيَمْشِيَ قِطْعَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَحْمُولَةٌ، وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ قَبِيحَةٌ، وَإِمَّا أَنْ يَمْشِيَ بِانْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ مَشْيَ الْجَمَلِ الْأَهْوَجِ، وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى خِفَّةِ عَقْلِ صَاحِبِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ حَالَ مَشْيِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَإِمَّا أَنْ يَمْشِيَ هَوْنًا، وَهِيَ مِشْيَةُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63].

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ، وَهِيَ مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ كَانَ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، حَتَّى كَانَ الْمَاشِي مَعَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:

أَنَّ مِشْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ مِشْيَةً بِتَمَاوُتٍ وَلَا بِمَهَانَةٍ، بَلْ مِشْيَةٌ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ.

وَالْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْهَا، وَالرَّابِعُ: السَّعْيُ، وَالْخَامِسُ: الرَّمَلُ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى، وَيُسَمَّى: الْخَبَبَ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَبَّ فِي طَوَافِهِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا.

السَّادِسُ: النَّسَلَانُ، وَهُوَ الْعَدْوُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يُزْعِجُ الْمَاشِيَ وَلَا يُكْرِثُهُ.

وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ: أَنَّ الْمُشَاةَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمَشْيِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِالنَّسَلَانِ.

وَالسَّابِعُ: الْخَوْزَلَى، وَهِيَ مِشْيَةُ التَّمَايُلِ.

س: ............؟

ج: ما عندي لها ضبط، لكن الأقرب والله أعلم: الخوزلى، أو الخوزلة بالهاء.

........

وَهِيَ مِشْيَةُ التَّمَايُلِ، وَهِيَ مِشْيَةٌ يُقَالُ: إِنَّ فِيهَا تَكَسُّرًا وَتَخَنُّثًا.

وَالثَّامِنُ: الْقَهْقَرَى، وَهِيَ الْمِشْيَةُ إِلَى وَرَاءٍ.

وَالتَّاسِعُ: الْجَمَزَى، وَهِيَ مِشْيَةٌ يَثِبُ فِيهَا الْمَاشِي وَثْبًا.

وَالْعَاشِرُ: مِشْيَةُ التَّبَخْتُرِ، وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ، وَهِيَ الَّتِي خَسَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِصَاحِبِهَا لَمَّا نَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَأَعْدَلُ هَذِهِ الْمِشْيَاتِ مِشْيَةُ الْهَوْنِ وَالتَّكَفُّؤِ.

وَأَمَّا مَشْيُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ: فَكَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ خَلْفَهُمْ، وَيَقُولُ: دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.

الشيخ: أيش قال المحشي؟

الطالب: دعوا ظهري للملائكة رواه أحمد في "المسند"، وابن ماجه في "المقدمة" باب "مَن كره أن يُوطأ" عن جابرٍ .....: كان النبيُّ ﷺ إذا مشى مشى أصحابُه أمامه، فتركوا ظهره ..... وسنده قوي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

الشيخ: فقط؟

الطالب: نعم.

الشيخ: محل نظرٍ، يُراجع.

............

وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَ يَسُوقُ أَصْحَابَهُ.

الشيخ: ما علَّق عليه: وكان يسوق أصحابه؟

الطالب: .....

الشيخ: يُراجع السندان: ابن ماجه يُراجع ..... والحاكم.

وَكَانَ يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا، وَكَانَ يُمَاشِي أَصْحَابَهُ فُرَادَى وَجَمَاعَةً، وَمَشَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَرَّةً فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ وَسَالَ مِنْهَا الدَّمُ، فَقَالَ:

«هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتَ»

وَكَانَ فِي السَّفَرِ سَاقَةَ أَصْحَابِهِ: يُزْجِي الضَّعِيفَ، وَيُرْدِفُهُ، وَيَدْعُو لَهُمْ، ذَكَرَهُ أبو داود.

الشيخ: علَّق عليه؟

الطالب: من حديث جابرٍ، وإسناده صحيح.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي جُلُوسِهِ وَاتِّكَائِهِ

س: ............؟

ج: محل نظرٍ، الذي نعرف أنه ﷺ كانوا تارةً يكونون معه عن يمينه وشماله، وتارةً يكونون خلفه، وبعضهم يكون أمامه، ما كان ..... دائمًا أنهم أمامه، هذا المعروف من سيرته عليه الصلاة والسلام، أما ..... فهذا يحتاج إلى مزيد عنايةٍ، والأمر فيه سعة.

