شرح كتاب العقيدة الحموية 1

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُئل شيخُ الإسلام، العالم الرَّباني: تقي الدِّين أبو العباس أحمد ابن تيمية، وذلك في سنة ثمانٍ وتسعين وستمئة، وجرى بسبب هذا الجواب أمورٌ ومحنٌ، وهو جواب عظيم النَّفع جدًّا.

فقال السائل: ما قول السَّادة الفقهاء أئمَّة الدِّين في آيات الصِّفات: كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11]، إلى غير ذلك من الآيات، وأحاديث الصِّفات؛ كقوله ﷺ: إنَّ قلوب بني آدم بين أُصبعين من أصابع الرحمن، وقوله: يضع الجبَّار قدمه في النار، إلى غير ذلك من الأحاديث، وما قالت العلماء؟ وابسُطوا القولَ في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى.

فأجاب: الحمد لله ربّ العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله ﷺ والسَّابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ، وما قاله أئمةُ الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإنَّ الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحقِّ؛ ليُخرج الناس من الظُّلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، وأمره أن يقول: هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

الشيخ: وهذا هو الحقّ على جميع الخلق؛ هو اتباع ما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ودرج عليه سلفُ الأمة في باب الإيمان، وفي باب الأسماء والصِّفات، وفي باب الأعمال، يجب سلوك مسلك السلف الصالح من أصحاب النبي ﷺ، والسير على ذلك، والاستقامة على ذلك، وترك ما خالف ذلك من أقوال المتأخِّرين.

فمن المحال في العقل والدِّين أن يكون السراجُ المنير الذي أخرج اللهُ به الناس من الظُّلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحقِّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردُّوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بُعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله بإذنه على بصيرةٍ، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته؛ مُحال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به مُلتبسًا مُشتبهًا، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصِّفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه. فإنَّ معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول.

الشيخ: لأنَّ نصر الدين هو الأساس، أفضل ما أدركته القلوب والعقول، وأفضل ما اكتسبته العقول والقلوب، وأفضل ما فعله واعتقده الناسُ هو الإيمان بالله ورسوله، والإخلاص لله، والتصديق بأنه الحق، وأنه المعبود بالحق، وأن رسوله محمدًا حق، وأن ما جاء به حقّ، هذا هو أصل الدين وأساسه، ولا طريقَ إلى هذا إلا بالكتاب والسنة.

فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النَّبيين لم يحكموا هذا الكتاب اعتقادًا وقولًا؟! ومن المحال أيضًا أن يكون النبيُّ ﷺ قد علَّم أُمَّتَه كل شيءٍ حتى الخراءة، وقال: تركتُكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، وقال فيما صحَّ عنه أيضًا: ما بعث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم.

وقال أبو ذرٍّ : لقد تُوفي رسولُ الله ﷺ وما من طائرٍ يقلب جناحيه في السَّماء إلا ذكر لنا منه علمًا.

وقال عمرُ بن الخطاب : قام فينا رسولُ الله ﷺ مقامًا، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهلُ الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك مَن حفظه، ونسيه مَن نسيه. رواه البخاري.

محال مع تعليمهم كل شيءٍ لهم فيه منفعة في الدِّين -وإن دقَّت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم ربِّ العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدَّعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية.

فكيف يتوهم مَن في قلبه أدنى مُسكةٍ من إيمانٍ وحكمةٍ أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول ﷺ على غاية التَّمام؟ إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب، زائدين فيه، أو ناقصين عنه.

ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بُعث فيهم رسولُ الله ﷺ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحقِّ المبين؛ لأنَّ ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحقِّ، وقول خلاف الصِّدق. وكلاهما مُمتنع:

أما الأول: فلأنَّ مَن في قلبه أدنى حياةٍ وطلبٍ للعلم، أو نهمةٍ في العبادة، يكون البحثُ عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحقِّ فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب وصفاته.

الشيخ: لأنَّ المقصود معرفة صفاته وأسمائه، والإيمان بذلك: أنه رب العالمين، وأنه الحق المبين، والعالم بكل شيءٍ، والقادر على كل شيءٍ، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا، هذا المقام هو أشرف المقامات، وأعظم المقامات، وهو أساس الملة والدين، أما الكيفية فمُنتفية، لا يعلمها إلا هو ، كيفية صفاته لا يعلمها إلا هو، فلا يعلم كيف استواؤه، ولا كيف نزوله، ولا كيف قدمه، ولا كيف وجهه، ولا كيف يده إلا هو ، وهكذا الذات.

المقصود من هذا كله أنَّ الله جلَّ وعلا بعث محمدًا ﷺ، وأنزل الكتاب لبيان أسمائه وصفاته، وبيان حقّه على عباده، وبيان ما يجب أن يعتقد فيه ، وهذا أشرف المطالب، وأعظم المكاسب؛ ولهذا بيَّنه الرسل عليهم الصلام والسلام، وبيَّنه خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أعظم من بيان العبادات الأخرى.

وليست النفوس الصَّحيحة إلى شيءٍ أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلَّف عنه مُقتضاه في أولئك السَّادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟!

وأما كونهم كانوا مُعتقدين فيه غير الحقِّ أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم.

ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه.

الشيخ: هذه رسالة عظيمة، "الحموية" رسالة عظيمة، أبان فيها الحقَّ رحمه الله، وردَّ على أهل الباطل، ونقل فيها نقولًا عظيمةً تأتي إن شاء الله.

ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك مَن طلبه وتتبعه.

ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السَّالفين كما يقوله بعضُ الأغبياء ممن لم يقدر قدر السَّلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها؛ من أنَّ "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم".

وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعنون بها معنى صحيحًا، فإنَّ هؤلاء المبتدعة الذين يُفضّلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومَن حذا حذوهم على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أنَّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقهٍ لذلك، بمنزلة الأُميين الذين قال فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، وأنَّ طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللُّغات.

فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضَّلال بتصويب طريقة الخلف.

الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ السلف هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأعلم بما في اللغة العربية، وطريقتهم هي الأعلم، وهي الأحسن، وهي الأكمل؛ لأنَّ التأويلات فيها الخطر عظيم، التي سلكها المتأخرون، وأما السلف فقبلوا النصوص، وسلَّموا لها، وعملوا بما دلَّت عليه، ولم يتأوَّلوها؛ لعلمهم وفضلهم وبصيرتهم؛ ولبُعدهم عن الخطر، واحتياطهم لدينهم، فكانوا أسلم وأعلم وأحكم وأقرب إلى الصواب، بخلاف طريقة الخلف، وهي مملوءة بالأشواك والأخطار، مع قلة العلم، وقلة البصيرة، والجرأة على الله وعلى دينه.

س: قوله: إنَّ هذه اللَّفظة .....؟

ج: إذا صدرت من بعض العلماء قد تُؤوَّل على معنى صحيحٍ، لكن ما ظهر لي وجهه.

س: ............؟

ج: ما هو بعيد، ما ظهر لي وجهه، زيادة ما ظهر لي وجهها.

وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلَّت عليها هذه النصوص للشُّبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصِّفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بدَّ للنصوص من معنًى؛ بقوا مُترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يُسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معانٍ بنوع تكلُّفٍ -وهي التي يُسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مُرَكَّبًا من فساد العقل والكفر بالسمع.

الشيخ: وكلاهما غلط، فليست طريقةُ السلف التَّفويض، وليست طريقةُ الخلف الصواب، بل طريقة السلف الإيمان بالمعنى، والتسليم لله ، وأنه حقّ، وأنه لائقٌ بالله، لا شبيهَ له به ، ليسوا بمفوضين، بل مُؤمنين؛ يؤمنون بالألفاظ والمعاني، معتقدين المعاني، مسمين لها على الوجه اللائق بالله .

والتفويض معناه: أن يقول: ما نعرف المعنى، نُفوضه إلى الله. هذا غلط، المفوضة كما جاء عن أحمد رحمه الله قال: "شرٌّ من الجهمية"؛ لأنهم اعتقدوا أنَّ الله خاطب الناسَ بشيءٍ لا يفهمونه، وهذا غلط، بل خاطبهم بما يعلمون ويفهمون، على الوجه اللائق به ؛ ولهذا قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فأخبرهم بالمعنى، وأنه حق، وأنه ليس من جنس ما يفهمون، بل هو معنى لائق بالله ، أما التأويل: فصرف الأمور عن ظاهرها والنصوص، هذا باطل قادهم إليه سوءُ ظنِّهم بالله وعدم بصيرتهم.

فإنَّ النَّفي إنما اعتمدوا فيه على أمورٍ عقليةٍ ظنوها بينات، وهي شُبهات، والسَّمع حرَّفوا فيه الكلامَ عن مواضعه.

فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين كانت النَّتيجة: استجهال السَّابقين الأولين واستدلالهم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أُميين، بمنزلة الصَّالحين من العامَّة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأنَّ الخلف الفُضلاء حازوا قصبَ السَّبق في هذا كله.

ثم هذا القول إذا تدبره الإنسانُ وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضَّلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخِّرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضربٍ من المتكلمين- الذين كثر في باب الدِّين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقفُ على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول:

لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها وسَيَّرتُ طَرْفي بين تلك المعالِمِ
فلم أرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ على ذقَنٍ أو قارعًا سِنَّ نادمِ

وأقروا على نفوسهم بما قالوه، متمثلين به، أو مُنشئين له فيما صنَّفوه من كتبهم؛ كقول بعض رؤسائهم:

نهاية إقدام العقول عقالُ وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دُنيانا أذًى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ويقول الآخر: لقد خضتُ البحر الخضم، وتركتُ أهل الإسلام وعلومهم، وخضتُ في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمةٍ، فالويل لفلان، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي.

ويقول الآخرُ منهم: أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام.

الشيخ: المقصود من هذا أنَّ هؤلاء الذين ابتُلوا بالكلام، وكثروا البحث في هذه الأمور، ونقلوا عن أصحاب الكلام وأهل الحيرة ما نقلوا، في الحقيقة أنهم ما استفادوا شيئًا، وندم الكثيرُ منهم على ما فعل، وكان آخر كلامهم ما ذكره المؤلف.

وهذا كله يُبين لنا أنَّ الواجب على أهل العلم التَّمسك بما كان عليه السلفُ الصالح من تعظيم كتاب الله والأخذ به، والأخذ بالسنة والثبات عليها، ونبذ ما خالف ذلك، وعدم الخوض في آيات الصِّفات وأحاديثها بما يقوله أصحابُ الكلام الذين كثر في باب أسماء الله وصفاته اضطرابهم ..... عن معرفة الله حجابهم بسبب إعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فهل يستفيدون من بحثهم إلا قيل وقال؟! وهو الخوض الباطل الذي لا نتيجةَ له.

فيكفي في الإثبات ما جاء من نصوص الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119]، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]. ويكفي في النفي نصوص النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74]، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وأشباهها.

هذه كفاية في الإثبات والنَّفي؛ في إثبات أسماء الله وصفاته على الوجه اللائق بالله، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، فمَن قال: "إنَّ هؤلاء المتأخرون أعلم وأحكم" فقد غلط غلطًا عظيمًا، وقد فقد صوابه، وقد أُصيب في عقله وفي علمه، فإنَّ أهل السنة والجماعة الذين سبقوا إلى هذا الأمر هم الذين أعلم بالله، وأحكم في أقوالهم وأفعالهم، وهم سلكوا الطريق التي هي السلامة، وهي طريق الحكمة، وهي طريق العلم، وطريق الفقه في الدِّين، وطريق التَّأدب مع الله ومع رسوله، فهم أولى بالله وأولى برسوله من هؤلاء المتأخرين.

فمَن قال: "إن الخلف أعلم وأحكم، والسلف أسلم" فقد قال الباطل، وغلط غلطًا عظيمًا لا وجهَ له، بل السلف الصالح هم أعلم وأحكم وأسلم، والمتأخرون هم أقل علمًا، وأكثر تكلُّفًا، وأقل حكمةً، وأقل بصيرةً، نسأل الله السلامة.

