04 من قوله: (وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق...)

قال الحافظُ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في حكم الصدقة:
(وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: ضرب رسولُ الله ﷺ مثل البخيل والمُتصدق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد –أو: جُنَّتان من حديد- قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلَّما تصدَّق بصدقةٍ انبسطت عنه حتى تغشى أناملَه، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلَّما هَمَّ بصدقةٍ قلصت وأخذت كل حلقةٍ مكانها.
قال أبو هريرة: فأنا رأيتُ رسول الله ﷺ يقول بإصبعه هكذا في جيبه، فرأيته يُوسعها فلا تتسع.
وروى البخاريُّ هذا الحديث في كتاب الزكاة عن أبي هريرة أيضًا، ولفظه: أنه سمع رسولَ الله ﷺ يقول: مثل البخيل والمُنفِق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد من ثُديِّهما إلى تراقيهما، فأمَّا المُنفق فلا يُنفق إلا اتسعت أو فرَّت على جلده حتى يخفى أثره، وأمَّا البخيلُ فلا يُريد أن يُنفق شيئًا إلا لزقت كل حلقةٍ مكانها، وهو يُوسعها ولا تتسع.
ورُوي عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي ﷺ قال: على كل مسلمٍ صدقة، قالوا: يا رسول الله، فمَن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسَه ويتصدَّق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يُعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، وليُمْسِك عن الشرّ؛ فإنَّها له صدقة.
ولما كان البخيلُ محبوسًا عن الإحسان، ممنوعًا عن البر والخير؛ كان جزاؤه من جنس عمله، فهو ضيق الصدر، ممنوع من الانشراح، ضيق العَطَن، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تُقْضَى له حاجة، ولا يُعان على مطلوبٍ.
فهو كرجلٍ عليه جُبَّة من حديد، قد جُمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكَّن من إخراجها ولا حركتها، وكلَّما أراد إخراجَها أو توسيع تلك الجُبَّة لزمت كلُّ حلقةٍ من حِلَقِها موضعها.
وهكذا البخيل: كلَّما أراد أن يتصدَّق منعه بخلُه، فبقي قلبُه في سجنه كما هو.
والمُتصدِّق كلَّما تصدَّق بصدقةٍ انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبَّة عليه، فكلما تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقًا بالاستكثار منها، والمُبادرة إليها.
وقد قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وكان عبدالرحمن بن عوف –أو سعد بن أبي وقاص- يطوف بالبيت وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قني شحَّ نفسي، رب قني شحَّ نفسي. فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة؟! فقال: إذا وُقيت شحَّ نفسي فقد أفلحت.
والفرق بين الشُّحِّ والبخل: أن الشح هو شدَّة الحرص على الشيء، والاحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه، وإمساكه، فهو شحيحٌ قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبُخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامِنٌ في النفس، فمَن بخل فقد أطاع شُحَّه، ومَن لم يبخل فقد عصى شُحَّه، ووُقِيَ شرَّه، وذلك هو المُفْلِح: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
والسخي قريبٌ من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله، وقريبٌ من الجنة، وبعيد من النار، والبخيل بعيد من خلقه، بعيد من الجنة، قريب من النار، فجود الرجل يُحببه إلى أضداده، وبُخله يُبغِّضه إلى أولاده.
ويُظهر عيبَ المرء في النفس بخلُه ويستره عنهم جميعًا سخاؤه
تغطَّ بأثواب السَّخاء فإنني أرى كلَّ عيبٍ بالسخاء غطاؤه
وقارن إذا قارنت حرًّا فإنَّما يزين ويُزري بالفتى قُرناؤه
وأقلل إذا ما استطعت قولًا فإنه إذا قلَّ قول المرء قلَّ خطاؤه
إذا قلَّ مالُ المرء قلَّ صديقه وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان حازمًا أقُدَّامه خيرٌ له أم وراؤُه
إذا المرء لم يختر صديقًا لنفسه فنادِ به في الناس هذا جزاؤه
وحدّ السَّخاء: بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل ذلك إلى مُستحقّه بقدر الطاقة، وليس كما قال بعضُ مَن نقص علمه: حدُّ الجود بذل الموجود. ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السَّرف والتبذير، وقد ورد الكتابُ بذمِّهما، وجاءت السنةُ بالنهي عنهما.وإذا كان السخاء محمودًا فمَن وقف على حدِّه سُمِّي كريمًا، وكان للحمد مُستوجبًا، ومَن قصر عنه كان بخيلًا، وكان للذم مُستوجبًا، وقد رُوي في أثرٍ: "إنَّ الله أقسم بعِزَّته ألا يُجاوره بخيل".
والسَّخاء نوعان: فأشرفهما: سخاؤك عمَّا بيد غيرك، والثاني: سخاؤك ببذل ما في يدك. فقد يكون الرجلُ من أسخى الناس وهو لا يُعطيهم شيئًا؛ لأنه سخا عمَّا في أيديهم. وهذا معنى قول بعضهم: "السَّخاء أن تكون بمالِك مُتبرِّعًا، وعن مال غيرك مُتورِّعًا").

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذا الحديث الصحيح في بيان صفة البخيل والسَّخي، وما جاء في هذا من الآثار كلها تدل على شرعية الجود والكرم والإحسان والبذل والإنفاق في سبيل الله، وعدم الشح والبخل، وأنَّ السَّخي قريبٌ من الله، وقريبٌ من عباده، ومن أهله، ومن الجنة، والبخيل بعيدٌ من الله، ومن أهله، ومن الناس، ومن الجنة.
