شرح كتاب التبصير في معالم الدين للطبري 2

القول في صفة المُستحق القتل أنه بالله عارفٌ المعرفة التي يزول بها عنه اسمُ الكفر.

قال أبو جعفر: لن يستحق أحدٌ أن يُقال له: إنه بالله عارفٌ المعرفة التي إذا قارنها الإقرارُ والعملُ استوجب به اسم الإيمان، وأن يُقال له: إنه مؤمنٌ، إلا أن يعلم بأنَّ ربه صانع كل شيءٍ ومُدبره، مُنفردًا بذلك دون شريكٍ ولا ظهيرٍ، وأنه الصمد الذي ليس كمثله شيءٌ، العالم الذي أحاط بكل شيءٍ علمه، والقادر الذي لا يُعجزه شيءٌ أراده، والمُتكلم الذي لا يجوز عليه السُّكوت.

الشيخ: هذه عبارة مجملة مقصود بها جنس الكلام، ما هو بدائم يتكلم، يتكلم إذا شاء سبحانه، كما قال أهل السنة والجماعة، قال الرسولُ ﷺ: وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيانٍ، فهو يتكلم إذا شاء، ويدع الكلامَ إذا شاء ، أيش قال المحشي؟

الطالب: هذه العبارة ليست على إطلاقها؛ لأنَّ صفة الكلام من لوازم الذات الإلهية المقدسة نوعًا، ومتعلق بالمشيئة آحادًا، وقوله رحمه الله: "لا يجوز عليه السُّكوت" يُوهم أنَّ كلام الله قديم مطلقًا، وأنه لم يزل يتكلمه، كما تقوله السالمية الاقترانية، وكما تقوله الأشاعرة في المعنى النفسي، والصواب الذي دلَّ عليه النقل والعقل: أنَّ الله لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء، فالكلام إذًا من حيث قُدرة الرب عليه صفة ذاتية قديمة، ومن حيث إنه تابع لمشيئته فهو صفة فعلية متجددة تبعًا لإرادته ومشيئته، فلا يجوز نفي السكوت عنه، وقد جاءت إضافة السكوت إلى الله في أحاديث، ومنها في الحديث الذي رفعه أبو ثعلبة الخشني ، وفيه: وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيانٍ.

الشيخ: المحشي مَن هو؟

الطالب: أنا عفا الله عنك.

الشيخ: كلام طيب، هذا صحيح، هذا إطلاق المؤلف غلط، المؤلف له بعض الكلمات -الله يغفر له- فيها نقص، الله جلَّ وعلا يُوصَف بالكلام، ويوصف بالسكوت جلَّ وعلا، يتكلم إذا شاء، فالكلام من جهة أنه ثابت لله وأساس صفة ذاتية أمر معلوم، ومن جهة أنه يتكلم إذا شاء صفة فعلية، كما قال أهل السنة والجماعة: يتكلم إذا شاء .

الطالب: وقد جاءت إضافةُ السكوت إلى الله في أحاديث كثيرة، ومنها الحديث الذي رفعه أبو ثعلبة الخشني، وفيه: وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيانٍ أخرجه الدَّارقطني وغيره، وصححه النووي في "الأربعين النووية"، وأظن أنَّ مراد الإمام ابن جرير بالسكوت الذي هو ضدّ الاتصاف بصفة الكلام، وهو الخرس، تعالى الله عنه علوًّا كبيرًا؛ لأنه في سياق الكلام قبله وبعده جعل لكل صفةٍ ما يُناقضها، فالقُدرة ضدّها العجز.

الشيخ: كلام طيب وصحيح، وهو تأويل حسن.

والمُتكلم الذي لا يجوز عليه السكوت، وأن يعلم أنَّ له علمًا لا يُشبهه علوم خلقه، وقدرةً لا تُشبهها قُدرة عباده، وكلامًا لا يُشبهه كلام شيءٍ سواه. وأنه لم يزل له العلم والقُدرة والكلام.

الشيخ: هكذا جميع الصِّفات كلها صفات كمال تليق بالله، لا يُشابه فيها خلقه، قدرته كاملة، علمه كامل، وهكذا كلامه ورحمته وغضبه ورضاه وسمعه كلها تليق بالله، لا يُشابه خلقه في شيءٍ من صفاته جلَّ وعلا.

فإن قال لنا قائلٌ: فإنَّك قد ألزمت هذا الذي بلغ حدَّ التَّكليف شططًا؛ أوجبت له الكفر بجهل ما قد عجز عن إدراك صحته مَن قد عاش من السنين مئة، ومن العمر طويلًا من المدة، وأنَّى له السبيل في المدة التي ذكرت مع قصرها إلى معرفة هذه المعاني؟!

قيل له: إنَّ الذين جهلوا حقيقة ذلك مع مرور الزمان الطويل لم يجهلوه لعدم الأسباب الممكن معها الوصول إلى علم ذلك في أقصر المدة، وأيسر الكُلفة؛ ولكنَّهم تجاهلوا مع ظهور الأدلة الواضحة، والحجج البالغة لحواسهم؛ فأدخلوا اللبس على أنفسهم، والشّبهة على عقولهم، حتى أوجب ذلك لهم الحيرة، وأكسبهم الجهل والملالة، ولو أنهم لزموا محجة الهدى، وأعرضوا عما دعاهم إليه دواعي الهوى؛ لوجدوا للحقِّ سبيلًا نهجًا، وطريقًا سهلًا.