ثم [هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف] إذا حقق عليهم الأمر لم يُوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عينٍ ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المنهوكون.

الشيخ: لعلها "المتهوكون" بالتاء بدل النون: "المتهوكون"، المتهوك الذي يقول بغير علمٍ، ويتصرف بغير علمٍ.

أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السَّابقين الأوَّلين؟!

الشيخ: هذا يُبين لك أنَّ ما تقدم من قول المؤلف: "وإن كانت هذه العبارةُ صدرت من عالم لأمكن أن يكون لها معنًى" هذا ليس بشيءٍ، وأن هذه والله أعلم مدخلة على المؤلف، وليس لها أصل في كلامه؛ لأنها عبارة خبيثة في حقِّ مَن قالها: أنَّ طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، هذه لا يقولها عالم، ولا مُتبصر، ولا عاقل يعقل ما يقول.

س: هي قاعدة عند المتأخرين؟

ج: غلط، غلط قبيح.

أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسانٍ من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدُّجَى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، [فضلًا عن سائر الأمم الذين لا كتابَ لهم]، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيى مَن يطلب المقابلة.

ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟! أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضُلال اليهود والنَّصارى والصَّابئين، وأشكالهم وأشباههم؛ أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!

وإنما قدمت هذه المقدمة لأنَّ مَن استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أنَّ الضلال والتَّهوّك إنما استولى على كثيرٍ من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عمَّا بعث اللهُ به محمدًا ﷺ من البيّنات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السَّابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، ولشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحدًا، وإنما أصف نوع هؤلاء.

وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله ﷺ من أولها إلى آخرها، ثم عامَّة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نصّ، وإما ظاهر في أنَّ الله سبحانه فوق كل شيءٍ، وعليٌّ على كل شيءٍ، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السَّماء، مثل قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه [فاطر:10]، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ۝ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًاِ [الملك:16-17]، بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل:50]، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3] في ستة مواضع، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36- 37].

الشيخ: قوله: "ستة مواضع" هذا معناه غير الموضع الذي ذكره، فهي سبعة مواضع، ستة غير الموضع الذي بدأ به.

تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ [الأنعام:114].

الشيخ: كل هذه طرق دالَّة على علو الله وفوقيته، وأنه فوق العرش، فوق جميع الخلق: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وكذلك تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ [المعارج:4]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، فالصعود والعروج إلى العلو، والرفع كذلك، وهكذا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، إلى غير هذا، كلها من الطرق الدالة على علوه سبحانه وفوقيته جلَّ وعلا.

إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يُحصى إلا بكلفةٍ.

وفي الأحاديث الصِّحاح.

الشيخ: الصِّحاح بالكسر، جمع صحيح، صحيح وصِحاح، وفي الجوهري: يُقال فيه: الصِّحاح والصّحاح، لغتان، أما هذا فيما يظهر بالكسر: صحيح، صِحاح، مثل: عظيم وعِظام، كريم وكِرام.

وفي الأحاديث الصِّحاح والحِسان ما لا يُحصى إلا بكلفةٍ، مثل: قصة معراج رسول الله ﷺ إلى ربِّه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقول الملائكة الذين يتعاقبون [فيكم] بالليل والنَّهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم.

وفي الصحيح في حديث الخوارج: ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السَّماء، يأتيني خبرُ السَّماء صباحًا ومساءً.

الشيخ: قوله: مَن في السماء، وقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] تُفسَّر بوجهين:

أحدهما: أنَّ "في" بمعنى "على"، فيكون معنى في السماء يعني: على السَّماء، فيشمل علو السَّماوات والعرش، وأنه فوق العرش.

والتفسير الثاني: أن يكون "السماء" بمعنى: العلو، فيكون "في" على بابها: الظرفية، وأنَّ معنى "في السماء" يعني: في العلو، والمراد بالعلو هنا ما فوق العرش.

وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: ربنا الله الذي في السَّماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السَّماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين، أنزل رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع فيبرء، قال ﷺ: إذا اشتكى أحدٌ منكم، أو اشتكى أخٌ له، فليقل: ربنا الله الذي في السَّماء .. وذكره.

وقوله في حديث الأوعال: والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه. رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهم.

وقوله في الحديث الصحيح للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: مَن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها، فإنها مُؤمنة.

الشيخ: وهذا رواه مسلم في الصحيح، نعم.

وقوله في الحديث الصحيح: إنَّ الله لما خلق الخلقَ كتب في كتابٍ موضوعٍ عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي سبقت غضبي.

الشيخ: وهذا متفق عليه في "الصحيحين".

وقوله في حديث قبض الروح: حتى يعرج بها إلى السَّماء التي فيها الله.

وقول عبدالله بن رواحة الذي أنشده النبيَّ ﷺ وأقرَّه عليه:

شهدتُ بأنَّ وعدَ الله حق وأنَّ النار مثوى الكافرينا
وأنَّ العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش ربّ العالمينا

وقول أمية بن أبي الصَّلت الثَّقفي الذي أُنشد للنبيِّ ﷺ هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال: آمن شعره وكفر قلبه:

مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السَّماء أمسى كبيرا
بالبنا الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السَّماء سريرا
شرجعًا ما يناله بصر العين يرى دونه الملائكة صورا

وقوله في الحديث الذي في "المسند": إنَّ الله حيي كريم؛ يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهم صفرًا، وقوله: يمد يديه إلى السَّماء: يا رب، يا رب، .. إلى أمثال ذلك مما لا يُحصيه إلا الله، مما هو أبلغ المتواترات اللَّفظية والمعنوية التي تُورث علمًا يقينيًّا من أبلغ العلوم الضَّرورية: أنَّ الرسول ﷺ المبلِّغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أنَّ الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السَّماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا مَن اجتالته الشَّياطين عن فطرته.

ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفًا.