فالذي ينبغي للمؤمن العناية بهذا الأمر، وأن يُجهز نفسه حتى يُؤدي حقَّ الله وحقَّ عباده، وحتى لا يبخل بما أوجب الله عليه، فالسَّخاء هو: بذل المال في محلّه، وفي جهاته المناسبة، وفي أوقاته المناسبة، هذا هو السَّخاء، أما قول بعضهم: "الجود بذل الموجود" فهذا غلط؛ لأنَّ بذل الموجود يدخل فيه الإسراف والتبذير، وهذا لا يصح، لكن السَّخاء والجود هو: أن يبذل المال في محلِّه: للضيف، للفقير، يُنفق على مَن يستحقّ النفقة، يُنفق في المشاريع الخيرية، يطلب ما عند الله، فهو يبذل المال في المحل المناسب، ولا يُبَذِّر ولا يُسْرِف.
وقد مثَّل النبيُّ ﷺ السَّخي والبخيل برجلين عليهما جبتان أو جُنتان من حديد، فالبخيل جبته ضيقة، قد أمسكت يديه إلى عنقه، كلَّما أراد أن يُخرج يده لم يستطع من شدَّة ما في قلبه من الشحّ والبخل وحب المال، وكأنَّه ممسوكٌ، وكأنَّ عليه أربطة تربطه؛ لضيق نفسه، وحرجه، وعدم انبساطه للبذل، أمَّا السخي: فجبته تتسع، كلما أراد اتسعت، فهذه إشارة إلى ما في قلبه من الخير، كلَّما أراد أن يُنفق انشرح صدره، واتسع قلبه، وفرح بالنفقة، فهو يُوسعها فتتسع، حتى ينشرح لها صدره، وحتى تُعفي أثرَه، وتُغطِّي أقدامه؛ لما في قلبه من الرخاء والمحبة للنفقة والأُنس بها.
فينبغي للمؤمن أن يُعوِّد نفسَه السخاء والجود والإحسان في محله، وأن يحفظ المالَ عن الإسراف والتبذير، فيكون جوادًا بالمال في محل البذل: في الصدقة على الفقراء، في مشاريع الخير، إلى غير هذا من وجوه الخير، ولكن يحفظه عن التبذير، وعن الإسراف والبذل فيما لا يصح، والله يقول: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِه [محمد:38] مضرة عليه.
فالشَّحيح هو الحريص على المال بكل طريقٍ، من حرامٍ وحلالٍ، وإذا أمسكه بخل به، يُقال له: شحيح، حريص على المال، بخيل في إخراجه وتصريفه، فالبخل نتيجة الشح، فهو شحيح قبل وجود المال، حريص على كسب المال بكل طريقٍ من حلالٍ وحرامٍ، ومتى وُجِدَ المالُ بَخِلَ به ولم يُنفقه، قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فمَن وقاه الله شحَّ نفسه فأنفق المال وأخذه من وجهه فقد أفلح.
وكان عبدالرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول في طوافه: "اللهم قني شحَّ نفسي، اللهم قني شحَّ نفسي"، فقال له بعضُ الناس: ألا تدعو بغير هذا؟ قال: "إذا وقاني الله شحَّ نفسي فقد أفلحتُ"، فهذا دعاءٌ مهمٌّ، اللهم قني شحَّ نفسي.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: هل كل مَن يأتيك يسأل تُعطيه؟
ج: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، إلا إذا علمتَ أنه كذَّاب فازجره وانصحه، إذا علمت أنه كذَّاب فهذا يُنصح ويُعَلَّم ويُنكر عليه، أمَّا إذا كان مجهولًا أو تعرف حاجتَه فالسنة أن تُعطيه ما تيسَّر.
 
قال الحافظُ ابنُ القيم رحمه الله تعالى: (وسمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: "أوحى الله تعالى إلى إبراهيم ﷺ: «أتدري لِمَ اتَّخذتُك خليلًا؟ قال: لا، قال: لأني رأيتُ العطاء أحبَّ إليك من الأخذ».
وهذه صفةٌ من صفات الرب جل جلاله، فإنَّه يُعطي ولا يأخذ، ويُطْعِم ولا يُطْعَم، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأحبّ الخلق إليه مَن اتَّصف بصفاته، فإنَّه كريمٌ يُحب الكريم من عباده، وعالِمٌ يُحب العلماء، وقادرٌ يُحب الشُّجعان، وجميلٌ يُحب الجمال.
روى الترمذي في "جامعه" قال: حدَّثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: أخبرنا خالد بن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، قال: سمعتُ سعيد بن المسيب يقول: إنَّ الله طيِّبٌ يُحب الطِّيب، نظيفٌ يُحب النظافة، كريمٌ يُحب الكرم، جوادٌ يُحب الجود. فنظِّفوا أفنيتَكم، ولا تشبَّهوا باليهود، قال: فذكرتُ ذلك لمهاجر بن مسمار فقال: حدَّثنيه عامر بن سعد، عن أبيه ، عن النبي ﷺ مثله، إلا أنَّه قال: فنَظِّفوا أفنيتكم. هذا حديثٌ غريبٌ، خالد بن إلياس يُضعَّف.
وفي الترمذي أيضًا في كتاب "البر" قال: حدثنا الحسن بن عرفة: حدثنا سعيد بن محمد الوراق، عن يحيى بن سعيد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: السَّخي قريبٌ من الله، قريبٌ من الجنة، قريبٌ من الناس، بعيدٌ من النار، والبخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الجنة، بعيدٌ من الناس، قريبٌ من النار، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبّ إلى الله تعالى من عابدٍ بخيلٍ.

