شرح كتاب التبصير في معالم الدين للطبري 4

القول في الاختلاف الثالث:

قال أبو جعفر: الثالث بعد ذلك: الاختلاف في أفعال الخلق.

(أ) فقالت فرقةٌ ممن ينتحل جملة الإسلام: ليس لله في أفعال خلقه صنعٌ غير المعرفة التي أعطاها للفعل، كما أعطاهم الجوارح التي بها يعملون، ثم أمرهم ونهاهم، فمَن شاء منهم أطاع فله الثواب، ومَن عصى فله العقاب.

قالوا: فلو كان لله جلَّ ثناؤه صنعٌ في أفعال الخلق غير الذي قلنا بطل الثوابُ والعقابُ.

وهذا قول القدرية.

(ب) وقال آخرون -منهم جهم بن صفوان وأصحابه- ليس للعباد في أفعالهم وأعمالهم صنعٌ، وإنما يُضاف إليهم ذلك كما تُضاف حركة الشجرة إذا حركتها الريحُ إلى الشجرة، وليست لها حركةٌ، وإنما حركتها الريح، وكما يُضاف طلوع الشمس إلى الشمس، وليس لها فعلٌ، وإنما أطلعها الله، وكذهاب الحجر إذا رُمي به، وليس له عملٌ، وإنما ذهب بدفع دافعٍ.

وقالوا: لو جاز أن يكون فاعلٌ غير الله جاز أن يكون خالقٌ غيره.

وقالوا: لا ثوابَ ولا عقابَ، وإنما هما طينتان خلقتا: إحداهما للنار، وأخرى للجنة.

الشيخ: وهذا من أبطل الباطل، قول الجهمية المجبرة والمعتزلة نفاة القدر كلها أقوال باطلة، وإنما الصواب قول أهل السنة والجماعة: أنَّ الله خلق الأشياء وقدرها وعلمها وأحصاها، وأعطى العباد مشيئةً واختيارًا، وجعل لهم فعلًا واختيارًا، يختارون الخير، ويختارون الشرَّ، ويعرف هذا، ويعرف هذا؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، وَقُلِ اعْمَلُوا [التوبة:105]، فجعل لهم أعمالًا وأفعالًا وإرادةً، فهو سبق في علمه ما قدَّره وقضاه جلَّ وعلا، ولكنه أعطاهم أعمالًا، وأعطاهم اختيارًا، وأمرهم ونهاهم جلَّ وعلا.

(ج) وقال آخرون -وهم جمهور أهل الإثبات وعامَّة العلماء والمُتفقهة من المُتقدمين والمُتأخرين- إنَّ الله تعالى ذكره وفَّق أهل الإيمان للإيمان، وأهل الطاعة للطاعة، وخذل أهل الكفر والمعاصي فكفروا بربهم، وعصوا أمره.

قالوا: فالطاعة والمعصية من العباد بسببٍ من الله تعالى ذكره، وهو توفيقه للمُؤمنين، وباختيارٍ من العبد له.

قالوا: ولو كان القولُ كما قالت القدرية الذين زعموا أنَّ الله تعالى ذكره قد فوَّض إلى خلقه الأمر، فهم يفعلون ما شاءوا، ولبطلت حاجةُ الخلق إلى الله تعالى ذكره في أمر دينه، وارتفعت الرغبةُ إليه في معونته إياهم على طاعته.

قالوا: وفي رغبة المؤمنين في كل وقتٍ أن يُعينهم على طاعته ويُوفقهم ويُسددهم ما يدل على فساد ما قالوا.

الشيخ: ولولا أنه فعَّال لما يريد، وعالم مجيب؛ لما كان هناك فائدة في الدّعاء والطَّاعات، فهو سبحانه يُعينهم ويُوفقهم ويُثيبهم على طاعاتهم، ويُعاقب مَن عصى منهم وخالف أمره؛ لأنه عصى بفعله وخالف بفعله الذي له فيه قُدرة، وله فيه اختيار.

