031 بحث في صوم يوم الشك

فَصْلٌ

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَّا بِرُؤْيَةٍ مُحَقَّقَةٍ، أَوْ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، كَمَا صَامَ بِشَهَادَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَامَ مَرَّةً بِشَهَادَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَاعْتَمَدَ عَلَى خَبَرِهِمَا، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمَا لَفْظَ الشَّهَادَةِ.

فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا فَقَدِ اكْتَفَى فِي رَمَضَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً فَلَمْ يُكَلِّفِ الشَّاهِدَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ.

الشيخ: المقصود من هذا أنه لا يُكلف الشَّاهد لفظ الشَّهادة: أشهد بالله، فإذا قال: نعم، أنا أعلم أنَّ هذا الرجل عنده لفلان كذا وكذا. حصلت به الشَّهادة .....، كما قال ابنُ عباسٍ: شهد عندي رجال مرضيُّون، وأرضاهم عندي عمر: أنَّ النبي ﷺ نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمسُ، وبعد العصر حتى تغيب الشمسُ. سمَّاها: شهادةً، فالخبر شهادة وإن لم يُصرح بالخبر، فإن قال: "أشهد" فمن باب التَّأكيد .....

فإذا قال: "رأيتُ الهلال" فقد شهد به، وإذا قال: "رأيتُ زيدًا أقرض عمرًا كذا وكذا"، فقد شهد بذلك، وإذا قال: "رأيتُ زيدًا ضرب فلانًا أو قتله" فقد شهد بذلك، وإن لم يقل: "أشهد"، لكن المطالبة بقول: "أشهد" من باب التأكيد، من باب العناية بتحقق ما قال، هذا مقصود من طلب الشَّهادة؛ للتأكد والتَّشديد في الشيء؛ حتى لا تكون هناك شبهة، وإلا فالخبر كافٍ.

فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُؤْيَةٌ وَلَا شَهَادَةٌ أَكْمَلَ عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

وَكَانَ إِذَا حَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ دُونَ مَنْظَرِهِ غَيْمٌ أَوْ سَحَابٌ أَكْمَلَ عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَهُ.

وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الْإِغْمَامِ وَلَا أَمَرَ بِهِ، بَلْ أَمَرَ بِأَنْ تُكَمَّلَ عِدَّةُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ إِذَا غُمَّ، وَكَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ، فَهَذَا فِعْلُهُ، وَهَذَا أَمْرُهُ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ، فَإِنَّ الْقَدْرَ هُوَ الْحِسَابُ الْمُقَدَّرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِكْمَالُ كَمَا قَالَ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِكْمَالِ: إِكْمَالُ عِدَّةِ الشَّهْرِ الَّذِي غُمَّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ، وَقَالَ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَالَّذِي أَمَرَ بِإِكْمَالِ عِدَّتِهِ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يُغَمُّ، وَهُوَ عِنْدَ صِيَامِهِ وَعِنْدَ الْفِطْرِ مِنْهُ.

وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ.

وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ بِلَفْظِهِ، وَإِلَى آخِرِهِ بِمَعْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ، وَاعْتِبَارُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَقَالَ: الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ، وَالشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ.

وَقَالَ: لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ.

وَقَالَ: لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، ثُمَّ صُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.

وَقَالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَحَفَّظُ مِنْ هِلَالِ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَ". صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.

الشيخ: وهذا محفوظٌ كالمتواتر عن النبي ﷺ في المعنى، وأنَّ الواجب إكمال الشَّهر بالعدة إن لم تحصل الرؤية، وأنَّ الرواية المتقدمة التي احتجَّ بها بعضُهم على التَّضييق والعمل بالحساب هذا غلط مُصادم للنصوص؛ ولهذا جاء في نفس الرواية: اقدروا له ثلاثين، زاد فيها "ثلاثين" للإيضاح؛ ولهذا ذكر أبو العباس إجماعَ أهل العلم على أنه لا يعمل بالحساب في ..... الشهور رمضان، أو الخروج منه، أو دخول شهر ذي الحجة ..... النبي ﷺ أبطل ذلك، قال: إنَّا أمَّة أمية، لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشرة ثلاث مرات، والشهر هكذا وهكذا وهكذا ..... إبهامه بالثالثة، إشارةً إلى أنه يكون تسعًا وعشرين، فقد أبان غاية البيان، وأوضح غاية الإيضاح عليه الصلاة والسلام أنه لا بدَّ من العمل بالرؤية أو بالإكمال -إكمال العدة- وأما العمل بالحساب فهذا باطلٌ ولا وجهَ له.

وَقَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا ثَلَاثِينَ.

وَقَالَ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.

وَقَالَ: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ -وَفِي لَفْظٍ: لَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ- بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصُمْهُ.

الشيخ: لا يُعتمد عليه، لكن إذا استعان استعان بالمكبر، ما يفضل عن العين، ولو استعمل المكبر -المنظار- ما يفضل عن العين، أما دعوى أنه دخل أو لم يدخل بالحساب أو بمجرد ..... من غير رؤيةٍ ما يُعتمد عليه.

............

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْإِغْمَامِ دَاخِلٌ فِي هَذَا النَّهْيِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: لَا تَصُومُوا قَبْلَ رَمَضَانَ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَمَامَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ. ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ".

فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الْإِغْمَامِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا إِكْمَالِ ثَلَاثِينَ صَوْمٌ قَبْلَ رَمَضَانَ.

الشيخ: وهذا داخلٌ في نفس الحديث في "الصحيحين": فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّة، "إن غُمَّ عليكم" يعني: بأي شيءٍ: بالسَّحاب، أو القتر، أو غير ذلك .....

س: يوم الإغمام أو الإغماء؟

ج: يُستعمل: الإغمام، والإغماء، ما في مانع.

وَقَالَ: لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ إِلَّا أَنْ تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.

وَقَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ، وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا. قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ يونس، عَنْ سماك، عَنْ عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا، وَلَا تَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ -عِدَّةَ شَعْبَانَ.

