من قوله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ..)

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ۝ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:27-28].
كان رسول الله ﷺ قد رأى في المنام أنه دخل مكة، وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح، ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل، وقع في نفس بعض الصحابة من ذلك شيء، حتى سأل عمر بن الخطاب في ذلك فقال له فيما قال: أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال النبي ﷺ: فإنك آتيه، ومطوف به، وبهذا أجاب الصديق أيضًا حذو القذة بالقذة، ولهذا قال تبارك وتعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الشيخ: قد دخلوه عام القضاء، دخلوه في السنة السابعة، صدوا في السنة السادسة، ثم دخلوا في السنة السابعة، وطافوا، وحقق الله ما أخبر به نبيه ﷺ.
هذا لتحقيق الخبر، وتوكيده، وليس هذا من الاستثناء في شيء.
وقوله : آمِنِينَ، أي: في حال دخولكم. وقوله: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، حال مقدرة؛ لأنهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين ومقصرين، وإنما كان هذا في ثاني الحال.
كان منهم من حلق رأسه، ومنهم من قصره، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ: والمقصرين في الثالثة، أو الرابعة.
وقوله : لَا تَخَافُونَ حال مؤكدة في المعنى، فأثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد، وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي ﷺ لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة، والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه بعضها عنوة، وبعضها صلحًا، وهي إقليم عظيم كثير النخل، والزرع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب، وأصحابه، وأبو موسى الأشعري، وأصحابه ، ولم يغب منهم أحد، قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه، ثم رجع إلى المدينة.
فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج ﷺ إلى مكة معتمرًا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى، وسار أصحابه يلبون. فلما كان ﷺ قريبًا من مر الظهران بعث محمد بن سلمة بالخيل، والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعبًا شديدًا، وظنوا أن رسول الله ﷺ يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله ﷺ فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي، والنبل، والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد ما عرفناك تنقض العهد، فقال ﷺ: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، والقسي، والرماح.
فقال ﷺ: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج. فقال: بهذا عرفناك بالبر، والوفاء، وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله ﷺ، وإلى أصحابه غيظا، وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال، والنساء، والولدان، فجلسوا في الطرق، وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله، وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبدالله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها، وهو يقول:
باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ضربًا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله
يا رب إني مؤمن بقيله.  
فهذا مجموع من روايات متفرقة.
قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر بن حزم قال: لما دخل رسول الله ﷺ مكة في عمرة القضاء دخلها وعبدالله بن رواحة آخذ بخطام ناقته ﷺ، وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله إني شهيد أنه رسوله
خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
وقال عبدالرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك ، قال: لما دخل رسول الله ﷺ مكة في عمرة القضاء مشى عبدالله بن رواحة بين يديه، وفي رواية: وابن رواحة آخذ بغرزه، وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله
اليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله  
س: الجزم، اليوم نضربكم، سبب الجزم؟
الشيخ: للضرورة الشعرية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل -يعني ابن زكريا-، عن عبدالله -يعني ابن عثمان-، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله ﷺ لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله ﷺ أن قريشًا تقول ما يتباعثون من العجف.
الشيخ: يعني من الضعف، والعجز.
فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال ﷺ: لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم، فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا، وحشا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله ﷺ حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر، فاضطبع ﷺ بردائه، ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة، فاستلم الركن، ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما ترضون بالمشي، أما إنكم لتنقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة. قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ فعل ذلك في حجة الوداع.
الشيخ: ليرى المشركون نشاطهم وقوتهم، رمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ومشى بين الركنين، لكن بحجة الوداع أمرهم أن يرملوا الأشواط كلها من الحجر إلى الحجر، واستقرت سنة طواف القدوم الرمل في الثلاثة الأولى من الحجر إلى الحجر، أما في عمرة القضاء فكانوا يمشون بين الركنين؛ لأنهم يختفون عن قريش، فكانت قريش من جهة الحجر.
س: عندنا ما يتباعثون من العجف؟
الشيخ: أي نعم من الضعف، من العجف، المرض، والضعف.
س: قول القائل: باسمك لغير الله، بمنزلة الحلف؟
الشيخ: يختلف إن كان يستعين به ما يجوز، أما يخبر أنا دخلنا باسمه أو بأمره أو بتوجيهه، فهذا لا بأس به.