قالوا: ولو كان القولُ كما قالوا من أنَّ مَن أُعطي معونةً على الإيمان فقد أُعطيها قوةً على الكفر، وجب أن لا يكون لله جلَّ ثناؤه خلقٌ هو أقوى على الإيمان والطاعة من إبليس، وذلك أنه لا أحدَ من خلق الله يطيق من الشرِّ ومن معصية الله ما يُطيقه.

قالوا: وكان واجبًا أن يكون إبليس أقدر الخلق على أن يكون أقربهم إلى الله وأفضلهم عنده منزلةً.

قالوا: وأخرى: أنَّ القوة على الطاعة لو كانت قوةً على المعصية، والقوة على الكفر قوةً على الإيمان؛ لوجب أن يُوجد الكفر والإيمان معًا في جسمٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ؛ لأنَّ السبب إذا وُجد وجب أن يكون مُسببه موجودًا معه: كالنار إذا وُجدت وجب وجود الإسخان مع وجودها، وكالثلج إذا وُجد وجب التَّبريد معه.

قالوا: فإن كانت القوةُ جائزًا وجودها وعدم أحدهما: كاليد التي قد تُوجد وهي لا مُتحركة ولا ساكنة لعجز محلها؛ فقد يجب أن يكون جائزًا وجود القُدرة على الطاعة والمعصية، والعجز عنهما في حالٍ واحدةٍ، في جسمٍ واحدٍ.

قالوا: ففي استحالة اجتماع العجز والقُدرة في حالٍ واحدةٍ، في جسمٍ واحدٍ، الدليل الواضح على اختلاف حكم القُدرة في الجوارح للفعل والجوارح، والقُدرة للعمل سببٌ، وليس كذلك الجوارح.

قالوا: وإذا كانت القُدرة للفعل سببًا وجب وجود مُسببه معه.

قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان مُحالًا اجتماع الكفر والإيمان في جسمٍ واحدٍ، في حالٍ واحدةٍ؛ عُلم أنَّ القدرة على الطاعة غير القُدرة على المعصية، وأنَّ الذي تعمل به الطاعة فيُوصل به إليها من الأسباب غير الذي تعمل به المعصية فيُوصل به إليها من الأسباب.

وصحَّ بذلك فساد قول مَن زعم أنَّ الله عزَّ ذكره قد فوَّض إلى خلقه الأمر، فهم يعملون ما شاءوا من طاعةٍ ومعصيةٍ، وإيمانٍ وكفرٍ، وليس لله جلَّ ثناؤه في شيءٍ من أعمالهم صنعٌ.

قالوا: فإذا فسد قولُ القدرية الذين وصفنا قولهم؛ فقول جهمٍ وأصحابه الذين زعموا أنَّ الله تعالى ذكره اضطر عباده إلى الكفر وإلى الإيمان وإلى شتمه والفرية، وأنه ليس للعباد في أفعالهم صنعٌ: أبطل وأفسد.

قالوا: وذلك أنَّ الله تعالى ذكره أمر ونهى، ووعد الثَّواب على طاعته، وأوعد العقابَ والعذابَ على معصيته؛ فقال في غير موضعٍ من كتابه إذ ذكر ما فعل بأهل طاعته وولايته من أهل كرامته لهم: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وإذ ذكر ما فعل بأهل معصيته وعداوته من عقابه إياهم: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82].

قالوا: فلو كانت الأفعالُ كلها لله، لا صنعَ للعباد فيها، لكان لا معنًى للأمر والنَّهي؛ لأنَّ الآمر يأمر غيره لا نفسه، وإذا أمر غيره فإنما يأمره ليُطيعه فيما أمره، وكذلك نهيه إياه إذا نهاه.

قالوا: فهذا أمر الله تعالى ذكره ونهى في قولنا وقول جهمٍ وأصحابه؛ فأثاب وعاقب، فلن يخلوا من أن يكون أمر نفسه ونهاها، وأمر عبده ونهاه.