وَقَالَ سماك: عَنْ عكرمةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَمَارَى النَّاسُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْيَوْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: غَدًا. فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرَ أَنَّهُ رَآهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: صُومُوا. ثُمَّ قَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا، وَلَا تَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا.

............

وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ، فَبَعْضُهَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَبَعْضُهَا فِي "صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ" والحاكم وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُعِلَّ بَعْضُهَا بِمَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِمَجْمُوعِهَا، وَتَفْسِيرِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَاعْتِبَارِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَكُلُّهَا يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْمُرَادُ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة : يقول ﷺ: لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومًا فليصمه، فالأحاديث مُستفيضة في هذا، أو مُتواترة على رأي جمعٍ من أهل العلم في المنع من تقدم رمضان بيومٍ أو يومين، وأنَّ الواجب اعتبار الرؤيا، صومًا وإفطارًا، ومتى جاء الإغماءُ وجب إكمال العدة في الصيام، وإكمال العدة في شعبان.

س: يوم الخامس عشر من شعبان؟

ج: ما صحَّ فيه شيء، نصف شعبان لم يصحّ فيه شيء عن النبي ﷺ، لا يخصّ ليله بقيامٍ، ولا نهاره بصيامٍ.

س: حديث: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا؟

ج: صحيحٌ، لا بأس به، رواه الخمسة ..... سدًّا لذريعة الزيادة في رمضان، إذا ما صام قبل النصف لا يصوم بعد النصف.

س: النَّهي للكراهة أم للتَّحريم؟

ج: ظاهره للتَّحريم، هذا الأصل.

س: في غير مَن كانت له عادة: كأن يصوم يومًا ويُفطر يومًا؟

ج: مَن له عادة لا بأس، مثلما تقدم: إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه، مَن كانت له عادة: يصوم الاثنين والخميس، مثلًا: صادف الاثنين أو الخميس آخر الشهر، يصومه، أو يصوم يومًا ويُفطر يومًا، فصادف يوم صومه يوم الثلاثين، لا بأس.

س: الجمع بينه وبين حديث: لا تقدموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين؟

ج: حديث: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا لفظ نطق به، مُقدم على المفهوم، حديث أبي هريرة مفهومه أنه لا بأس بتقديمه إلى أكثر من يومين، لكن هذا المفهوم غير مرادٍ، بدليل قوله: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا بالنسبة إلى ما بعد النصف يعني.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ هَذَا هَدْيَهُ ﷺ، فَكَيْفَ خَالَفَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، ومعاوية، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، والحكم بن أيوب الغفاري، وعائشة وأسماء ابْنَتَا أبي بكر؟!

الشيخ: صوابه: الحكم بن عمرو .....، ما نعلم الحكم بن أيوب من الصحابة، عندك شيء يا محمد؟ المعروف الحكم بن عمرو. انظر الحكم بن أيوب في "التقريب".

الطالب: الحكم بن أبان.

الشيخ: الحكم بن أبان أيش؟

الطالب: الحكم بن أبان، الحكم بن الأعرج، الحكم بن الأقرع، الحكم بن بشير.

الشيخ: تراجع الحكم بن عمرو.

الطالب: موجود يا شيخ: الحكم بن عمرو الغفاري، ويقال له: الحكم ابن الأقرع، صحابي، نزل البصرة.

الشيخ: حطّ عليه: صوابه ابن عمرو.

وَخَالَفَهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، ومجاهد، وطاووس، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَمُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الْمُزَنِيُّ.

وَكَيْفَ خَالَفَهُ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟!

وَنَحْنُ نُوجِدُكُمْ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ مُسْنَدَةً:

فَأَمَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنَا ثَوْبَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مكحولٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَصُومُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُغَيَّمَةً، وَيَقُولُ: "لَيْسَ هَذَا بِالتَّقَدُّمِ، وَلَكِنَّهُ التَّحَرِّي".

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عليٍّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان، عَنْ أُمِّهِ فاطمة بنت حسين: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ".

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَفِي كِتَابِ عبدالرزاق: أَخْبَرَنَا معمر، عَنْ أيوب، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

الشيخ: في سماع أيوب عن ابن عمر نظر، الذي يظهر أنه ما سمع ابن عمر ولا أدركه .......

قَالَ: كَانَ إِذَا كَانَ سَحَابٌ أَصْبَحَ صَائِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا.

وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.

زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ نافعٍ قَالَ: كَانَ عبدُالله إِذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ، فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتْرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتْرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا.

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أنسٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم: حَدَّثَنَا يحيى ابن أبي إسحاق قَالَ: رَأَيْتُ الْهِلَالَ إِمَّا الظُّهْرَ، وَإِمَّا قَرِيبًا مِنْهُ، فَأَفْطَرَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَأَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَأَخْبَرْنَاهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَبِإِفْطَارِ مَنْ أَفْطَرَ، فَقَالَ: "هَذَا الْيَوْمُ يَكْمُلُ لِي أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الحكم بن أيوب أَرْسَلَ إِلَيَّ قَبْلَ صِيَامِ النَّاسِ: إِنِّي صَائِمٌ غَدًا، فَكَرِهْتُ الْخِلَافَ عَلَيْهِ فَصُمْتُ، وَأَنَا مُتِمٌّ يَوْمِي هَذَا إِلَى اللَّيْلِ.

الشيخ: والمعنى أنَّ الرؤيا قبل الزوال أو بعد الزوال لا تُعتبر في اليوم السَّابق، ولا في المستقبل حتى تكون بعد الغروب.

الطالب: الحكم بن أيوب؟

الشيخ: هذا غير ذاك ..... غير مسألة الحكم بن عمرو.

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ معاوية فَقَالَ أحمد.

الشيخ: على كل حالٍ مهما كثروا فالسنة هي الحاكم على الناس، والإنسان قد يجتهد ويتحرى الخيرَ، فلا يُخالف السنة باجتهاده، فاجتهاد مَن اجتهد فيما يُخالف السنة ليس حُجَّةً على السنة، السنة مُقدَّمةٌ على الجميع، وهي الحاكمة على الجميع: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، فالرسول حكم بأنَّ وقت يوم الثلاثين إذا كان لم يرَ وجب الإفطار، ولا يُصام حتى يكمل شعبان ثلاثين ........