الشيخ: المقصود من هذا كله واضح في أنَّ الأدلة المتواترة والمستفيضة من السنة وعن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما يُؤيد ما في القرآن من علو الله وفوقيته، مع أنَّ نص القرآن كافٍ، ونصَّ السنة كافٍ، ثم إجماع سلف الأمة، فقد اجتمع في هذا الأصول كلها: القرآن والسنة والإجماع، كلها مجتمعة على إثبات علو الله فوق جميع خلقه، وأنه فوق العرش، وأنه فوق جميع الخلق، وعلمه في كل مكانٍ ، ثم يأتي هؤلاء الضَّالون الزَّنادقة من جهميةٍ ومعتزلةٍ ويُنكرون هذا الأمر العظيم المتواتر المستفيض، هذا من أمحل المحال، وأضل الضَّلال، نسأل الله العافية.

..........

ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفًا.

ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول ﷺ، ولا عن أحدٍ من سلف الأمة: لا من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة الدين -الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف- حرف واحد يُخالف ذلك، لا نصًّا ولا ظاهرًا.

ولم يقل أحدٌ منهم قط: إنَّ الله ليس في السَّماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه [بذاته] في كل مكانٍ، ولا أنَّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء.

الشيخ: يعني: أنَّ هذه الأقوال من كلام أهل البدع، وهو كلام منكر، أما السلف الصالح فقد طهرهم الله من هذا، فقولهم واحد، وهو أنَّ الله فوق العرش، فوق جميع الخلق ، قد استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهو في السماء في العلو فوق جميع الخلق، العلو فوق جميع الخلق، وفوق العرش بالذات بالنصِّ، قد استوى عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، لا يُشابه خلقه في شيءٍ من صفاته جلَّ وعلا.

ولا أنه لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا متَّصل ولا مُنفصل.

الشيخ: وهذا من كلام الجهمية الباطل، وهو يُقتضي العدم، هذا الكلام يُقتضي العدم، نعوذ بالله.

ولا أنه لا تجوز الإشارةُ الحسية إليه بالأصبع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبدالله : أن النبي ﷺ لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره رسولُ الله ﷺ، جعل يقول: ألا هل بلغتُ؟، فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السَّماء وينكبها [إليهم] ويقول: اللهم اشهد، غير مرةٍ، وأمثال ذلك كثير.

فإن كان الحقُّ فيما يقوله هؤلاء السَّالبون النَّافون للصِّفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يُفهم من الكتاب والسنة: إما نصًّا، وإما ظاهرًا، فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله ﷺ، ثم على خير الأمة: أنهم يتكلمون دائمًا بما هو نصّ أو ظاهر في خلاف الحقِّ الذي يجب اعتقاده، ولا يبوحون به قطّ، ولا يدلون عليه: لا نصًّا، ولا ظاهرًا، حتى يجيء أنباطُ الفرس والروم، وفروخ اليهود والنَّصارى والفلاسفة يُبينون للأمة العقيدة الصَّحيحة التي يجب على كل مُكلَّفٍ أو كل فاضلٍ أن يعتقدها؟!

لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أُحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دلَّ عليه الكتابُ والسنة نصًّا أو ظاهرًا؛ لقد كان تركُ الناس بلا كتابٍ ولا سنةٍ أهدى لهم وأنفع على هذا التَّقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضررًا محضًا في أصل الدِّين.

الشيخ: يعني: أنَّ هذا الرأي فاسد، الرأي هذا يُعلم بهذه الأسس بطلان ما عليه أهلُ البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم من نُفاة الصِّفات الملحدين في ذلك، والله المستعان.

فإنَّ حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله وما يستحقه من الصِّفات نفيًا وإثباتًا، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة. ولكن انظروا أنتم، فما وجدتُموه مستحقًّا له من الأسماء والصِّفات فصفوه به، سواءٌ كان موجودًا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مُستحقًّا له في عقولكم فلا تصفوه به!

الشيخ: وبهذا يتبين للمؤمن العاقل وذي البصيرة أنَّ ما جاء به الكتابُ والسنةُ ودرج عليه سلفُ الأمة هو الحق الذي لا ريبَ فيه، وهو الهدى الذي ليس بعده إلا الضَّلال في إثبات أسماء الله وصفاته، وأنه فوق العرش جلَّ وعلا، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا، وأنَّ ما قال هؤلاء الضَّالون من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة وأشباههم ممن حرَّفوا وبدَّلوا وغيَّروا أنهم هم البطالون، هم الضَّالون، هم المنحرفون والمتهوكون، نسأل الله السَّلامة.

س: الفرق بين: نصًّا أو ظاهرًا؟

ج: النَّص يعني: أنه ما يحتمل، والظاهر قد يُؤول.

ثم هم هاهنا فريقان: أكثرهم يقولون: ما لم تُثبته عقولُكم فانفوه. ومنهم مَن يقول: بل توقفوا فيه.

وكأنَّ الله تعالى قال لهم: وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون مُضطربون اختلافًا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض- فانفوه، وإليه عند التَّنازع فارجعوا، فإنه الحقّ الذي تعبدتكم به، وما كان مذكورًا في الكتاب والسنة مما يُخالف قياسكم هذا، أو يُثبت ما لم تُدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيءٍ من الصِّفات! هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين.

وهذا الكلام قد رأيتُه صرَّح بمعناه طائفةٌ منهم، وهو لازم لجماعتهم لزومًا لا محيدَ عنه، ومضمونه أن كتاب الله لا يُهتدى به في معرفة الله، وأنَّ الرسول ﷺ معزول عن التَّعليم والإخبار بصفات مَن أرسله، وأنَّ الناس عند التَّنازع لا يردُّون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه مَن لا يؤمن بالأنبياء: كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس، وبعض الصَّابئين.

وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة، ولا يرتفع الخلافُ به، إذ لكل فريقٍ طواغيت يُريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أُمِروا أن يكفروا بهم، وما أشبه هؤلاء المتكلفين بقوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:60- 62].