قالوا: ومن المُحال أن يكون أمر نفسه ونهاها عندنا وعندهم؛ فالواجب أن يكون أمر غير نفسه، ونهى غيرها.

قالوا: وإذ كان ذلك كذلك فلن يخلو من أن يكون أمر ليُطاع أو لا يُطاع.

وإن كان أمر ليُطاع فمعلومٌ أنَّ الطاعة فعل المُطيع، والمعصية فعل العاصي، وأنَّ فعل الله وخلقه الذي ليس بكسبٍ للعبد لا طاعةً ولا معصيةً، كما خلقه السَّموات والأرض ليس بطاعةٍ ولا معصيةٍ؛ لأنَّ ذلك ليس بكسبٍ لأحدٍ، وأنه ليس فوق الله جلَّ ثناؤه أحدٌ يأمره وينهاه، فيكون فعله طاعةً أو معصيةً.

فالطاعة إنما هي الفعل الذي بحذائه أمرٌ، والمعصية كذلك.

فإن كان أمر لا ليُطاع، فقد زالت المآثم عن الكفرة، واللائمة عن العُصاة؛ فارتفع الثوابُ والعقابُ، إذ كان الثواب ثوابًا على طاعته، والعقاب عقابًا على معصيته.

الشيخ: والمقصود من هذا إبطال قول الجهمية والمعتزلة، وأنَّ الله جلَّ وعلا أعطى العبادَ اختيارًا وفعلًا وإرادةً وبصيرةً، فمَن أطاع فله الجنة والثواب، ومَن عصى فله النار، وهو قادر على كل شيءٍ؛ يهدي مَن يشاء، ويُوفق مَن يشاء، ويخذل مَن يشاء، وهم عبيده يفعلون ويختارون، فمَن وفَّقه الله وشرح صدره للخير فعل الخيرات، ومَن كان بضدِّ ذلك فعل الشُّرور، فهو مأجور على فعله الاختياري، آثم على فعله المنكر؛ لأنَّ له اختيارًا، وله إرادةً، والله أعطاه اختيارًا، وأعطاه إرادةً، يفعل هذا وهذا .

قالوا: وفساد هذا القول أوضح من أن يحتاج إلى الإكثار في الإبانة عن جهل قائله.

فإذا كان فسادُ قول القدرية القائلين بالتَّفويض، وخطأ قول جهمٍ وأصحابه القائلين بالإجبار، صحَّ قول القائلين من أهل الإثبات بالذي استشهدنا من الدلالة.

وهذا القول -أعني قول أهل الإثبات المُخالفين القدرية والجهمية- هو الحقّ عندنا، والصواب لدينا؛ للعلل التي ذكرناها.

الشيخ: وهو قول أهل السنة والجماعة، قول الرسل وأتباعهم عليهم السلام.

القول في الاختلاف الرابع:

قال أبو جعفر: ثم كان الاختلافُ الرابع الذي حدث بعد هذا الاختلاف الثالث الذي ذكرناه، وذلك اختلافهم في الكبائر:

(أ) فقال بعضُهم: هم كفار، وهو قول الخوارج.

(ب) وقال بعضُهم: ليسوا بالكفار الذين تحلّ دماؤهم وأموالهم، ولكنَّهم كفَّار نعمةٍ، وهم منافقون؛ لأنَّ لهم حكم المؤمنين.

(ج) وقال آخرون: ليسوا بمؤمنين ولا كفَّار، ولكنَّهم فسقة أعداء الله، ويُوارثون في الدنيا المسلمين ويُناكحونهم، ويُحكم لهم بحكم الإسلام، غير أنَّهم من أهل النار مُخلَّدون فيها. وهذا قول المُعتزلة.