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ معاوية فَقَالَ أحمد: حَدَّثَنَا المغيرة: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنِي مكحول، وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ يَقُولُ:" لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ".

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ أحمد: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عبدالله بن هبيرة، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ.

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: حَدَّثَنَا معاوية بن صالح، عَنْ أبي مريم -مولى أبي هريرة- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "لَأَنْ أَتَعَجَّلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَخَّرَ؛ لِأَنِّي إِذَا تَعَجَّلْتُ لَمْ يَفُتْنِي، وَإِذَا تَأَخَّرْتُ فَاتَنِي".

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أبو عوانة، عَنْ يزيد بن خمير، عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي أَتَى عائشةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ: قَالَتْ عائشةُ: "لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ".

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ سعيدٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يعقوب بن عبدالرحمن، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فاطمة بنت المنذر قَالَتْ: مَا غُمَّ هِلَالُ رَمَضَانَ إِلَّا كَانَتْ أسماء مُتَقَدِّمَةً بِيَوْمٍ، وَتَأْمُرُ بِتَقَدُّمِهِ.

الشيخ: وإذا كان هذا في عهد الصحابة وهم أعلم الناس وأفضل الناس، فكيف بحال مَن بعدهم في زمن الاجتهاد في أمور العبادات؟ ..... من الناس كثيرًا؛ حرصًا منهم على الخير، وإرادتهم للخير، وتخفى السنةُ على كثيرٍ من الناس في كثيرٍ من الأحيان، ولو كان من أفضل الصحابة قد تخفى عليه السنة التي عليها غيره، فيجتهد حرصًا منه على الخير، ورغبةً في الصوم والقيام، وقد فاتت عليه السنةُ المانعةُ من ذلك، وهكذا مَن بعدهم من أهل العلم إذا خالفوا السنةَ، لا عن قصد خلافها، ولكن قد يفوتهم حفظها، ولا تبلغهم بالكلية، أو من وجهٍ يصحّ؛ فلهذا يجتهدون ويحرصون على ما ينفعهم من عبادةٍ حسب علمهم، وإذا عرفوا النَّص لم .....

وَقَالَ أحمد: حَدَّثَنَا روح بن عباد.

الشيخ: روح بن عبادة.

وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فاطمة، عَنْ أسماء: أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ.

وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أحمد فَمِنْ مَسَائِلِ الفضل بن زياد عَنْهُ.

وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الأثرم: إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ سَحَابَةٌ أَوْ عِلَّةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا. وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنَاهُ: صالح، وعبدالله، والمروذي، والفضل بن زياد، وَغَيْرُهُمْ.

فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ عَنِ الصَّحَابَةِ أَثَرٌ صَالِحٌ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ صَوْمِهِ حَتَّى يَكُونَ فِعْلُهُمْ مُخَالِفًا لِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ صَوْمُهُ احْتِيَاطًا، وَقَدْ صَرَّحَ أنسٌ بِأَنَّهُ إِنَّمَا صَامَهُ كَرَاهَةً لِلْخِلَافِ عَلَى الْأُمَرَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: "النَّاسُ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ فِي صَوْمِهِ وَإِفْطَارِهِ"، وَالنُّصُوصُ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ صَوْمُ يَوْمِ الْإِغْمَامِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَمَنْ أَفْطَرَهُ أَخَذَ بِالْجَوَازِ، وَمَنْ صَامَهُ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ.

الشيخ: هذا القول فيه نظر؛ فإنه في بعض ..... النَّهي: لا تقدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تُفطروا حتى تروه نهي صريح .......

الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَصُومُهُ كَمَا حَكَيْتُمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَصُومُهُ، وَأَصَحُّ وَأَصْرَحُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ صَوْمُهُ عبدالله بن عمر، قَالَ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ: وَإِلَى قَوْلِهِ ذَهَبَ طاووس اليماني، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عائشة وأسماء ابْنَتَيْ أبي بكر، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ غَيْرَهُمْ.

قَالَ: وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وحذيفة، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ .

قُلْتُ: الْمَنْقُولُ عَنْ عليٍّ وعمر وعمار وحُذيفة وَابْنِ مَسْعُودٍ الْمَنْعُ مِنْ صِيَامِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ عمار: "مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ".

فَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْغَيْمِ احْتِيَاطًا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ تَطَوُّعٌ. فَالْمَنْقُولُ عَنِ الصَّحَابَةِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ عُمَرَ وعائشة. هَذَا مَعَ رِوَايَةِ عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا غُمَّ هِلَالُ شَعْبَانَ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ.

وَقَدْ رُدَّ حَدِيثُهَا هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا خَالَفَتْهُ، وَجُعِلَ صِيَامُهَا عِلَّةً فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تُوجِبْ صِيَامَهُ، وَإِنَّمَا صَامَتْهُ احْتِيَاطًا، وَفَهِمَتْ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَمْرِهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَا يَجِبُ حَتَّى تَكْمُلَ الْعِدَّةُ، وَلَمْ تَفْهَمْ هِيَ وَلَا ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ معمر، عَنْ أيوب، عَنْ نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِهِلَالِ رَمَضَانَ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نافعٍ، عَنْهُ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ.

وَقَالَ مالك وعبيدالله: عَنْ نافعٍ، عَنْهُ: فَاقْدُرُوا لَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْحَدِيثِ وُجُوبَ إِكْمَالِ الثَّلَاثِينَ، بَلْ جَوَازَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا صَامَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ فَقَدْ أَخَذَ بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ احْتِيَاطًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ: اقْدُرُوا لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ صُومُوا كَمَا يَقُولُهُ الْمُوجِبُونَ لِصَوْمِهِ لَكَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ عَلَى صَوْمِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَصُومُهُ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ ﷺ: لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ.

