شرح كتاب العقيدة الحموية 3

وروى البيهقي وغيره بأسانيد صحيحةٍ، عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره، وأنَّ جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربُّك قدمه فيها، والكرسي موضع القدمين، وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حقّ، حملها الثِّقات بعضهم عن بعضٍ، غير أنَّا إذا سُئلنا عن تفسيرها لا نُفسرها، وما أدركنا أحدًا يُفسرها. اهـ.

أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة الذين هم: الشَّافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. وله من المعرفة بالفقه واللغة والتَّأويل ما هو أشهر من أن يُوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحدًا من العلماء يُفسرها، [أي: تفسير الجهمية].

س: في نسخة: وقرب خيره؟

ج: غيره، المعروف في الرواية: غيره بيده الأمور يعني، وقرب الخير صحيح، لكن الرواية: غيره يعني: تغيير الأمور من شدةٍ إلى رخاء، ومن رخاءٍ إلى شدةٍ، ومن صحةٍ إلى مرضٍ، ومن مرضٍ إلى صحةٍ من غيره -بالغين.

وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبدالله بن المبارك: أنَّ رجلًا قال له: يا أبا عبدالرحمن، إني أكره الصِّفة -عنى: صفة الرب- فقال له عبدالله بن المبارك: أنا أشد الناس كراهةً لذلك، ولكن إذا نطق الكتابُ بشيءٍ قلنا به، وإذا جاءت الآثارُ بشيءٍ جسرنا عليه. ونحو هذا.

أراد ابن المبارك: أنَّا نكره أن نبتدئ بوصف الله من ذات أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار.

الشيخ: وهذا هو الحق، فإنَّ الصفات توقيفية، أسماء الرب وصفاته توقيفية، ليس لأحدٍ أن يقترح أو يخترع شيئًا لم تأتِ به النصوص من صفات الله، ولكن يُسمَّى بما سمَّى به نفسه، أو سمَّاه به رسوله عليه الصلاة والسلام، ويُوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ، وليس للإنسان أن يخترع شيئًا من كيسه، بل يقف حيث وقفت النصوص، ويمرها كما جاءت، من دون تأويلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تشبيهٍ لله بخلقه، بل يمرها كما جاءت، مع الإيمان القاطع أنه سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، مع الإيمان بأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته جلَّ وعلا، وأنه لا أكملَ منه في كل شيءٍ.

وروى عبدالله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح، عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: "بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: أنه هاهنا في الأرض".

وهكذا قال الإمامُ أحمد وغيره.

الشيخ: ومعنى "بائن" أي: منفصل، منفصل من خلقه، ليس في خلقه شيء منه، وليس فيه شيء من خلقه، بل هو مُستقل فوق العرش، فوق سماواته جلَّ وعلا.

وروى بإسنادٍ صحيحٍ عن سليمان بن حرب الإمام: سمعتُ حماد بن زيدٍ، وذكر هؤلاء الجهمية فقال: "إنما يُحاولون أن يقولوا: ليس في السَّماء شيء".

وروى ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن سعيد بن عامر الضبعي -إمام أهل البصرة علمًا ودينًا، من شيوخ أحمد- أنه ذُكر عنده الجهمية فقال: "هم شرٌّ قولًا من اليهود والنَّصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أنَّ الله على العرش، وقالوا هم: ليس عليه شيء".

وقال محمد بن إسحاق بن خُزيمة -إمام الأئمة: "مَن لم يقل: إنَّ الله فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه، ثم أُلقي على مزبلةٍ؛ لئلا يتأذَّى بنتن ريحه أهلُ القبلة، ولا أهل الذِّمة".

وقد روى عبدالله بن أحمد، عن عباد بن العوام الواسطي -إمام أهل واسط، من طبقة شيوخ الشَّافعي وأحمد- قال: "كلمتُ بشرًا المريسي وأصحاب بشر، فرأيتُ آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السَّماء شيء".

وعن عبدالرحمن بن مهدي -الإمام المشهور- أنه قال: "ليس في أصحاب الأهواء شرٌّ من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السَّماء شيء. أرى والله أن لا يُناكحوا، ولا يُورثوا".

الشيخ: رحمة الله عليهم، كلهم مجمعون، كل أئمة الإسلام من الصحابة ومَن بعدهم كلهم مجمعون على ضلال الجهمية وأشباههم ممن يتكلم في الصِّفات وينفيها ويُعطلها؛ ولهذا أجمع أهلُ السنة والجماعة على ضلالهم، وأنهم قد قالوا قولًا إدًّا؛ ولهذا قال جمهورُهم بأنهم كفَّار وضُلال، ليس لهم اجتهاد، بل قولهم باطل، وهم كفار بهذا؛ بإنكارهم أسماء الرب وصفاته، نسأل الله العافية.

يقول ابنُ القيم رحمه الله في "النونية":

ولقد تقلد كفره خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنـ هم بل حكاه قبله الطبراني

المقصود أنَّ أئمة الإسلام وجمهورهم يرون كفرهم وضلالهم، وإن تسموا بالإسلام؛ لأنهم كذبوا النصوص، وأنكروا ما دلَّت عليه النصوص من أسماء الرب وصفاته، نسأل الله العافية.

س: ...............؟

ج: في زمانه يعني ..... أحسن ما يكون عليه، يعني: زمانه، ولا يلزم ..... الذي يقوم بالسنة والرد على أهل البدعة رحمة الله عليه، هو مات سنة 310، السنة التي مات فيها ابنُ جرير رحمه الله، وهو من أقرانه.

وروى عبدالرحمن ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن عبدالرحمن بن مهدي قال: "أصحاب جهم يُريدون أن يقولوا: إنَّ الله لم يُكلِّم موسى، ويُريدون أن يقولوا: ليس في السَّماء شيء، وإنَّ الله ليس على العرش! أرى أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قُتِلوا".