الشيخ: وهذه أقوال باطلة: قول الخوارج أنهم كفَّار وعُصاة، وقول المعتزلة أنهم مسلمون في الحكم، ولكن يُخلدون في النار. كل هذه أقوال باطلة، وقول أهل السنة والجماعة أنَّهم مسلمون عُصاة ناقصوا الإيمان، ضعفاء الإيمان، وليسوا بكفَّار، ولا يُخلدون في النار لو دخلوها، بل هم تحت مشيئة الله، فإذا مات على الزنا أو شرب الخمر أو العقوق للوالدين أو الربا فإنه يكون مُعرَّضًا للوعيد، وعلى خطرٍ من دخول النار، ولكن ليس بكافرٍ، وليس بمُخلَّدٍ في النار إذا دخلها، خلافًا للخوارج والمعتزلة، فقول الخوارج بتكفير العُصاة، وقول المعتزلة بأنهم مخلَّدون في النار؛ كلها أقوال باطلة كما قال المؤلف.

وكل أهل هذه المقالات الثلاث التي وصفنا صفة قائليها يزعمون أنَّ أهل الكبائر من أهل التوحيد مُخلَّدون في النار لا يخرجون منها.

(د) وقال آخرون: أهل الكبائر من أهل التوحيد الذين وحَّدوا وصدقوا رسول الله ﷺ، وأقروا بشرائع الإسلام، مؤمنون بإيمان جبريل وميكائيل، وهم من أهل الجنة.

وقالوا: لا يضرّهم مع الإيمان ذنبٌ، صغيرةً كانت أو كبيرةً، كما لا ينفع مع الشرك عملٌ.

قالوا: والوعيد إنما هو لأهل الكفر بالله، المُكذبين بما جاء به رسوله ﷺ.

الشيخ: وهذا قول المرجئة، وهو قول باطل أيضًا قول المرجئة.

وقال آخرون: هم مؤمنون غير أنَّهم لما ركبوا من معاصي الله فاجترحوا الذنوب في مشيئة الله: إن شاء عفا عنهم بفضله فأدخلهم الجنَّة، وإن شاء عاقبهم بذنوبهم، فإنه يُعاقبهم بقدر الذنب، ثم يُخرجهم من النار بعد التَّمحيص فيُدخلهم الجنَّة.

الشيخ: وهذا قول أهل السنة والجماعة، وهو أن العُصاة إذا ماتوا على معاصيهم فهم تحت المشيئة: إن شاء الله غفر لهم؛ لتوبتهم أو لأعمالهم الطيبة، وإن شاء عذَّبهم على قدر الجرائم التي كانوا ماتوا عليها، ثم بعد التَّطهير يُدخلهم الله الجنة، ولا يدخلون النار.

قالوا: ولا يجوز في عدله أن يُعاقب عبده على ذنوبه، ولا يُجازيه على طاعته إياه.

قالوا: بل الذي هو أولى به الأخذ بالصفح والفضل عن الجرم.

قالوا: فإن هو لم يصفح عن الجُرم وعاقب عليه، فغير جائزٍ أن لا يُثيب على الطاعة؛ لأنَّ ترك الثواب على الطاعة مع العقاب على المعصية جورٌ.

قالوا: والله عدلٌ لا يجور، وليس ذلك من صفته.

وقال آخرون فيهم: هم مسلمون، وليسوا بمؤمنين؛ لأنَّ المؤمن هو الولي المُطيع لله.

قالوا: وقول القائل: فلانٌ مؤمنٌ، مدحٌ منه لمَن وصفه.

قالوا: والفاسق مذمومٌ غير ممدوحٍ، عدو الله لا ولي له.

قالوا: فغير جائزٍ أن يُوصف أعداء الله بصفة أوليائه، أو أولياؤه بصفة أعدائه.

قالوا: فاسمه الذي هو اسمه الفاسق الخبيث الرديء، لا المؤمن.

قالوا: وتسميته مسلمًا باستسلامه لحكم الله الذي جعله حكمًا له ولأمثاله من الناس.