وأي أمر أبين، وطريقٍ أوضح، ودليلٍ أدل دلالةً من قول القائل: الله عالمٌ، على إثبات عالمٍ له علمٌ.

الشيخ: المقصود بهذا كله أنَّ المؤلف عنده بعض الإطلاق، والصواب أنه لا بدَّ أن يكون هناك دليل بلاغ من الرسل وأتباعهم، وأنه إذا لم يكن بلغته الرسالة معذور حتى يبلغ الرسالة، فإذا لم يبلغ في الدنيا بلغ في الآخرة، وهم أهل الفترة، ولو أنَّ إنسانًا ما بلغته الرسل، ولا بلغه القرآن بالنسبة لأمة محمدٍ ﷺ؛ يُعتبر من أهل الجاهلية، ومن أهل الفطرة حتى يبلغ يوم القيامة، الله جلَّ وعلا يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].

س: ما وضع حديث أبي ثعلبة؟

ج: يُستشهد به.

س: لكن ابن رجب قال: منقطع؟

ج: الأدلة كثيرة؛ لهذا قال أهل السنة: يتكلم إذا شاء.

س: وصف الله بالسكوت يحتاج إلى نقلٍ؟

ج: هو يتكلم إذا شاء، يكفي.

ولئن كان لا دلالةَ في قول القائل: هو عالمٌ، على إثبات عالمٍ له علمٌ أنه لا دلالةَ من قول قائل: إنه على إثباته؛ إذ كان المعلوم في النُّشوء والعادة أنَّ كل شيءٍ مُسمَّى بعالمٍ فإنما هو مُسمَّى به من أجل أنَّ له علمًا، فإن يكُ واجبًا أن يكون المعلومُ في النُّشوء والعادة في المنطق الجاري بينهم، والمُتعارف فيه في بارئ الأشياء؛ خلافًا لما جرت به العادة والتَّعارف بينهم، إنه لواجبٌ أن يكون قول القائل: "إنه" دليلٌ على النَّفي، لا على الإثبات، فيكون المُقرُّ بوجود الصانع مُقرًّا بأنه غير عدمٍ، لا مُقرًّا بوجوده؛ كما كان المُقرُّ بأنه عالمٌ مُقرًّا عند قائل هذه المقالة بأنه ليس بجاهلٍ، لا مُقرًّا بأنَّ له علمًا.

الشيخ: وهذا من أبطل الباطل؛ فإنه إذا قال: عالم، معناه أنَّ عنده علمًا، وإذا قال: صانع، عنده صنعة، وإذا قال: زارع، عنده زراعة، وإذا قال: خياط، عنده خياطة، وإذا قال: إنه مثلًا حكيم، عنده حكمة، وإذا قال: نحوي، عنده علم بالنحو، لغوي، عنده، وهكذا ما أنزل الله من قوله : عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117]، قَدِيرٌ [البقرة:20]، سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61]، كله يدل على أنَّ هناك معانٍ في هذه الأسماء، لها معانٍ، لكنَّها تليق بالله، لا تُشابه صفات المخلوقين.

والله خاطب الناس بما يعقلون ويفهمون، وهكذا العرب تفهم، إذا قالوا: فلان سميع، معناه: يسمع، إذا قالوا: أصم، معناه: أصم، وإذا قالوا: فلان تاجر، معناه: تاجر، وإذا قالوا: فقير، معناه: فقير، وإذا قالوا: فلان من آل فلان، معناه: صحيح. وهكذا كلها، الكلمات لها معناها، وإذا قالوا: إنه بخيل، فهو بخيل، وإذا قالوا: سخي، فهو سخي، المعنى، لكن تختلف المعاني؛ قد يكون السخاء سخاءً تامًّا، قد يكون البخل بخلًا تامًّا، قد يكون السمع قويًّا، وقد يكون السمع ضعيفًا، لكن لا بدَّ من وجود الصِّفات، فالله حين سمَّى نفسه سميعًا وعليمًا وبصيرًا وقديرًا فهو على مُقتضى اللغة أنه موصوف بهذه الأسماء، فهو سميع، وهو بصير، وهو حكيم، وهو عليم، وهو قدير، وهو رؤوف ورحيم بمعانيها، لكن لا تُشابه معاني المخلوقين، هو أجل وأعظم من أن يُشابه خلقه .

فإن كان المُقرُّ عندهم بأنه مُقرٌّ بإثباته ووجوده، لا نافيًا عدمه؛ فكذلك المُقر بأنه عالمٌ مقرٌّ بإثبات علمٍ له، لا ينفي الجهلَ عنه.

وكذلك القول في القُدرة، والكلام، والإرادة، والعزة، والعظمة، والكبرياء، والجمال، وسائر صفاته التي هي صفات ذاته.

فإن قال لنا قائلٌ: فهل من معاني المعرفة شيءٌ سوى ما ذكرت؟

قيل: لا.

فإن قال: فهل يكون عارفًا به مَن زعم أنه يفعل العبد ما لا يُريده ربُّه ولا يشاء؟

قيل: لا.

وقد دللنا فيما وصفناه بالعزة التي لا تُشبهها عزةٌ على ذلك.

وذلك أنه مَن لم يعلم أنه لا يكون في سلطان الله عزَّ ذكره شيءٌ إلا بمشيئته، ولا يوجد موجودٌ إلا بإرادته، لم يعلمه عزيزًا.

