22 من حديث (ما نقصت صدقة من مال..)

3/555- وعن أبي هُريرة : أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ  رواه مسلم.

14/556- وعن أَبي كَبشَةَ عمرو بنِ سَعدٍ الأَنمَاريِّ : أَنه سمع رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُم حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبدٍ مِن صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- وَأُحَدِّثُكُم حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ:

عَبدٍ رَزَقَه اللَّه مَالًا وَعِلْمًا، فَهُو يَتَّقي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهذَا بأَفضَل المَنازل

وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّه عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَو أَنَّ لِي مَالًا لَعمِلْتُ بِعَمَل فُلانٍ، فَهُوَ بنِيَّته، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ

وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا، وَلَمْ يرْزُقْهُ عِلْمًا، فهُوَ يَخْبِطُ في مالِهِ بِغَير عِلمٍ؛ لا يَتَّقي فِيهِ رَبَّهُ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعلَمُ للَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ

وَعَبْدٍ لَمْ يرْزُقْهُ اللَّه مَالًا وَلا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَل فُلانٍ، فَهُوَ نِيَّتُهُ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ

 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

15/557- وعن عائشة رضي اللَّه عنها: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا بَقِيَ مِنها؟ قالت: مَا بَقِيَ مِنها إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِي كُلُّهَا غَيرَ كَتِفِهَا رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.

ومعناه: تَصَدَّقُوا بِهَا إلَّا كَتِفَهَا، فَقَالَ: بَقِيَتْ لَنا في الآخِرةِ إِلَّا كَتفَهَا.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على فضل الصدقة والجود والكرم والإحسان، والعفو عند القدرة، والتواضع لله ، فالمؤمن ينبغي له أن يجتهد في طاعة الله، والإنفاق في وجوه الخير والإحسان، والحذر من الكبر والبخل والمسألة.

يقول ﷺ: ما نقص مالٌ من صدقةٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه، هذه خصال عظيمة: ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا إذا عفا عمَّن ظلمه يرجو ثواب الله، فالله يزيده عزًّا وخيرًا، وفي هذا مصالح كثيرة؛ فالعفو تجتمع به القلوب، وتزول الشحناء، وتحل محلها المحبة، فيه خير عظيم، وفي هذا يقول جلَّ وعلا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، ويقول سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، وفي هذا الحديث: ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه، وما نقص مالٌ من صدقةٍ الصدقة تجلب المال، ما تنقصه.

كذلك في حديث أبي كبشة مثلما في الحديث الأول: ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، ولا تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله، ولا فتح عبدٌ على نفسه باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقرٍ هذا فيه الحذر من السؤال بغير حقٍّ، وأنه ينبغي للمسلم أن يتباعد عن سؤال الناس إلا من ضرورةٍ.

والدنيا لأربعةٍ: رجل آتاه الله مالًا وعلمًا فهو يتَّقي ربَّه في هذا المال، ويصل فيه رحمه، ويعلم أنَّ لله فيه حقًّا، فهو بخير المنازل، ورجل لم يُعطه الله مالًا، ولكن الله أعطاه علمًا، وهو صادق النية يقول: لو كان لي مثل فلانٍ من المال لعملتُ عمله فهذا بنيته وصدقه، فهما في الأجر سواء، والثالث: أعطاه الله مالًا ولم يُعطه علمًا، جاهل، يتخبط في هذا المال، ويعمل فيه بغير الحقِّ؛ فلا يصل فيه رحمه، ولا يتَّقي فيه ربَّه، فهو في شرِّ المنازل، والآخر: ما أعطاه الله مالًا، ولا أعطاه الله علمًا، فهو يقول: لو كان لي مثل فلانٍ لعملتُ عمله في هذا المال: فهما في الوزر سواء والعياذ بالله.

وفي الحديث الثالث: أن عائشة تصدَّقت بشاةٍ إلا كتفها، فقال: ماذا بقي منها؟ قالت: بقي الكتفُ، قال: بقيت كلها إلا الكتف يعني: ما أنفق في الصدقة فهو الباقي، وما بقي للبيت فليس من الصدقة، ولكنه لا بأس به، كونه يتصدق على أهل بيته لا بأس، لكن إذا أخرج في الفقراء والمحاويج فهذا يبقى له عند الله، وما كان لبيته فهو لا بأس به والحمد لله، الصدقة على أهل البيت، لكن ما خرج لله وأُعطي للفقراء فهو الباقي، وما كان في البيت فهو مباح، ومع النية له فيه أجر. وفَّق الله الجميع.

16/558- وعن أَسماءَ بنتِ أَبي بكرٍ الصديق رضي اللَّه عنهما قالت: قَالَ لي رسولُ اللَّه ﷺ: لا تُوكِي فيُوكَى عليكِ.

وفي روايةٍ: أَنْفِقِي، أَو انْفَحِي، أَو انْضَحِي، وَلا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيكِ، وَلا تُوعِي فيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ متفقٌ عليه.

وَ"انْفَحِي" بالحاءِ المهملة: هو بمعنى "أَنْفِقِي"، وكذلك: "انْضَحِي".

17/559- وعن أَبي هريرة : أَنه سَمِع رسولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: مَثَلُ البَخِيلِ والمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِن حَديدٍ مِنْ ثدِيِّهِما إِلى تَرَاقِيهمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ -أَوْ وَفَرَتْ- عَلَى جِلدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا البَخِيلُ فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُو يُوَسِّعُهَا فَلا تَتَّسِعُ متفقٌ عليه.

وَ"الجُبَّةُ": الدِّرعُ، وَمَعنَاهُ: أَن المُنْفِقَ كُلَّمَا أَنْفَقَ سَبَغَتْ وَطَالَتْ حَتَّى تجُرَّ وَرَاءَهُ، وَتُخْفِيَ رِجلَيهِ وأَثَرَ مَشيهِ وخُطُواتِهِ.

18/560- وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللَّه يقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيها لِصَاحِبها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبلِ متفقٌ عَلَيْهِ.