الشيخ: والمعنى: أن الجهمية بنفيهم الصِّفات يُحاولون بذلك نفي وجود الله بالكلية، وإنكار وجوده بالكلية، وهذا غاية الإلحاد والضَّلال والكفر، فإنه إذا قيل: ليس بعليم، ولا قدير، ولا سميع، ولا بصير، ولا ..، ولا ..، معناه النفي، معناه أنه .....؛ ولهذا حكم عليهم جمهورُ أهل السنة والجماعة بالكفر والرد، وأن الواجب استتابتهم، فإن تابوا وإلا وجب قتلهم؛ لإلحادهم وإنكارهم ما جاءت به الكتب السَّماوية، وما صحَّت به السنة؛ ولهذا ضحَّى خالد بن عبدالله القسري بالجعد بن درهم يوم العيد -يوم عيد الأضحى- وقال: أيها الناس، ضحُّوا، تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أنَّ الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يُكلم موسى تكليمًا. ثم أمر بعدما نزل بقتله أمام الناس، فجزاه الله خيرًا عن هذا العمل الطيب؛ ولهذا يقول ابنُ القيم رحمه الله:

شكر الضحية صاحب كل سنة لله درك من أخي قربان
وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين، فقال رجلٌ عندها: الله على عرشه. فقالت: محدود على محدود. وقال الأصمعي: كافرة بهذه المقالة.

الشيخ: خبيثة، زوجة خبيث، أخذت من زوجها الخبث، قبَّحها الله!

وعن عاصم بن علي بن عاصم -شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما- قال: ناظرتُ جهميًّا، فتبَيَّنَ من كلامه أنَّه لا يؤمن أنَّ في السماء ربًّا.

وروى الإمامُ أحمد: حدَّثنا سُرَيْج بن النعمان، قال: سمعتُ عبدالله بن نافع الصائغ قال: سمعتُ مالك بن أنس يقول: "الله في السماء، وعلمه في كل مكانٍ، لا يخلو من علمه مكان".

الشيخ: وهذا قول أهل السنة والجماعة: الله فوق العرش، فوق جميع الخلق، وعلمه في كل مكانٍ. وهذا معنى قوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] يعني: بعلمه واطِّلاعه، هو فوق العرش ، لا يخفى عليه خافية جلَّ وعلا.

وقال الشافعي: "خلافة أبي بكر حقّ، قضاها الله في سمائه، وجمع عليه قلوب عباده".

وفي الصحيح عن أنس بن مالكٍ قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي ﷺ تقول: "زوَّجكنَّ أهاليكُن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات". وهذا مثل قول الشَّافعي.

وقصة أبي يوسف -صاحب أبي حنيفة- مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه، لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه. قد ذكرها ابنُ أبي حاتم وغيره.

س: المريسي أو المريسي؟

ج: يُشدد ويُخفف، نسبة إلى قرية في مصر يُقال لها: مريس، وبعضهم يُخففها: مريسًا، فمَن شدد فقد شدد النسبة، ومَن خفف القريةَ خفف النِّسبة.

وقال أبو عبدالله محمد بن عبدالله ابن أبي زمنين -الإمام المشهور من أئمة المالكية- في كتابه الذي صنَّفه في أصول السنة، قال فيه: باب الإيمان بالعرش.

.............

قال: ومن قول أهل السنة: إنَّ الله خلق العرش، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ [الحديد:4]، فسبحان مَن بَعُدَ وقَرُبَ بعلمه، فسمع النَّجوى.

وذكر حديث أبي رَزِين العقيلي؛ قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السَّماوات والأرض؟ قال: "في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء".

قال محمد: العماء: السَّحاب الكثيف المطبق فيما ذكره الخليل.

وذكر آثارًا أُخَر، ثم قال: باب الإيمان بالكرسي.

قال محمد بن عبدالله: ومن قول أهل السنة: أنَّ الكرسي بين يدي العرش.

الشيخ: هذا الحديث رواه الإمام أحمد وجماعة، وهو من طريق وكيع بن حدس، ويقال: ابن عدس، وهو ليس بذاك المشهور، وذكر بعضهم –كالحافظ- أنه مقبول، فليس بذاك المشهور من جهة السند وصحة السند، لكن لو صحَّ فهذه أمور توقيفية، وإن لم يصح فالأقرب فيه كغيره: الله أعلم سبحانه، أخبرنا أنه فوق العرش، وأنه استوى على العرش بعدما خلق السَّماوات والأرض، وأما ما قبل ذلك فإن صحَّ حديث أبي رزين فالأمر فيه واضح، وإلا فالجواب فيه: الله أعلم.

وحديث وكيع بن حدس ليس من الأحاديث القوية التي يحصل الاعتماد عليها بالأصول، ولكن يمكن أن يكون له طرق أخرى وشواهد أخرى تعضده وتُقويه، ينبغي التأمل، ينبغي مراجعة رواية أبي رزين في "المسند"، وفي أبي داود الطيالسي، وفي غيره.

وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التَّجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: "فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحفّ بالكرسي منابر من ذهبٍ مكللة بالجواهر، ثم يجيء النَّبيون فيجلسون عليها".

وذكر ما ذكره يحيى بن سلام -صاحب التَّفسير المشهور-: حدَّثني المعلى بن هلال، عن عمار الدّهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "إنَّ الكرسي الذي وسع السَّماوات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه".

وذكر حديث أسد بن موسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن أبي مسعودٍ قال: "ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمئة عام، وبين كل سماءٍ خمسمئة عام، وبين السَّماء السابعة والكرسي خمسمئة عام، وبين الكرسي والماء مسيرة خمسمئة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه".

..............

ثم قال: باب الإيمان بالحجب.

قال: ومن قول أهل السنة: أنَّ الله بائن من خلقه، يحتجب عنهم بالحجب، فتعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]. وذكر آثارًا في الحجب.

الشيخ: وهذا مثلما جاء في حديث أبي موسى في الصحيح: حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ، وبما جاء في حديث أبي ذرٍّ عند مسلمٍ: قيل: يا رسول الله، أرأيتَ ربك؟ قال: رأيتُ نورًا، وفي لفظٍ: أنَّى أراه؟.

فالله جلَّ وعلا له من الحجب العظيمة والأهوال العظيمة ما لا يُحصيه إلا الله، ولا يعلمه إلا هو ، لكن يوم القيامة يكشف الحجاب جلَّ وعلا عن وجهه الكريم، فيراه المؤمنون في عرصات القيامة، وفي الجنة، وهو أعلى نعيمهم.

س: بائن من خلقه؟

ج: منفصل، يعني: ما في شيء من خلقه، فوق العرش، فوق جميع الخلق ، بان كذا عن كذا يعني: انفصل.

ثم قال في باب الإيمان بالنزول، قال: ومن قول أهل السنة: إنَّ الله ينزل إلى السَّماء الدنيا، ويُؤمنون بذلك من غير أن يَحدُّوا فيه حَدًّا.