وذلك أنَّ مَن أراد شيئًا فلم يكن وكان ما لم يُرد، فإنما هو مقهورٌ ذليلٌ، ومَن كان مقهورًا ذليلًا فغير جائزٍ أن يكون موصوفًا بالربوبية.

الشيخ: وهذا واضح؛ لأنه سبحانه هو المالك لكل شيءٍ، والعزة بيده، فما لم يُرده ولم يشأه لا يوجد أبدًا، هو القادر على كل شيءٍ، هو المالك لكل شيءٍ، ولو كان يُوجد بغير علمه وبغير إرادته ما كان عزيزًا، ولا كان قادرًا، هذا يعلمه المؤمن بالفطرة، وأنَّ الله فطر العباد على أنَّ الله له القُدرة الكاملة، مع ما جاءت به النصوص من كماله سبحانه، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه سبحانه بيده كل شيء، تصريف الأمور بيده جلَّ وعلا، فهو الفعال لما يُريد: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، فمَن زعم خلاف ذلك فقد نسب إلى الله النَّقص والقصور والضَّعف، فيكون كافرًا بذلك، نسأل الله العافية.

فإن قال: فإنَّ مَن يقول هذا القول يزعم أنَّ إرادة الله ومشيئته: أمره ونهيه، وليس في خلاف العبد الأمر والنَّهي قهرٌ له؟

قيل له: لو كان الأمر كما زعمتَ لكان الله تعالى ذكره لم يعمّ عباده بأمره ونهيه؛ لأنه يقول: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام:35].

فإن تك المشيئة منه أمرًا، فقد يجب أن يكون مَن لم يهتدِ لدين الإسلام لم يُدخله الله في أمره ونهيه الذي عمَّ به خلقه، وفي عمومه بأمره ونهيه جميعهم، مع ترك أكثرهم قبوله؛ الدليل الواضح على أن قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى إنما معناه: لو شاء الله لجمعهم على دين الإسلام، وإذ كان ذلك كذلك كان بينًا فساد قول مَن قال: مشيئة الله تعالى ذكره أمره ونهيه!

الشيخ: وهذا من أبطل الباطل؛ الأمر والنَّهي غير المشيئة، فهو يأمر وينهى، ولو شاء لجمعهم على الهدى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، فهو المتصرف في عباده، هدى مَن هدى، وضلَّ مَن أضل، فأكثر الناس على الضلالة، لم يقبلوا الهدى الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومَن شاء الله هدايته هداه جلَّ وعلا: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، والله المستعان.

القول فيما أدرك علمه من صفات الصَّانع خبرًا لا استدلالًا:

قال أبو جعفر: أما ما لا يصح عندنا عقد الإيمان لأحدٍ، ولا يزول حكم الكفر عنه إلا معرفته، فهو ما قدمنا ذكره، وذلك أنَّ الذي ذكرنا قبل من صفاته لا يُعذر بالجهل به أحدٌ بلغ حدَّ التَّكليف كان ممن أتاه من الله تعالى ذكره رسولٌ أو لم يأته رسولٌ، عاين من الخلق غيره، أو لم يُعاين أحدًا سوى نفسه.

ولله تعالى ذكره أسماءٌ وصفاتٌ جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيُّه ﷺ أمته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحُجَّة بأن القرآنَ نزل به، وصحَّ عنده قول رسول الله ﷺ فيما رُوي عنه به الخبر منه خلافه.

الشيخ: مَن بلغه القرآن والسنة قامت عليه الحُجَّة، أما مَن كان في معزلٍ لم يبلغه القرآنُ ولا السنة فهو من أهل الفترة، حكمه حكم أهل الفترات، يُمتحن يوم القيامة، والله المستعان.

فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحُجَّة عليه به من جهة الخبر على ما بينتُ فيما لا سبيلَ إلى إدراك حقيقة علمه إلا حسًّا؛ فمعذورٌ بالجهل به الجاهل؛ لأنَّ علم ذلك لا يُدرك بالعقل، ولا بالروية والفكرة.

وذلك نحو: إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميعٌ بصيرٌ، وأنَّ له يدين؛ لقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وأنَّ له يمينًا؛ لقوله: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وأنَّ له وجهًا؛ لقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وأنَّ له قدمًا؛ لقول رسول الله ﷺ: حتى يضع الربُّ قدمه فيها يعني: جهنم.

وأنه يضحك إلى عبده المؤمن؛ لقول النبي ﷺ للذي قُتل في سبيل الله: إنه لقي الله وهو يضحك إليه.

وأنه يهبط كل ليلةٍ وينزل إلى السماء الدنيا؛ لخبر رسول الله ﷺ.

وأنه ليس بأعور؛ لقول النبي ﷺ إذ ذكر الدجال فقال: إنه أعور، وإنَّ ربكم ليس بأعور.

وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها غيايةٌ، وكما يرون القمر ليلة البدر؛ لقول النبي ﷺ.

وأنَّ له أصابع؛ لقول النبي ﷺ: ما من قلبٍ إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن.

فإنَّ هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها رسولُه ﷺ مما لا تُدرك حقيقة علمه بالفكر والروية.

ولا نُكفر بالجهل بها أحدًا إلا بعد انتهائها إليه، فإن كان الخبر الوارد بذلك خبرًا.