فإن هؤلاء إذا دُعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سُنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسانَ علمًا وعملًا بهذه الطريق التي سلكناها، والتَّوفيق بين الدلائل العقلية والنَّقلية.

ثم عامَّة هذه الشُّبهات التي يُسمونها: دلائل، إنما تقلَّدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصَّابئين، أو بعض ورثتهم الذين أُمِروا أن يكفروا بهم، مثل: فلان وفلان، أو عمَّن قال كقولهم؛ لتشابه قلوبهم، قال الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213].

ولازم هذه المقالة: أن لا يكون الكتابُ هدًى للناس، ولا بيانًا، ولا شفاءً، ولا نورًا، ولا مردًّا عند التَّنازع؛ لأنَّا نعلم بالاضطرار أنَّ ما يقوله هؤلاء المتكلفون: أنَّه الحق الذي يجب اعتقاده، لم يدل عليه [الكتابُ والسنة]، لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].

وبالاضطرار يعلم كل عاقلٍ أنَّ مَن دلَّ الخلق على أنَّ الله ليس على العرش، ولا فوق السَّماوات، ونحو ذلك بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، لقد أبعد النُّجعة، وهو إما مُلْغِزٌ، أو مُدَلِّسٌ، لم يُخاطبهم بلسانٍ عربي مُبين.

ولازم هذه المقالة أن يكون تركُ الناس بلا رسالةٍ خيرًا لهم في أصل دينهم؛ لأنَّ مَرَدَّهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمًى وضلالًا.

يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسولُ ﷺ يومًا من الدَّهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلَّت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا؛ فإنه الحقّ، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه!

الشيخ: هذه الكلمات التي قالها المؤلفُ واضحةً في إبطال ما عليه أصحابُ الكلام من الخوض في أسماء الله وصفاته وعظيم حقِّه جلَّ وعلا بالباطل، وأنهم جعلوا عقولهم فيها المقياس، فما أثبتته عقولهم واستحسنته عقولهم أثبتوه، وما لا توقفوا فيه، وهذا الذي قالوه في غاية الباطل، وفي غاية الضَّلال والبُعد، وأنَّ الحق قد أوضحه رحمه الله في هذا المقام غاية الإيضاح، وبطلان ما هم عليه، فإنهم في الحقيقة لم يلتفتوا إلى كتاب الله، ولا إلى سنة رسوله ﷺ، وإنما حكَّموا عقولهم ومقاييسهم، وما نقلوه عمَّن قبلهم من صناديد الضَّلالة وزُعماء الكفر من سائر الكفرة: من صابئةٍ، ومن مجوسٍ، ومن غيرهم من أنواع الضّلال، ثم حكموا هذه العقول والآراء التي هي لا سندَ لها يعتمد عليه، وإنما هو استحسان فلان وفلان، فبأي عقلٍ تُوزن هذه الأمور: بعقل فلان أو فلان أو الطائفة الفلانية المضطربة المختلفة؟!

سبحان الله! ما أعظم شأنه، هذا هو الباطل، وهذا هو الضَّلال البعيد؛ ولهذا أوضح المؤلفُ في هذا الكلام العظيم المتين المصيب بطلان ما هم عليه، وأنَّ أصحاب الكلام في الحقيقة لم يحكموا كتابَ الله، ولا سنة رسوله ﷺ، وإنما حكَّموا أهواءهم وآراءهم وآراء مَن قبلهم من الضّلال، وشابهوا بذلك الجاهلية بما يفعلون من التَّحاكم إلى الكهنة، وإلى غيرهم من صناديدهم وكُبرائهم، ثم لا يزيدهم هذا إلا بُعْدًا وضلالًا، فقد يفتنون ويتناحرون ولا يقبلون عقلَ فلانٍ ولا فلان، وهذه هي النتيجة التي فعلها هؤلاء؛ اختلفوا وتناقضوا واختلفوا فيما جاء في الكتاب والسنة، فهؤلاء مثَّلوا، وهؤلاء عطَّلوا، وهؤلاء توقَّفوا وفوَّضوا، فصارت أقوالهم في غايةٍ من الانحراف والضَّلال.

أما أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، هم الذين اهتدوا إلى الصراط المستقيم، ووفقوا للحقِّ، وصاروا يدًا واحدةً، وجسدًا واحدًا، وبناءً واحدًا في اتباع الحقِّ، والتمسك به، والرد على مَن خالفه.

ولازم قول هؤلاء الضَّالين نسف الكتاب والسنة، وأنَّ هذا الكتاب والسنة لا محلَّ لهما، وأنَّ مجيئهما ما زاد هؤلاء إلا ضلالًا وفتنةً وشبهةً، وما زادهم خيرًا، فكذلك هذا المقال الذي يقتضي إبطال الكتاب والسنة كفى به قبحًا، وكفى به ضلالًا وبُعدًا عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به نبيَّه الكريم محمدًا عليه الصلاة والسلام.

وهذا الكتاب "الحموية" من أحسن ما ألَّفه المؤلفُ، ومن أوضح ما يرد على أولئك المبطلين، ويُبين زيفهم وضلالهم واختلافهم وافتراقهم، وأنهم على غايةٍ من البُعد عن الهدى، وعلى غايةٍ من الضَّلالة، وأنهم لا سبيلَ لهم إلى الصواب إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما قال : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وهو سبحانه أعلم بنفسه، وأعلم بغيره، ورسوله أعلم بربه ، كما أخبر به الله عن نفسه، وأخبر به الرسولُ عن ربه، فهو الحق والصَّواب، وما خالف فهو الباطل والضَّلال، نسأل الله لنا ولكم العافية، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

ثم الرسول ﷺ قد أخبر أنَّ أمته ستفترق ثلاثًا وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا: كتاب الله.

ورُوي عنه ﷺ أنه قال في صفة الفرقة الناجية: هو مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

فهلا قال: مَن تمسَّك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضالّ، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يُحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة؟! وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التَّابعين.