"الفَلُوُّ" بفتحِ الفاءِ، وضم اللام، وتشديد الواو، ويقال أَيضًا: بكسر الفاءِ، وإِسكان اللام، وتخفيف الواو: وَهُوَ المُهْرُ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة فيها الحثّ على النفقة والجود والكرم، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون جوادًا كريمًا مُنفقًا، تقدمت الآيات والأحاديث في هذا: يقول جلَّ وعلا في كتابه العظيم: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، ويقول جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، ويقول سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، والآيات في هذا المعنى كثيرة في الحثِّ على النفقة والإحسان.

ويقول في حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق، أخت عائشة رضي الله عنهما جميعًا، يقول لها: لا تُوعي فيُوعي الله عليك، ولا تُوكي فيُوكي الله عليك، أنفقي، انفحي يعني: تصدَّقي، لا تُوكي يعني: لا تبخلي، والمقصود من هذا الحثّ على النفقة والإحسان وعدم البخل والشح، يقول الله جلَّ وعلا: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38]، فالمشروع للمؤمن أن يُنفق، وألا يُوعي، بل يُنفق ويُحسن على الفقير والمسكين والقرابة، يرجو ما عند الله جلَّ وعلا.

ويقول ﷺ: مثل البخيل والمتصدق مثل إنسانين عليهما جنتان من حديدٍ من ثديهما إلى ما حول الحلق إلى التراقي، فالمنفق كلما أراد النفقة سبغت واتَّسعت حتى تُغطي أثره، تُعفي أثره، وتُغطي قدميه، أما البخيل فكلما أراد أن يُنفق قلصت كل حلقةٍ وأمسكت مكانها واشتدت عليه، وذلك عبارة عمَّا في قلبه من الشحِّ والبخل، كلما أراد أن يتصدق أبت عليه نفسُه وشحُّه وبخلُه، كالممسك، كالذي عليه جنّة فيها حلقات تشتد عليه، أما ذاك الجواد الكريم فكلما أراد الصدقة انفسحت نفسه، وانشرح صدره، بمثابة الجنة: الدرع، الدرع ينفسح، كلما أراد انفسح وتوسع.

فالبخيل لما في نفسه من الشحِّ كلما أراد انقبضت نفسه، وخاف الفقر: ولأيش أُبذر مالي؟! لأيش أُخرج مالي؟! لأيش أتصدق؟! فتأبى عليه نفسه وشيطانه وشحُّه حتى يمسك، أما ذاك الجواد الكريم فكلما أراد أن يتصدق انشرح صدره، وانفسحت نفسه حتى يُنفق ويتصدق، هكذا يضرب الله الأمثال: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

فجدير بالمؤمن أن يُجاهد نفسه في النفقة والإحسان والجود والكرم يرجو ما عند الله من المثوبة.

كذلك يقول ﷺ: ما من عبدٍ يتصدق بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا تقبَّلها الله بيمينه، فيُربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فلوه -أو فصيله- حتى تكون مثل الجبل، تمرة يُربيها الربُّ: يُنميها له، ويُضاعفها له حتى تكون مثل الجبل، وتقدم قوله ﷺ: اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ، فلا يحتقر الإنسانُ الصدقةَ، يتصدق بما تيسر: درهم ودرهمين وخمسة وعشرة، صاع تمر، نصف الصاع، صاعين، كذلك من الحبوب، كسوة قليلة أو كثيرة، لا يستقلّها، يتصدق بما تيسر على حسب حاله، ولا يحتقر الصدقة، يقول ﷺ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.

19/561- وعن أبي هريرة، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: بيْنَما رَجُلٌ يَمشِي بِفَلاةٍ مِن الأَرض، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحَابَةٍ: اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ، فإِذا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوعَبَتْ ذلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإِذا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بمِسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَاللَّهِ، ما اسْمُكَ؟ قال: فُلانٌ، للاسْمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحَابَةِ، فقال له: يَا عَبْدَاللَّهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَال: إنِّي سَمِعْتُ صَوتًا في السَّحَابِ الَّذِي هذَا مَاؤُهُ يقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيها؟ فَقَالَ: أَما إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإني أَنْظُرُ إِلى مَا يَخْرُجُ مِنها، فَأَتَصَدَّقُ بثُلُثِه، وآكُلُ أَنا وعِيالي ثُلُثًا، وأَردُّ فِيها ثُلثَهُ رواه مسلم.

"الحَرَّةُ": الأَرضُ المُلْبَسَةُ حِجَارَةً سَودَاءَ.

"والشَّرْجَةُ" بفتح الشين المعجمة، وإِسكان الراءِ وبالجيم: هِيَ مسِيلُ الماءِ.

61- باب النَّهي عن البخل والشُّحِّ

قَالَ الله تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ۝ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:8- 11].

وقال تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

وأما الأحاديث فتقدمت جملةٌ مِنْهَا في الباب السابق.

1/562- وعن جابرٍ : أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قالَ: اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلمَاتٌ يوْمَ القِيامَة، واتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ؛ حَمَلَهُم عَلَى أَن سَفَكُوا دِمَاءَهم، واستحَلُّوا مَحَارِمَهُم رواه مسلم.

الشيخ: هذان الحديثان الصحيحان يدلان على شرعية الاجتهاد في النفقة والإحسان والجود، ومواساة الفقراء والمساكين، والحذر من البخل، فالبخل عاقبته وخيمة، كما قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وقال تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].

فالواجب على المؤمن أن يحذر البخل؛ وهو الشح والحرص على المال وعدم إنفاقه في وجوهه، يقال: "بخيل شحيح"، إذا كان حريصًا على المال، بخيلًا به قيل له: شحيح، والشح أشد من البخل، كما قال ﷺ: اتَّقوا الظلم، فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتَّقوا الشحَّ، فإنه أهلك مَن كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم.

وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: ما من يومٍ يُصبح فيه الناس إلا وفيه ملكان ينزلان، أحدهما يقول: اللهم أعطِ مُنفقًا خلفًا، والثاني يقول: اللهم أعطِ مُمسكًا تلفًا، والله يقول جلَّ وعلا:وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ويقول سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وفي الحديث الصحيح: أن رجلًا سمع صوتًا في السحاب يقول: اسقِ حديقةَ فلانٍ، اسقِ حديقةَ فلانٍ، فمرَّ بحرةٍ فيها شرجة، فيها متَّسع للزراعة، صبت فيه السحابة ماءها، فدخل الرجلُ إلى تلك الحرَّة وراء تلك الشرجة فوجد فيها إنسانًا يُحول الماء بمسحاته، يعني: يصرف الماء، يدبر الماء بالمسحاة في هذه المزرعة الصغيرة التي بين الحرَّات -بين الجبال- فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، ثم سأله عمَّا حمله على السؤال عن اسمه، قال: إني سمعتُ صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقةَ فلانٍ، اسقِ حديقة فلانٍ، يعني: ملك يقول للسحاب، يحكيه النبيُّ ﷺ عمَّن قبلنا، الرسول ﷺ يُخبرنا عن هذا الأمر فيمَن كان قبلنا، ثم قال له الرجل: أخبرني بما كنتَ تصنع بهذه الحديقة، قال: كنتُ أجعل غلتها ثلاثة أقسام، ثلاثة أثلاث: ثلث أتصدَّق به، وثلث آكله أنا وعيالي، وثلث أردّه فيها في نفقاتها، هذا هو السبب الذي جعل اللهُ السحابَ يصبّ ماءه في هذه الحرة؛ ما كان يفعله صاحبُها من الإحسان، وهو أنه كان يُنفق الثلث مما يحصل من المزرعة في وجوه البرِّ، والثلث الثاني لحاله ونفقته وعياله، والثالث للمزرعة نفسها، لحاجات المزرعة.

ففي هذا الحديث الحثّ على الإنفاق والإحسان والصدقة والجود والكرم، وأنها من أسباب توسعة الرزق، ومن أسباب الخلف من الله : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]، ويقول جلَّ وعلا: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، ويقول سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271].

نسأل الله أن يُوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح والإنفاق في سبيله والمسارعة إلى مراضيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

62- باب الإيثار والمُواساة

قَالَ الله تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

وقال تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، إلى آخر الآيات.

1/563- وعن أبي هُريرة قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إنِّي مَجْهُودٌ، فأَرسَلَ إِلى بَعضِ نِسائِهِ فَقَالت: والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا عِندِي إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حتَّى قُلْنَ كُلُّهنَّ مِثل ذَلِكَ: لا وَالذِي بعثَكَ بِالحَقِّ، مَا عِندِي إِلَّا مَاءٌ. فَقَالَ النبيُّ ﷺ: مَنْ يُضِيفُ هَذا اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِن الأَنْصارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلى رَحْلِهِ، فَقَال لامْرَأَتِهِ: أَكرِمِي ضَيْفَ رسولِ اللَّهِ ﷺ.

وفي روايةٍ: قَالَ لامرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيءٌ؟ فَقَالَتْ: لا، إِلَّا قُوتَ صِبيانِي، قال: عَلِّليهمْ بِشَيءٍ، وإِذا أَرَادُوا العَشَاءَ فَنَوِّميهِم، وإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئي السِّرَاجَ، وأَريهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَقَعَدُوا، وأَكَلَ الضَّيفُ، وبَاتا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَح غَدَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: لَقَد عَجِبَ اللَّه مِن صَنِيعِكُمَا بِضَيفِكُمَا اللَّيْلَةَ متفقٌ عليه.

2/564- وعنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: طَعَامُ الاثْنَينِ كَافِي الثَّلاثَةِ، وطَعامُ الثَّلاثَةِ كَافِي الأَربَعَةِ متفقٌ عَلَيْهِ.

وفي روايةٍ لمسلمٍ : عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: طَعَامُ الوَاحِد يَكفي الاثْنَيْنِ، وطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفي الأربَعَةَ، وطَعَامُ الأرْبعةِ يَكفي الثَّمَانِيَةَ.

3/565- وعن أَبي سعيدٍ الخُدريِّ قَالَ: بينَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَال رسولُ اللَّه ﷺ: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ، وَمَن كانَ لَهُ فَضْلٌ مِن زَادٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَن لا زَادَ لَهُ، فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأحدٍ مِنَّا في فَضْلٍ. رواه مسلم.

الشيخ: هذه الأحاديث مع الآيات كلها تدل على شرعية الإيثار والإحسان إلى المحاويج والضيف وإيثاره، وأنه يُسن للمؤمن أن يُؤثر على أهله عند الحاجة، كما يُسن له مواساة الفقراء والمحاويج والإحسان إليهم والجود والكرم على مَن يستحق ذلك، قال الله في وصف الأنصار مادحًا لهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وقال تعالى في مدح الجود والكرم: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:8- 9]، وقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، وقال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].

فجديرٌ بالمؤمن والمؤمنة العمل بمقتضى هذه الآيات، وذلك بالجود والكرم والإحسان، والإنفاق على المسكين والفقير، وقضاء دين المدين، والتفريج عن المعسرين والمكروبين، كل هذا مما يُحبه الله جلَّ وعلا.

في هذا الحديث الأول: أن ضيفًا جاء إلى النبي ﷺ، فسأل أبياته: هل عندكم شيء؟ كلهم قالوا: ما في إلا الماء. كل أزواجه عليه الصلاة والسلام ليس عندهم إلا الماء، هذا يدل على أنه ﷺ ابتُلي بكثيرٍ من الفقر والحاجة؛ لأنه ﷺ تأتيه الأموال فيُنفقها في الضيف، ومُواساة الفقراء، وتأليف قلوب الناس، تأتيه الأموال الكثيرة ويُنفقها في سبيل الله، فربما تمرّ عليه الأيام والليالي ما عنده شيء في بيته عليه الصلاة والسلام، كل واحدةٍ من أزواجه تقول: ما عندنا إلا الماء. فقال: مَن لهذا الضيف؟، فقال بعضُ الأنصار: أنا، فذهب به إلى أهله، وأمر أهله أن يُنوموا الصبيان، وأن يُقدموا له قوتهم، من باب الإيثار، فأخبرهم النبيُّ بعدما أصبح قال: إنَّ الله قد عجب لكما وما فعلتُما بضيفكما أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فالمؤمن يجود ويُنفق ويُحسن يرجو ما عند الله من المثوبة، والله سبحانه يُحب من عباده أن يجودوا ويُنفقوا ويُحسنوا، والله وعدهم الخلف: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

ويقول ﷺ: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وفي اللفظ الآخر: وطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية.