س: البدء بالطواف من الركن اليماني؟
الشيخ: لا، البدء بالحجر الأسود، الطواف بالحجر الأسود.
س:........
الشيخ: الزائد لاغي، البدء من اليماني لاغي، إنما يحسب له من الحجر الأسود.
وقال أحمد أيضًا: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله ﷺ، وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها سوءًا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرًا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه ﷺ على ما قالوا، فأمر رسول الله ﷺ أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي ﷺ أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم. فقال المشركون: أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا، وكذا. أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
وفي لفظ: قدم النبي ﷺ، وأصحابه صبيحة رابعة -يعني من ذي القعدة-، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتم حمى يثرب، فأمرهم النبي ﷺ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
قال البخاري: وزاد ابن سلمة -يعني حماد بن سلمة-، عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي ﷺ لعامه الذي استأمن قال: ارملوا ليرى المشركين قوتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.
الشيخ: يعني شمالًا من جهة الحجر نعم.
وحدثنا محمد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى النبي ﷺ بالبيت، وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته.
ورواه في مواضع أخر، ومسلم، والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وقال أيضا: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله ﷺ سترناه من غلمان المشركين، ومنهم، أن يؤذوا رسول الله ﷺ، انفرد به البخاري دون مسلم.
وقال البخاري أيضًا: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا فليح، وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله ﷺ خرج معتمرًا، فحال كفار قريش بينه، وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحًا عليهم إلا سيوفًا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر ﷺ من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثًا أمروه أن يخرج فخرج ﷺ، وهو في صحيح مسلم أيضًا.
وقال البخاري أيضًا: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر النبي ﷺ في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر بهذا، ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئًا، ولكن اكتب محمد بن عبدالله. قال ﷺ: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبدالله ثم قال ﷺ لعلي بن أبي طالب : امح رسول الله قال : لا والله لا أمحوك أبدًا، فأخذ رسول الله ﷺ الكتاب، وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدًا إن أراد أن يقيم بها.
فلما دخلها، ومضى الأجل أتوا عليًا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي ﷺ فتبعته ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي، وزيد، وجعفر فقال علي : أنا أخذتها، وهي ابنة عمي. وقال جعفر : ابنة عمي، وخالتها تحتي، وقال زيد : ابنة أخي، فقضى بها النبي ﷺ لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي : أنت مني، وأنا منك، وقال لجعفر : أشبهت خلقي، وخلقي، وقال ﷺ لزيد : أنت أخونا، ومولانا، قال علي : ألا تتزوج ابنة حمزة ؟ قال ﷺ: إنها ابنة أخي من الرضاعة تفرد به من هذا الوجه.
وقوله تعالى: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أي: فعلم الله من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة، ودخولكم إياها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ أي: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي ﷺ فَتْحًا قَرِيبًا، وهو الصلح الذي كان بينكم، وبين أعدائكم من المشركين.
ثم قال تبارك وتعالى مبشرًا للمؤمنين بنصرة الرسول ﷺ على عدوه، وعلى سائر أهل الأرض هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أي: بالعلم النافع، والعمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم، وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول.
الشيخ: وهو المراد بقوله: الهدى أهل العلم، ودين الحق هذا الشرع يعني بالعلم النافع، والعمل الصالح، بعثه الله بالعلم النافع، والعمل الصالح.
س: كتابة النبي ﷺ آية من آيات الله؟
الشيخ: نعم هذا من تعليم الله له، ومعجزاته.
فإخباراتها حق، وإنشاءاتها عدل لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي: على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض من عرب، وعجم، ومليين، ومشركين، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا أي: أنه رسوله، وهو ناصره، والله أعلم.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
يخبر تعالى عن محمد ﷺ أنه رسوله حقًا بلا شك، ولا ريب، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وهذا مبتدأ، وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ كما قال : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].
وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكفار، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، وقال النبي ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى، والسهر. وقال ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك ﷺ بين أصابعه. كلا الحديثين في الصحيح.