الشيخ: يعني: على ما جاء في النصوص، لا يحدوا حدًّا يعني: على ما جاء في النصوص؛ ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلةٍ حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، فيقول : مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأُعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟ حتى ينفجر الفجر، وفي اللفظ الآخر: هل من سائلٍ فيُعطى سُؤله؟ هل من مُستغفرٍ فيُغفر له؟ هل من تائبٍ فيُتاب عليه؟، وأهل السنة يُمرونها كما جاءت من غير تأويلٍ ولا تفسيرٍ ولا .....، أما مَن قال: ينزل ثوابه، أو أمره، أو ملك من الملائكة! هذا تأويل باطل، وإبعاد في الحديث.

وذكر الحديث من طريق مالك وغيره، إلى أن قال: وأخبرنا وهب، عن ابن وضاح، عن زهير بن عباد قال: مَن أدركت من المشايخ -مالك وسفيان الثَّوري وفُضَيْل بن عياض وعيسى وابن المبارك ووَكِيع- كانوا يقولون: "النزول حقّ".

قال ابن وَضَّاح: سألتُ يوسف بن عَدِيّ عن النزول، قال: نعم، أؤمن به، ولا أحدّ فيه حدًّا. وسألتُ عنه ابن معين فقال: أُقِرُّ به، ولا أحدّ فيه حدًّا.

الشيخ: يعني: ما أقول: ينزل كذا، ولا كذا، ما أُكيف، ينزل كما يشاء ، لا يعلم كيف ينزل إلا هو، كما أنه استوى على العرش كما يشاء، لا يعلم كيفية استوائه إلا هو ، وهكذا بقية الصِّفات: لا يعلم كيف يرضى، ولا كيف يغضب، ولا كيف يجيء يوم القيامة، ولا كيف يضحك إلا هو ، الكيفية إليه ، هو أعلم به جلَّ وعلا، إنما علينا الإيمان بما أخبرنا به من ضحكٍ ورضا وغضبٍ ورحمةٍ وعلمٍ وسمعٍ وبصرٍ ونزولٍ واستواءٍ، نؤمن بها كما جاءت على الوجه الذي يليق بالله ، لا يعلم كيف صفاته إلا هو .

..............

قال محمد: وهذا الحديث يُبيِّن أنَّ الله على عرشه في السَّماء دون الأرض، وهو أيضًا بَيِّنٌ في كتاب الله، وفي غير حديثٍ عن رسول الله ﷺ، قال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال تعالى: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ۝ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك:16- 17]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقال تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقال تعالى: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء:158].

وذكر من طريق مالك قول النبي ﷺ للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: مَن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها؛ فإنها مؤمنة.

قال: والأحاديث مثل هذه كثيرة جدًّا، فسبحان مَن عِلْمُه بما في السَّماء كعِلْمِه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلي العظيم.

الشيخ: وهذا وصفه جلَّ وعلا عند جميع أهل السنة: العلو .....، أجمع عليها العلماء، ودلَّت عليه الفطرةُ، الله فطر العباد على الإيمان بعلو الله ، وأنه فوق الجميع جلَّ وعلا، حتى البهائم فطرها على رفع رأسها إلى السماء عندما ..... شيء، المقصود أنَّ الفطرة دلَّت على علوه، وجاءت النصوص بذلك؛ جاء الكتاب العظيم والسنة المطهرة، وجاء الأنبياء جميعًا بالإيمان بعلو الله ، وأما الاستواء فهو بالنص -بالنقل- استواؤه على العرش جاءت به النصوص النَّقلية السَّمعية، فالاستواء والعلو كلاهما صفتان عظيمتان ثابتتان لله ، أما العلو فبالفطرة والعقل والنص جميعًا، وأما الاستواء فبالسمع كما جاءت به النصوص: الكتاب والسنة.

وقال قبل ذلك: بابٌ في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه.

قال: واعلم بأنَّ أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهلَ بما لم يُخبر به تعالى عن نفسه علمًا، والعجز عمَّا لم يدع إليه إيمانًا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، وعلى لسان نبيه.

الشيخ: وهذا هو البصيرة، وهذا هو الحق، وهذا هو مُقتضى العقل السليم: الجهل بما لم يُخبر به علم، والعجز عن إدراك ذلك هو الحقيقة التي يجب أن يُقرَّ بها العبدُ، وأنه عاجز لا يعلم عن ربِّه إلا ما جاءت به النصوص، ولا يستطيع أن يقول عن ربِّه سوى ما جاءت به النصوص، فالجهل بما لم يُخبر به عن نفسه هو العلم في الحقيقة؛ أن يقول العبد: لا أعلم، الله أعلم، لا أدري عن هذا، إنما نعلم ما جاءت به النصوص، ودلَّت عليه النصوص، فنصف الله بها، وما أخبر به عن نفسه، ونسكت عمَّا سوى ذلك، هذا هو العلم، وهذا هو مقتضى الإيمان: العجز عن إدراك ما لم يُخبر به هو الإيمان الصحيح، أما التَّكلف ودعوى أشياء ما أنزل الله بها من سلطانٍ فهذا هو الجهل.

وقد قال الله تعالى -وهو أصدق القائلين-: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، وقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30]، وقال: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر:29]، وقال: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:93]، وقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]، وقال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:64]، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35]، وقال تعالى: اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وقال تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3]، ومثل هذا في القرآن كثير.

س: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا؟

ج: هذا واضح، يعني: بمرأى من الله، ومسمع منه ، هو الذي ..... ويسهل له أمره، وفيه إثبات العين؛ لأنه لا يُقال: هذا مَن لا عينَ له، ولا سمعَ له، ولا بصر، فهو السَّفينة تجري بعينه، يعني: برعايته ، وفيه إثبات العين: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:93]؛ لأنه رُبِّي على عينه ، يعني: بتوفيق الله لمن ربَّاه حتى صار في أحسن حالةٍ على يد أعدائه، ومع ذلك فيه إثبات العين لله جلَّ وعلا، وجاءت النصوص في قصة الدَّجال: إنَّ ربكم ليس بأعور، والدجال أعور العين اليُمنى، وفيه إثبات العين، وإثبات الرعاية من الله للسفينة ولموسى عليه الصلاة والسَّلام.

س: ...............؟

ج: إيه، يستهزئ بهم، ويمكر بهم، كما فعلوا؛ مكر بحقٍّ، واستهزاء بحقٍّ، يُوصف به ، المذموم الاستهزاء بالباطل، والمكر بالباطل، أما استهزاؤه بهم في مقابل استهزائهم، لما استهزأوا استهزأ بهم، ومكر بهم، وكيدوا وخُدعوا، وهو بحقٍّ يُوصف به؛ لأنه وصف حقّ ، على الوجه اللائق بالله جلَّ وعلا.