فالمؤمن يجود ويُحسن، والله يُنفق عليه، ويُخلف عليه ، ولا يبخل، ولا يشح، ولا يُسيئ الظنَّ، بل يجود ويُحسن ظنّه بربه، ويرجوه الخلف الجزيل: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.

الحديث الثالث فيه مثلما تقدم حثّهم لما رأى هذا الفقير: مَن كان له فضل ظهرٍ فليجُد به على مَن لا ظهر له، ومَن كان له فضل زادٍ فليجُد به على مَن لا زادَ له وهكذا؛ إن كان عندك فضل كسوةٍ فجد بها على مَن لا كسوةَ لها، وهكذا ما يحتاجه الناس، كل واحدٍ مشروع له أن يجود ويُحسن مما أعطاه الله ومما وسَّع الله عليه على الشخص أو الجماعة الذين يحتاجون ذلك.

وقد سبق أن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأةٌ ومعها بنتان لها تشحذ، فلم أجد في البيت إلا ثلاث تمرات، فأعطيتها إياها، فناولت كل بنتٍ تمرةً، ورفعت التمرة الثالثة لفمها لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها التمرة الثالثة؛ فشقَّتها بينهما نصفين ولم تأكل شيئًا، قالت عائشة: فأعجبني أمرها، فلما جاء النبي ﷺ أخبرته فقال: إنَّ الله أوجب لها بذلك الجنة يعني: بهذه الرحمة وهذا الإحسان.

وفيه أن أبيات النبي قد يقل فيها الطعام، قد لا يوجد فيها الطعام، مع أنه رسول الله ﷺ: أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فالذي أعطاه الله وجاد عليه وأحسن إليه فليجُد. رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

4/566- وعن سَهلِ بنِ سعدٍ : أَنَّ امرَأَةً جَاءَت إِلى رسول اللَّه ﷺ بِبُردةٍ مَنسُوجَةٍ، فَقَالَتْ: نَسَجتُها بِيَديَّ لأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحتَاجًا إِلَيهَا، فَخَرَجَ إِلَينا وَإِنَّهَا لإزَارُهُ، فَقَالَ فُلانٌ: اكسُنِيهَا، مَا أَحسَنَها! فَقَالَ: نَعَمْ، فَجلَس النَّبِيُّ ﷺ في المجلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَواهَا، ثُمَّ أَرسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ القَوْمُ: مَا أَحسَنْتَ؛ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيها، ثُمَّ سَأَلتَهُ، وَعَلِمتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ: إنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لألْبَسَها، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكانت كَفَنَهُ. رواه البخاري.

5/567- وعن أَبي موسى قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ الأشْعَرِيين إِذَا أَرملُوا في الْغَزْوِ أَو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِم بالمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا مَا كَانَ عِندَهُم في ثَوبٍ وَاحدٍ، ثُمَّ اقتَسَمُوهُ بَيْنَهُم في إِنَاءٍ وَاحِدٍ بالسَّويَّةِ، فَهُم مِنِّي وَأَنَا مِنهُم متفقٌ عَلَيْهِ.

"أَرمَلُوا": فَرَغَ زَادُهُم، أَو قَارَبَ الفَرَاغَ.

63- باب التَّنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يُتَبَرَّكُ فيه

قَالَ الله تَعَالَى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

1/568- وعن سهلِ بنِ سعدٍ : أَن رسولَ اللَّه ﷺ أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنهُ، وَعَن يَمِينِهِ غُلامٌ، وَعَن يسارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلام: أَتَأْذَنُ لِي أَن أُعْطِيَ هُؤلاءِ؟ فَقَالَ الغُلامُ: لا وَاللَّهِ يَا رسُولَ اللَّه، لا أُوثِرُ بِنَصيبي مِنكَ أَحَدًا، فَتَلَّهُ رسولُ اللَّه ﷺ في يَدِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ.

"تَلَّهُ" بالتاءِ المُثناةِ فوق، أَيْ: وَضَعَهُ، وَهَذَا الغُلامُ هُوَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما.

2/569- وعن أَبي هريرة ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: بيْنَا أَيُّوبُ يَغتَسِلُ عُريَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ رجل جَرَاد مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحثِي في ثَوبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ : يَا أَيُّوبُ، أَلَم أَكُنْ أغنيك عمَّا تَرَى؟ قال: بَلَى يا ربّ، وَلكِن لا غِنَى بي عَن بَرَكَتِكَ رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على شرعية الإيثار والإحسان والجود والكرم، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وقال جلَّ وعلا: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21]، وقال : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].

في هذا الحديث أنَّ رجلًا سأل النبي ﷺ بردةً كانت أُهديت إليه، وقد لبسها عليه الصلاة والسلام، فسأله بعضُ الصحابة تلك البُردة، فقال: نعم، فلما ذهب إلى بيته عليه الصلاة والسلام أرسل بها إليه، فلامه بعضُ الصحابة: كيف تسأله إياها وقد احتاج إليها عليه الصلاة والسلام؟! فقال: إني سألتُه إياها لتكون كفني، ما سألتُه إياها لألبسها، وإنما سألتُها لأكفن فيها. قال سهل: فكانت كفنه.

فهذا فيه جوده ﷺ؛ كونه ليس عنده الألبسة الكثيرة، وإنما كان عنده الشيء القليل، وكان يجود بما يسَّر الله له مع القلة، وهذا كله من كرم خلقه ﷺ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فكان يجود ويُحسن وإن قلَّ ما عنده، وجاءت عنه في هذا أحاديث كثيرة تدل على إيثاره وإحسانه للأمة، وإن كان عليه في ذلك بعض المشقة والضيق عليه الصلاة والسلام.

وفي حديث الأشعريين -جماعة أبي موسى الأشعري - كانوا إذا أرملوا –يعني: قلَّ مالهم- في الحضر أو في السفر جمعوا ما عندهم ثم اقتسموه بينهم، وهذا من كرم أخلاقهم، قال: هم مني وأنا منهم يعني: يُراعون فقيرهم وضعيفهم، يجمعون المال عندهم ويقسمونه بين غنيهم وفقيرهم؛ مواساةً وإحسانًا، وهذا من الجود والكرم، والله جلَّ وعلا يقول: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، وقال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، هذا من الجود والكرم والإحسان الذي يُمدح به المؤمن، ويُشكر عليه المؤمن.