الشيخ: المقصود من هذا أنَّ الرسول ﷺ بيَّن مثلما بيَّن الله في كتابه، وأنَّ الواجب على الأمة اتباع الشرع، والتَّمسك بالشرع؛ ولهذا قال: ستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهذه الواحدة هي التي ثبتت على الحقِّ، والتزمت بالحقِّ؛ بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله؛ ولهذا جاء في الرواية الأخرى: وهي الجماعة، وفي رواية الترمذي: هي ما كان على ما أنا عليه وأصحابي.

الفرقة الناجية هم أهل الاستقامة، وهم الذين تمسَّكوا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعظَّموهما، ووالوا عليهما، وعادوا عليهما، ولو كان الحقُّ في خلاف ذلك لبين قال: إنما الحقّ فيما فرضته عقولكم، أو فيما يراه أشياخهم بعقولهم، أو ما أشبه ذلك، فدلَّ ذلك على أنَّ ما تروه في هذا الكذب الذي هو تحكيم العقول وتقديم الآراء هو من أبطل الباطل، وأضلّ الضَّلال.

ثم أصل هذه المقالة -مقالة التَّعطيل للصِّفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضُلال الصَّابئين؛ فإنَّ أول مَن حُفِظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أنَّ الله ليس على العرش حقيقةً، وأنَّ معنى "استوى" بمعنى: استولى، ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنُسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إنَّ الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم [اليهودي] السَّاحر الذي سحر النبيَّ ﷺ.

وكان الجعد هذا -فيما قيل- من أهل حرَّان، وكان فيهم خلق كثير من الصَّابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النَّمرود، والكنعانيين الذين صنف بعضُ المتأخرين في سحرهم، والنَّمرود هو: ملك الصَّابئة الكنعانيين المشركين، كما أنَّ كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط الكفار، والنَّجاشي ملك الحبشة النَّصارى، فهو اسم جنسٍ، لا اسم علمٍ.

كانت الصَّابئة -إلا قليلًا منهم- إذ ذاك على الشِّرك، وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصَّابئ قد لا يكون مُشركًا، بل مؤمنًا بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:69].

الشيخ: المقصود من هذا أنَّ هؤلاء وأشباههم وإن كان أصلهم الذم، وأنهم من عباد الأوثان، ومن عباد النجوم، وعباد الأصنام، من الصابئة الذين يرأسهم النَّمرود بن كنعان المعروف، وهكذا غيرهم من الكفرة: من الروم، ومن المجوس والحبشة، وغيرهم من أنواع الكفرة، كل هؤلاء إذا دخلوا في دين الله وهداهم الله خرجوا عمَّا هم عليه من الباطل، وصاروا مع المؤمنين، ودخلوا في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البقرة:62] ..... والكفرة ملعونون، ويجب قتالهم وجهادهم، لكن مَن دخل منهم في الإسلام، وخرج عن دين أسلافه وآبائه؛ خرج عن ذلك الذم، ذلك الكفر، وصار مع إخوانه المؤمنين ......

فالأحكام تدور مع عِللها وأوصافها، فمَن تخلق بالباطل واتَّصف بالباطل فهو مع أهل الباطل، ومَن خرج عن ذلك وتاب إلى الله واستقام على دين الله صار مع أهل الإيمان والهدى، ولن يضرَّه كونه من الصَّابئين، أو كونه من اليهود، أو كونه من المجوس، أو كونه من كذا، لا يضرُّه متى تاب إلى الله وخرج عمَّا هو عليه من الباطل ..... صار من عباد الله المقربين، ولم يضره أصله.

لكن كثيرًا منهم -أو أكثرهم- كانوا كفَّارًا أو مشركين، كما أنَّ كثيرًا من اليهود والنَّصارى بدَّلوا وحرَّفوا وصاروا كفَّارًا أو مشركين، فأولئك الصَّابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفَّارًا مُشركين، وكانوا يعبدون الكواكبَ، ويبنون لها الهياكل.

ومذهب النُّفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مُركبة منهما، وهم الذين بُعث إبراهيمُ الخليل إليهم، فيكون الجعدُ قد أخذها عن الصَّابئة الفلاسفة.

وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حرَّان، وأخذ عن فلاسفة الصَّابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهمُ أيضًا -فيما ذُكره الإمامُ أحمد وغيره- لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات.

فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والنَّصارى والصَّابئين والمشركين والفلاسفة الضَّالين؛ إما من الصَّابئين، وإما من المشركين.

ثم لَمَّا عُرِّبت الكتبُ الرومية في حدود المئة الثانية زاد البلاءُ، مع ما ألقى الشيطانُ في قلوب الضّلال ابتداءً، من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.

ولما كان في حدود المئة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلفُ يُسمونها: مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل: مالك، وسفيان بن عُيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق، والفُضيل بن عياض، وبشر الحافي، وغيرهم؛ في هؤلاء كثير في ذمِّهم وتضليلهم.

وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر ابن فورك في كتاب "التأويلات"، وذكرها أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سمَّاه "تأسيس التقديس"، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء، مثل: أبي علي الجبَّائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني، وأبي الحسين البصري، وأبي الوفاء ابن عقيل، وأبي حامد الغزالي، وغيرهم، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي التي ذكرها في كتابه.

الشيخ: يُقال: المريسي والمريسي -بالتَّخفيف والتَّثقيل- .......

وإن كان قد يُوجد في كلام بعض هؤلاء ردّ التأويل وإبطاله أيضًا، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بيَّنت أنَّ عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي.

الشيخ: ..... وهكذا مَن بعدهم شبهات المشركين الأولين، وشبهات الجهمية والمعتزلة، كما قالها مَن بعدهم وتوارثوها وشبَّهوا بها، والعصمة مثلما تقدم: التَّمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والحذر من هذه التَّأويلات والشُّبهات التي ..... هؤلاء وشبَّهوا بها على الناس حتى ضلَّ بها الكثير من الناس، والواجب جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام: من وجوب إثبات أسماء الله وصفاته، وإمرارها كما جاءت بالقرآن العظيم والسنة المطهرة، على الوجه اللائق بالله ، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل على مُقتضى قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وجميع صفاته سبحانه لا يُشابه فيها خلقه، فهو مُنزه عن مُشابهة خلقه، وهو حقّ، فتثبت له سبحانه على وجه الكمال الذي لا يعتريه نقصٌ من كل الوجوه، خلافًا لما ..... الجهمية وأشباههم.

ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنَّفه عثمان بن سعيد الدَّارمي، أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنَّف كتابًا سمَّاه: "ردّ عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد"، حكى فيه من التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلامٍ يقتضي أنَّ المريسي أقعد بها، وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتَّصلت إليهم من جهته، ثم ردَّ عثمان بن سعيد بكلامٍ إذا طالعه العاقلُ الذكي علم حقيقةَ ما كان عليه السَّلف، وتبين له ظهور الحجَّة لطريقهم، وضعف حُجَّة مَن خالفهم.

س: بعض الناس يُنكر أنَّ الرسول ما سُحر بسبب أنه معصوم؟

ج: هذا غلط منهم، هو ثابت في "الصحيحين"، لكنه سحر لم يضر الدَّعوة، إنما في داخل نفسه، فيما بينه وبين أهله، فهو ﷺ لم يحصل له شيء يضرّ الدَّعوة .....

ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفَّروهم أو ضللوهم، وعلم أنَّ هذا القول السَّاري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسية؛ تبَيَّن الهدى لمن ُيريد الله هدايته، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.

الشيخ: وما ذلك إلا لأنَّ هؤلاء تكلموا بكلامٍ مخالفٍ لنصِّ كتاب الله وسنة رسوله ﷺ؛ ولهذا كفَّرهم أكثرُ الأئمة وضللوهم وبدَّعوهم، وهم الجهمية نُفاة الصِّفات، ونفاة الأسماء؛ ولهذا كتب فيهم الأئمة: كعثمان بن سعيد الدارمي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن كتب في هذا الباب في الرد على هؤلاء المجرمين، فالمقصود أنَّ هذا نصحٌ لله ولعباده، وبيان ما أبطلوا ما فيه، وما وقعوا فيه من الفساد، وأضلوا فيه الناس.

والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما نُشير إشارةً إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير فينظر، كلام السلف في هذا الباب موجود في كتبٍ كثيرةٍ، لا يمكن أن نذكر هنا إلا قليلًا منه، مثل: كتاب "السنن" للالكائي، و"الإبانة" لابن بطة، و"السنة" لأبي ذرٍّ الهروي، و"الأصول" لأبي عمر الطلمنكي، وكلام أبي عمر ابن عبد البر، و"الأسماء والصفات" للبيهقي، وقبل ذلك "السنة" للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، [ولأبي عبدالله بن منده، ولأبي أحمد العسَّال الأصبهاني]، وقبل ذلك "السنة" للخلال، و"التوحيد" لابن خُزيمة، وكلام أبي العباس ابن سريج، و"الرد على الجهمية" لجماعةٍ، مثل: البخاري، وشيخه عبدالله بن محمد بن عبدالله الجعفي، وقبل ذلك "السنة" لعبدالله بن أحمد، و"السنة" لأبي بكر ابن الأثرم، و"السنة" لحنبل وللمروزي، ولأبي داود السّجستاني، ولابن أبي شيبة، و"السنة" لأبي بكر ابن أبي عاصم، وكتاب "خلق أفعال العباد" لأبي عبدالله البخاري، وكتاب "الرد على الجهمية" لعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم، وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي صاحب "الحيدة" في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي، وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن سعيد، [ويحيى بن يحيى النَّيسابوري، وأمثالهم، وقبل هؤلاء: عبدالله بن المبارك وأمثاله]، وأشياء كثيرة.

الشيخ: كل هؤلاء تكلَّموا في الرد على الجهمية والمعتزلة ومَن خرج عن الطريق من أشباههم من أهل البدع، وهم فعلوا هذا ليس بقصد الغيبة، وليس بقصد التَّشفي، وإنما القصد النُّصح لله ولعباده، وبيان هذه الضَّلالات حتى يحذرها الناس.

وعندنا من الدلائل السَّمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أعلم أن المتكلمين لهم شبهات موجودة، لكن لا يمكن ذكرها في الفتوى، فمَن نظر فيها وأراد إبانةَ ما ذكروه من الشُّبَه فإنه يسير.

وإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التَّعطيل والتَّأويل- مأخوذًا عن تلامذة المشركين، والصَّابئين، واليهود، فكيف تطيب نفسُ مؤمنٍ -بل نفس عاقلٍ- أن يأخذ سبل هؤلاء المغضوب عليهم والضَّالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشُّهداء والصَّالحين؟!

الشيخ: مقصوده رحمه الله أنه يكفي في ردِّها -الشُّبه التي شبَّهوا بها على أهل السنة يكفي في ردها- أنها مأخوذة عن الصَّابئة والمشركين واليهود، فكيف يرضى عاقلٌ أن يأخذ سبيلهم، ويسلك منهجهم، ويدع سبيل المؤمنين، أتباع الرسول ﷺ، وأتباع الصحابة؟! كل هذا يكفي في هذا، من غير حاجةٍ أن ينظر فيها ما دامت في سبيل الضَّالين والمغضوب عليهم، فكافٍ في ردِّها وإبطالها وتعطيلها، مع أنَّ ردَّها وإبطالها ..... عند أهل الحقّ.

ثم القول الشَّامل في جميع هذا الباب: أن يُوصف الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسولُ الله ﷺ، وبما وصفه به السَّابقون الأولون، لا يتجاوز القرآن والحديث.

قال الإمامُ أحمد : "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسولُه ﷺ، لا يُتجاوز القرآن والحديث".

الشيخ: ..... لا ينبغي لأحدٍ أن يتجاوزهما.

ومذهب السَّلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسولُه ﷺ، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ.