فهو تبارك وتعالى نور السَّماوات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه، ونفس، وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم، الأول ولا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهايةٍ ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيءٍ، والباطن بطن علمه بخلقه، فقال: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، حي قيوم، لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم.

وذكر أحاديث الصِّفات، ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه، وليس في شيءٍ منها تحديد، ولا تشبيه، ولا تقدير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، لم تره العيون فتحدّه كيف هو، ولكن رأته القلوبُ في حقائق الإيمان. اهـ.

وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفُتيا عشره، وكذلك كلام النَّاقلين لمذهبهم، مثل: ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في "الغنية عن الكلام وأهله".

س: صفة الكلام لله ذاتية فعلية؟

ج: يُقال: ذاتي، ويقال: فعلي؛ لأنه بالاختيار، يعني: يُسمَّى: ذاتيًّا؛ لأنه من صفات الذَّات، ويُسمَّى: فعليًّا؛ لأنه يقع عن المشيئة، ويتكلم إذا شاء .

س: ..............؟

ج: يعني: ذاته سبحانه، بوجهه الكريم، عبر بالوجه لأنه هو الأشرف، والمقصود: بوجهه الكريم، صفة الوجه، مع بقائه ، عبَّر بالوجه لأنه صفته العظيمة؛ ولهذا قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27]، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] يعني: بوجهه وذاته جميعًا، ما هو يخص الوجه وحده، عبَّر بالوجه عن الذات كلها؛ لأنه موصوف بالوجه ، وهذه من طريقة العرب: يبقى وجه فلان، يعني: كل فلانٍ، ما هو فقط وجهه والباقي معدوم، يعني: كله.

وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره، وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم، مثل: ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في "الغنية عن الكلام وأهله"،  قال: فأما ما سألت عنه من الصِّفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة: فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتَّشبيه عنها، وقد نفاها قومٌ فأبطلوا ما أثبته الله، وحقَّقها قومٌ من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضربٍ من التَّشبيه والتَّكييف، وإنما القصد في السلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه.

الشيخ: وقد أحسن أبو سليمان رحمة الله عليه، كلام عظيم، هذا هو قول أهل السنة، فقوم أفرطوا في التَّنزيه حتى عطَّلوا: كالجهمية والمعتزلة، وبعض الآخرين من أتباعهم: كالأشاعرة في بعض الصِّفات. وقوم أفرطوا في الإثبات فمثَّلوا وشبَّهوا، والحق ما قاله أهلُ السنة، وهو الوسط، هو الإثبات بلا تمثيلٍ، والتَّنزيه بلا تعطيلٍ، إثبات بريء من التَّمثيل، وتنزيه بريء من التَّعطيل، وذلك إمرارها كما جاءت، وإثباتها، والإيمان بها، وأنها حق، وأن الله لا شبيهَ له فيها .

...............

والأصل في هذا أنَّ الكلام في الصِّفات فرع عن الكلام في الذَّات، يُحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلومًا أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجودٍ، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجودٍ، لا إثبات تحديدٍ وتكييفٍ.

فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إنَّ معنى اليد: القوة أو النِّعمة، ولا معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نُشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إنما وجب إثبات الصِّفات لأن التَّوقف ورد بها، ووجب نفي التَّشبيه عنه لأنَّ الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصِّفات.اهـ. هذا كله كلام الخطَّابي.

وهكذا قال أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالةٍ له أخبر فيها أنَّ مذهب السلف على ذلك.

وهذا الكلام الذي ذكره الخطَّابي قد نقل نحوًا منه من العلماء ما لا يُحصى عددهم، مثل: أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السِّجزي، وشيخِ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب "منابر السالمين وذم الكلام"، وهو أشهر من أن يُوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصَّابوني، وأبي عمر ابن عبد البر النّمري -إمام المغرب- وغيرهم.

وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب "الحلية" في عقيدةٍ له في أولها: طريقتنا طريق المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال: فمما اعتقدوه أنَّ الأحاديث التي ثبتت عن النبي ﷺ في العرش واستواء الله يقولون بها، ويُثبتونها، من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأنَّ الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مُستوٍ على عرشه في سمائه، دون أرضه وخلقه.

وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب "محجة الواثقين ومدرجة الوامقين" تأليفه: وأجمعوا أنَّ الله فوق سماواته، عالٍ على عرشه، مُستوٍ عليه، لا مُستولٍ عليه كما تقول الجهمية: إنه بكل مكانٍ، خلافًا لما نزل في كتابه: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، له العرش المستوي عليه، والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وهو قوله وتعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وكرسيه جسم، والسَّماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي كحلقةٍ في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية، بل يُوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبيُّ ﷺ، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفًّا صفًّا، كما قال تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وزاد النبيُّ ﷺ: وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، فيغفر لمن يشاء من مُذنبي الموحدين، ويُعذب مَن يشاء؛ كما قال تعالى: يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ [آل عمران:129]. اهـ.

وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني -شيخ الصوفية في حدود المئة الرابعة في بلاده- قال: أحببت أن أُوصي أصحابي بوصيةٍ من السنة، وموعظةٍ من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتَّصوف من المتقدمين والمتأخِّرين.

قال فيها: وأنَّ الله استوى على عرشه بلا كيفٍ، ولا تشبيهٍ، ولا تأويلٍ، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأنه مُستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا مُلاصقة؛ لأنه المنفرد البائن من خلقه، الواحد الغني عن الخلق.

وأنَّ الله سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مُستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيفٍ، ولا تشبيهٍ، ولا تأويلٍ، فمَن أنكر النزول أو تأوَّل فهو مُبتدع ضالّ، وسائر الصَّفوة من العارفين على هذا.

الشيخ: صدق معمر رحمه الله، هذا قول أهل السنة والجماعة: أنه سبحانه استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله، وهكذا بقية صفاته: يرضى ويغضب، ويتكلم إذا شاء، ويرحم عباده، ويضحك إليهم، كل هذا واقع، لكن على الوجه اللائق به، من غير كيف، ولا مُشابهة للخلق، وهكذا النزول -الباب واحد- وهكذا جميع الصِّفات كلها بابها واحد لأهل الحق، يجب إثباتها لله، وإمرارها كما جاءت، والإيمان بها، وأنها حق، وأنها صفات ثابتة لله على الوجه اللائق به ، كما أنَّ ذاته حقّ، ولا تُشبه ذوات المخلوقين، فهكذا صفاته حقّ، ولا تُشبه صفات المخلوقين.