قال أبو جعفر: والذي نقول: معنى ذلك أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا نقول: هم مؤمنون بالإطلاق؛ لعللٍ سنذكرها بعد.

ونقول: هم مسلمون بالإطلاق؛ لأنَّ الإسلام اسمٌ للخضوع والإذعان، فكل مُذعنٍ لحكم الإسلام ممن وحَّد الله وصدق رسوله ﷺ بما جاء به من عنده، فهو مسلمٌ.

ونقول: هم مسلمون فسقةٌ عُصاةٌ لله ولرسوله، ولا نُنزلهم جنةً ولا نارًا، ولكنا نقول كما قال الله تعالى ذكره: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

فنقول: هم في مشيئة الله تعالى ذكره؛ إن شاء أن يُعذِّبهم عذَّبهم وأدخلهم النار بذنوبهم، وإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته فأدخلهم الجنة، غير أنه إن أدخلهم النار فعاقبهم بها لم يُخلدهم فيها، ولكنه يُعاقبهم فيها بقدر إجرامهم، ثم يُخرجهم بعد عقوبته إياهم بقدر ما استحقُّوا فيُدخلهم الجنة.

الشيخ: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة: أنهم تحت المشيئة: إن شاء الله عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم، وإذا عذَّبهم فلا يُخلدون، وإذا عذَّبهم بالنار على قدر معاصيهم ثم يُخرجهم الله من النار إلى الجنة بعد التَّطهير والتَّمحيص، وكان اللائق بالمؤلف أن يقول: هذا قول أصحاب النبي ﷺ، وهو قول أهل السنة والجماعة، كان عليه أن يُصرح بهذا، ولعله يأتي.

لأنَّ الله جلَّ ثناؤه وعد على الطاعة الثَّواب، وأوعد على المعصية العقاب، ووعد أن يمحو بالحسنة السيئة ما لم تكن السيئةُ شركًا.

فإذا كان ذلك كذلك، فغير جائزٍ أن يبطل بعقاب عبدٍ على معصيته إياه ثوابه على طاعته؛ لأنَّ ذلك محوٌ بالسيئة الحسنة، لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوفٌ من العدل والفضل والعفو عن الجرم.

والعدل: العقاب على الجُرم، والثواب على الطاعة.

فأما المُؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدلَ ولا فضلَ، وليس من صفته أن يكون خارجًا من إحدى هاتين الصِّفتين.

وبعد: فإنَّ الأخبار المروية عن رسول الله ﷺ مُتظاهرةٌ بنقل مَن يمتنع في نقله الخطأ والسَّهو والكذب، ويُوجب نقله العلم: أنه ذكر أنَّ الله جلَّ ثناؤه يُخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا وصاروا حممًا بذنوبٍ كانوا أصابوها في الدنيا، ثم يُدخلهم الجنة. وأنه ﷺ قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربِّه ذكره، فيُقال: أخرج منها منهم مَن كان في قلبه مثقال حبَّةٍ من خردلٍ من إيمانٍ.

في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبرٌ ﷺ.

القول في الاختلاف الخامس:

قال أبو جعفر: ثم كان الاختلافُ الخامس: وهو الاختلاف فيمَن يستحق أن يُسمَّى: مؤمنًا، وهل يجوز أن يُسمَّى أحدٌ: مؤمنًا على الإطلاق، أم ذلك غير جائزٍ إلا موصولًا بمشيئة الله جلَّ ثناؤه؟

(أ) فقال بعضُهم: الإيمان: معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح. فمَن أتى بمعنيين من هذه المعاني الثلاثة ولم يأتِ بالثالث فغير جائزٍ أن يُقال: إنه مؤمنٌ، ولكنَّه يُقال له: إن كان اللَّذان أتى بهما المعرفة بالقلب والإقرار باللسان، وهو في العمل مُفرطٌ فمسلمٌ.

وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إذ كان كذلك فإننا نقول: هو مؤمنٌ بالله ورسوله، ولا نقول: مؤمنٌ على الإطلاق.

وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إذ كان كذلك فإنه يُقال له: مسلمٌ، ولا يُقال له: مؤمنٌ إلا مقيدًا بالاستثناء؛ فيُقال: هو مؤمنٌ إن شاء الله.

(ب) وقال آخرون: الإيمان: معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وليس العملُ من الإيمان في شيءٍ؛ لأنَّ الإيمان في كلام العرب التَّصديق.

قالوا: والعامل لا يُقال له: مصدقٌ، وإنما التَّصديق بالقلب واللِّسان. قال: فمتى صدَّق بقلبه ولسانه فهو مُؤمنٌ مسلمٌ.

(ج) وقال آخرون: الإيمانُ: المعرفة بالقلب، فمَن عرف الله بقلبه، وإن جحده بلسانه، وفرَّط في الشَّرائع، فهو مؤمنٌ.

(د) وقال آخرون: الإيمان نفسه: التصديق باللسان والإقرار، بدون المعرفة والعمل.

قالوا: لأنَّ ذلك هو المعروف في كلام العرب.

قالوا: وبعد، فإنَّ معرفة الله جلَّ ثناؤه ليس بكسبٍ للعبد فيكون من معاني الإيمان، والعمل من فرائض الله التي شرعها لعباده، وليس ذلك بتوحيدٍ أيضًا.

قالوا: وإيمانٌ بلا كسب العبد من العمل الذي هو توحيد الله تعالى ذكره، وإقرارٌ منه بوحدانيته، ونبوة رسوله ﷺ وما جاء به من شرائع دينه.

قالوا: فمتى أتى بذلك فهو مؤمنٌ لا شكَّ فيه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنَّ الإيمان اسمٌ للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتابُ الله تعالى ذكره خبرًا عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] بمعنى: ما أنت بمُصدِّقٍ لنا على قيلنا. غير أنَّ المعنى الذي يستحق به اسم مؤمن بالإطلاق هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله تعالى ذكره من معرفةٍ وإقرارٍ وعملٍ.

الشيخ: وهذا قول أهل السنة والجماعة: قول وعمل، اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح، هذا هو المؤمن الكامل الذي يُؤدي ما أوجب الله بقلبه ولسانه وعمله، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، فإذا أخلَّ بواجبٍ أو ارتكب معصيةً صار ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، إذا كان أصل الإيمان ثابتًا: موحدًا لله، ومؤمنًا برسوله ﷺ، مُجتنبًا لما يُوجِب الكفر، فإذا فعل شيئًا من المعاصي صار ناقصًا في إيمانه، وضعفًا في إيمانه، وإنما يكون مؤمنًا إذا كان قد أدَّى الواجبات وترك المحارم.

والسلف يقولون: إن شاء الله، من باب التَّورع، ومن باب الحيطة، يقول: إن شاء الله، إما لأنَّه قد يكون قصَّر في العمل، وإما لمراعاة الموت؛ لأنه لا يدري: هل يموت عليه أم لا؟ فيقول: إن شاء الله، والمقصود أنَّ الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، فيُقال لمن أتى بالقول والعمل: مؤمن، وشهد الشَّهادتين، وصدَّق بقلبه، وعمل بجوارحه، وأدَّى ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله، صار مؤمنًا كاملًا، فإن نقص من عمله شيء صار مؤمنًا ناقص الإيمان، أما القول والقلب فلا بدَّ منهما.

س: الاعتقاد هل يكون بالقول أو العمل؟

ج: اعتقاده: قول القلب، وعمله: الخوف والرجاء والمحبة ونحو ذلك، والتصديق هو القول.