بعض السلف يكره ذلك، وكان يخشى التَّكبر، وبعض الناس قد يحمله ذلك على التَّكبر، إذا مشى الناسُ خلفه قد يُبتلى بالتَّكبر والعُجب بنفسه، فكره بعضُ السلف ذلك من أجل هذا.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي جُلُوسِهِ وَاتِّكَائِهِ

كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَلَى الْحَصِيرِ وَالْبِسَاطِ، وَقَالَتْ قيلة بنت مخرمة: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَالْمُتَخَشِّعِ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ.

وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ دَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَلْقَتْ إِلَيْهِ الْجَارِيَةُ وِسَادَةً يَجْلِسُ عَلَيْهَا، فَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عديٍّ، وَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ عدي: "فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلِكٍ".

وَكَانَ يَسْتَلْقِي أَحْيَانًا، وَرُبَّمَا وَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَكَانَ يَتَّكِئُ عَلَى الْوِسَادَةِ، وَرُبَّمَا اتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ.

الشيخ: وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، من تواضعه ﷺ أنه كان لا يتكلف، وربما جلس على الحصير المعروف من الخوص، وربما جلس على الأرض: على الحصباء، وعلى التراب، وجلس على بعض البسط المتيسرة: على الوسادة، على رمال السرير من غير وقايةٍ، حتى ربما أثَّر في جنبه عليه الصلاة والسلام، كان لا يتكلف، يجلس وينام على ما تيسر عليه الصلاة والسلام.

وَكَانَ يَتَّكِئُ عَلَى الْوِسَادَةِ، وَرُبَّمَا اتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ، وَرُبَّمَا اتَّكَأَ عَلَى يَمِينِهِ.

وَكَانَ إِذَا احْتَاجَ فِي خُرُوجِهِ تَوَكَّأَ على بعضِ أصحابه من الضَّعف.

الشيخ: يعني: في بعض الأحيان عند عروض ما يعرض عليه من الضَّعف.

فَصْلٌ

فِي هَدْيِهِ ﷺ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ

كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ، الرِّجْسِ النَّجِسِ، الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.

الشيخ: تكلم عليه؟

الطالب: رواه البخاري في "الوضوء" باب "ما يقول إذا دخل الخلاء".

الشيخ: الزيادة على الرجس النَّجس؟

الطالب: في آخر الحاشية.

الشيخ: الحمد لله، نعم.

الطالب: وقوله: الرجس النَّجس، الشيطان الخبيث هذه الزيادة أخرجها ابن ماجه من حديث أبي أمامة، وسندها ضعيف.

الشيخ: نعم، كان ﷺ إذا دخل الخلاءَ قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، والمعنى: إذا أراد الدُّخول، كما في رواية البخاري مُعلَّقة: إذا أراد أن يدخل قدَّم رجلَه اليُسرى وقال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، والخبث: الشر، والخبائث: أهل الشر، وفسّر الخبث: بذكور الشياطين، والخبائث: بإناث الشياطين، فالمعنى: أنه يستعيذ من الشياطين ذكورًا وإناثًا، من الشَّر وأهله. وعند الخروج يُقدم رجلَه اليمنى ثم يقول: غُفرانك يعني: أسألك غفرانك.

فهكذا السنة التَّأسي بالرسول ﷺ في ذلك: عند الدخول يُقدم اليُسرى ويقول: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، أو "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، أو يزيد "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وعند الخروج يقول: "غفرانك" ويُقدم رجله اليمنى، وما ذاك إلا لأنَّ الإنسان مظنّة التقصير، فكون الإنسان يقضي حاجته ويُخرج الله منه الأذى هذه نعمة عظيمة، ومن عادة الإنسان التَّقصير، إلا مَن رحم الله، فناسب أن يقول عند الخروج: "غفرانك" يعني: أنا يا ربي مُقصر، فأسألك غفرانك عمَّا يحصل مني من الذنوب والتقصير في شُكر نِعَم الله.