وهكذا المنافسة في أمور الخير وعدم الإيثار به؛ كونه يُنافس في الخير ويحرص على الخير: من ذلك قصة الغلام الذي كان عن يمين النبي ﷺ، وعن يساره الأشياخ، وكان معه قدح فيه الماء أو اللبن، فقال: هل تأذن أن أُعطي اللبنَ الذين عن يساري؟ قال: لا، لا أُوثر بنصيبي منك أحدًا، ويُروى أنه ابن عباس، فتلَّه في يده؛ لأنَّ مَن كان عن اليمين أولى، مَن كان على يمينك فهو أولى بفضلتك ممن كان عن يسارك، إلا أن يأذن، فتلَّه في يده وأعطاه الفضلة.

كذلك قصة أيوب عليه الصلاة والسلام نبي الله: كان يغتسل ذات يوم، فأرسل الله عليه جرادًا من ذهبٍ؛ ابتلاءً وامتحانًا، فجعل يحثو في ثوبه من الجراد الذهب، فقال له الله: يا أيوب، ألم أُغنك عن هذا؟ فقال: بلى يا ربّ، ولكن لا غنى بي عن بركتك يعني: هذه بركة منك، فضل منك إنزال هذا الجراد من الذهب، فأنا لا أستغني عن بركتك.

فهذا فيه أن الإنسان يأخذ بالأسباب، ويطلب الرزق: كالصيد، والاحتشاش، والاحتطاب، ونحو ذلك، يطلب الرزق؛ ولهذا قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور، كون الإنسان يكسب: يحتشّ، يحتطب، يقبل الهدية من أخيه لا بأس بذلك في طلب الرزق، إذا كانت هدية لا يترتب عليها محذور، وكذلك إذا يسَّر الله له الرزق من غير طلبٍ قبله، مثلما قال ﷺ لعمر: ما جاءك من هذا المال وأنت غير مُشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تُتبعه نفسك، كذلك إذا رزق الله العبدَ مالًا لا منةَ فيه لأحدٍ يأخذه؛ رزقه الله صيدًا، أو معدنًا، أو ركازًا، أو ما أشبه ذلك يأخذه، ويستعين به على طاعة الله. وفَّق الله الجميع.

64- باب فضل الغَنِيِّ الشاكر

وهو مَن أخذ المال من وجهٍ وصرفه في وجوهه المأمور بِهَا

قَالَ الله تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5- 7]، وقال تَعَالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ۝ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ۝ وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ۝ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:17- 20]، وقال تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271]، وقال تَعَالَى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92].

والآيات في فضلِ الإنفاقِ في الطاعاتِ كثيرة معلومة.

1/570- وعن عبدِاللَّهِ بنِ مسعودٍ قال: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لا حَسَدَ إِلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، ورَجُلٌ آتَاه اللَّهُ حِكْمَةً، فُهو يَقضِي بِها وَيُعَلِّمُهَا متفقٌ عَلَيْهِ، وتقدم شرحه قريبًا.

2/571- وعن ابْنِ عمر رضي اللَّه عنهما، عن النَّبي ﷺ قَالَ: لا حَسَد إِلَّا في اثنَتَين: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّه القُرآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيل وآنَاءَ النَّهارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّه مَالًا، فهوَ يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وآنَاءَ النَّهارِ متفقٌ عليه.

"الآنَاءُ" السَّاعَاتُ.

3/572- وعَن أبي هُريرة : أَنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رسولَ اللَّه ﷺ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجاتِ العُلَى والنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقَال: ومَا ذَاكَ؟ فَقَالُوا: يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، ويَعتِقُونَ وَلا نَعتقُ، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيئًا تُدرِكُونَ بِهِ مَنْ سبَقَكُمْ، وتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُم إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثلَمَا صَنَعْتُم؟ قالوا: بَلَى يَا رسولَ اللَّه، قَالَ: تُسبِّحُونَ، وتحمَدُونَ، وتُكَبِّرُونَ دُبُر كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ مَرَّةً، فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ فَقَالُوا: سمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَموَالِ بِمَا فَعلْنَا، فَفَعَلوا مِثْلَهُ! فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يشَاءُ متفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذا لفظ روايةِ مسلم.

"الدُّثُورُ": الأَموالُ الكَثِيرَةُ، واللَّه أعلم.

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث كلها تتعلق بالمفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، والحثّ على الإنفاق والجود والكرم والإحسان والتوسع في أعمال الخير، وأن مَن توسَّع في أعمال الخير أفضل من الفقير العاجز، وإن كان الفقير العاجز بنيته الصادقة يُدرك مدرك أهل الخير والإيثار، يقول الله جلَّ وعلا: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5- 7]، ويقول جلَّ وعلا: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان:8- 9]، ويقول جلَّ وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]، ويقول جلَّ وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].

والآيات في هذا كثيرة تدل على فضل النفقة والمسارعة إلى الخيرات، كما قال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133- 136]، ويقول سبحانه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

فالآيات هذه كلها تدل على فضل المسابقة إلى الخيرات، والمنافسة في الخير: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

فجدير بأهل الإيمان أن يتنافسوا في الخيرات والأعمال الصالحات: من صلاةٍ وصومٍ وصدقات وحجٍّ، وإنفاقٍ في سبيل الله، وأمرٍ بالمعروف، ونهي عن منكرٍ، ودعوةٍ إلى الله ، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وغير هذا من وجوه الخير، المؤمن يُسابق ويحرص على ألا تفوته سنة وقربة حسب الطاقة، وهو بذلك أفضل من المتقاعس، وأفضل من الفقير العاجز عن ذلك، لكن متى صدق الفقيرُ في نيته، وأنه لو قدر لفعل صار له مثل أجره، صاروا في الأجر سواء، كما تقدم في الحديث: أنَّ مَن أعطاه الله مالًا فأنفقه في سبيل الله: خير الناس رجل أعطاه الله مالًا فسلَّطه على نفقته في الحقِّ، وآخر أعطاه الله علمًا، وليس عنده مال، فقال: لو كان لي مثل فلانٍ لعملتُ مثل عمله، فهما في الأجر سواء يعني: هذا بعمله الصالح، وهذا بنيته الصادقة.

وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فهو يُنفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلِّمها يعني: العلم، ورأس العلم: القرآن، وفي اللفظ الآخر: لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فهو يُنفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله القرآنَ فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، والقرآن هو رأس الحكمة.

فالذي رزقه الله القرآنَ والعلمَ والحكمةَ فقضى بذلك وعمل بذلك ليلًا ونهارًا في درجةٍ عاليةٍ، له درجة عالية، والرجل الذي أعطاه الله مالًا وأنفقه في وجوه الخير وسارع إلى وجوه الخير في درجةٍ عظيمةٍ، والآخر الذي أعطاه الله علمًا ورغبةً في الخير، ولكن ليس عنده مال؛ يكون مثل مَن أنفق بنيته، يكون له الأجر مثل مَن أنفق إذا صدق في النية، وأنه لو كان له مثل فلانٍ لعمل مثل عمله، ولكن منعه العجز، وهذا فضلٌ من الله، وخيرٌ من الله عظيم جلَّ وعلا.

ومن ذلك قصة فقراء المهاجرين، قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور -يعني بأهل الدثور: أهل الأموال- يُصلون كما نُصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويعتقون ولا نعتق! قال لهم الرسولُ ﷺ: أفلا أدلكم على شيءٍ تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون مَن بعدكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تُسبحون وتحمدون وتُكبرون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرة يعني: بتسبيحهم وتهليلهم وتكبيرهم يُدركون مَن سبقهم في الخير، إذا منعهم من الصدقة بالمال عدم وجود المال، وهم لهم النية الصالحة، فالأعمال التي قدروا عليها من التَّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والتَّكبير ونحو هذا من وجوه الخير تقوم مقام إنفاق أولئك من الأموال، ثم رجعوا إليه فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال ففعلوا مثلنا، يعني: مع نفقاتهم العظيمة وجودهم فعلوا مثلنا في التَّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والتَّكبير، قال النبي ﷺ: ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، إذا جمع الله للغني مع الأعمال الطيبة، والإنفاق في سبيل الله؛ العمل الآخر -العمل البدني- من التَّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والتَّكبير والإكثار من قراءة القرآن وغير هذا من وجوه الخير؛ فذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.

فالمؤمن يحرص على أعمال الخير، ويجتهد في وجوه الخير، وتكون له النية الصالحة التي يُدرك بها أعمال الخير التي لم يستطعها، لكن بنيته الصادقة وعلمه بها ورغبته فيها تقوم هذه النية الصادقة والرغبة الصادقة مقام العمل بما فعله الآخرون، هذا فضل الله يُؤتيه مَن يشاء جلَّ وعلا. وفَّق الله الجميع.

65- باب ذكر الموت وقصر الأمل

قَالَ الله تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

وقال تَعَالَى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].

وقال تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

وقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۝ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9- 11].

وقال تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ۝ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ۝ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ إِلَى قَوْله تَعَالَى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۝ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ۝ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:99- 115].

وقال تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

وَالآيات في الباب كَثيرةٌ معلومة.

1/573- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسولُ اللَّه ﷺ بِمنكِبِي فَقَالَ: كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عابرُ سَبِيلٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي اللَّه عنهما يقول: إِذا أَمسَيتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِن صِحَّتِكَ لمَرَضِك، وَمِن حَيَاتِكَ لمَوتِكَ. رواه البخاري.

2/574- وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ قال: ما حَقُّ امْرِئٍ مُسلِمٍ لَهُ شَيءٌ يُوصِي فِيهِ يبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ متفقٌ عَلَيْهِ. هَذَا لفظ البخاري.

وفي روايةٍ لمسلمٍ: يَبِيتُ ثَلاثَ لَيَالٍ.

قَالَ ابن عمر: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنذُ سَمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ ذلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.

3/575- وعن أَنسٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خُطُوطًا فَقَالَ: هَذا الإِنسَانُ، وَهَذا أَجَلُهُ، فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ إِذ جَاءَ الخَطُّ الأَقْرَبُ رواه البخاري.

الشيخ: هذه الآيات الكريمات والأحاديث النبوية عن رسول الله عليه الصلاة والسلام كلها تدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يستعدَّ للموت، وأن يحذر الاغترار بطول الأمل، وأن يكون دائمًا على حذرٍ؛ لأن الموت يهجم على غرةٍ، وأنت لا تدري متى يفجأك الأجل، فالحزم والكيس أن تعدَّ العدة دائمًا، وأن تكون على حذرٍ، وعلى عملٍ صالحٍ، وتوبةٍ صادقةٍ دائمًا دائمًا في ليلك ونهارك؛ لأنَّ الله يقول: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]، ويقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وقال سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، فأنت لا تدري متى يهجم عليك الأجلُ، لا يعلم الغيب إلا الله ، فالحزم والكيس في حقِّك أن تعدَّ العدة دائمًا، وأن تكون مستقيمًا على طاعة ربك، مُبتعدًا عن معاصيه، مُلازمًا للتوبة حتى تلقى ربَّك، هذا هو الحزم؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۝ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18- 19].

فالإنسان لا يدري ماذا يكسب غدًا؟ ولا يدري متى يهجم الأجل؟ كم من خارجٍ من بيته لم يرجع إليه؟ وكم من مُمْسٍ لم يُصبح؟ وكم من مُصْبِحٍ لم يُمْسِ؟ والحوادث لا تُحصى، وأسباب الموت لا تحصى، والأجل يأتي على غرةٍ، فالحازم والكيس هو الذي يعدّ العدة ولا يغفل، يقول ﷺ: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجلُ فيها مسلمًا ويمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا، ويقول: بادروا بالأعمال، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضًا مُفسدًا، أو هرمًا مُفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال، فالدجال شرُّ غائبٍ يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمرّ؟.

ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: أخذ الرسول بمنكبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا عبدالله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل يعني: استعدّ للآخرة، الغريب يشتغل بزاده -زاد السفر- الغريب شغله في زاد السفر حتى يصل لأهله: كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل، عابر السبيل هو الغريب، شكّ من الراوي، والمعنى: استعدّ للآخرة، كن على أهبةٍ دائمًا.

وكان ابن عمر يقول : "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" يعني: يُوصي إخوانه بهذا، هكذا يكون المستعدّ؛ يأخذ من صحته لمرضه، ومن حياته لموته، ويكون على استعدادٍ في ليله ونهاره.