الشيخ: أيش قال المُحَشِّي؟
الطالب: يقول: رواه الترمذي في "البر" باب "ما جاء في السخاء"، وسعيد بن محمد الوراق هو ضعيف، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، إلا من حديث سعيد بن محمد، وقد خُولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، إنما يُروَى عن يحيى بن سعيد، عن عائشة مرسلًا. وهو من الأحاديث الضعيفة للألباني رقم (153).
 
وفي الصحيح: إنَّ الله تعالى وِتْرٌ يُحبّ الوترَ.
وهو سبحانه وتعالى رحيمٌ يُحب الرُّحماء، وإنما يرحم من عباده الرُّحماء، وهو سِتِّيرٌ يُحبّ مَن يستر على عباده، وعفوٌّ يُحبّ مَن يعفو عنهم، وغفورٌ يُحبّ مَن يغفر لهم، ولطيفٌ يُحبّ اللطيف من عباده، ويُبْغِض الفَظَّ الغليظَ القاسي الجَعْظَرِيَّ الجوَّاظ، ورفيقٌ يُحب الرفقَ، وحليمٌ يُحب الحلم، وبَرٌّ يُحبّ البر وأهله، وعدلٌ يُحب العدل، وقابل المعاذير يُحبّ مَن يقبل معاذير عباده، ويُجازي عبدَه بحسب هذه الصِّفات فيه وجودًا وعدمًا، فمَن عفا عفا عنه، ومَن غفر غفر له، ومَن سامح سامحه، ومَن حاقق حاققه، ومَن رفق بعباده رفق به، ومَن رحم خلقه رحمه، ومَن أحسن إليهم أحسن إليه، ومَن جاد عليهم جاد عليه، ومَن نفعهم نفعه، ومَن سترهم ستره، ومَن صفح عنهم صفح عنه، ومَن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومَن هتكهم هتكه وفضحه، ومَن منعهم خيره منعه خيره، ومَن شاقّ الله شاقّ اللهُ تعالى به، ومَن مكر مكر به، ومَن خادع خادعه، ومَن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة.
فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبدُ لخلقه، ولهذا جاء في الحديث: مَن ستر مسلمًا ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله تعالى عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسرٍ يسَّر الله تعالى حسابه، ومَن أقال نادمًا أقال الله تعالى عثرتَه، ومَن أنظر مُعسرًا أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظلِّ عرشه؛ لأنَّه لما جعله في ظلِّ الإنظار والصبر، ونجَّاه من حرِّ المطالبة، وحرارة تكلف الأداء مع عُسرته وعجزه؛ نجَّاه الله تعالى من حرِّ الشمس يوم القيامة إلى ظلِّ العرش.
وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنَّه قال في خطبته يومًا: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّه مَن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورتَه، ومَن تتبع الله عورتَه يفضحه ولو في جوف بيته، فكما تدين تُدان، وكُن كيف شئتَ فإنَّ الله تعالى لك كما تكون أنت له ولعباده.
ولما أظهر المنافقون الإسلامَ، وأسرُّوا الكفرَ؛ أظهر الله تعالى لهم يوم القيامة نورًا على الصراط، وأظهر لهم أنهم يجوزون الصراط، وأَسَرَّ لهم أن يُطفئ نورهم، وأن يُحال بينهم وبين الصراط من جنس أعمالهم.
وكذلك مَن يُظهر للخلق خلافَ ما يعلمه الله فيه، فإنَّ الله تعالى يُظهِر له في الدنيا والآخرة أسبابَ الفلاح والنجاح والفوز، ويُبطِن له خلافها.
وفي الحديث: مَن راءَى راءَى الله به، ومَن سمَّع سمَّع الله به.
والمقصود أنَّ الكريم المُتصدِّق يُعطيه الله ما لا يُعطي البخيلَ المُمسكَ، ويُوسِّع عليه في ذاته وخلقه ورزقه ونفسه وأسباب معيشته؛ جزاءً له من جنس عمله).

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذه الآثار والأحاديث كلها تتعلق بالجود والإحسان إلى عباد الله، والرفق بهم، ورحمتهم، والإحسان إليهم، وإقالة عثراتهم، وتيسير أمورهم، كل هذه الأمور شرعها الله لعباده، وجعل المؤمنين يتراحمون ويتعاطفون ويُحسِن بعضُهم إلى بعضٍ.
فالواجب على المؤمن أن يحرص على فعل ما أوجب الله عليه، وترك ما حرَّم الله عليه، وأن يبذل وسعَه في كلِّ ما يُخلِّصه من عذاب الله، ويُباعده من أسباب الهلاك، ويُقرّبه من أسباب النَّجاة والسعادة.
والإنفاقُ في وجوه الخير والإحسانُ إلى عباد الله من أسباب التوفيق، ومن أسباب الرحمة، ومَن أحسن أحسن الله  إليه، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، فالإنسان متى أحسن أحسن اللهُ إليه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
يُروَى أن الله جل وعلا قال لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: لِمَ اتَّخذتُك خليلًا؟، وهذا من الأحاديث القدسية التي تُروى ولا نُلزم بها، لكن من باب العِظَة: حدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرج، قال: لماذا يا رب؟ قال: لأني رأيتُ العطاء أحبّ إليك من الأخذ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان جوادًا كريمًا، يُحبّ الجود والعطاء والإحسان أكثر من الأخذ، فهو يُعطي ولا يأخذ، يُحسِن ويجود، والله هكذا يُطعم عبادَه ويجود عليهم، وهو غنيٌّ عنهم سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في  الدنيا والآخرة، والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، ومَن يسَّر على مُعسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، فكما تدين تُدان.