س: ما قولك في قول المُؤلف: أنَّ الإيمان في لغة العرب هو مجرد التَّصديق؟

ج: هذا أصله، لكن التَّصديق يكون بالقول، ويكون بالعمل، يكون بلسانه، ويكون بعمله، تقول العرب: حمل حملةً صادقةً، إذا جدَّ في قتال الكفَّار صارت الحملةُ الصَّادقة، فإذا عمل صار صادقًا في قوله، فالذي يقول: الصلاة فريضة، ويُؤديها؛ هذا هو الصَّادق، وإذا قال: فريضة، ولم يُؤدها؛ صار قوله ضعيفًا، ليس بصادقٍ الصدق الكامل حتى يعمل، وإذا قال: الزكاة حقّ، ولم يعمل؛ صار قوله ناقصًا، وإيمانه ناقصًا حتى يُؤديها.

س: على هذا يكون الإيمانُ في اللغة التَّصديق الجازم؟

ج: يكون التَّصديق بالقول، ويكون بالعمل أيضًا، ويكون تصديق بالعمل أيضًا من حيث اللغة، فالذي يحمل على الكفَّار حملةً قويةً يُقال له: صادق، والذي يحمل حملًا ضعيفًا ويتقهقر ليس بصادقٍ، والذي يقول: إني أُكرم الضيف، وأنَّ إكرام الضيف حقٌّ، ثم لا يُكرمه، ليس بصادقٍ، فإذا أكرم الضيفَ صار صادقًا، أي: صادقًا بالعمل، ولو قال: الضيف له حقّ -حق الكرامة- يجب إكرامه، ولكنه لا يُكرمه؛ ما كان صادقًا، بل كان قوله ضعيفًا، يكون مُكذِّبًا لعمله، وعمله مكذب لقوله.

س: أليس التَّصديق يُقابل الكذب؟

ج: يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، هذا التَّصديق في اللغة وفي الشَّرع.

س: لكن في محض اللُّغة أليس التَّصديقُ يُقابل بالكذب، والإيمان يُقابل بالكفر؟

ج: نعم، والكذب يكون بالعمل أيضًا، فالذي يقول: إن إكرام الضيف حقٌّ، ثم لا يُكرمه، يُهينه؛ كاذب، عمله يُكذب قوله.

وذلك أنَّ العارف المُعتقد صحَّة ما عرف من توحيد الله تعالى ذكره وأسمائه وصفاته، مُصدقٌ لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته؛ فكذلك العارفُ بنبوة نبي الله ﷺ، المُعتقد صحَّة ذلك، وصحَّة ما جاء به من فرائض الله.

وذلك أنَّ معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده؛ تصديقٌ من العامل بعمله ذلك لله جلَّ ثناؤه ورسوله ﷺ، كما أنَّ إقراره بوجوب فرض ذلك عليه تصديقٌ منه لله ورسوله بإقراره أنَّ ذلك له لازمٌ، فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحدٍ منها على انفراده اسم إيمانٍ.

وكان العبدُ مأمورًا بالقيام بجميعها، كما هو مأمورٌ ببعضها، وإن كانت العقوبةُ على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخفّ؛ كان بينًا أنه غير جائزٍ تسمية أحدٍ مؤمنًا، ووصفه به مطلقًا من غير وصلٍ إلا لمَن استكمل معاني التَّصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله، كما أنَّ العلم الذي يأتي مطلقًا هو العلم بما ينوب أمر الدِّين.

فلو أنَّ قائلًا قال لرجلٍ عرف منه نوعًا، وذلك كرجلٍ كان عالمًا بأحكام المواريث دون سائر علوم الدِّين، فذكره ذاكرٌ عند مَن يعتقد أنَّ اسم عالمٍ لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا مَن قلنا إنه يلزمه، فقال: فلانٌ عالمٌ بالإطلاق، ولم يصله فيُقال: فلانٌ عالمٌ بالفرائض، أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة، وأساء في المقالة؛ لأنَّه وضع اسم العموم على خاصٍّ عند مَن لا يعلم مُراده، إن كان قائل ذلك أراد الخصوص.