ومَن زعم خلاف ذلك فقد ضلَّ وابتدع، وصار كلامه في ذلك يؤول إلى الإلحاد وإنكار وجود الذات بالكلية، نسأل الله العافية، مَن أنكر الصِّفات فقد عطَّل الله جلَّ وعلا وأنكر وجوده، هذا مآل قولهم، نسأل الله العافية.

س: ..............؟

ج: المراد: الأوائل المعروفون من أهل السنة في الزهد والورع، تصوف الأوائل هو الزهد والورع ......

وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب "السنة": حدثنا أبو بكر الأثرم: حدثنا إبراهيم بن الحارث -يعني: العبادي- حدثنا الليث بن يحيى، قال: سمعتُ إبراهيم بن الأشعث: قال أبو بكر -وهو صاحب الفُضيل- قال: سمعتُ الفُضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؛ لأنَّ الله تعالى وصف نفسه فأبلغ، فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص]، فلا صفةَ أبلغ مما وصف به نفسه.

وكل هذا: النزول، والضَّحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يُباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطَّلع. فليس لنا أن نتوهَّم كيف وكيف، فإذا قال الجهمي: أنا أكفر بربٍّ يزول عن مكانه. فقل: بل أؤمن بربٍّ يفعل ما يشاء.

الشيخ: سبحانه وبحمده، هذا الحق: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]، {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، ومن ذلك الاستواء والنُّزول والضَّحك والرضا والغضب، وغير ذلك.

ونقل هذا عن الفُضيل جماعة، منهم البخاري في "خلق أفعال العباد".

ونقل شيخُ الإسلام بإسناده في كتابه "الفاروق" فقال: حدَّثني يحيي بن عمار: حدَّثنا أبي: حدَّثنا يوسف بن يعقوب: حدَّثنا حَرَميّ بن علي البخاري، وهانئ بن النَّضر، عن الفُضيل.

وقال عمرو بن المكي في كتابه الذي سمَّاه "التعرف بأحوال العباد والمتعبدين" قال: ما يجيء به الشيطان للتَّائبين. وذكر أنه يُوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما ُيوسوس في التوحيد بالتَّشكيك، أو في صفات الرب بالتَّمثيل والتَّشبيه، أو بالجحد لها والتَّعطيل.

فقال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم -رحمك الله تعالى- أنَّ كُلَّ ما توهمه قلبك، أو سَنَح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك: من حُسنٍ أو بهاءٍ، أو ضياءٍ أو إشراقٍ، أو جمالٍ، أو شبح مائل، أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4] أي: لا شبيهَ ولا نظيرَ ولا مُساوٍ ولا مثل، أَوَلَمْ تعلم أنه تعالى لما تجلَّى للجبل تدكدك؛ لعظم هيبته، وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيءٍ إلا اندكَّ، كذلك لا يتوهمه أحدٌ إلا هلك، فرُدّ بما بيَّن الله في كتابه من نفيه عن نفسه التَّشبيه والمثل والنَّظير والكفء.

فإن اعتصمتَ به وامتنعتَ منه أتاك من قبل التَّعطيل لصفات الرب تبارك وتعالى وتقدس في كتابه وسنة رسوله محمد ﷺ، فقال لك: إذا كان موصوفًا بكذا أو وصفته، أوجب له التَّشبيه! فأكذبه؛ لأنه اللَّعين إنما يُريد أن يستزلك ويغويك ويُدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى.

فاعلم رحمك الله تعالى أنَّ الله واحد لا كالآحاد، فرد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.

إلى أن قال: خلصت له الأسماء السَّنِيَّة فكانت واقعةً في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفةً كان منها خليًّا، أو اسمًا كان منه بريًّا تبارك وتعالى، فكان هاديًا سيهدي، وخالقًا سيخلق، ورازقًا سيرزق، وغافرًا سيغفر، وفاعلًا سيفعل، ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يُسمَّى به في جملة فعله كذلك، قال الله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء، سيجيء، ويكون المجيء منه موجودًا بصفةٍ لا تلحقه الكيفية ولا التَّشبيه؛ لأنَّ ذلك فعل الربوبية، فيستحسر العقول، وتنقطع النفس عن إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين: لا مُعطلًا، ولا مُشَبِّهًا، وارضَ لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلمًا، مُستسلمًا، مُصدقًا، بلا مُباحثة التَّنفير، ولا مناسبة التَّنقير.

إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أَنَا اللَّهُ [القصص:30]، لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائيًا، لا أمره، المتجلي لأوليائه في الميعاد؛ فتبيَضُّ به وجوههم، وتَفْلُج به على الجاحدين حجّتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله، فوق كل مكانٍ تبارك وتعالى، الذى كلَّم موسى تكليمًا، وأراه من آياته، فسمع موسى كلام الله؛ لأنه قَرَّبَه نَجِيًّا، تقدس أن يكون كلامه مخلوقًا أو مُحدثًا أو مربوبًا، والوارث لخلقه، السَّميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسادهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه؛ وهو أمره تعالى وتقدس أن يحل بجسمٍ، أو يُمازج بجسمٍ، أو يُلاصق به، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، الشَّائي -له المشيئة- العالم -له العلم- الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكانٍ بعيد، ولا يُشبه بالناس.

إلى أن قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، القائل: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ۝ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك:16- 17] تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السَّماء جلَّ عن ذلك علوًّا كبيرًا. اهـ.

الشيخ: وهذا الذي قاله رحمه الله هو الحق، فإن الناس في هذا الباب ثلاثة أقسام:

  • غلاة، وهم مُشبهة.
  • ونُفاة، وهم مُعطلون، وهم الجهمية وأشباههم.
  • وأهل السنة هم الوسط في هذا الباب، فلا مع المعطلين النَّافين للصِّفات، ولا مع المشبهين والممثلين الذين غلوا في إثبات الصِّفات، ولكنهم وسط بين الباطلين، وحق بين الباطلين، ووسط بين الطرفين، فأثبتوا صفات الله، وأثبتوا أسماءه على الوجه اللائق بالله ، من غير تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ، فلا مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء، أثبتوا صفات الله وأسماءه على الوجه اللائق به ، ولم يُمثلوا صفاته بصفات خلقه، ولم يُعطلوا صفاته جلَّ وعلا، بل هو المالك لكل شيءٍ، والقادر على كل شيءٍ، وقد استوى على عرشه جلَّ وعلا، وهو قادر على ذلك قبل وجود هذا الاستواء، وقبل وجود العرش، وهو على كل شيءٍ قدير ، كما أنه قادر على المجيء والإتيان، وإن كان لا يفعله إلا يوم القيامة حين يقضي بين عباده، فهو على كل شيءٍ قدير ، وهو الذي يفعل ما يشاء على الوجه اللائق به .