فينبغي للمؤمن أن يُعوِّد نفسه الخير والرفق والرحمة والحلم والجود والعفو والصَّفح، يرجو بذلك أن الله يعفو عنه، ويحلُم عليه، ويرفق به، ويُحسِن إليه، ويُنجيه من كُربات يوم القيامة، فمتى تظاهر العبدُ بخلاف ذلك رياءً وسمعةً عُوقب بمثل ذلك، أظهر الله له يوم القيامة ما يظنّ به أنه ناجٍ، ثم يُحال بينه وبين النَّجاة جزاءً وفاقًا: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
كما أخبر الله عن المنافقين أنهم يقولون لأهل الإيمان يوم القيامة: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، كانوا معهم في الدنيا بالرِّياء والنِّفاق؛ فلهذا سُلِبوا هذا الشيء يوم القيامة، وحيل بينهم وبين النَّجاة، وسِيقوا إلى النار مع الكفار، نعوذ بالله.
فالمقصود أن الله يُحب مقتضى أسمائه وصفاته، فكما أنَّه رحيم يُحب الرحماء، جوادٌ يُحب الجود والكرم، عالِمٌ يُحب العلماء الصَّادقين المحسنين، حليمٌ يُحب الحُلماء، جميلٌ يُحب الجمال، محسنٌ يُحب المحسنين، رفيقٌ يُحب الرفقَ في الأمر كله، فالمؤمن يتحرَّى مقتضى أسمائه وصفاته حتى يكون كذلك.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: هل الستر على المسلم له ضابط؟
ج: إذا ما أظهر المعصية، أمَّا المجاهر ما له ستر: كلُّ أمتي مُعافًى إلا المجاهرين ما دام تستَّر لا تفضحه.
س: لو أنَّ واحدًا عُرِف عنه الصلاح، ولكن وقع في معصيةٍ، فهل يُستر عليه؟
ج: يُستر عليه، نعم.
س: حديث يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبه صحيح؟
ج: الظاهر أنه لا بأسَ به.
 
قال الحافظُ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في شرح حديث الحارث الأشعري : (وقوله ﷺ: وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى إلى حصنٍ حصينٍ فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرز نفسَه من الشيطان إلا بذكر الله، فلو لم يكن في الذِّكْر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانُه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجًا بذكره، فإنَّه لا يُحرز نفسَه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذُّباب، ولهذا سُمِّي الوسواس الخنَّاس، أي: يُوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس، أي: كفَّ وانقبض، وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما: "الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس".
وفي "مسند الإمام أحمد": عن عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن زياد ابن أبي زيادٍ مولى عبدالله بن عيَّاش بن أبي ربيعة: أنه بلغه عن معاذ بن جبلٍ قال: قال رسولُ الله ﷺ: ما عمل آدميٌّ عملًا قطّ أنجى له من عذاب الله من ذكر الله ، وقال معاذ: قال رسولُ الله ﷺ: ألا أُخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله .
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبلٍ يُقال له: جمدان، فقال: سيروا هذا جمدان، سبق المُفَرِّدون، قيل: وما المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات.
وفي "السنن" عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: ما من قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمارٍ، وكان عليهم حسرة. وفي رواية الترمذي: ما جلس قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يُصلُّوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم.
وفي "صحيح مسلم" عن الأغرّ أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيدٍ أنهما شهدا على رسول الله ﷺ أنه قال: لا يقعد قومٌ في مجلسٍ يذكرون الله فيه إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السَّكينة، وذكرهم الله فيمَن عنده.
وفي الترمذي عن عبدالله بن بُسْرٍ أن رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به، ولا تُكثِر عليَّ فأنسى. وفي روايةٍ: إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، وأنا قد كبرتُ، فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به. قال: لا يزال لسانُك رطبًا بذكر الله تعالى.
وفي الترمذي أيضًا: عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله ﷺ سُئِل: أيُّ العبادِ أفضل وأرفع درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا، قيل: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟! قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دمًا كان الذاكرُ لله تعالى أفضل منه درجةً.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه الأحاديث الكثيرة كلها تتعلَّق بالذكر، والذكر فضله عظيم، والذكر يكون باللسان، ويكون بالقلب، ويكون بالعمل، فالمؤمن يذكر الله بلسانه، ويذكر الله بقلبه، ويذكر الله بعمله.
فأكمل الناس إيمانًا أكثرهم ذكرًا لله بلسانه وقلبه وعمله:
فذكر الله باللسان: بالتسبيح والتحميد والتكبير وغير هذا من أنواع الدعاء والذكر.
وذكر الله بالقلب: توحيده والإخلاص له ومحبته وخوفه ورجاؤه، وأن يكون ذلك على بالك دائمًا في خوفٍ ورجاءٍ وشوقٍ ومحبَّةٍ وتعظيمٍ وإخلاصٍ ورغبةٍ ورهبةٍ، هكذا يكون ذكر القلب.
والعمل: بأداء ما شرع الله من الطاعات، من صلاةٍ وغيرها، فالمصلِّي ذاكرٌ لله، والصَّائم ذاكرٌ لله، والمُزَكِّي كذلك، والحاج، والمجاهد إذا جاهد لله وأخلص لله فهو ذاكرٌ لله.
فينبغي للمؤمن أن يجتهد في الإكثار من ذكر الله قلبًا ولسانًا وعملًا.
وفي حديث معاذ: ما عمل ابنُ آدم عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، وفي الحديث الآخر: ألا أُخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله.