وَذَكَرَ مالكٌ فِي "مُوَطَّئِهِ" هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مُفَسِّرًا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلِهِ: فَاقْدُرُوا لَهُ.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: عَجِبْتُ مِمَّنْ يَتَقَدَّمُ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ! كَأَنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ.

الشيخ: وقد صدق ابنُ عباسٍ في هذا، إنه لعجب، وأحسن ما يثبت في ذلك أنهم نسوا الرواية، أو لم تبلغهم الرواية، وإلا فهي صريحة في النَّهي، ليست في الجواز.

وقول المؤلف أنَّ أعدل الأقوال في جواز الأمرين: هذا ليس بجيدٍ، والصواب أنه يمنع، لا يجوز أن يُصام يوم الثلاثين ولو كان غيمًا؛ لأنه ..... في الأحاديث، هذا هو الأصح من أقوال أهل العلم، والذي عليه الدليل، فإن كان ابنُ عمر أو غير ابن عمر يُخالف الدليل لا يجوز التَّعويل عليه .....؛ لأنه اجتهاد وتحري للخير، فالله يغفر له، ولا يجوز أن يُترك ما روى لما رأى، والحجَّة فيما روى، لا فيما رأى، ولا سيما وقد روى معه جماعةٌ آخرون ما يُوافق روايته من النَّهي عن صوم يوم الشَّك .....

وَكَذَلِكَ كَانَ هَذَانِ الصَّاحِبَانِ الْإِمَامَانِ: أَحَدُهُمَا يَمِيلُ إِلَى التَّشْدِيدِ، وَالْآخَرُ إِلَى التَّرْخِيصِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ بِأَشْيَاءَ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ، فَكَانَ يَغْسِلُ دَاخِلَ عَيْنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ حَتَّى عَمِيَ مِنْ ذَلِكَ.

س: في الوضوء أو في الغُسل؟

ج: في الوضوء.

........ مشهور عن ابن عمر، ما تتبعناه، لكنه مشهور عن ابن عمر.

وَكَانَ إِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ أَفْرَدَ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ، وَكَانَ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَهُ اغْتَسَلَ مِنْهُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَيَمَّمُ بِضَرْبَتَيْنِ: ضَرْبَةٍ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٍ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.

الشيخ: وهذا أيضًا خلاف السنة، وهذا من اجتهاده، والصواب ضربة واحدة كما في "الصحيحين" من حديث عمار: أن النبيَّ ﷺ أراه كيف التَّيمم، فضرب ضربةً واحدةً، فمسح بهما وجهه وكفَّيه، كذلك إلى المرفقين خلاف السنة، إلى الكفَّين فقط.

.........

وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا عَلَى الْكَفَّيْنِ.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ وَيَقُولُ: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ".....

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قُبْلَةِ امْرَأَتِهِ، وَيُفْتِي بِذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا قَبَّلَ أَوْلَادَهُ تَمَضْمَضَ ثُمَّ صَلَّى.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "مَا أُبَالِي قَبَّلْتُهَا أَوْ شَمَمْتُ رَيْحَانًا".

الشيخ: هذا هو الصواب: أنَّ مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء على الصحيح، ولو بشهوةٍ، الأقوال ثلاثة: ينقض مطلقًا، وعدم النَّقض مطلقًا، والتفصيل، والصواب أنه لا ينقض مطلقًا؛ مسَّها، قبَّلها، على الصحيح لا ينقض، إلا إذا خرج شيء من المذي، وأما قوله: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] يعني: جامعتم .....

وَكَانَ يَأْمُرُ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَنْ يُتِمَّهَا، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ الَّتِي ذَكَرَهَا، ثُمَّ يُعِيدُ الصَّلَاةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا.

الشيخ: يعني حتى يتمّ الترتيب.

وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي "مُسْنَدِهِ"، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ.

قَالَ البيهقي: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عبدالله بن عمر كَانَ يَسْلُكُ طَرِيقَ التَّشْدِيدِ وَالِاحْتِيَاطِ.

وَقَدْ رَوَى معمر، عَنْ أيوب، عَنْ نافعٍ، عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً أَضَافَ إِلَيْهَا أُخْرَى، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا فَعَلَهُ غَيْرَهُ.

قُلْتُ: وَكَأَنَّ هَذَا السُّجُودَ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْجُلُوسِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ عَقِيبَ الشَّفْعِ.

الشيخ: لمتابعة الإمام، إذا فاتت ركعة جلس مع الإمام في الجلسة الأخيرة .....، فابن عمر سجد السَّهو لهذا السُّجود الزائد الذي جلسه مع الإمام، لكن ليس بسهوٍ، هو جلس لمتابعة الإمام؛ ولهذا الذي عليه عامَّة أهل العلم أنه لا يُشرع لها سجود، ليس بسهوٍ .....

الظاهر أنه يشتغل بالتَّحيات والصلاة على النبي ﷺ؛ لأنه ذكر، والدعاء يكون في التَّشهد الأخير، ولو دعا ما في شيء، لا نعلم عليه شيئًا، لكن لو اقتصر على تكرار التَّحيات والصلاة على النبي ﷺ؛ لأنَّ هذا هو محل التَّحيات، مُتابعته ..... الدعاء في التَّشهد الأخير الذي يأتي به أخيرًا؛ لأنَّ هذا هو محله، لعل هذا يكون أقرب، والأمر واسع.

...........

فيه تفصيل، صحيح، أصحّ من هذا، عبدالعزيز بن حكيم هذا مُختلف فيه، وقد ثبت في "الصحيحين" عن ابن عمر أنه كان إذا غيم صام، يُصبح صائمًا، وإذا كانت السَّماء مصفيةً أصبح مُفطرًا، فالمحفوظ عن ابن عمر هو التَّفرقة بين الإغماء والصَّحو، فيصوم مع الإغماء في يوم الثلاثين احتياطًا، ويُفطر في الصَّحو، والصواب أنه لا يصوم أبدًا: لا في الإغماء، ولا في الصَّحو، هذا هو الصواب والحقّ، بل يحرم صومه؛ لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك، قال: لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تُفطروا حتى تروا الهلالَ، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له ثلاثين، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّة، ألفاظه كلها واضحة وصريحة في المنع، ومن هذا ما في "الصحيحين" عن أبي هريرة : أن النبيَّ ﷺ قال: لا تقدَّموا رمضان بصوم يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومَه فليصمه.