ويُروى عنه أنه قال: بادروا بالأعمال خمسًا قبل خمسٍ –يعني- اغتنم صحَّتك قبل مرضك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، فالمؤمن هكذا يُحاسب نفسه ويُجاهدها لعله ينجو.

كذلك قوله ﷺ: ما حق امرئٍ مسلم له شيء يريد أن يُوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده، يريد أن يُوصي بشيءٍ: ديون عليه، أو يُوصي بوقفٍ أو صدقات يُبادر، قد يهجم عليه الأجل: ما حقّ امرئ مسلم له شيء يُريد أن يُوصي فيه يبيت ليلتين -وفي روايةٍ: ثلاث ليال- إلا ووصيته مكتوبة عنده، أحبَّ أن يُوصي بالثلث، بالربع، بالخمس، أو ديون عليه، أو حقوق يُوصي بها؛ حتى لا ينساها، وحتى لا يغفلها الورثة، يُوصي بما يلزم.

قال ابن عمر: ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعتُ رسول الله إلا ووصيتي عندي. بادر بالامتثال .

كذلك خطَّ خطوطًا وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله، ثم خطَّ خطوطًا أخرى، العوارض هذا أجله، وهذه الخطوط: هذا قد يأتيه كذا، وقد يأتيه، قد يُصيبه المرض الفلاني، قد يُصيبه المرض الفلاني، لا يدري متى يهجم عليه الأجل، هو بعيد الأمل، قد يغفل عن أسباب الموت، وأمله طويل، وقد يكون أجله قريبًا.

فالمؤمن يُلاحظ الحذر، ويُلاحظ أنَّ الموت يأتي بغتةً، وأنه لا يدري متى يهجم عليه الأجل، فالحزم والكيس أن يعدَّ العدة دائمًا في ليله ونهاره.

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

س: هل زيارة القبور من أسباب التذكير بالموت؟

ج: النبي ﷺ قال: زوروا القبور؛ فإنها تُذكركم الآخرة، زيارة القبور من أسباب تذكير الموت، زوروا القبور؛ فإنها تُذكركم الآخرة، وفي لفظٍ: تُذكركم الموت.

س: الحديث الأخير هل يدل على وجوب كتابة الوصية على كل مسلمٍ؟

ج: يدل على شرعيتها من حقٍّ، أن يُبادر ويُسارع إذا كان عنده شيء يُوصي فيه، أما إذا كانت ديون ما عليها بينات فيجب عليه إذا كانت عليه ديون ما عليها بينات أن يُوصي بها، وأن يُبينها؛ حتى لا تضيع على أهلها، أما الوصية بالثلث أو بالربع فمثلما قال النبي لسعدٍ؛ مستحبة وليست بلازمةٍ، لكن إذا أحبَّ أن يُوصي يُبادر.

س: ما حكم ذكر الموت؟

ج: يُستحب ذكره دائمًا كما في الحديث: أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت، الإكثار من ذكره، يكون على البال، هذا يُعينه على الاستعداد، الغفلة عنه من أسباب عدم الاستعداد، وكونه على البال من أسباب الاستعداد للقاء الله.

4/576- وعن ابن مسعُودٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الْوَسَطِ خَارِجًا منْهُ، وَخَطَّ خُططًا صِغَارًا إِلى هَذَا الَّذِي في الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي في الوَسَطِ، فَقَالَ: هَذَا الإِنسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطًا بِهِ –أَوْ: قَد أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْراضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذا نَهَشَهُ هَذا رواه البخاري. وَهَذِهِ صُورَتهُ.

5/577- وعن أبي هريرة : أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا: هَل تَنْتَظِرُونَ إلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَو غِنًى مُطغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَو مَوتًا مُجْهِزًا، أَو الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وأَمَرُّ؟ رواهُ الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ.

6/578- وعنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعني: المَوْتَ. رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.

7/579- وعن أُبي بن كعبٍ : كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ إِذا ذَهَبَ ثُلثُ اللَّيْلِ قامَ فقالَ: يَا أَيها النَّاسُ، اذْكُرُوا اللَّه، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ، جاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ، جاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ، قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لكَ مِن صَلاتي؟ قال: مَا شِئْتَ، قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: مَا شئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لكَ، قُلْتُ: فَالنِّصْفَ؟ قالَ: مَا شِئْتَ، فإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيرٌ لكَ، قُلْتُ: فَالثُّلثَينِ؟ قالَ: مَا شِئْتَ، فإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيرٌ لكَ، قُلْتُ: أَجْعَلُ لكَ صَلاتي كُلَّها، قَالَ: إذًا تُكْفَى هَمَّكَ، ويُغْفَر لكَ ذَنْبُكَ رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على أنَّ الإنسان ينبغي له أن يحذر الاغترار بطول الأمل، وأن يستعدَّ للآخرة، وأن يحذر هجوم الموت على غرةٍ، فالإنسان محيط به أجله، وأنواع البلايا تُحيط به، وآماله طويلة كما بيَّن النبيُّ ﷺ وصوَّر ذلك، فينبغي للمؤمن ألا يغرَّه الأملُ، وألا يخدعه الأمل فيقع في طاعة الشيطان والهوى؛ فيهجم عليه الأجل وهو على غرةٍ، بل ينبغي له أن يستعدَّ للآخرة، وأن يحذر التساهل بأمر الله، أو ركوب محارم الله، فالموت يأتي بغتةً؛ ولهذا قال ﷺ: بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضًا مُفسدًا، أو هرمًا مُفندًا يعني: يتغير معه العقل أو موتًا مُجهزًا، أو الدجال، فالدجال شرُّ غائبٍ يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر؟.

وفي اللفظ الآخر: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل فيها مسلمًا ويُمسي كافرًا، ويمسي مسلمًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا.

فالمؤمن يحذر ويستعدّ للآخرة، ويجتهد في طاعة الله ورسوله لعله ينجو، لعله يسلم، فكم من مغرورٍ بالأمل هجم عليه الأجلُ وهو على غرةٍ فندم غاية الندامة.