س: .............؟

ج: زيادة ضعيفة.

س: .............؟

ج: "الرجس النَّجس" يتبع، من باب الإتباع .....، لكن المشهور: "الرجس النجس" من باب الإتباع، لكن مثلما قال المحشي: أن الرواية ضعيفة.

س: .............؟

ج: عند الدخول، عند إرادة الدخول، قبل أن يدخل.

وَكَانَ إِذَا خَرَجَ يَقُولُ: غُفْرَانَكَ، وَكَانَ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ تَارَةً، وَيَسْتَجْمِرُ بِالْأَحْجَارِ تَارَةً، وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا تَارَةً.

الشيخ: وهذا يدل على الإجزاء: إذا استنجى بالماء أجزأ، وإذا استنجى بالحجارة أجزأ، وكلاهما يجزي الواحد منهما، فإذا استنجى بالماء عن البول أو عن الغائط كفاه ذلك، ولا ينبغي له الوسوسة والتَّكلف، بل متى صبَّ الماء على المحلِّ وأزال الأذى وعاد الموضعُ إلى خشونته كفى، بعض الناس إذا أراد أن يستنجي يُطول ويلعب عليه الشيطان حتى يصبَّ من الماء ما لا يُحصى، فينبغي للمؤمن ألا يتكلف، وألا يُوسوس، بل يصبّ ما تيسر من الماء حتى يظنَّ ذهاب الأثر والحمد لله، وإذا عادت الخشونةُ إلى محل الغائط فقد حصلت الطَّهارةُ، وإذا غسل طرفَ الذَّكَر عن أثر البول كفى ذلك، وإن استنجى بالحجارة أو بالمناديل أو باللَّبِن كفى عن الماء، ولو في الحضر، ولو يكون في السفر، إذا أخذ ثلاثة أحجار، أو ثلاث لبنات أو أكثر واستنجى بها من أثر البول، أو من أثر الغائط، ومسح بها حتى زال الأثرُ كفاه ذلك، ولا حاجةَ إلى الماء، أو أخذ مناديل خشنة طاهرة واستنجى بها كفى، وإن جمع بينهما: فاستجمر بالحجارة أو باللَّبِن أو بالمناديل، ثم غسل بالماء؛ كان أكمل في النَّظافة.

وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ فِي سَفَرِهِ لِلْحَاجَةِ انْطَلَقَ حَتَّى يَتَوَارَى عَنْ أَصْحَابِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَبْعُدُ نَحْوَ الْمِيلَيْنِ.

الشيخ: وهذه السنة: إذا ذهب الإنسانُ عند أصحابه يقضي الحاجةَ يبتعد حتى لا يروا عورةً، ولا يسمعوا صوتًا، ولا يجدوا رائحةً، إذا أراد أن يقضي حاجته يذهب بعيدًا، هذه السنة، كان يفعلها عليه الصلاة والسلام حتى يتوارى عن الناس، ويختفي عن الناس، حتى لا يروا منه شيئًا؛ لأنَّ الإنسان قد تأتي الرياحُ، وقد يخرج منه شيء، فيتباعد ويستتر تحت حائطٍ أو جرفٍ أو شجرةٍ فيقضي حاجته ثم يعود.

س: قوله: وربما كان يبعد نحو الميلين؟

ج: ما أعرف في هذا شيئًا من السنة، التقدير ما أعرف فيه شيئًا، وفي حديث المغيرة في "الصحيحين": فذهب يقضي الحاجةَ حتى توارى عني. وحديث أنسٍ ذكر فيه شيئًا المحشي؟

الطالب: ما ذكر.

الشيخ: نعم.

وَكَانَ يَسْتَتِرُ لِلْحَاجَةِ بِالْهَدَفِ تَارَةً، وَبِحَائِشِ النَّخْلِ تَارَةً، وَبِشَجَرِ الْوَادِي تَارَةً.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبُولَ فِي عَزَازٍ مِنَ الْأَرْضِ -وَهُوَ الْمَوْضِعُ الصُّلْبُ- أَخَذَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَنَكَّتَ بِهِ حَتَّى يُثَرَّى ثُمَّ يَبُولُ.