الشيخ: مَن بلغته وجحدها كفر بذلك؛ لأنَّ هذه ما تُدرك بالعقل، فلا بدَّ من بلوغ الحُجَّة بها، والذي عاش في بلادٍ أو منطقةٍ ما بلغته الحُجَّة فيها، ولا بلغه القرآن والسنة؛ فحكمه حكم أهل الفترة.

ولا نكفر بالجهل بها أحدًا إلا بعد انتهائها إليه.

فإن كان الخبرُ الوارد بذلك خبرًا تقوم به الحُجَّة مقام المُشاهدة والسماع؛ وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته بالشهادة عليه بأنَّ ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع.

الشيخ: على الوجه اللائق بالله، كما يشهد لما عاين من أرضٍ وسماءٍ، يشهد بما ثبتت به النصوص على الوجه اللائق بالله من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ.

وإن كان الخبرُ الوارد خبرًا لا يقطع مجيئه العذر، ولا يُزيل الشك، غير أنَّ ناقله من أهل الصدق والعدالة، وجب على سامعه تصديقه في خبره في الشَّهادة عليه بأنَّ ما أخبره به كما أخبره، كقولنا في أخبار الآحاد العدول، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.

الشيخ: المقصود متى صحَّ الخبرُ عن رسول الله ﷺ من طريق التَّواتر أو الآحاد وجب الإيمانُ والتَّصديق على الوجه اللائق بالله جلَّ وعلا.

فإن قال لنا قائلٌ: فما الصواب من القول في معاني هذه الصِّفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله ووحيه، وجاء ببعضها رسولُ الله ﷺ؟

قيل: الصواب من هذا القول عندنا أن نُثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التَّشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه جلَّ ثناؤه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

فيقال: الله سميعٌ بصيرٌ، له سمعٌ وبصرٌ؛ إذ لا يُعقل مُسمَّى: سميعًا بصيرًا في لغةٍ ولا عقلٍ في النُّشوء والعادة والمُتعارف إلا مَن له سمعٌ وبصرٌ.

كما قلنا آنفًا: إنه لا يُعرف مقولٌ فيه: "إنه" إلا مثبتٌ موجودٌ؛ فقلنا ومُخالفونا فيه: "إنه" معناه الإثبات على ما يعقل من معنى الإثبات، لا على النفي، وكذلك سائر الأسماء والمعاني التي ذكرنا.

الشيخ: هذا هو الواجب؛ إثبات الصِّفات لله على الوجه اللائق به، كما أخبر بنفسه، هو سميع بسمعه، وبصير ببصره جلَّ وعلا، عليم بعلمٍ، قدير بقدرةٍ، لا يُشبه عباده في ذلك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فمَن قال: عنده سمع بلا حقيقة، وبصر بلا حقيقة. كما تقول المعتزلة، هذا باطل، له سمع بحقيقةٍ، يسمع دعاء الناس: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186]، هو سميع الدّعاء ، هو سميع بسمعه، وبصير ببصره جلَّ وعلا، لا تخفى عليه خافية، ولا يخفى عليه صوت جلَّ وعلا.

هذا قول أهل السنة والجماعة: هو عليم بعليم، رحيم برحمة، قدير بقدرته، فله الأسماء الحسنى بمعانيها، فالقدير يشمل معنيين: معنى الذات، ومعنى القُدرة. الرحمن يجمع أمرين: الرحمة والذات، الله الألوهية، والذات السميع، السمع والذات، المريد الإرادة والذات، وهكذا بقية الأسماء والصِّفات كلها تدل على الذات وعلى الصفة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فهي أسماؤه، وهي نعوت أسماء أعلام عليه، وهي نعوت أيضًا وصفات له جلَّ وعلا: هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو القدوس، وهو السميع، وهو البصير، وهو الملك، وهو الغفور، وهو التواب، إلى غير هذا، فهي أسماء دالَّة على ذاته سبحانه، وعلى المعاني التي اشتقت منها: سميع بسميع، تواب بتوبة، بصير ببصر، رحيم برحمة، فهو قائم بذاته، مستوٍ على عرشه، له الأسماء الحسنى، وله الصِّفات العلى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

وبعد، فإن سميعًا اسمٌ مبنيٌّ من سمع، وبصيرٌ من أبصر؛ فإن يكن جائزًا أن يُقال: سمع وأبصر من لا سمع له ولا بصر، إنه لجائزٌ أن يُقال: تكلم مَن لا كلام له، ورحم مَن لا رحمةَ له، وعاقب مَن لا عقابَ له.

الشيخ: هذا خلاف اللغة العربية، وخلاف ما يعقله الناس، لا في اللغة العربية ولا غيرها عاقلٌ بلا عقلٍ، سميع بلا سمعٍ، بصير بلا بصرٍ، رحيم بلا رحمةٍ، يكون كلام كذبٍ، فلازم قول المعتزلة والجهمية أنَّ كلام الله كذبٌ؛ لأنهم قالوا: لا سمع ولا بصر. فهنا يكون كلامه كذبًا، نسأل الله العافية؛ ولهذا كفَّرهم أهلُ السنة.

وفي إحالة جميع المُوافقين والمُخالفين أن يُقال: يتكلم مَن لا كلامَ له، أو يرحم مَن لا رحمةَ له، أو يُعاقب مَن لا عقابَ له.