وأما حديث أُبي وصلاته على النبي ﷺ فالمعنى: أنه كانت له صلاة محدودة، يعني: دعوات يدعو بها، فقال له: كم أجعل لك يا رسول الله منها: ربعها، ثلثها؟ حتى قال: أجعلها كلها، يعني: كل وقتي الذي أعددته للدعاء أجعله صلاةً عليك، اللهم صلِّ عليه وسلم.

هذا فيه الدلالة على أنَّ الصلاة على النبي ﷺ من أسباب تفريج الهموم، وإزالة الغموم: إذًا تُكفى همّك، ويُغفر ذنبك، فالإكثار من الصلاة على النبي ﷺ من أسباب غفران الذنوب، ومن أسباب تفريج الهموم؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، ويقول ﷺ: مَن صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

فيُستحب للمؤمن الإكثار من الصلاة على النبي ﷺ في جميع الأوقات، مع الإكثار من ذكر الله والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، يرجو ثواب الله، ويخشى عقابه، ويحذر هجوم الأجل وهو على غرةٍ.

رزق الله الجميع التوفيق والهداية.

وحديث: أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني: قاطع اللذات، هاذم بالهذم: وهو القطع، يعني: الموت، ينبغي للإنسان أن يكون على باله الموت، لا يغفل عن الموت، فإن ذكرَ الموت يُسبب الجدَّ في طاعة الله، ويُسبب قصر الأمل، ويُسبب الحذر من السيئات، والغفلة عن الموت من أسباب الغفلة عن الأعمال الصالحات، الله المستعان.

66- باب استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر

1/580- عن بُرَيْدَةَ قَالَ: قالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيارَة القُبُورِ فَزُوروها رواهُ مسلم.

2/581- وعن عائشَةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: كَانَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ كُلَّما كَانَ لَيْلَتها منْ رسول اللَّه ﷺ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلى البَقِيعِ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ، وأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ رواهُ مسلم.

3/582- وعن بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ إِذا خَرَجُوا إِلى المَقابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُم: السَّلامُ عَلَيكُمْ أَهْل الدِّيارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّه لَنَا وَلَكُمُ العافِيَةَ رواه مسلم.

4/583- وعن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما قال: مَرَّ رسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقُبورٍ بالمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بوَجْهِهِ فقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ، أَنْتُم سَلَفُنا ونحْنُ بالأَثَرِ رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسن.

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة كلها تتعلق بزيارة القبور، وزيارة القبور سنة مؤكدة للرجال؛ لما فيها من التذكير بالآخرة، والتذكير بالموت، والتزهيد في الدنيا؛ فلهذا أمر بها الرسولُ ﷺ؛ ليزهد الناس في الدنيا، ويرغبوا في الآخرة، ويعدوا العدة للأجل.

يقول ﷺ: زوروا القبور؛ فإنها تُذكركم الآخرة، وفي اللفظ الآخر: فإنها تُذكركم الموت، فالزيارة فيها مصالح للحي: لذكر الآخرة، وذكر الموت، والاستعداد، وللميت: بالدعاء له بالمغفرة والرحمة.

وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر لأصحابه، كان يُعلِّمهم إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، فالمسلم يقول هكذا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لهم وارحمهم.

وكان ربما زار القبور في آخر الليل فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، غدًا مُؤجلون، أتاكم ما توعدون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، فهذا يدل على أنَّ الزيارة تكون بالليل والنهار، مَن شاء زار في النهار، ومَن شاء زار في الليل.

وهكذا في الحديث الآخر لما زار البقيع قال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر.

وجاء في الحديث لعن زائرات القبور من النساء، فالنساء لأنَّ صبرهن قليل، ولأنهن فتنة نُهين عن زيارة القبور، كان في الأول نهي الجميع عن الزيارة، ثم أذن للجميع، ثم خصَّ الله الزيارة بالرجال دون النساء؛ لما في زيارة النساء من الفتنة وقلة الصبر، فالواجب على النساء الكفّ عن ذلك، أما الرجال فإنَّ السنة لهم زيارة القبور.

وفي الحديث: لعن رسولُ الله زائرات القبور من النساء، والمتخذين عليها مساجد والسرج. فالقبور لا يجوز البناء عليها، ولا اتّخاذ المساجد عليها، ولا إسراجها؛ لأنَّ هذا يُسبب الفتنة بها؛ ولأنَّ هذا من فعل عباد القبور، فلا يُبنى عليها بنية، ولا يُبنى عليها مسجد، ولا قبة، ولا يتّخذ عليها سرج؛ لأنَّ هذا من أسباب الفتنة والغلو الذي يفعله عباد القبور؛ فلهذا لعن رسولُ الله مَن فعل ذلك عليه الصلاة والسلام، وقال ﷺ: ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك، وقال: لعن الله اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، كل هذا من باب التَّحذير من فعل اليهود والنصارى، وإنما المقصود الدعاء لهم فقط، يُزارون للدعاء لهم والترحم عليهم، لا للغلو فيهم ودعائهم من دون الله، أو التَّمسح بقبورهم، أو التوسل بهم، لا، يُزارون لذكر الآخرة، وذكر الموت، ويُدعا لهم فقط: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يغفر الله لنا ولكم، هذا الدعاء، هم محتاجون للدعاء.

أما ما يفعله المشركون من التَّعلق عليهم، ودعائهم من دون الله، والاستغاثة بهم، فهذا هو الشرك الأكبر، هذا دين المشركين، نعوذ بالله، واتّخاذ المساجد عليها، واتّخاذ القباب عليها من وسائل الشرك، ومن ذرائعه، كما يُفعل في كثيرٍ من الأمصار، فالواجب منع ذلك؛ ولهذا نهى رسولُ الله أن يُجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه؛ لأنَّ البناء عليه وتجصيصه من أسباب الغلو فيه، فوجب الحذر من ذلك.

وفَّق الله الجميع.

س: .............؟

ج: إن رفع يديه فلا بأس، تقول عائشة: رفع يديه، النبيُّ لما سلَّم عليهم رفع يديه ودعا عليه الصلاة والسلام.

س: ............؟

ج: إذا مرَّ عليهم وسلَّم لا بأس.

س: ............؟

ج: هو من باب الزِّيارة.

س: .............؟

ج: من أي جهةٍ، من أي جهةٍ.