الشيخ: وهذا من باب الحيطة: كان إذا أراد أن يبول يحتاط حتى لا يرجع إليه البول؛ ولهذا رُوي عنه ﷺ أنه كان إذا أراد أن يبول في أرضٍ صلبةٍ حكَّ المحلَّ بالعود حتى لا يطير إليه شيء من رشاش البول، فينبغي أن يتحرى المحلَّ الدّمث اللَّين حتى يبول فيه؛ لئلا يطير عليه الرشاش، وجاء أنه كان يرتاد لبوله عليه الصلاة والسلام، يعني: يرتاد المحلَّ المناسب، والمحل المنصب الذي إذا بال فيه انصبَّ عنه البول أمامه، لا يرجع إليه.

وَكَانَ يَرْتَادُ لِبَوْلِهِ الْمَوْضِعَ الدَّمِثَ -وَهُوَ اللَّيِّنُ الرَّخْوُ مِنَ الْأَرْضِ- وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَبُولُ وَهُوَ قَاعِدٌ، حَتَّى قَالَتْ عائشة: "مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا"، وَقَدْ رَوَى مسلم فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ حَدِيثِ حُذيفة: أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا، فَقِيلَ: هَذَا بَيَانٌ لِلْجَوَازِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِمَأْبِضَيْهِ.

..........

الطالب: تثنية مأبض، وهي باطن الركبة ..... مأبضه، وهو تحريف.

الشيخ: فقط؟ ما تعرض للرواية؟

الطالب: .........

الشيخ: المقصود أنَّ الغالب عليه ﷺ أنه كان يبول قاعدًا كما قالت عائشةُ رضي الله عنها: "ما كان يبول إلا قاعدًا"، وربما بال قائمًا عند الحاجة: كالعجلة، أو كون الأرض ما هي مناسبة؛ ولهذا ثبت في حديث حُذيفة في "الصحيحين": أنه أتى سُباطة قومٍ فبال قائمًا. وهذا يدل على الجواز.

والقول بأنه من أجل وجعٍ في مأبضه ليس له دليل، ولم يثبت، وإنما فعل هذا لبيان الجواز: إذا كان المحلُّ مناسبًا، ولا تظهر فيه العورة، وكان قائمًا، وتحفَّظ من ذلك فلا بأس، كما تدعو الحاجة إلى ذلك ممن به عجلة، وإما أن يشقَّ عليه الجلوس؛ أو لأنَّ المحلَّ لا يُناسب الجلوس، فإذا بال قائمًا في محلٍّ مستورٍ لا تُرى فيه العورة لأسبابٍ اقتضت ذلك، أو لبيان الجواز، فلا حرج في ذلك، مع ستر العورة عن الناس، والأفضل أن يكون قاعدًا، هذا هو الأفضل، وهو الغالب من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.

وَقِيلَ: فَعَلَهُ اسْتِشْفَاءً.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْعَرَبُ تَسْتَشْفِي مِنْ وَجَعِ الصُّلْبِ بِالْبَوْلِ قَائِمًا.

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَنَزُّهًا وَبُعْدًا مِنْ إِصَابَةِ الْبَوْلِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لَمَّا أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ -وَهُوَ مَلْقَى الْكُنَاسَةِ- وَتُسَمَّى: الْمَزْبَلَةَ، وَهِيَ تَكُونُ مُرْتَفِعَةً، فَلَوْ بَالَ فِيهَا الرَّجُلُ قَاعِدًا لَارْتَدَّ عَلَيْهِ بَوْلُهُ، وَهُوَ ﷺ اسْتَتَرَ بِهَا، وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ، فَلَمْ يَكُنْ بَدٌّ مِنْ بَوْلِهِ قَائِمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا أَبُولُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عمر، لَا تَبُلْ قَائِمًا، قَالَ: فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ.

قَالَ الترمذي: وَإِنَّمَا رَفَعَهُ عَبْدُالْكَرِيمِ ابْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

الشيخ: أيش قال المحشي عليه؟

الطالب: رواه الترمذي مُعلَّقًا، وابن ماجه موصولًا، وهو ضعيف كما قال الترمذي؛ فإنَّ عبدَالكريم ابن أبي المخارق متَّفق على تضعيفه.

الشيخ: نعم.