الشيخ: يعني هذا المعنى مُستحيل، ما يقوله عاقل، ولا يقبله العاقل، لا من العرب، ولا من العجم، فيُعلم بهذا أنَّ الجهمية والمعتزلة خالفوا العقولَ، كما خالفوا النصوص، خالفوا النصوص، وخالفوا العقول أيضًا.

وفي إحالة جميع المُوافقين والمُخالفين أن يُقال: يتكلم مَن لا كلام له، أو يرحم مَن لا رحمةَ له، أو يُعاقب مَن لا عقابَ له، أدل دليلٍ على خطأ قول القائل: يسمع مَن لا سمع له، ويُبصر مَن لا بصر له.

فنُثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتَّنزيل على ما يُعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التَّشبيه فنقول: يسمع جلَّ ثناؤه الأصوات، لا بخرقٍ في أذنٍ، ولا جارحةٍ كجوارح بني آدم. وكذلك يُبصر الأشخاص ببصرٍ لا يُشبه أبصار بني آدم التي هي جوارحٌ لهم.

وله يدان ويمينٌ وأصابع، وليست جارحةً، ولكن يدان مبسوطتان بالنِّعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير.

الشيخ: والمعنى في هذا الإجماع أنه سبحانه له اليد، وله السمع، وله البصر، وله الإصبع، ليس كمثله شيء، ليست من جنس صفات بني آدم، لا أيديهم، ولا أصابعهم، ولا أسماعهم، ولا أبصارهم، ولا غير ذلك، فلا حاجة إلى ذكر الشق أو الأذن أو غير ذلك، بل نقول: إنه سبحانه يسمع ولا شبيهَ له، ويُبصر ولا شبيهَ له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وما سكت الله عنه لا نزيد ولا ننقص، هكذا أهل السنة والجماعة: لا يزيدون ولا ينقصون، يرون ما جاءت به النصوص ويقولون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

وله يدان ويمينٌ وأصابع، وليست جارحةً، ولكن يدان مبسوطتان بالنِّعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير.

الشيخ: لا حاجةَ لما ذكره المؤلفُ رحمه الله من نفي الجارحة وكشر الأسنان؛ حيث لم ترد به النصوص، بل هي ساكتة عنه، وإنما هو سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، له يدان ويكفي.

ووجهٌ لا كجوارح الخلق التي من لحمٍ ودمٍ.

ونقول: يضحك إلى مَن شاء من خلقه. ولا نقول: إنَّ ذلك كشر عن أسنانٍ.

الطالب: حاشية: أراد المؤلفُ رحمه الله نفي مُشابهة المخلوقين في جوارحهم كما يدل عليه سياقُ كلامه وتمثيله، وإلا فنفي الجارحة عن الله من النَّفي المجمل الذي لم ترد النصوصُ به، وبابه عند السلف الصالح السّكوت عنه؛ طردًا للقاعدة الكلية في الأسماء والصِّفات؛ ألا نُسمي الله إلا بما سمَّى به نفسه أو سمَّاه به رسولُه ﷺ، ولا نصفه إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسولُ الله ﷺ إثباتًا ونفيًا، والواجب في الألفاظ المجملة في باب النَّفي والإثبات السّكوت عنها، ثم الاستفصال عنها؛ ليُنفى باطلها، ويُثبت حقّها، ومثاله على ما أجراه ابن جريرٍ رحمه الله نفي الجارحة.

الشيخ: الاستفصال عنها ما له لزوم، السكوت فقط، وإمرارها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ما يحتاج استفصال، يُقال كما قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فلا يُستفصل: هل كذا؟ هل كذا؟ هل هناك سنّ؟ هل هناك شفه؟ ما لها حاجة، لم يرد، النصوص ساكتة.

الطالب: الاستفصال ليتمايز الحقّ من الباطل.

الشيخ: ما يحتاج إلى استفصالٍ، بل يقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

الطالب: عفا الله عنك، ومثاله على ما أجراه ابنُ جرير نفي الجارحة لله في اليدين واليمين والأصابع، فإن قصد نفي مُشابهة المخلوقين بنفيه الجارحة فهو حقّ، وهو ما قصده ابن جريرٍ في فحوى كلامه وسياقه، وإن قصد نفي تلك الصفات لكونها جوارح تُشبه جوارح الخلق، فهذا باطل، فالاستفصال في المجمل والمتشابه يُزيل الإشكال واللبس، ويُحقق الحقَّ والمقصود. اهـ.

ويهبط كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا.

فمَن أنكر شيئًا مما قلنا من ذلك، قلنا له: إنَّ الله تعالى ذكره يقول في كتابه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، وقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158].

فهل أنت مُصدقٌ بهذه الأخبار أم أنت مُكذبٌ بها؟

(أ) فإن زعم أنه بها مُكذب؛ سقطت المُناظرة بيننا وبينه من هذا الوجه.

الشيخ: إذا كذب ظهر كفره وضلاله، وهم أي أهل النفي، وإن صدق يقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، الحمد لله.

(ب) وإن زعم أنه بها مُصدقٌ، قيل له: فما أنكرت من الخبر الذي رُوي عن رسول الله ﷺ: أنه يهبط إلى السماء الدنيا فينزل إليها؟

حاشية: هذا قطعة من الحديث المشهور بحديث النزول، الذي رواه أبو هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟ متفق على صحَّته؛ فأخرجه الإمامُ البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه: أولها من كتاب "التهجد" باب "الدعاء والصلاة في آخر الليل"، وأخرجه الإمامُ مسلم في صحيحه في كتاب "صلاة المسافر" باب "الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل"، وقد شرح الحديث وردَّ على نُفاته الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه النفيس "شرح حديث النزول".