فالمجاهد الغافل ليس له نصيبٌ من هذا، أمَّا المجاهد الذاكر فهو أفضل الناس؛ جمع بين الجهاد والذِّكْر، الذي جاهد لله، وأخلص لله في جهاده؛ فقد جمع بين الجهاد والذكر، وإذا غفل ولهى عن ذكر الله، وصار جهاده ليس عن ذكر الله، بل لأسبابٍ أخرى؛ صار الذاكرُ أفضلَ منه.
وفي الحديث يقول ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قيل: يا رسول الله، ومَن المُفَرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات، يعني: سبقوا إلى كلِّ خيرٍ. رواه مسلمٌ في "الصحيح". سبقوا إلى الجنة، وإلى طاعة الله، وإلى محبَّته.
فينبغي للمؤمن أن يُلاحظ هذا الأمر، وأن يجتهد في أن يكون قلبه ذاكرًا، ولسانه ذاكرًا، وعمله ذاكرًا –جوارحه- والشيطان يُسلَّط على الإنسان من غفلته وإعراضه، فإذا ذكر الله خنس عدو الله وتصاغر وصار كالذُّباب، فإذا غفل عن ذكر الله هجم عليه، ووسوس له، وزيَّن له الباطل، والله يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]، ويقول سبحانه في كتابه العظيم: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ .. إلى أن قال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، يَعْشُ يعني: يغفل ويُعْرِض.
فبنصّ القرآن متى غفل العبدُ عن ذكر الله قُيِّض له الشيطان، فعدو الله جاثمٌ على قلب الإنسان، وكلّ إنسانٍ معه مَلَكٌ ومعه شيطان، فالملك يعده بالخير، ويأمره بالحق، والشيطان بضدِّ ذلك، فإذا غفلت وسوس، وزيَّن الباطلَ، ودعا إلى الباطل، وإذا ذكرتَ الله وأقبلتَ على الخير خنس عدو الله، وسَلِمْتَ من شرِّه، فهو وسواس عند الغفلة، خنَّاسٌ عند الذكر.
فعلى حسب يقظة العبد ونشاطه في الذكر بالقلب واللسان والجوارح تكون سلامته من عدو الله، وعلى حسب غفلته وإعراضه وتشاغُله بالأمور الأخرى يكون تسلّط الشيطان عليه، وتكون كثرة الوساوس.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: هل الأفضل الجهر بالذكر أم الإسرار به؟
ج: يذكر الله ذكرًا يسمعه مَن حوله حتى ينفع نفسه وينفع الناس، إلا في الصلاة، فإذا سلَّم من الصلاة يرفع صوته، كان النبي ﷺ يرفع صوتَه بعد السلام من الصلاة، والصحابة كانوا يرفعون أصواتَهم بعد السلام من الصلاة، أمَّا العادي في بقية الأوقات فيُسمِع نفسه ويُسمِع مَن حوله حتى يُقتدى به، النبي ﷺ كان يذكر الله ويُسمِع الصحابةَ فيقتدون به.
س: حديث الغازي صحيح؟
ج: يعني: مع الغفلة مثلما قال المؤلف، فإذا غفل يكون غازيًا غافلًا يجاهد، ما عنده ذِكْر، أمَّا الغازي المخلِص لله فهو أفضل، جهاده أفضل.
س: هل الحديث ضعيف؟
ج: ما راجعت سنده، ولكن مثلما قال ابن القيم، ولو صحَّ فهو محمولٌ على الغافل الذي لا يذكر الله، يُجاهد لأسبابٍ أخرى غير الإخلاص لله.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فضل الذِّكْر: (وفي "صحيح البخاري" عن أبي موسى ، عن النبي ﷺ قال: مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثل الحي والميت.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبرًا تقربتُ إليه ذرعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذرعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيتُه هرولةً.
وفي الترمذي عن أنسٍ: أن رسول الله ﷺ قال: إذا مررتُم برياض الجنَّة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: حِلَق الذِّكْر.
وفي الترمذي أيضًا: عن النبي ﷺ، عن الله أنه يقول: إنَّ عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قرنه.
وهذا الحديث هو فصل الخطاب في التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فإنَّ الذاكر المُجاهد أفضل من الذاكر بلا جهادٍ والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهادٍ أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى.
فأفضل الذَّاكرين: المجاهدون، وأفضل المجاهدين: الذَّاكرون.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معًا؛ ليكونوا على رجاءٍ من الفلاح، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] أي: كثيرًا، وقال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة؛ لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفةَ عينٍ، فأي لحظةٍ خلا فيها العبدُ عن ذكر الله كانت عليه لا له، وكان خسرانُه فيها أعظمَ مما ربح في غفلته عن الله.
وقال بعضُ العارفين: "لو أقبل عبدٌ على الله تعالى كذا وكذا سنةً، ثم أعرض عنه لحظةً؛ لكان ما فاته أعظم مما حصَّله".
وذكر البيهقي عن عائشة، عن النبي ﷺ أنه قال: ما من ساعةٍ تمرُّ بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا تحسَّر عليها يوم القيامة.
وذكر عن معاذ بن جبلٍ يرفعه أيضًا: ليس تحسّر أهل الجنة إلا على ساعةٍ مرَّت بهم لم يذكروا الله فيها.
وعن أم حبيبة زوج النبي ﷺ قالت: قال رسولُ الله ﷺ: كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا أمرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن منكرٍ، أو ذكرًا لله ).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذه الآيات الكثيرة والأحاديث كلها تتعلق بفضل الذِّكر، وأدلة فضل الذكر كثيرة جدًّا، فجديرٌ بالمؤمن أن يعمر أوقاته بذكر الله قلبًا ولسانًا وعملًا:
فالذكر يكون بالقلب: بالمحبة والخوف والرجاء والشوق إليه سبحانه وتعالى.