الحاصل أنَّ الأحاديث الصَّريحة الصَّحيحة واضحة في المنع من صوم يوم الشَّك، سواء كانت السَّماء مصفيةً أو مغيمةً يجب الإفطار، ولا يجوز الصوم، ابن عمر فعله اجتهادًا منه .....، والسنة حاكمة على الناس، السنة تحكم آراء الناس واجتهاداتهم، وهي المرجع: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم: أنَّ يوم الشك -يوم الثلاثين من شعبان- لا يجوز صومه، ولو كانت السَّماء مغيمةً، حتى يثبت أنه رُئي الهلال، أو حتى يثبت أنَّ شعبان تم.

س: يصومه على أنه نفل؟

ج: ولا يصومه نفلًا.

س: ابن عمر يصومه على أنه نفل، أو على أنه فرض؟

ج: الظاهر أنه من رمضان هذا ظاهر عمله؛ اجتهادًا منه .....

س: .............؟

ج: هذا محل خلافٍ، فمن أهل العلم مَن يرى أنَّ لكل قومٍ رُؤيتهم، والقول بأنَّ الرؤية تعمّ الجميع قول قوي، وهو ظاهر الأدلة الشَّرعية .....؛ لأنَّه ما كل الدول تعتمد الرؤية، بعض الدول تعتمد الحساب .......

فَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ الشَّهْرَ مِنْكُمْ أَحَدٌ"، وَصَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا.

وَكَذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ".

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا".

فَهَذِهِ الْآثَارُ إِنْ قُدِّرَ أَنَّهَا مُعَارِضَةٌ لِتِلْكَ الْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُمْ فِي الصَّوْمِ فَهَذِهِ أَوْلَى؛ لِمُوَافَقَتِهَا النُّصُوصَ الْمَرْفُوعَةَ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا فَهَاهُنَا طَرِيقَتَانِ مِنَ الْجَمْعِ:

إِحْدَاهُمَا: حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْإِغْمَامِ، أَوْ عَلَى الْإِغْمَامِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، كَمَا فَعَلَهُ الْمُوجِبُونَ لِلصَّوْمِ.

الشيخ: يعني أنَّ الروايات التي فيها أنه نهى عن الصوم تُحمل على الصَّحو، أنه كان لا يصوم في الصَّحو، أو تُحمل على أنَّ المراد بذلك آخر رمضان، إذا غُمَّ في آخر رمضان ..... فيه الصوم.

س: ..............؟

ج: يعني ما يتعلق بابن عمر إما أن يقال: أنَّ هذه الأخبار شاذَّة ومخالفة للأحاديث الصَّحيحة عنه -الآثار الصحيحة- وإما أن يقال: أنه أراد بذلك أيام الصَّحو، أيام الصَّحو لا تُصام قبل رمضان، بل يجب إكمال عدة شعبان.

وبكل حالٍ فهو رأي منه ، والصواب أنَّ يوم الشك لا يُصام مطلقًا، ولو كان غيمًا على المسلمين أن ..... آخر شعبان حتى يثبت الهلالُ، أو يثبت أن شعبان كمل ثلاثين، هذا هو المعتمد والحقّ.

وَالثَّانِيَةُ: حَمْلُ آثَارِ الصَّوْمِ عَنْهُمْ عَلَى التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ؛ اسْتِحْبَابًا، لَا وُجُوبًا، وَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ النُّصُوصِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَفِيهَا السَّلَامَةُ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ يَوْمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الشَّكِّ، فَيُجْعَلُ أَحَدُهُمَا يَوْمَ شَكٍّ، وَالثَّانِي يَوْمَ يَقِينٍ، مَعَ حُصُولِ الشَّكِّ فِيهِ قَطْعًا، وَتَكْلِيفُ الْعَبْدِ اعْتِقَادَ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ قَطْعًا، مَعَ شَكِّهِ: هَلْ هُوَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: لكن مثلما تقدم، الصواب أنه لا يُصام، لا استحبابًا، ولا وجوبًا، ولا جوازًا، فلا يجوز، ولا يُستحبّ، ولا يجب، يوم الشَّك لا يجوز صومه، بل يجب إفطاره، يعني: يوم الشك من شعبان، يعني: آخر يومٍ من شعبان، أما يوم الشَّك من رمضان فيجب صومه، صوم الثلاثين من رمضان إذا لم يرَ الهلالَ وجب صومه؛ لأنَّ الرسول قال: صوموا ثلاثين، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين، كمِّلوا الشَّهر.

فَصْلٌ

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ أَمْرُ النَّاسِ بِالصَّوْمِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ، وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ.

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ إِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْعِيدِ أَنْ يُفْطِرَ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْفِطْرِ، وَيُصَلِّيَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ فِي وَقْتِهَا.

الشيخ: وهذا لو ثبت ..... أفطر الناس وخرجوا للصلاة غدًا، فلو ثبت الهلالُ يوم الثلاثين من رمضان، شهود يشهدون بأنَّه رُئي البارحة عند الظهر، أو بعد الظهر، أفطر الناسُ وخرجوا للصلاة في غدٍ صباحًا لصلاة العيد، كما فعله النبي ﷺ، فإنه جاء إليه مَن شهد عنده في آخر رمضان أنَّ الهلال رُئي البارحة، فأمر الناس بالإفطار، وخرج صباحًا، وصلَّى صلاة العيد عليه الصلاة والسلام.

س: .............؟

ج: هذا وقتها، والوقت الأول ذهب، يُسمَّى: قضاء، وإلا أداء، ما يضرّ، هذا اصطلاح، ما له تعلق بالأحكام، تُسمَّى: قضاء، وأداء، أمر اصطلاحي .....

وَكَانَ يُعَجِّلُ الْفِطْرَ، وَيَحُضُّ عَلَيْهِ، وَيَتَسَحَّرُ وَيَحُثُّ عَلَى السُّحُورِ، وَيُؤَخِّرُهُ وَيُرَغِّبُ فِي تَأْخِيرِهِ.