هذا هو الواجب على أهل العلم والإيمان: أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وأن يُنزهوه عمَّا نزَّه عنه نفسه، وأن يُؤمنوا بأنه جلَّ وعلا له الكمال المطلق في كل شيءٍ: في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا شبيهَ له، ولا كفء له، ولا ندَّ له، ولا يُقاس بخلقه .

س: قوله: الشَّائي؟

ج: أخذها من "شاء" يعني، هذا لإثبات وجود المشيئة، ليس من أسمائه، من باب إثبات المشيئة والإرادة.

س: ..............؟

ج: الشيطان قد يعمل هذا وهذا: قد يُزين للعباد القنوط فيقنطون، ويعظم عليهم أمر النار، وأمر غضب الله فيقنطون بسبب بعض المعاصي التي قد فعلوها. وقد يُزين لبعض الناس الغرور، وأنهم بلغوا منزلةً ما بلغها أحدٌ في عباداتهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم فاقوا الناس، وأنهم فوق الناس، وأنهم تعبدوا أكثر مما تعبد الأنبياء، فيقعون في الغرور -نعوذ بالله- والتَّكبر والمنّ على الله بما فعلوا؛ فيهلكون، نسأل الله السَّلامة.

س: قال: "النَّاظر بعينه إلى أجسامهم"، هل يقول: الناظر بعينيه إلى أجسامهم؟

ج: هذا صحيح، وهذا صحيح، يُقال: عين، والمفرد المضاف يعمّ، ومثلما قال: يد، يصف يده، يعني: يديه، ويقال: بعينيه؛ لأنَّ له عينين ، كما أنَّ له يدين، وله قدمين ، هذا معناه.

س: ..............؟

ج: ما أكثر -يا ولدي- الكافرة الضَّالة، الكُتب الضَّالة كثيرة جدًّا، ملأت الدُّنيا.

س: توجد في مكاتبنا كثيرة جدًّا؟

ج: الذي وجدته اكتب لنا عنه حتى يُنظر فيه، ولا سيما في هذا العصر؛ حيث انفتحت أبواب الكتب والطباعة، وكثرت الكتب الباطلة، تُطبع وتُباع، ما همّ أكثر الناس إلا الفلوس، يصير المال ولو كان الكتاب فاسدًا مُهلكًا، نسأل الله العافية.

وقال الإمام أبو عبدالله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمَّى "فَهْم القرآن"، قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ، وأنَّ النسخ لا يجوز في الأخبار، قال: لا يحل لأحدٍ أن يعتقد أنَّ مدح الله وأسمائه وصفاته يجوز أن يُنسخ منها شيء.

إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أنَّ صفاته حسنة عُليا أن يُخبر بعد ذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب، بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يُبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قُدرة له، ولا يتكلم، ولا الكلام كان منه، وأنه تحت الأرض، لا على العرش، جلَّ وعلا عن ذلك.

فإذا عرفتَ ذلك واستيقنته: علمتَ ما يجوز عليه النَّسخ وما لا يجوز، فإن تلوت آيةً في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره؛ كقوله عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ [يونس:90]، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31].

وقال: قد تأول قومٌ أن الله عنى أن يُنجيه ببدنه من النار؛ إذ قد آمن عند الغرق، وقالوا: إنما ذكر الله قوم فرعون يدخلون النار دونه، وقال: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98]، وقال: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45]، ولم يقل: بفرعون، وقال: وهكذا الكذب على الله؛ لأنَّ الله تعالى يقول: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [النازعات:25]، وكذلك قوله تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:3]، فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله ، عن أن يستأنف علمًا بشيءٍ؛ لأنه مَن ليس له علم بما يُريد أن يصنعه لم يقدر عليه أن يصنعه، نجده ضرورة، قال: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

قال: وإنما قوله: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ إنما يُريد: حتى نراه، فيكون معلومًا موجودًا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدومًا من قبل أن يكون، ويعلمه موجودًا كان قد كان، فيعلم في وقتٍ واحدٍ معدومًا موجودًا وإن لم يكن، وهذا المحال.

وذكر كلامًا في هذا؛ في الإرادة، إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ [الشعراء:15] ليس معناه: أن يُحدث له سمعًا، ولا تكلف لسمع ما كان من قولهم.

وقد ذهب قومٌ من أهل السنة إلى أنَّ لله استماعًا حادثًا في ذاته، فذهبوا إلى أنَّ ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قوله؛ لأنَّ المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عمَّا أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة:105]، لا يستحدث بصرًا مُحدثًا في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكونًا، كما لم يزل يعلم قبل كونه.

إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك:16]، وقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال تعالى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، وقال لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقال تعالى: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف:206].

وذكر الآلهة: أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا، إلى طلبه حيث هو، فقال: قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:24]، وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1].

قال أبو عبدالله: فلن ينسخ ذلك بهذا أبدًا.

كذلك قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وقوله تعالى: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ [الأنعام:3]، وقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7]، فليس هذا بناسخٍ لهذا، ولا هذا ضدّ لذلك.

الشيخ: وهذا الذي قاله الحارث المحاسبي كلام عظيم، وهو موافق لما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنَّ أهل السنة أجمعوا على أنَّ الأخبار لا تُنسخ، وأنَّ ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر به عن الجنة والنار، وما كان، وما يكون، كله محكم، كله لا يعتريه النَّسخ، بل هو محكم ثابت، لا شكَّ فيه ولا ريب.

ولا يجوز أن يُخبر أنه سبحانه هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو السميع، وهو البصير، وأن الجنة كذا، والنار كذا، ثم يأتي بعد ذلك ما ينسخ ذلك، هذا مستحيل أبدًا، بل هو الصَّادق في خبره، وخبره أصدق الخبر: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، هي أشياء ثابتة، وقد أخبر عن نفسه بأسمائه وصفاته، وهي ثابتة له : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فلا يجوز لعاقلٍ أن يتأولها على غير تأويلها.