ويكون باللسان: بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، وقول: لا إله إلا الله، وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبالدعاء.
ويكون بالعمل الصالح: من صلاةٍ وغيرها، وكل حالةٍ تمر على العبد يخلو فيها من الذكر -لا بقلبه ولا بلسانه ولا بعمله- تكون حسرةً عليه يوم القيامة، يتحسَّر أنها فاتت عليه لغفلته.
ويقول ﷺ: مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحيّ والميت، فرقٌ عظيم، فالذاكر حي، والغافل ميت.
فجديرٌ بالمؤمن الذي يعقل أن يفهم هذا الأمر، وأن يعمر أوقاته بذكر الله: بلسانه، وبقلبه، وبأعماله، أينما كان.
ويقول ﷺ: يقول الله : أنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب مني شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، وإن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً.
وهذا يدل على أنه سبحانه أسرع بالخير وأجود من عبده، وأنَّ العبد متى فعل الخير فالله أجود وأكثر خيرًا منه له، فمتى ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، وذِكْر الله في نفسه فيه فضل عظيم، وإن ذكره في ملإٍ من الناس -في جماعةٍ من الناس- ذكره الله في ملإٍ خيرٍ منهم، ومتى تقرَّب إليه شبرًا -بمقدار شبر- تقرَّب الله منه ذراعًا، وإن تقرَّب ذراعًا تقرَّب الله منه باعًا، وإن أتاه يمشي أتاه هرولةً. فالإشارة في هذا إلى أنه سبحانه أسبق بالخير وأجود.
وهذه الصفات تليق بالله لا يُشابهه فيها خلقه: تقربه ذراعًا وباعًا ويجري هرولة، كل هذه الصفات تليق بالله، وتمر كما جاءت من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، بل يُقال فيها: إن الله جل وعلا يفعل ذلك على الكيفية التي يعلمها سبحانه، كالاستواء والغضب والرضا، نُثبتها لله على الوجه اللائق بالله، من غير كيفٍ، فلا نُكيِّف مجيئه: المشي والهرولة، لا نُكيف ذلك، بل هو على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى، ويرضا على الوجه الذي يعلمه، ويغضب كذلك، ويُحبّ ويُبْغِض، إلى غير ذلك، كلها صفات تليق بالله، لا يُشابهه فيها خلقه سبحانه وتعالى.
وصدق الرسول ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قالوا: ومَن المُفَرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرت، وفي الحديث: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَق الذكر.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على الذكر دائمًا، وأن يكون على استمرارٍ ورغبةٍ.
وهكذا حديث: أفضل عبادي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قرنه يعني: في الجهاد، فالمجاهدون الذاكرون أفضل الناس، والذاكرون الله كثيرًا أفضل من المجاهدين الغافلين.
فالحاصل أن المؤمن ينبغي له أن يعمر أوقاتَه بالذكر القولي والقلبي والعملي، وأن يحذر الغفلة عن الله، حتى ولو كان في حمامٍ يكون قلبه معمورًا بالذكر، في أي مكانٍ، ولسانه معمورًا بالذكر في المكان المناسب، وعمله كذلك –جوارحه- فالإنسان يقضي حاجته وقلبه مع الله، ومحبته والشوق إليه، إلى غير ذلك.
ماذا يقول في حاشية تخريج الحديث؟
الطالب: حديث أم حبيبة: يقول: رواه الترمذي وابن ماجه في "الفتن"، وفي سنده أم صالح بنت صالح، لا يُعرف حالها، ورواه أيضًا الحاكم والبيهقي في "الشعب"، وقال الترمذي: "حديث غريب". وفي بعض النسخ: "حسن غريب".

الأسئلة:

س: بالنسبة للذكر في الحمامات وفي الخلاء يكون بالقلب أم بالقول؟
ج: بالقلب.
س: وبالقول على الكراهة أو على التَّحريم؟
ج: يُكره كراهة تنزيه.
س: والتسمية عند الوضوء؟
ج: إذا دعت الحاجة في الحمام يُسمِّي؛ لأنَّ التسمية واجبة، ما يُخليها من أجل الكراهة.
س: حديث الترمذي: إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِيَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَه؟
ج: يعني: في الجهاد. يقول: "في سنده أم صالح"، وهي غير معروفة، فيحتاج إلى تتبع أسانيده، لكن بكل حالٍ، الجهاد عمل عظيم، فينبغي للمجاهد ألا يشغله الجهاد عن ذكر الله بقلبه ولسانه، ولهذا قال: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال:45] بنص القرآن، فهو يجاهد وهو ذاكرٌ لله .
س: «مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» حديث صحيح؟
ج: معناه صحيح؛ لأن الدين النصيحة.
س: إذا كان الأب لا يقود السيارة، ويقود به ابنه، ويأمره أن يذهب مثلًا لأغراضٍ من بينها: أن يُخفف من لحيته، فهل يجوز أن يقود له ابنُه السيارة؟
ج: الظاهر أنه لا يجوز له، فالمساعدة على حلق اللحية أو قصها، أو يروح به إلى الزنا، أو يروح به إلى السرقة، أو يروح به إلى أمر محرم، كل هذا لا يجوز، إنما الطاعة في المعروف.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فضل الذكر:
(وعن معاذ بن جبلٍ قال: سألتُ رسول الله ﷺ: أيّ الأعمال أحبّ إلى الله ؟ قال: أن تموت ولسانك رطبٌ من ذكر الله .
وقال أبو الدرداء : "لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله ".