وإن كان أراد العموم وهو يعلم أنَّ هذا الاسم لا يستحق إلا مَن كان جامعًا علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب.

وكذلك القائل لمَن لم يكن جامعًا أداء جميع فرائض الله عزَّ ذكره من معرفةٍ وإقرارٍ وعملٍ: هو مؤمنٌ، إما كاذبٌ، وإما مُخطئٌ في العبارة، مُسيءٌ في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمنٌ بما هو به مؤمنٌ؛ لأنَّ وصفنا مَن وصفنا بهذه الصِّفة، وتسميتناه هذه التَّسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها، فمَن لم يكن جامعًا ذلك، فإنما له ذلك الاسم بالخصوص، فغير جائزٍ وصف مَن كان له من صفات الإيمان خاصٌّ ومن أسمائه بعضٌ بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصفُ إذا وصف بذلك أن يقول له إذا عرف وأقرَّ وفرَّط في العمل: هو مؤمنٌ بالله ورسوله، فإذا أقرَّ بعد المعرفة بلسانه وصدَّق وعمل ولم تظهر منه مُوبقةٌ، ولم تُعرف منه إلا المُحافظة على أداء الفرائض؛ قيل: هو مؤمنٌ إن شاء الله.

وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا: إن شاء الله؛ لأنَّا لا ندري: هل هو مؤمنٌ ضيَّع شيئًا من فرائض الله عزَّ ذكره أم لا؟ بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مُضيعٍ شيئًا منها، ولا مُفرطٍ؛ فلذلك مَن وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسمُ المُطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال، فمَن لم يكن مكملًا جميع معانيه -والأغلب عندنا أنه لا يُكملها أحدٌ- لم يكن مُستحقًّا اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال؛ لأنَّ الناقص غير جائزٍ تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل.

الشيخ: وهذا قول أهل السنة لعموم: إن شاء الله؛ لما فيه من اشتراطٍ، من باب الاحتياط؛ لأنه لا يدري: قد يكون قصَّر في بعض العمل فيقول: إن شاء الله، وبعضهم أراد بهذا الموت إن شاء الله، يعني: إن شاء الله يموت على الإيمان.

س: هل إيجاب بعض السلف يُوجب الاستثناء؟

ج: لا يُزكي نفسه، يقول: إن شاء الله، لا يُزكي نفسه؛ لأنه قد يكون عنده بعض التَّفريط.

المؤلف يُلام في هذا أنه ما ينسب لأهل السنة، كان ينبغي له أن يقول: هذا قول أهل السنة والجماعة، هذا قول أصحاب النبي ﷺ. يختار القول الصواب، ولكن لا ينسبه لأهل السنة، كان ينبغي للمؤلف رحمه الله إذا اختار الصوابَ أن يقول: هذا قول أهل السنة والجماعة، هذا قول أصحاب النبي ﷺ ومَن تبعهم بإحسانٍ. حتى يكون السامعُ على بصيرةٍ.

فالمؤلف هنا نقص رحمه الله كلامًا كثيرًا، يتكلم كثيرًا ولكن ما يعتني بإيضاح مذهب أهل السنة والجماعة، وإن كان اختار الصواب، لكن لا ينسبه إلى أهل السنة، وينسب البدع إلى أهل البدع، يقول: هذا قول المرجئة، هذا قول الجهمية، هذا قول المعتزلة؛ حتى يُعرفوا، كما كان أبو الحسن الأشعري وغيره وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ينسبون الأقوالَ إلى أهلها، فالمؤلف هنا ما ينسبها إلى أهلها، يأتي بأقوالٍ مجردةٍ، فهذا نقصٌ.

س: يستثني في الإيمان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؟

ج: يعني: أرجو أني إن شاء الله كملت، من باب رجاء أنه يكمل، يخشى النَّقص.