وَفِي "مُسْنَدِ البزار" وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ثَلَاثٌ مِنَ الْجَفَاءِ: أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا، أَوْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ يَنْفُخَ فِي سُجُودِهِ. وَرَوَاهُ الترمذي وَقَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَقَالَ البزار: لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ إِلَّا سعيد بن عبيدالله. وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: هُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.

الشيخ: أيش قال المحشي؟

الطالب: أخرجه البزار من طريق نصر بن عدي: حدثنا عبدالله بن داود: حدثنا سعيد بن عبيدالله، حدثنا عبدالله بن بُريدة، عن أبيه. وهذا سنده حسن؛ صحَّحه البدر العيني في "عمدة القاري"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" باب: مسح الجبهة في الصلاة، من رواية البزار، والطبراني في "الأوسط" عن بُريدة ، وقال: رجال البزار رجال الصحيح.

الشيخ: هذا إن صحَّ فالمراد به إن كان من غير حاجةٍ أو لقصدٍ لم يكن لبيان الجواز، قيل: فعله لحاجةٍ ولبيان الجواز زالت الكراهة، وزال .....

الطالب: .............

الشيخ: نعم، هذا محل نظرٍ، وثبت عنه أنه لا كراهةَ فيه عليه الصلاة والسلام، ولعله فعل ذلك من أجل كسله وضعفه وعدم عنايته بالصلاة، لو صحَّ الخبر، وفي صحَّته نظر، لكن لو صحَّ فهو محمولٌ على ما يصدر على طريق الجفاء، كما قال عليه الصلاة والسلام.

س: ...........؟

ج: هذا من الأعذار، إذا كان في محلٍّ لا تُرى فيه عورته هذا من الأعذار.

س: .............؟

ج: جاء عنه في صفة صلاة الليل عن ابن عباسٍ وغيرهما.

الطالب: ............

الشيخ: هذا هو الغالب عليه: أنه يبول قاعدًا عليه الصلاة والسلام ..... يقوله الكفَّار الذين يعترضون عليه قبل أن يُهاجر عليه الصلاة والسلام، يُروى هذا، وكان هذا هو الغالب: أنه كان يبول قاعدًا، وربما بال قائمًا لأسبابٍ تقتضي ذلك: إما لبيان الجواز، وإما لأسبابٍ أخرى.

وَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ.

الشيخ: يعني أنَّ قوله على غير حدثٍ: على غير طهارةٍ، لا يمنع من قراءة القرآن عن ظهر قلبٍ، إنما يمنع من المصحف، أما كونه يقرأ القرآنَ وهو على غير وضوءٍ فلا حرج في ذلك، فإنما ..... عن هذا صاحب الجنابة، وأما إذا كان على غير وضوءٍ فلا بأس أن يقرأ، لكن لا يمسّ المصحف حتى يتوضأ.

الطالب: .............

ج: نومه ﷺ لا ينقض وضوءه؛ كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، قد ...... شيء من النوم.

وَفِي "مُسْنَدِ البزار" وَغَيْرِهِ: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ثَلَاثٌ مِنَ الْجَفَاءِ: أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا، أَوْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ يَنْفُخَ فِي سُجُودِهِ، وَرَوَاهُ الترمذي وَقَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَقَالَ البزار: لَا نَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ إِلَّا سعيد بن عبيدالله. وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: هُوَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.

وَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْخَلَاءِ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ يَسْتَنْجِي وَيَسْتَجْمِرُ بِشِمَالِهِ.

الشيخ: المحشي أيش قال عليه؟

الطالب: أخرجه البزار من طريق نصر بن علي: حدثنا عبدالله بن داود: حدثنا سعيد بن عبيدالله: حدثنا عبدالله بن بُريدة، عن أبيه. وهذا سند حسنٌ، وصححه بدر العيني في "عمدة القاري"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" في "الصلاة" باب: مسح الجبهة في الصلاة، من رواية البزار، والطبراني في "الأوسط" عن بُريدة ، وقال: ورجال البزار رجال الصَّحيح.