الشيخ: وهذه هي السنة: تعجيل الإفطار، وتأخير السّحور، هذه السنة، كما قال النبي: لا يزال الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر، فالسنة أن يُعجلوا الفطور إذا غابت الشمسُ، والسنة أن يُؤخروا السّحور في آخر الليل؛ لأنه أنشط للمؤمن، وأقوى له على الصيام، وهو موافق لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، والسحور سنة مُؤكدة: تسحَّروا، فإنَّ في السّحور بركة.

س: .............؟

ج: إذا ثبت بدخول اثنين كفى، ما يحتاج إلى شهودٍ آخرين.

..........

وَكَانَ يَحُضُّ عَلَى الْفِطْرِ بِالتَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ، هَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ وَنُصْحِهِمْ، فَإِنَّ إِعْطَاءَ الطَّبِيعَةِ الشَّيْءَ الْحُلْوَ مَعَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْقُوَى بِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ، فَإِنَّهَا تَقْوَى بِهِ، وَحَلَاوَةُ الْمَدِينَةِ التَّمْرُ، وَمُرَبَّاهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ قُوتٌ وَأُدْمٌ، وَرُطَبُهُ فَاكِهَةٌ.

وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنَّ الْكَبِدَ يَحْصُلُ لَهَا بِالصَّوْمِ نَوْعُ يُبْسٍ، فَإِذَا رُطِّبَتْ بِالْمَاءِ كَمُلَ انْتِفَاعُهَا بِالْغِذَاءِ بَعْدَهُ.

الشيخ: وهذا من الحِكَم، والشريعة كلها حِكَم، الشريعة الإسلامية كلها حِكَم، كلها مبنية على الحِكَم والأسرار والفوائد العظيمة؛ لأنها من حكيمٍ عليمٍ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، فهي تشريع من حكيمٍ عليمٍ، وقد تظهر الحكمةُ للناس، وقد تخفى، ومما يظهر مسألة الفطور على التَّمر والرطب والماء للصائم ..... فيه واضحة؛ التَّمر تقبله الطبيعة، وتحله الطبيعة، وله صلة بها .....، والصائم خالِ الجوف، فيكون إفطارُه بالتمر والرّطب أكثر من غيره، وهو شيء نافع مفيد من المضرة؛ ولهذا شرع اللهُ الإفطارَ على الرطب إذا تيسر، وإن لم يتيسر أفطر على التَّمر، فإن لم يتيسر أفطر على الماء، كما أخبر أنسٌ : أنَّ النبي كان يُفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى الماء.

وحديث سلمان بن عامر الضَّبي، عن النبي ﷺ قال: إذا أفطر أحدُكم فليُفطر على تمرٍ، فإن لم يجد فعلى الماء؛ فإنه له طهور.

ويقول ابنُ القيم رحمه الله: إنَّ له أيضًا صلةً بتقوية البصر، وأنَّ التمر -لا سيما على خلو المعدة- له صلة قوية ..... البصر، هذا يُعلم من الطبِّ والتَّجارب.

..........

وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَى بِالظَّمْآنِ الْجَائِعِ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَ الْأَكْلِ بِشُرْبِ قَلِيلٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَأْكُلَ بَعْدَهُ، هَذَا مَعَ مَا فِي التَّمْرِ وَالْمَاءِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ.

وَكَانَ ﷺ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَكَانَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبَاتٍ إِنْ وَجَدَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ.

وَيُذْكَرُ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ فِطْرِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ، فَتَقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَلَا يَثْبُتُ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ، ذَكَرَهُ أبو داود عَنْ معاذ بن زهرة أَنَّهُ بَلَغَهُ.

الشيخ: هو الأول، لكن فيه زيادة: "فتقبل مني". ذكره؟

ذَكَرَهُ أبو داود عَنْ معاذ بن زهرة أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ.

الشيخ: قال المحشي عليه شيئًا؟

الطالب: الأول: رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"، وفي سنده عبدالملك بن هارون بن عنترة، ضعَّفه أحمد والدَّارقطني، قال يحيى: كذَّاب. وقال أبو حاتم: متروك، ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديثَ.

وعلى الثاني: أخرجه أبو داود، وابن السني، ومعاذ بن زهرة تابعي لم يُوثقه غير ابن حبان، فهو مُرسل.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَفْطَرَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ذَكَرَهُ أبو داود مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ مروان بن سالم المقفع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

الشيخ: أيش قال المحشي عليه؟

الطالب: أخرجه أبو داود والدَّارقطني والحاكم وابن السني، ومروان بن سعد المقفع وثَّقه ابن حبان، وحسَّن حديثه الدَّارقطني وابن حجر، وباقي رجاله ثقات، وقول الحاكم: "قد احتجَّ البخاري بمروان" وهمٌ منه؛ فإنَّ مروان الذي احتجَّ به البخاريُّ غير مروان هذا.

الشيخ: تكلم بشيءٍ على المقفع؟

الطالب: ما تكلم.

الشيخ: عندك شيء يا شيخ محمد؟

الطالب: نعم، مروان بن سالم المفقع: بالفاء قبل القاف، هكذا ضبطه في "التقريب"، وفي الوسط عكسه، وفي "التهذيب" هكذا أيضًا: المقفع. ومضبوطة أيضًا.

الشيخ: وليس فيه: المقنع؟

الطالب: لا، ليس بالنون أبدًا، بالفاء قبل القاف، أو تقديم القاف على الفاء.

الشيخ: في "الخلاصة" و"التهذيب": المقفع.

الطالب: ضبط "التقريب": المفقع. و"الخلاصة" و"التهذيب" بالقاف قبل الفاء.

الشيخ: حطّ: نسخة المفقع.

الطالب: هكذا ضبطه في "الأسماء"، وفي "الألقاب" وضعه في ترتيب القاف أيضًا، حتى في "التقريب" في القاف بعد الفاء .....