وما جاء في قوله : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] هذا على معناه، فهو سبحانه مع علوه، ومع فوقيته، ومع كونه في العلو، وعلى العرش، هو مع عباده بعلمه واطِّلاعه، ورؤيته لهم، وقُربه منهم ، واطلاعه جلَّ وعلا، ولا يلزم من هذا نسخ تلك الأخبار التي أخبر بها عن نفسه: أنه فوق العرش، وأنه فوق جميع الخلق، وأن الأعمال تعرج إليه، والملائكة تعرج إليه، كله حق، وهو في العلو، وهو فوق السَّماوات، ومع هذا هو مع عباده بعلمه واطِّلاعه ورؤيته لأحوالهم.

وكذلك إذا أخبر أنه ليعلم كذا، ولنعم كذا، فالمعنى أي: لنعلمه موجودًا بعدما علمه في القدر السابق ، هو يعلم ما كان قبل أن يوجد، ويعلمه بعد أن يُوجد، ويراه بعد أن يُوجد، كما هو معلوم له في القدر السابق، فلا تنافي بين هذا وهذا، وهكذا ما أشبه ذلك.

وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] معناه: إثبات ما أخبر به، لكن على وجهٍ لا يُشابه فيه خلقه ، بل له الكمال المطلق من كل الوجوه، والنَّقص للعباد والخلق.

واعلم أنَّ هذه الآيات ليس معناها: أنَّ الله أراد الكون بذاته، فيكون في أسفل الأشياء، أو يتنقل فيها لاستفالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جلَّ وعزَّ عن ذلك، وقد نزغ بذلك بعضُ أهل الضَّلال، فزعموا أنَّ الله تعالى في كل مكانٍ بنفسه كائنًا، كما هو في العرش، ولا فرق بين ذلك عندهم، ثم أحالوا في النَّفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأنَّ كل مَن يثبت شيئًا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يُغنِ عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أنَّ الله تعالى في كل شيءٍ بنفسه كائنًا، ثم نفوا معنى ما أثبتوا، فقالوا: لا كالشيء في الشَّيء.

قال أبو عبدالله: أما قوله: حَتَّى نَعْلَمَ [محمد:31]، وَسَيَرَى اللَّهُ [التوبة:94]، و إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء:15]، فإنما معناه: حتى يكون الموجودُ فيعلمه موجودًا، ويسمعه مسموعًا، ويُبصره مُبصرًا، لا على استحداث علمٍ، ولا سمع، ولا بصر.

وأما قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا [الإسراء:16] إذا جاء وقت كون المراد فيه.

وأن قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك:16]، إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]، فهذا وغيره مثل قوله: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، هذا منقطع يُوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، مُنزَّه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنَّ ذاته بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يعني: فوق العرش، والعرش فوق السَّماء؛ لأنَّ مَن قد كان فوق كل شيءٍ على السماء، في السماء، وقد قال مثل ذلك، قال: فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ [التوبة:2] يعني: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها. وكذلك قوله: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:17] يعني: فوقها، عليها.

وقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، ثم فصل فقال: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ولم يصل، فلم يكن لذلك معنى إذ فصل بقوله: مَنْ فِي السَّمَاءِ، ثم استأنف التَّخويف بالخسف؛ إلا أنه على عرشه فوق السَّماء.

وقال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدةً إليه، فقال: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، فقال: صعودها إليه، وفصله من قوله: إِلَيْهِ، كقول القائل: اصعد إلى فلانٍ في ليلةٍ أو يوم. وذلك أنه في العلو، وأنَّ صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله ، وإن كانوا لم يروه، ولم يُساووه في الارتفاع في علوه، فإنهم صعدوا من الأرض، وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال الله تعالى: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، ولم يقل: عنده.

الشيخ: والمقصود من هذا ..... قاله أهلُ السنة ..... أنه فوق العرش، فوق جميع الخلق، وأنه علمه لم يزل عالمًا .....، لطيفًا بهم جلَّ وعلا، وأنَّ قوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] وما أشبهها معناه: الإحاطة بهم، واطلاعه على أحوالهم، وأنه لا تخفى عليه خافية ، وليس معناه: أنه معهم على الأرض، وأنه في هذا المكان، كما يقوله أهلُ البدع والضَّلال من الجهمية وأشباههم، بل هذا من أبطل الباطل، وهو سبحانه فوق العرش، فوق جميع الخلق، وعلمه في كل مكانٍ، وهكذا ..... السَّماء في العلو؛ لأنَّ السماء كل ما علا ..... فوق السَّماوات، فوق العرش ..........

وقال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ۝ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، ثم استأنف الكلام فقال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36- 37] فيما قال لي: إنَّ إلهه فوق السَّماوات.

فبَيَّنَ الله سبحانه أنَّ فرعون ظنَّ بموسى أنه كاذب فيما قال، وعمد لطلبه حيث قاله من الظن بموسى: إنه كاذب، ولو أنَّ موسى قال: إنه في كل مكانٍ بذاته، لطلبه في بيته، أو بدنه، أو حُشِّه، فتعالى الله عن ذلك، ولم يجهد نفسه ببنيان الصَّرح.

الشيخ: ...............

قال أبو عبدالله: وأما الآية التي يزعمون أنها قد وصلها ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [المجادلة:7]، فأخبر بالعلم، ثم أخبر أنه مع كل مناجٍ، ثم ختم الآية بالعلم بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فبدأ بالعلم، وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا، لا يخفون عليه، ولا يخفى عليه مُناجاتهم، ولو اجتمع القومُ في أسفل، وناظر إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أراكم، وأعلم مُناجاتكم، لكان صادقًا، ولله المثل الأعلى أن يُشبه الخلق، فإن أبَوا إلا ظاهر التِّلاوة، وقالوا: هذا منكم دعوى، خرجوا عن قولهم في ظاهر التِّلاوة؛ لأنَّ مَن هو مع الاثنين أو أكثر هو معهم لا فيهم، ومَن كان مع الشيء فقد خلا منه جسمه، وهذا خروج من قولهم.

وكذلك قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] لأنَّ ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التِّلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد.