الشيخ: سعيد بن عبيدالله الذي يظهر والله أعلم .....؛ لأنَّا إذا فرضنا سلامة سعيد بن عبيدالله هذا فهو شاذٌّ، والقاعدة: أن الثِّقة إذا خالف مَن هو أوثق منه صار شاذًّا، فإن كان ضعيفًا صار مُنكرًا، وهذا شاذٌّ مُخالفٌ لحديث حُذيفة في "الصحيحين": أن النبي ﷺ أتى سُباطةَ قومٍ فبال قائمًا، وهو لا يأتي جفاء، ولا يفعل جفاء، اللهم صلِّ عليه، وأما مسح التراب من الجبهة قبل أن يفرغ من الصلاة لا يبلغ إلى هذا الحدِّ.

الطالب: ...........

الشيخ: محمد بن أحمد بن ثابت المروزي.

الطالب: ............

الشيخ: الذي عندكم أحمد بن محمد، وإلا محمد بن أحمد؟ الذي في التفسير: محمد بن أحمد، ما وجدتُه.

..........

وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُ شَيْئًا مِمَّا يَصْنَعُهُ الْمُبْتَلُونَ بِالْوَسْوَاسِ مِنْ نَتْرِ الذَّكَرِ، وَالنَّحْنَحَةِ، وَالْقَفْزِ، وَمَسْكِ الْحَبْلِ، وَطُلُوعِ الدَّرَجِ، وَحَشْوِ الْقُطْنِ فِي الْإِحْلِيلِ، وَصَبِّ الْمَاءِ فِيهِ، وَتَفَقُّدِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الْوَسْوَاسِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَالَ نَتَرَ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا.

وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ مِنْ فِعْلِهِ وَلَا أَمْرِهِ. قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ.

الشيخ: وهذا باطل، ومثلما قال الحافظُ أنه واهٍ جدًّا: "أنه إذا بال نتر ذكره"، هذا لا أصلَ له، بل هذا من أسباب الوسواس، نتره ومسحه والتَّكلف فيه هذا من أسباب الوسواس، ومن أسباب السلس، فلا ينبغي هذا، متى انتهى البولُ غسله بالماء واستجمر وانتهى، ولا يتكلَّف.

"وَكَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَهُوَ يَبُولُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ"، ذَكَرَهُ مسلم فِي "صَحِيحِهِ" عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

وَرَوَى البزار فِي "مُسْنَدِهِ" فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا رَدَدْتُ عَلَيْكَ خَشْيَةَ أَنْ تَقُولَ: سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ سَلَامًا، فَإِذَا رَأَيْتَنِي هَكَذَا فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ؛ فَإِنِّي لَا أَرُدُّ عَلَيْكَ السَّلَامَ.

الشيخ: أيش قال المحشي عليه؟ ما علَّق بشيءٍ؟ نعم، "مسند البزار" أظنه طبعت زوائده.

...........

وَقَدْ قِيلَ: لَعَلَّ هَذَا كَانَ مَرَّتَيْنِ. وَقِيلَ: حَدِيثُ مسلمٍ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ الضَّحاك بن عثمان، عَنْ نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَحَدِيثُ البزار مِنْ رِوَايَةِ أبي بكرٍ -رَجُل مِنْ أَوْلَادِ عبدالله بن عمر- عَنْ نافع، عَنْهُ.

قِيلَ: وَأَبُو بَكْرٍ هَذَا هُوَ أبو بكر ابن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر، رَوَى عَنْهُ مالكٌ وَغَيْرُهُ، والضَّحاك أَوْثَقُ مِنْهُ.

الطالب: قال في الحاشية: ذكر ذلك عبدُالحقِّ في "أحكامه"، ونقله عنه الزَّيلعي في "نصب الراية"، وقد جاء التَّصريح باسمه في "المنتقى" لابن الجارود، وقال: حدثنا محمد بن يحيى: حدثنا عبدالله بن رجاء: حدثنا سعيد -يعني: ابن أبي سلمة- حدثني أبو بكر، وهو ابن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، عن نافعٍ، عن عبدالله، وذكر الحديث ..... في "مسنده" عن عباس السَّراج فيما نقله الزَّيلعي عنه، ورجال إسناده ثقات.

الشيخ: نعم، يحتمل أنهما واقعتان.

وَكَانَ إِذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ ضَرَبَ يَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ لِحَاجَتِهِ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ.

الشيخ: علَّق بشيء؟

الطالب: .........