وَيُذْكَرُ عَنْهُ ﷺ: إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً مَا تُرَدُّ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

الطالب: من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وفي سنده إسحاق بن عبيدالله، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وباقي رجاله على شرط البخاري، ويشهد له حديث أنسٍ ، رواه المقدسي في "المختارة": ثلاث دعواتٍ لا تُردّ: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر، وحديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه بلفظ: ثلاثة لا تُردّ دعوتهم: الصائم حين يُفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، وصححه ابنُ حبان، وحسَّنه الحافظ ابن حجر.

الشيخ: "الصائم حين يُفطر"، في روايةٍ، جاء هذا وهذا: دعوة الصائم مطلقًا، وحين يُفطر بوجهٍ أخصّ.

.........

وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَبِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ فِطْرِهِ، كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى.

الشيخ: يعني إذا غابت الشمسُ فقد مضى حكمُ الصيام، وفي هذا أنه قال: إذا أقبل الليلُ من هاهنا، وأدبر النهارُ من هاهنا، وغربت الشمسُ، فقد أفطر الصائم يعني: الإمساك بعد ..... ليس بحكم الصوم، لكن لو فعله جاز إلى السَّحر، من باب التَّقوي على العبادة، إذا رأى ذلك في مصلحته جاز له ذلك إلى السَّحر؛ لأنَّ الصوم انتهى بغروب الشمس.

وَنَهَى الصَّائِمَ عَنِ الرَّفَثِ وَالصَّخَبِ وَالسِّبَابِ وَجَوَابِ السِّبَابِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ سَابَّهُ: "إِنِّي صَائِمٌ"، فَقِيلَ: يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ. وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقِيلَ: بِقَلْبِهِ، تَذْكِيرًا لِنَفْسِهِ بِالصَّوْمِ. وَقِيلَ: يَقُولُهُ فِي الْفَرْضِ بِلِسَانِهِ، وَفِي التَّطَوُّعِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ.

الشيخ: .......

فَصْلٌ

وَسَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ وَأَفْطَرَ، وَخَيَّرَ الصَّحَابَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْفِطْرِ إِذَا دَنَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ؛ لِيَتَقَوَّوْا عَلَى قِتَالِهِ.

فَلَوِ اتَّفَقَ مِثْلُ هَذَا فِي الْحَضَرِ، وَكَانَ فِي الْفِطْرِ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، فَهَلْ لَهُمُ الْفِطْرُ؟

فِيهِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا دَلِيلًا: أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن تيمية، وَبِهِ أَفْتَى الْعَسَاكِرَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَمَّا لَقُوا الْعَدُوَّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْفِطْرَ لِذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ، بَلْ إِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّهَا أَحَقُّ بِجَوَازِهِ؛ لِأَنَّ الْقُوَّةَ هُنَاكَ تَخْتَصُّ بِالْمُسَافِرِ، وَالْقُوَّةَ هُنَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ مَشَقَّةَ الْجِهَادِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ.

الشيخ: ..... جاء العدو، هاجم البلد، أو حاصرها، أو دنا، فهل للجيش الإسلامي الفطر؛ للتَّقوي على قتال الأعداء؟

ليس له ذلك؛ لأنه ليس بمسافرٍ، وأفتى جمعٌ من أهل العلم: أنَّ له الفطر؛ ليتقوَّى على قتال العدو؛ لأنه محتاج إلى ذلك، وأعظم من حاجة المسافر، وأعظم من حاجة بعض المرضى، وأعظم من حاجة المرضع والحامل للفطر، ففطره للمصلحة العامَّة، لمصلحة المسلمين، فهو أولى؛ ولهذا قال ﷺ للناس يوم فتح مكة لما دنا من مكة قال لهم: أفطروا؛ فإنَّ الفطر أقوى لكم، وبلغه أنَّ بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العُصاة، أولئك العُصاة، فعلل بأنَّ الفطر أقوى لهم من جهة عدوهم، ما قال: لأنَّكم مُسافرون والفطر أقوى لكم.

فدلَّ ذلك على جواز الفطر للمُقيمين عند الحاجة إليه في الجهاد وقتال العدو، وإذا كان مَن أراد أن يُنقذ إنسانًا من غرقٍ، أو من حرقٍ، أو من سبعٍ، ولم يستطع إلا بالفطر أفطر ليُنقذ أخاه، فإنقاذ المسلمين من عدوهم ..... من ذلك الفطر أولى وأولى؛ ولهذا أفتى أبو العباس ابن تيمية العساكر الإسلامية في دمشق بالفطر لقتال التَّتر.

.........

وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْفِطْرِ لِلْمُجَاهِدِ أَعْظَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِفِطْرِ الْمُسَافِرِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وَالْفِطْرُ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ فَسَّرَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ، وَهُوَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ إِلَّا بِمَا يُقَوِّي وَيُعِينُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرِ وَالْغِذَاءِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِلصَّحَابَةِ لَمَّا دَنَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، وَكَانَتْ رُخْصَةً، ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوَّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، فَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا.

فَعَلَّلَ بِدُنُوِّهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْقُوَّةِ الَّتِي يَلْقَوْنَ بِهَا الْعَدُوَّ، وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ السَّفَرِ، وَالسَّفَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي تَعْلِيلِهِ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ، فَالتَّعْلِيلُ بِهِ اعْتِبَارًا لِمَا أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي هَذَا الْفِطْرِ الْخَاصِّ، وَإِلْغَاءُ وَصْفِ الْقُوَّةِ الَّتِي يُقَاوَمُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَاعْتِبَارُ السَّفَرِ الْمُجَرَّدِ؛ إِلْغَاءٌ لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ وَعَلَّلَ بِهِ.

الشيخ: ..... في الحديث الذي رواه مسلم قال: أولئك العُصاة، لما بلغه أنَّ بعضهم قد صام قال: أولئك العصاة.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَتَنْبِيهُ الشَّارِعِ وَحِكْمَتُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِطْرَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ أَوْلَى مِنْهُ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا وَصَرَّحَ بِحُكْمِهَا، وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُفْطِرُوا لِأَجْلِهَا؟

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ شعبة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَوْمُ قِتَالٍ فَأَفْطِرُوا، تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ شعبة.