وكذلك قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] لم يقل: في السماء، ثم قطع، كما قال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، ثم قطع فقال: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك:16]، فقال: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، إله أهل السَّماء، وإله أهل الأرض، وذلك موجود في اللغة؛ تقول: فلان أمير في خراسان، وأمير في بلخ، وأمير في سمرقند. وإنما هو موضع واحد، ويخفى عليه ما وراءه، فكيف العالي فوق الأشياء، لا يخفى عليه شيء من الأشياء يُدبره؟ فهو إله فيهما إذا كان مُدبرًا لهما، وهو على عرشه فوق كل شيءٍ، تعالى عن الأمثال. اهـ.

وقال الإمام أبو عبدالله محمد بن خفيف في كتابه الذي سمَّاه "اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصِّفات"، قال في آخر خطبته: فاتَّفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله ، ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولًا واحدًا، وشرعًا ظاهرًا، وهم الذين نقلوا عن رسول الله ﷺ ذلك، حتى قال: عليكم بسنتي وذكر الحديث. وحديث: لعن الله مَن أحدث حدثًا أو آوى مُحدثًا.

وقال: فكانت كلمة الصحابة على اتِّفاق من غير اختلاف، وهم الذين أُمرنا بالأخذ عنهم؛ إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدِّين من الأسماء والصِّفات، كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلافٌ لنُقِل إلينا، كما نُقِل سائر الاختلاف، فاستقرَّ صحة ذلك عن خاصتهم وعامَّتهم حتى أدّوا إلى التابعين لهم بإحسانٍ، فاستقر صحةُ ذلك عند العلماء المعروفين حتى نقلوا ذلك قرنًا بعد قرنٍ؛ لأنَّ الاختلاف كان في الأصل عندهم كفر، ولله المنة.

الشيخ: يعني: .....، والإيمان بذلك وإمرار ذلك كما جاء على الوجه اللائق بالله، من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، هكذا سار الصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم، وأتباعهم بإحسانٍ، ولم يختلفوا في هذا، وإنما اختلف فيه أهلُ البدع: كالجهمية وغيرهم، أما أصحاب النبي ﷺ فكلهم آمنوا بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله من أسماء الله وصفاته، وأثبتوها لله، وآمنوا بها، وأمروها كما جاءت، عن عقيدةٍ، وعن إيمانٍ، وقالوا فيها كما قال الله عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، ومدح الله مَن تابعهم على هذا الطريق، قال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وهم وأتباعهم بإحسانٍ هم الذين درجوا على الطريق السَّوي، واستقاموا على منهج نبيهم ﷺ قولًا وعملًا وعقيدةً، بأسماء الله وصفاته، وتوحيده وإخلاص العبادة له، وترك ما خالف ذلك، وإن وقع من ذلك من المسائل والفروع من المسائل التي تتعلق بالصلاة، أو بالطلاق، أو بالنكاح، أو بغير ذلك، لكن بحمد الله أجمعوا على الإيمان بأسماء الله وصفاته، وتوحيده والإخلاص له، وترك ما خالف ذلك، ولم يتنازعوا في هذا.

ثم إني قائل -وبالله أقول- إنه لما أحدثوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصِّفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين، فخاض في ذلك مَن لم يُعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هواجس النَّفس المستخرجة من سُوء الطوية وما وافق على مخالفة السنة، والتَّعلق منهم بآيات لم يُسعدهم فيها، فتأوَّلوا على أهوائهم، وصحَّحوا بذلك مذاهبهم: احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفًا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذَّر رسولُ الله ﷺ أمته، ومنع المستجيبين له حتى حذَّرهم.

ثم ذكر أبو عبدالله خروج النبي ﷺ وهم يتنازعون في القدر وغضبه. وحديث: لا ألْفَيَنَّ أحَدَكم متكئًا على أريكته. وحديث: ستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، وأنَّ الناجية: ما كان عليه هو وأصحابه.

ثم قال: فلزم الأمة قاطبةً معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسانٍ، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرنًا بعد قرنٍ ممن عُرِفوا بالعدالة والأمانة، المحافظين على الأمة: ما لهم وما عليهم من إثبات السُّنة.

إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما [أوردنا] هذه المسألة من أجله: ذكر أسماء الله  وصفاته مما ذكر الله في كتابه، وما بيَّن ﷺ من صفاته في سنته، وما وصف به نفسه، مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له.

إلى أن قال: ثم إنَّ الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية وإقرار الألوهية: أن ذكر تعالى في كتابه بعد التَّحقيق بما بدأ به من أسمائه وصفاته، وأكَّده بقوله، فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله: لا إله إلا الله.

إلى أن قال: بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل، فقال لموسى : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30].

ولصحة ذلك واستقراره ناجاه المسيحُ فقال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116].

وأكَّد صحَّة إثبات ذلك في سنته فقال: يقول الله : مَن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وقال ﷺ: كتب كتابًا بيده على نفسه: إنَّ رحمتي سبقت غضبي، وقال: سبحان الله رضى نفسه، وقال في مُحاجة آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه.

فقد صحَّ بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفسًا، وأثبت له الرسولُ ذلك، فعلى مَن صدَّق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه، ويكون ذلك مبنيًّا على ظاهر قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

الشيخ: يعني: هكذا بقية الصِّفات، مراده رحمه الله: أنه كما بيَّن لنا توحيده، وأنه مُستحق للعبادة، وبيَّن بطلان الشرك، هكذا بيَّن أسماءه وصفاته؛ حتى نعرفه به سبحانه، فوجب على الأمة تقبل هذه الأسماء والصِّفات، والإيمان بها على حدِّ قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، نؤمن بها ونُمرها كما جاءت على هذا الأساس، وأنه سبحانه لا يُماثله شيء: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

ومن ذلك: النَّفس، قد ذكرها في مواضع من كتابه، وذكرها رسولُه ﷺ، فنُمرها كما جاءت: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]، وهذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على إثبات النفس، وهكذا الأحاديث، فوجب على أهل الإيمان إثباتها، وأنها حقّ، لكنها ليست من جنس أنفس المخلوقين، بل لله نفس وسمع وبصر ورضا وغضب ورحمة وغير ذلك، كله يليق بالله ، لا يُشابه صفات المخلوقين، وهكذا وجهه ويده وقدمه وأصابعه وغير ذلك، كلها طريقها واحد؛ الواجب إثباتها، والإيمان بها، وأنها حقّ، على الوجه اللائق بالله ، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ.

هذا قول أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسانٍ، خلاف أهل الكلام الذين تنطَّعوا وقالوا ما ليس لهم به علم، وأوَّلوا النصوص، وحقيقة ما قالوه التَّكذيب، نسأل الله العافية.