فإن قال: أنكرت ذلك؛ أنَّ الهبوط نقلة، وأنه لا يجوز عليه الانتقال من مكانٍ إلى مكانٍ؛ لأنَّ ذلك من صفات الأجسام المخلوقة!

قيل له: فقد قال جلَّ ثناؤه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فهل يجوز عليه المجيء؟

فإن قال: لا يجوز ذلك عليه، وإنما معنى هذا القول: وجاء أمر ربك.

قيل: قد أخبرنا تبارك وتعالى أنه يجيء هو والملك، فزعمت أنه يجيء أمره لا هو، فكذلك تقول: إن الملك لا يجيء، إنما يجيء أمر الملك لا الملك؛ كما كان معنى مجيء الرب تبارك وتعالى مجيء أمره.

فإن قال: لا أقول ذلك في الملك، ولكني أقول في الرب.

قيل له: فإنَّ الخبر عن مجيء الرب تبارك وتعالى والملك خبرٌ واحدٌ، فزعمتَ في الخبر عن الرب تعالى ذكره أنه يجيء أمره لا هو، وزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره، فما الفرق بينك وبين مَن خالفك في ذلك فقال: بل الرب هو الذي يجيء، فأما الملك فإنما يجيء أمره لا هو بنفسه؟!

فإن زعم أنَّ الفرق بينه وبينه: أنَّ الملك خلقٌ لله جائزٌ عليه الزوال والانتقال، وليس ذلك على الله جائزًا.

قيل له: وما برهانك على أنَّ معنى المجيء والهبوط والنزول هو النقلة والزوال، ولا سيما على قول مَن يزعم منكم أنَّ الله تقدست أسماؤه لا يخلو منه مكانٌ؟

وكيف لم يجز عندكم أن يكون معنى المجيء الهبوط والنزول بخلاف ما عقلتم من النقلة والزوال من القديم الصَّانع، وقد جاز عندكم أن يكون معنى العالم والقادر منه بخلاف ما عقلتم ممن سواه بأنه عالمٌ لا علم له، وقادرٌ لا قدرةَ له؟!

وإن كنتم لم تعقلوا عالمًا إلا له علمٌ، وقادرًا إلا له قدرةٌ، فما تُنكرون أن يكون جائيًا لا مجيء له، وهابطًا لا هبوط له ولا نزول له، ويكون معنى ذلك وجوده هناك، مع زعمكم أنه لا يخلو منه مكانٌ!

فإن قال لنا منهم قائلٌ: فما أنت قائلٌ في معنى ذلك؟

قيل له: معنى ذلك ما دلَّ عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التَّسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا جلَّ جلاله يوم القيامة والملك صفًّا صفًّا، ويهبط إلى السماء الدنيا وينزل إليها في كل ليلةٍ، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره؛ بل نقول: أمره نازلٌ إليها كل لحظةٍ وساعةٍ، وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين ما دامت موجودةً، ولا تخلو ساعةٌ من أمره، فلا وجهَ لخصوص نزول أمره إليها وقتًا دون وقتٍ، ما دامت موجودةً باقيةً.

وكالذي قلنا في هذه المعاني من القول الصواب من القيل في كل ما ورد به الخبر في صفات الله وأسمائه تعالى ذكره بنحو ما ذكرناه.

الشيخ: يعني: ينزل نزولًا يليق بجلاله، لا شبيهَ له، ولا نُكيفه، بل ليس كمثله شيء، لا في النزول، ولا في الاستواء، ولا في غير ذلك يُشبه الخلق: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، ونسكت عمَّا سوى ذلك.

فأما الرؤية: فإنَّ جوازها عليه مما يُدرك عقلًا، والجهل بذلك كالجهل بأنه عالمٌ وقادرٌ؛ وذلك أنَّ كل موصوفٍ فغير مستحيل الرؤية عليه، فإذا كان القديمُ موصوفًا، فاللازم لكل مَن بلغ حدَّ التكليف أن يكون عالمًا بأن صانعه إذا كان عالمًا قادرًا، له من الصِّفات ما ذكرنا، أنه لا يكون زائلًا عنه أحكام الكفار إلا باعتقاده أنَّ ذلك له، جائزةٌ رؤيته إذ كان موصوفًا، كما يلزمه اعتقاده أنه حيٌّ قديمٌ، إذ كان لا مُدبر فعلٍ إلا حيٌّ، ولا مُحدثٌ إلا مصنوعٌ.

فأما إيجاب القول فإنه لا محالةَ يُرى، وفي أي وقتٍ يُرى؟ وفي أي وقتٍ لا يُرى؟ فذلك ما لا يُدرك علمه إلا خبرًا وسماعًا.

وبالخبر قلنا: إنه في الآخرة يُرى، وإنه مخصوصٌ برؤية أهل الجنة دون غيرهم، فسبيل الجهل بذلك سبيل الجهل بما لا يُدرك علمه إلا حسًّا حتى تقوم عليه حُجَّة السمع به.