فَعَلَّلَ بِالْقِتَالِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْفِطْرِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْفِطْرَ لِأَجْلِ الْقِتَالِ.

وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ السَّفَرُ عَنِ الْجِهَادِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ فِي الْفِطْرِ: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ

وَسَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ فِي أَعْظَمِ الْغَزَوَاتِ وَأَجَلِّهَا: فِي غَزَاةِ بَدْرٍ، وَفِي غَزَاةِ الْفَتْحِ.

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ غَزْوَتَيْنِ: يَوْمَ بَدْرٍ وَالْفَتْحِ، فَأَفْطَرْنَا فِيهِمَا".

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عائشةَ قَالَتْ: "خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ، فَأَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ"، فَغَلَطٌ: إِمَّا عَلَيْهَا -وَهُوَ الْأَظْهَرُ- أَوْ مِنْهَا، وَأَصَابَهَا فِيهِ مَا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: "اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَجَبٍ"، فَقَالَتْ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أبا عبدالرحمن، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ"، وَكَذَلِكَ أَيْضًا عُمَرُهُ كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ قَطُّ.

الشيخ: وإنما ..... عمرة في رمضان تعدل حجَّةً، أو قال: حجّة معي، فبين فضلَها بقوله ﷺ، أما بفعله فلم يعتمر في رمضان؛ لأسبابٍ اقتضت ذلك، وإنما كانت عمرُه كلها في ذي القعدة.

س: .............؟

ج: صرَّح النبيُّ ﷺ بما يُخالف ذلك: عمرة في رمضان تعدل حجَّةً، فقوله مُقدَّم، وهو صريح، وعمره في ذي القعدة لأسبابٍ اقتضت ذلك.

فَصْلٌ

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ تَقْدِيرُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يُفْطِرُ فِيهَا الصَّائِمُ بِحَدٍّ، وَلَا صَحَّ عَنْهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ.

وَقَدْ أَفْطَرَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ فِي سَفَرِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَقَالَ لِمَنْ صَامَ: "قَدْ رَغِبُوا عَنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ ﷺ".

وَكَانَ الصَّحَابَةُ حِينَ يُنْشِئُونَ السَّفَرَ يُفْطِرُونَ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّتُهُ وَهَدْيُهُ ﷺ، كَمَا قَالَ عبيد بن جبر: رَكِبْتُ مَعَ أبي بصرة الغفاري صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفِينَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يُجَاوِزِ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، قَالَ: اقْتَرِبْ، قُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ؟! قَالَ أبو بصرة: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟! رَوَاهُ أبو داود وأحمد.

وَلَفْظُ أحمد: رَكِبْتُ مَعَ أبي بصرة مِنَ الْفُسْطَاطِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي سَفِينَةٍ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَرْسَاهَا أَمَرَ بِسُفْرَتِهِ فَقُرِّبَتْ، ثُمَّ دَعَانِي إِلَى الْغَدَاءِ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَقُلْتُ: يَا أبا بصرة، وَاللَّهِ مَا تَغَيَّبَتْ عَنَّا مَنَازِلُنَا بَعْدُ؟ قَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَكُلْ، قَالَ: فَلَمْ نَزَلْ مُفْطِرِينَ حَتَّى بَلَغْنَا.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا، وَقَدْ رُحِّلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ، وَقَدْ لَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ، فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ قَالَ: سُنَّةٌ، ثُمَّ رَكِبَ. قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ: فَأَكَلَ وَقَدْ تَقَارَبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ.

وَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَهُ الْفِطْرُ فِيهِ.

الشيخ: علَّق على أثر دحية بن خليفة؟

الطالب: أخرجه أبو داود في "الصوم" باب "قدر مسيرة ما يُفطر فيه"، وفي سنده مكحول بن سعيد الكلبي، راويه عن دحية، وهو مجهول.

الشيخ: الذي بعده؟

الطالب: حديث أبي بصرة أخرجه أبو داود في "الصوم" باب "متى يُفطر المسافر إذا خرج"، وأحمد، والبيهقي، وفي سنده كليب بن ..... الحضرمي، وهو مجهول، وباقي رجاله ثقات، ويشهد له حديث أنسٍ الآتي، ويتقوَّى به.

الشيخ: تكلم على حديث أنسٍ؟

الطالب: نعم، أخرجه الترمذي في "الصوم" باب "مَن أكل ثم خرج يريد سفرًا"، والدَّارقطني، والبيهقي، وإسناده قوي، وحسنه الترمذي، وغير واحدٍ، ويشهد له حديث أبي بصرة المتقدم، وحديث دحية بن خليفة عند أبي داود وأحمد، وقد تقدم أيضًا، وهو حسنٌ في الشَّواهد.

الشيخ: هذا فيه نظر؛ لأنَّ هذه الآثار فيها أولًا ما تقدم من جهالة الرجلين، وفي حديث أنس ..... في روايته اختلاف؛ فالنبي ﷺ عزم على السفر في حجة الوداع، وصلى بهم الظهر أربعًا في المدينة، ثم ركب وأتى ذا الحليفة وصلَّى بها العصر ركعتين، ولم يُصلِّ الظهر ثنتين في المدينة، وقد عزم على السفر، صلَّى أربعًا ثم ركب إلى مكة، وصلَّى بذي الحليفة ركعتين، فهو لا يُسمَّى: مسافرًا، إلا إذا غادر البلد وخرج منها، وما عدا ذلك فليس بمسافرٍ، والأظهر والأقوى أنه لا يقصر ولا يُفطر حتى يُغادر البلد، رواية أبي بصرة على .....، إنما الذي يمنع وجوده بين البيوت فهو محل نظر، المسألة هذه محل نظر، تحتاج إلى مزيد عنايةٍ.

س: .............؟

ج: إذا كانت خارج البلد لا بأس، إذا كان المطارُ خارج البلد أو خيَّموا خارج البلد يُفطرون؛ لأنهم غادروا البلد.

.........