وذكر البيهقي مرفوعًا من حديث عبدالله بن عمرو ، عن النبي ﷺ أنه كان يقول: لكل شيء صقالة، وإنَّ صقالة القلوب ذكر الله ، وما من شيءٍ أنجى من عذاب الله من ذكر الله ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع.
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنَّه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك الذكر صَدِئَ، وإذا ذكره جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
فمَن كانت الغفلةُ أغلبَ أوقاته كان الصدأ مُتراكبًا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلبُ لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطلَ في صورة الحق، والحقَّ في صورة الباطل؛ لأنَّه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ وركبه الرَّان فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًّا، ولا يُنكر باطلًا.
وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك في الغفلة واتِّباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب، ويُعميان بصره، قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجلٍ فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟
فإن كان الحاكم عليه هو الهوى، وهو من أهل الغفلة، وأمره فرط؛ لم يقتدِ به، ولم يتبعه؛ فإنه يقوده إلى الهلاك.
ومعنى "الفرط" قد فُسِّر بالتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به وبه رُشده وفلاحه ضائعٌ قد فرَّط فيه، وفُسِّر بالإسراف، أي: قد أفرط، وفُسِّر بالهلاك، وفُسِّر بالخلاف للحقِّ. وكلها أقوالٌ متقاربة.
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة مَن جمع هذه الصِّفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقُدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبتعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكرُ الله تعالى واتِّباع السنة، وأمره غير مفروطٍ عليه، بل هو حازمٌ في أمره؛ فليتمسك بعروته، ولا فرق بين الحيّ والميت إلا بالذكر، فمثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه كمثل الحي والميت.
وفي "المسند" مرفوعًا: أكثروا من ذكر الله تعالى حتى يُقال: مجنون).

الشيخ: أيش قال في الحاشية؟
الطالب: يقول: رواه الإمام أحمد في "المسند"، والحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، وليس كما قال، بل هو ضعيف كما قال الألباني في "الأحاديث الضعيفة"، وسيُورده المصنف من كلام أبي مسلم الخولاني بلفظٍ مُقاربٍ، من حديث الدراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد. والدّراج عن أبي الهيثم ضعيف. انتهى.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
أما بعد: فهذه الآثار والأحاديث كلها تدل على عظم شأن الذكر، وتقدَّم في ذلك أحاديث وآيات، منها قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، وقوله في صفات المؤمنين: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وقال جلَّ وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
وتقدَّمت الأحاديث الصحيحة في ذلك: منها قوله ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قيل: ومَن المُفَرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات.
والمقصود أن الذكر له شأنٌ عظيمٌ، ويكون باللسان: بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والاستغفار، ويكون بالقلب: بمحبة الله وتعظيمه وخوفه ورجائه والشوق إليه، ويكون بالعمل: من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك.
فلا ينبغي أن يكون لسانك خاليًا من ذكر الله، بل ينبغي أن يكون رطبًا من ذكر الله، وهكذا جوارحك.
وهكذا حديث عبدالله بن بسر لما قال رجل: أخبرني بشيء أتمسك به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله».
والله ع يقول: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
فالمؤمن يجتهد في ذكر الله قلبًا ولسانًا وعملًا، فهذه علامات السعادة، وعلامات الهلاك: الغفلة عن الله قولًا وعملًا وعقيدةً، والهوى يهوي بصاحبه إلى النار، قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وقال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:41]، وقال تعالى: مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].
فالواجب على المؤمن أن يُحاسب نفسَه، وأن يُجاهدها حتى يتبع الحق، وينقاد للحق قولًا وعملًا وعقيدةً، ويحذر الهوى والغفلة؛ فإنَّ الغفلة متى رانت على القلوب اسودَّت وقست، وربما ماتت بالكلية، وذلك بالمعاصي والشرور والغفلة عن الله ومجالسة الأشرار، ومع ذكر الله والإكثار من قراءة القرآن والعمل الصالح ومجالسة الأخيار تبيض القلوب وتقوى، وينبت فيها ... على ما هي عليه، على حقائقها، فإذا غلب الهوى وغلبت الغفلة صار أمره فرطًا، وضاعت عليه أمورُ دينه ودنياه- نسأل الله العافية.
نسأل الله للجميع العافية والهداية والسلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الأسئلة:

س: بالنسبة للذكر: هل يحصل له الأجر على مَن ذكر الله وقلبه لاهٍ؟
ج: على حسب حاله، وكلٌّ له حسبه، فإذا اجتمع القلب واللسان تمت المسألة، وإذا كان القلبُ فله نصيبه، وإذا كان اللسان فله نصيبه، وإذا اجتمعت الثلاثةُ: القلب واللسان والجوارح؛ فهذا هو الكمال.
س: بالنسبة للأجر المُترتب؟
ج: كلٌّ على قدر حضور قلبه، وعلى قدر عمله.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد الذكر:
(وفي الذكر نحو من مئة فائدة:
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يُرضي الرحمن .
الثالثة: أنه يُزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرحَ والسرورَ والبسطَ.
الخامسة: أنه يُقوِّي القلب والبدن.
السادسة: أنه يُنَوِّر الوجه والقلب.
السابعة: أنه يجلب الرزقَ.
الثامنة: أنه يكسو الذَّاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
التاسعة: أنه يُورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة.
وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمَن أراد أن ينال محبةَ الله فليلهج بذكره، فإنَّ الدرس والمُذاكرة كما أنه باب العلم، فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم.
العاشرة: أنه يُورثه المُراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان، فيعبد الله كأنَّه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
الحادية عشرة: أنه يُورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله ، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره أورثه ذلك رجوعه بقلبه إليه في كل أحواله، فيبقى الله مفزعه وملجأه، وملاذه ومعاذه، وقبلةَ قلبه، ومهربه عند النوازل والبلايا.