ونعلم أنَّ ما وصف الله به من ذلك فهو حقّ، ليس فيه لغزٌ ولا أحاجي، بل معناه يُعرف من حيث يُعرف مقصود المتكلم بكلامه، [لا سيما إذا كان المتكلمُ أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأنصح الخلق في البيان والتَّعريف والدلالة والإرشاد].

وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيءٌ: لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما يتيقن أنَّ الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإنَّ الله مُنزَّه عنه حقيقةً، فإنه سبحانه مُستحق للكمال الذي لا غايةَ فوقه، ويمتنع عليه الحدوث؛ لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقه العدم، ولافتقار المحدَث إلى مُحدِث، ولوجوب وجوده بنفسه .

..............

ومذهب السلف بين التَّعطيل وبين التَّمثيل، فلا يُمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يُمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسولُه ﷺ، فيُعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العُلى، ويُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويُلحدون في أسماء الله وآياته.

وكل واحدٍ من فريقي التَّعطيل والتَّمثيل فهو جامعٌ بين التَّعطيل والتَّمثيل.

الشيخ: أهل السنة والجماعة ليسوا مع أهل التَّعطيل، ولا مع أهل التَّمثيل، بل هم بين هؤلاء وهؤلاء، فلا مع المعطلة، ولا مع الممثلة، ولكنهم يُثبتون صفات الله وأسماءه كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، فكما أنَّ ذاته لا تُشبه الذَّوات، فهكذا صفاته على وجهٍ لا تُشبه الصِّفات.

هكذا أهل السنة والجماعة، وهم أصحاب النبي ﷺ ومَن بعدهم، فقبلوا النصوص، وأثبتوا ما دلَّت عليه، وأنه حق، ونفوا عنه التَّشبيه والتَّمثيل، عملًا بقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

أما أهل التَّعطيل وأهل التَّمثيل فكلهم انحرفوا عن الطريق، وحادوا عن سواء السَّبيل، فليسوا مع أهل السنة والجماعة في إثباتٍ، ولا في تنزيهٍ، بل عطَّلوا آيات الله، وعطَّلوا أسماءه وصفاته، وشبَّهوا الله بخلقه، وحادوا عن سواء السبيل، فصاروا بذلك ملاحدةً ضالين عن الحقِّ ..... السبيل، وخالفوا ما جاءت به النصوص؛ فلهذا عابهم أهلُ السنة، ونفروا عنهم، وصاحوا بهم من كل مكانٍ، وحذروا الناس من سبيلهم الرَّديء.

وكل واحدٍ من فريقي التَّعطيل والتَّمثيل فهو جامعٌ بين التَّعطيل والتَّمثيل.

أما المعطلون: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلَّا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التَّمثيل والتَّعطيل، مثَّلوا أولًا، وعطَّلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصِّفات اللائقة بالله .

الشيخ: والمعنى: أنهم أوتوا من الفهم الرديء؛ فإنهم ما فهموا من النصوص إلا التَّشبيه لأسماء الله وصفاته بخلقه؛ فلهذا عطَّلوا، ونفوا الصِّفات، فلم يفهموا أنه السميع والبصير، والعليم والحكيم، والقدير ..... بالوجه واليد ونحو ذلك إلا مُشابهة المخلوقين، فأوتوا من هذا السَّبيل، وأوتوا من الفهم الباطل، ثم فروا من هذا التَّشبيه بزعمهم، ووقعوا في تشبيهٍ أقبح، وفي تمثيلٍ أقبح، حتى شبَّهوا الله بالمعدومات والجمادات والنَّاقصات، فصار تشبيههم هذا الأخير أشد من التَّشبيه الذي فرُّوا منه؛ ولهذا صاروا في غايةٍ من البطلان، وهكذا سنة الله في أهل الباطل؛ ما فرُّوا من شيءٍ إلا وقعوا في أبطل منه وأشرّ منه، نسأل الله العافية.

فإنه إذا قال القائل: لو كان اللهُ فوق العرش للزم: إمَّا أن يكون أكبر من العرش، أو أصغر، أو مُساويًا، وكل ذلك مُحال، ونحو ذلك من الكلام.

فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسمٍ كان، على أي جسمٍ كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم. [أما] استواء يليق بجلال الله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللَّوازم الباطلة التي يجب نفيها.

وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع: فإمَّا أن يكون جوهرًا، أو عرضًا. وكلاهما محال؛ إذ لا يُعقل موجود إلا هذان، أو قوله: إذا كان مُستويًا على العرش، فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يُعلم الاستواء إلا هكذا، فإنَّ كليهما مَثَّل، وكليهما عَطَّل حقيقةَ ما وصف الله به نفسه، وامتاز [الأول] بتعطيل كل مُسمَّى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواءٍ هو من خصائص المخلوقين.

والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط؛ من أنَّ الله مُستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقُدرة خصائص الأعراض التي كعلم المخلوقين وقُدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها.

الشيخ: وهذا هو الواجب؛ ولهذا درج أهلُ السنة على ذلك، فأثبتوا لله العلو والاستواء فوق العرش على الوجه اللائق به، من دون أن يُشابه خلقه في استوائهم على سطوحهم، أو على بيتهم، أو نحو ذلك، فهكذا وصفه بأنه سميع، وبأنه بصير، وبأنه عليم، وبأنه قدير؛ لا يلزم منه مُشابهة المخلوقين فإنَّ علم المخلوق يعتريه الجهل، يعتريه النسيان، وهكذا، قدرتهم يعتريها الضَّعف والعجز، وهكذا سمعهم وأبصارهم؛ يعتري سمعهم الصمم، ويعتري أبصارهم العمى والضعف، أما سمع الله وبصره فهو كامل، لا يعتريه شيء ، وهكذا قُدرته وعلمه ملازم لذاته، فهو عالم بكل شيءٍ دائمًا، ولا يعتري هذا العلم نسيان: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، ولا يعتريه جهل سبحانه، بل هو العالم بكل شيءٍ، وهكذا قُدرته كاملة، لا يعتريها شيء من النَّقص، بخلاف المخلوقين فإنَّهم محل نقصٍ أوَّلًا وآخرًا.