الشيخ: كلام السلف المتقدمين أيسر من هذا رحمهم الله، كلامهم مختصر مفيد: نؤمن بآيات الصِّفات وأحاديثها على الوجه اللائق بالله، ونكل علم الكيفية إليه ، فنقول في أحاديث الصِّفات وآياتها كلها: نمرها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ولا يحتاج إلى ما ذكره المؤلفُ هنا من مُجادلتهم، بل كلمة واحدة: نمرها كما جاءت، ونؤمن بها على الوجه اللائق بالله جلَّ وعلا، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ رحمهم الله، ووفقنا الله وإياكم، ورحمنا الله وإياهم.

فمثل هؤلاء ليسوا بأكفاء أن يتنزل معهم، ولا حاجة للتَّنزل معهم، بل يكفي الرد المجمل؛ أن نقول: هذه الآيات والنصوص من الكتاب والسنة يجب الإيمانُ بها وإمرارها كما قال السلفُ من الصحابة ومَن بعدهم كلام مختصر مفيد: نمرها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، هذا هو الواجب.

س: هل صحيح أنَّ مَن قرأ سورة الضُّحى يجد ما فقده؟

ج: هذا لا أصلَ له.

القول في الفروع التي تحدث عن الأصول التي ذكرنا أنه لا يسع أحدًا الجهلُ بها من معرفة توحيد الله وأسمائه وصفاته.

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل من كتابنا هذا أنه لا يسع أحدًا بلغ حدَّ التَّكليف الجهلُ بأنَّ الله جلَّ ذكره عالمٌ له علمٌ، وقادرٌ له قُدرة، ومتكلمٌ له كلامٌ، وعزيزٌ له عزةٌ، وأنه خالقٌ، وأنه لا مُحدَثٌ إلا مصنوعٌ مخلوقٌ.

وقلنا: مَن جهل ذلك فهو بالله كافرٌ؛ فإذا كان ذلك صحيحًا بالذي به استشهدنا، فلا شكَّ أنَّ مَن زعم أن الله مُحدَثٌ، وأنه قد كان لا عالمًا، وأنَّ كلامه مخلوقٌ، وأنه قد كان ولا كلامَ له، فإنه أولى بالكفر وبزوال اسم الإيمان عنه.

وكذلك مَن زعم أنَّ فعله مُحدثٌ، وأنه غير مخلوقٍ، فمثله لا شكَّ أنه أولى باسم الكفر من الزاعم أنه لم يزل عالمًا لا علمَ له؛ إذ كان قائل ذلك أوجب أن يكون في سلطان الله ما لا يقدر عليه ولا يُريده، وأن يكون مُريدًا أمرًا فيكون غيره، ولا يكون الذي يُريده.

ذلك لا شكَّ صفة العجزة، لا صفة أهل القدرة. فإذا كان ذلك كذلك؛ فلا شكَّ أنَّ مَن يزعم أنَّ كلام الله يتحول بتلاوته إذا تلاه، وبحفظه إذا حفظه، أو بكتابته إذا كتبه مُحدَثًا مخلوقًا؛ فهو بالله تعالى ذكره كافرٌ.

الشيخ: المقصود من هذا أنه واجب الإيمان بأسماء الله وصفاته، ومن ذلك كلام الله، وأنَّ مَن أنكر أسماءه أو صفاته فقد كفر؛ لأنه مُكذب لله ، وإنما هذا في حقِّ المكلف إلا الصغير حتى يبلغ، لكن مَن قال هذا وقد بلغ حدَّ التكليف فإنه يكفر بذلك، إلا إذا كان من أهل الفترة، فقد تقدم أنَّ أهل الفترة مُؤجل أمرهم إلى يوم القيامة، ليس لهم حكم الإسلام، ولا حكم الكفر؛ لأنهم لم تبلغهم الدَّعوة، والله يقول جلَّ وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فأمرهم مُؤجل إليه جلَّ وعلا، مُفوض إليه .

ومَن لم تبلغه الرسالة لا من نبينا محمدٍ ﷺ، ولا من غيره، هؤلاء حكمهم حكم أهل الفترات؛ يُمتحنون يوم القيامة، فمَن صدق وأجاب وأطاع دخل الجنة، ومَن أبى وعصى دخل النار، أما مَن بلغته الدَّعوة -دعوة الرسل عليهم السلام- فإنَّ عليه أن يُصدق بذلك، وأن ينقاد لذلك، فمَن أنكر كلام الله أو علمه أو قُدرته أو رحمته أو رضاه أو غضبه -كالمعتزلة- كفر بذلك؛ لأنه مكذب لله، بل وصف الله بالنقص، فإنَّ مَن لا يتكلم ولا يرضى ولا يغضب ولا يعلم ولا يسمع ناقص كالعدم، نسأل الله العافية.

س: ألا يدخل أهلُ الفترة في الميثاق الأول؟

ج: الميثاق الأول ما يتعلق بالتَّكليف، التَّكليف بالميثاق الذي جاءت به الرسل عليهم السلام.

وكذلك القول فيه إن شكَّ أنه غير مخلوقٍ: مقروءًا كان، أو محفوظًا، أو مكتوبًا، كما لو قال قائلٌ: إنَّ بارئ الأشياء يتحول بذكره، أو بمعرفته، أو بكتابته مصنوعًا لا صانعًا؛ كان لا شكَّ في كفره.