الشيخ: هذا هو الواجب على المؤمنين أن يكونوا متحابين متعاونين على البر، والتقوى، متناصحين، بينهم الرقة، والكلام الطيب، والأسلوب الحسن، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، أما مع الكفار فهم أهل شدة، وغلظة حتى يسلموا، وإذا دعت الحاجة إلى عدم الغلظة لرجاء إسلامه فلا بأس، يعمل ما هو الأصلح، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، فالمؤمن يعمل ما هو الأصلح.
س: إذا بدأ الكفار بالمصافحة؟
الشيخ: الأقرب -والله أعلم- أنه لا بأس، مثل لو بدأوه بالسلام لكن لا يبدأهم.
وقوله : تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قال: الخشوع. قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبًا من فرعون. عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: من كثرت صلاته بالليل حسن، وجهه بالنهار والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته.
الشيخ: والمعنى أن الله جل وعلا يضفي عليهم البهاء والنور على أعمالهم الصالحة، وتقواهم لله ، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ الانبساط، والانشراح، ونور الوجه، وطيب الكلام، كل ذلك من آثار أعمالهم الصالحة.
س: قد لا يظهر أثر الصلاح في الوجه؟
الشيخ: قد يقع هذا من بعض الناس، وقد يكون عنده أعمال أخرى تخالف ذلك.
الطالب: إسماعيل بن محمد الطلحي، وليس الصالحي.
الشيخ: عندك الصالحي؟
الطالب: نعم.
الشيخ: أيش عندك؟ شف التقريب.
الطالب: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن يحيى بن زكريا بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي الطلحي الكوفي.
الشيخ: نسبة إلى جده طلحة، كذا عندكم في التقريب؟ إسماعيل بن محمد الطلحي.
الطالب: إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن يحيى بن زكريا بن يحيى بن طلحة التيمي الطلحي الكوفي، صدوق يهم، من العاشرة. (ق).
الشيخ: صلحه الطلحي نسبة إلى طلحة بين عبيد الله صوابه الطلحي في الحاشية.
س: قوله: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبًا من فرعون؟
الشيخ: يعني أثر السجود قد يكون من إنسان ما هو مستقيم، قد يكون عنده عبادة، ولكن عنده أعمالًا أخرى تخالف ذلك.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمود بن محمد المروزي، حدثنا حامد بن آدم المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن سلمة بن كهيل، عن جندب بن سفيان البجلي قال: قال النبي ﷺ: ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر العرزمي متروك.
الشيخ: نعم، لأنه ضعيف مثل ما قال المؤلف، وإنما هو محفوظ من كلام عثمان (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها) ويروي عروة عن عمر أيضًا .
الطالب: العزرمي بتقديم الزاء.
الشيخ: لا، العرزمي بالراء، محمد بن عبيد الله العرزمي ضعيف مثل ما قال المؤلف متروك، أما عبدالملك بن أبي سليمان العرزمي ثقة من رجال مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد ، عن رسول الله ﷺ أنه قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا زهير، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان، أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة، ورواه أبو داود عن عبدالله بن محمد النفيلي عن زهير به، فالصحابة خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم، وهديهم.
وقال مالك : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله ﷺ.
الشيخ: كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وأفضلهم أصحاب النبي ﷺ.
وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة، والأخبار المتداولة، ولهذا قال هاهنا: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، ثم قال: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: فراخه، فَآزَرَهُ أي: شده، فَاسْتَغْلَظَ أي شب، وطال، فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي: فكذلك أصحاب رسول الله ﷺ آزروه، وأيدوه، ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع، لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله عليه في رواية عنه، بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك، والأحاديث في فضل الصحابة ، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة.
الشيخ: لا يبغضهم إلا كافر، من أبغض الصحابة لا شك أنه مريض القلب ميت القلب -نسأل الله العافية-، لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق كافر -نسأل الله العافية-. هم حملة الشرع، وهم من أولياء الله، وهم من خير هذه الأمة.
ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
ثم قال تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ من هذه لبيان الجنس، مَغْفِرَةً أي: لذنوبهم، وَأَجْرًا عَظِيمًا أي: ثوابًا جزيلًا، ورزقًا كريمًا. ووعد الله حق، وصدق لا يخلف، ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه.
آخر تفسير سورة الفتح، ولله الحمد، والمنة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الشيخ: ويقول ﷺ: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وفي اللفظ الآخر: خير الناس قرني، هذا فضل عظيم وأرضاهم، نسأل الله العافية.