الثانية عشرة: أنه يُورثه القربَ منه، فعلى قدر ذكره لله يكون قربُه منه، وعلى قدر غفلته يكون بُعده منه.
الثالثة عشرة: أنه يفتح له بابًا عظيمًا من أبواب المعرفة، وكلَّما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة.
الرابعة عشرة: أنه يُورثه الهيبةَ لربه وإجلاله؛ لشدّة استيلائه على قلبه وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل؛ فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه).

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه الكلمات كلها تتعلق بفوائد الذكر، والذكر له فوائد كثيرة، ذكر المؤلف رحمه الله أنها أكثر من مئة، وعند التأمل قد تكون مئات، فالذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالعمل، فالله يقول سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فبذكر الله تطمئن القلوب، وترتاح النفوس، وتزول الغفلة، ويحضر القرب، فيكون بذكره لله قريبًا من الله، بعيدًا من الشيطان، قريبًا من الخير، بعيدًا من الشر، وهو من أسباب زوال الهم والكرب والغفلة وظُلمة القلب وران القلب، ومن أسباب قربه من الله، وتلذذه بمناجاته، وخوفه منه، ومحبته له، وأُنسه به سبحانه وتعالى.
ومن أسباب كمال المحبة، وكمال المراقبة، وكمال المعاينة أيضًا، فهو يعبد الله كأنَّه يراه، ولهذا يقول جل وعلا: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، فالغفلة من أسباب تقييض الشيطان، وتسليطه عليه، واليقظة والانتباه والذكر القولي والعملي من أسباب طرد الشيطان.
ولما ذكر أهلَ النار ذكر أنَّهم هم الغافلون، فقال سبحانه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] فالمُعْرِضون عن الله، المشغولون بأهواء أنفسهم هم الغافلون.
ولو لم يكن في الذكر إلا أنه يُقرِّبك من الله، ويُعرِّفك به، ويُحببه إليك، ويُعظِّم خوفه في قلبك، والشوق إليه، والتَّلذذ بمناجاته وطاعته، ويُنجيك من الشيطان؛ لكان هذا كافيًا، فكيف إذا كان له من الفوائد العظيمة ما لا يُحصى؟!
فأكثر من ذكر الله بقلبك، ومن خوفه، ومحبته، والشوق إليه، والتلذذ بمناجاته، واستحضار عظمته، وأنك موقوف بين يديه، وأنك مُلاقيه يوم القيامة، وأنَّك في جواره إذا دخلتَ الجنة، استحضر هذه الأمور فيكون ذلك من أسباب رغبتك في الآخرة، ومن أسباب المبادرة إلى طاعة الله ورسوله، ومن أسباب الإكثار من ذكره باللسان؛ لأنَّ القلب هو الأساس، فكلما عظم ذكر الله في القلب، والشوق إليه، ومحبته، وتعظيمه، والخوف منه؛ كثر أثر ذلك على اللسان والجوارح.
فجديرٌ بالمؤمن أن يهتم بهذا الأمر، وأن يحرص عليه، وفي الحديث الصحيح: «مَن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَن ذكرني في ملإٍ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم، ومَن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، ومَن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، ومَن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً»، فهذا يُبين أن الله أسبق بالخير لك، وأعظم منك في إسداء الخير وتفضله به إليك، إذا أحسنتَ في العمل، واجتهدتَ في العمل، ويقول جل وعلا: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ويقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:57- 60]، قال تعالى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].
فجمع لهم أمرين: جمع لهم ذكر القلب: بخشية الله والإشفاق منه، وجمع لهم أيضًا أنهم يؤدُّون ما يؤدُّون من الأعمال وقلوبهم وجلة، فهم يعملون الطاعات القولية والعملية على وجلٍ وخوفٍ، ويؤمنون بأنهم راجعون إليه، وأنه يُجازيهم بأعمالهم، فمن أجل هذه الأشياء سارعوا إلى الخيرات وسبقوا إليها؛ لما وقع في قلوبهم من المحبة والإيمان والخوف والخشية، سابقوا وسبقوا.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: مَن قال أذكار الصباح والمساء بقلبٍ غافلٍ هل تنفعه؟
ج: على حسب استحضاره يكون أجره، كلما زاد الاستحضارُ كان الأجرُ أكثر.
س: إذا كان للإنسان وردٌ يوميٌّ بعد الفجر وبعد صلاة المغرب من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فهل في ذلك محظورٌ ولو لم يرد؟ يعني: زاد على الوارد من كتاب الله والسنة الصحيحة.
ج: إذا زاد في الأذكار والدعوات فلا بأس، لكن إذا تحرَّى الوارد وأكثر منه يكون أفضل، إلا إذا زاد دعوات من عنده احتاج إليها، أو أتى بكلماتٍ من الذكر ليست منقولةً؛ فلا بأس، مثل: سبحان الله العظيم الجليل القدوس الملك الرحمن، سبحان الله العظيم الشأن، سبحان الله القادر على كل شيء، ولو ما جاء في حديثٍ حتى، فلا بأس، فكله تسبيحٌ وتقديسٌ.
س: وإذا استعمل هذا الورد اليومي رقيةً؛ فنفعت في أمورٍ كثيرةٍ في الشفاء من بعض الأمراض، فهل يأخذ بها وليس عليه محظور؟
ج: ما في بأس، ما في بأس، ما أعلم فيها بأس.
س: هل يُؤخذ بالأحاديث الضَّعيفة في الذِّكْر؟
ج: في الترغيب والترهيب، لكن لا يعتقدها سنة.