وكذلك القول فيه لو شكَّ في أنه يتحول عمَّا هو به من صفاته بذكر ذاكرٍ له، أو علم عالمٍ له، أو كتابة كاتبٍ اسمه؛ كان كافرًا.

الشيخ: المقصود أنه جلَّ وعلا لم يزل بصفاته كاملة، وأن هذه الصفات لا تنتقل ولا تحول عنه، فهو لا يزال عالمًا ومُتكلمًا وسميعًا وبصيرًا وقادرًا وخالقًا، صفاته مستمرة، فهو سبحانه بصفاته أزلي أبدي، فمَن زعم أنه قد يتحول من عالمٍ إلى جاهلٍ، ومن قديرٍ إلى عاجزٍ، ومن متكلمٍ إلى أخرس؛ كفر بذلك، نسأل الله العافية.

وكذلك القول أنَّ صفةً من صفاته تتحول عمَّا هي به بذكر ذاكرٍ، أو معرفة عارفٍ بها، أو كتابة كاتبٍ؛ أو شكٍّ في أنه لا يجوز تحولها أو تبديلها أو تغيرها عمَّا لم يزل الله تعالى ذكره بها موصوفًا، كما كان غير جائزٍ أن يتحول كلام الله مخلوقًا بقراءة قارئٍ، أو كتابة كاتبٍ، أو حفظ حافظٍ. أو يتحول الصانعُ مصنوعًا، أو القديم محدثًا بذكر محدثٍ مصنوعٍ إياه؛ فكذلك غير جائزٍ أن تتحول قراءة قارئ، أو تلاوته، أو حفظه القرآن قرآنًا أو كلام الله تعالى ذكره.

الشيخ: وهذا قول أهل السنة والجماعة: أنَّ القرآن كلام الله محفوظًا ومقروءًا ومكتوبًا ومسموعًا، هو كلام الله، أما الصوت -صوت الإنسان- مخلوق، الكتابة كتابة مخلوقة، الصحيفة -الورقة- مخلوقة، ولكن المقروء والمتلو والمسموع هو كلام الله .

بل القرآن هو الذي يُقرأ ويُكتب ويُحفظ، كما الرب جلَّ جلاله هو الذي يُعبد ويُذكر.

وشكر العبد ربه عبادته إياه، وذكره له غيره، والشَّاك في ذلك لا شكَّ في كفره.

وكما كان ذلك كذلك، فكذلك القول في الزاعم أن شيئًا من أفعال العباد أو غير ذلك من المُحدثات غير مخلوقٍ، أو غير كائنٍ بتكوين الله جلَّ ثناؤه إياه، وإنشائه عينه؛ فبالله كافرٌ.

الشيخ: هكذا أنَّ مَن أنكر أنَّ بعض مخلوقاته مخلوق لله؛ كالذي يقول أنَّ علمه غير مخلوقٍ لله، أو ذاته، أو ذات فلان، أو الملائكة، أو الجن، أو غير ذلك، يكون كافرًا بالله؛ لأنَّ الله يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، هو الخالق للأشياء كلها: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3].

ومَن زعم أنَّ شيئًا من الموجودات مخلوقٌ لغير الله: من إنسانٍ أو جنٍّ أو سماءٍ أو أرضٍ أو بحرٍ أو جبلٍ؛ فقد كفر وكذَّب الله في قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2] سبحانه.

وسواءٌ كان ذلك ذكر العبد ربّه أو ذكره الشيطان إلا أنَّ بعضهم يقصد بزعمه أنَّ ذكره ربّه مخلوقٌ إلى أن ربه مخلوقٌ؛ فيكون بذلك كافرًا حلال الدم والمال.

وكذلك القول في قائلٍ لو قال: "قراءتي القرآن مخلوقة"، وزعم أنه يُريد بذلك: القرآن مخلوقٌ؛ فكافرٌ لا شكَّ فيه عندنا، ولا أحسب أحدًا أُعطي شيئًا من الفهم والعقل يزعم ذلك أو يقوله.

فأما إن قال: أعني بقول "قراءتي" فعلي الذي يأجرني الله عليه، والذي حدث مني بعد أن لم يكن موجودًا، لا القرآن الذي هو كلام الله تعالى ذكره، الذي لم يزل صفةً قبل كون الخلق جميعًا، ولا يزال بعد فنائهم الذي هو غير مخلوقٍ. فإنَّ القول فيه نظير القول في الزاعم أنَّ ذكره الله جلَّ ثناؤه بلسانه مخلوقٌ، يعني بذلك فعله، لا ربه الذي خلقه وخلق فعله.

الشيخ: هذا حقٌّ، إذا أراد الصوت واللَّفظ أنه مخلوق، أما المقروء والمتلو فهو كلام الله .

قال أبو جعفر: قد قلنا في تبصير المُستهدي إلى صواب القول فيما تنازعت فيه أمةُ محمدٍ ﷺ بعد فراقه إياهم من توحيد الله تعالى ذكره وأسمائه وصفاته وعدله، وفيما يسع الجهلُ به من ذلك، ولا يسع ذلك فيه. وفي حكم مَن جهل منه ما يضيق الجهلُ به، وفي فروع ذلك. وحكم مَن جهل من فروعه ما وقع التَّشاجر فيه إلى يومنا هذا، أو فيما عسى أن يحدث بعد؛ بما فيه الكفاية لمَن وفق لفهمه وأُعين عليه فهُدي لرشده.