10 من قوله: (السادسة والستون: إن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب)

 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(السادسة والستون: أنَّ الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، كما روى حسين المعلم، عن عبدالله بن بريدة، عن عامر الشعبي، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: "أجد في كتاب الله المُنَزَّل أنَّ العبد إذا قال: الحمد لله، قالت الملائكة: ربّ العالمين، وإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قالت الملائكة: اللهم اغفر لعبدك، وإذا قال: سبحان الله، قالت الملائكة: وبحمده، وإذا قال: سبحان الله وبحمده، قالت الملائكة: اللهم اغفر لعبدك، وإذا قال: لا إله إلا الله، قالت الملائكة: والله أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله والله أكبر، قالت الملائكة: اللهم اغفر لعبدك.
السابعة والستون: أنَّ الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمَن يذكر الله عليها.
قال ابنُ مسعود: "إن الجبل ليُنادي الجبلَ باسمه: أمَرَّ بك اليوم أحدٌ يذكر الله ؟ فإذا قال: نعم، استبشر".
قال عون بن عبدالله: "إنَّ البقاع ليُنادي بعضُها بعضًا: يا جارتاه، أمَرَّ بكِ اليوم أحدٌ يذكر الله؟ فقائلة: نعم، وقائلة: لا".
فقال الأعمش: عن مجاهد: "إن الجبل ليُنادي الجبل باسمه: يا فلان، هل مرَّ بك اليوم ذاكرٌ لله ؟ فمن قائل: لا، ومن قائل: نعم".
الثامنة والستون: أن كثرة ذكر الله أمانٌ من النفاق، فإنَّ المنافقين قليلو الذكر لله ، قال الله في المنافقين: وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142].
وقال كعب: "مَن أكثر ذكر الله برئ من النِّفاق".
ولهذا -والله أعلم- ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
فإنَّ في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله فوقعوا في النفاق.
وسُئل بعضُ الصحابة عن الخوارج: منافقون هم؟ قال: "المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلًا".
فهذا من علامة النفاق: قلَّة ذكر الله ، وكثرة ذكره أمانٌ من النفاق، والله أكرم من أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوبٍ غفلت عن ذكر الله ).

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.
أمَّا بعد: فهذه فوائد من فوائد الذكر، كلها تدعو المؤمن إلى أن يشتغل بذكر الله، وأن يكون لسانه رطبًا بذكر الله، كما أمره الله ورغَّبه ، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، ويقول جل وعلا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ إلى أن قال سبحانه في خاتمة صفاتهم العظيمة: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، وقال جل وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
وفي هذه الآثار أن الملائكة تستبشر بالذاكرين، وتدعو الله لهم بالمغفرة، والبقاع يستبشر بعضُها إذا مرَّ عليها مَن يذكر الله جل وعلا.
فينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله ، وفي ذلك أيضًا مخالفة لأهل النِّفاق، وبُعدٌ عن صفاتهم، فإنَّ أهل النفاق أهل غفلةٍ وقلَّة ذكر، كما قال جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، فمن صفاتهم الذَّميمة: قِلَّة ذكرهم لله، وكثرة غفلتهم، فالمؤمن يُخالفهم، فيكون كثير الذكر لله: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، "سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم"، "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير"، يقرأ القرآن، يُكثر من الاستغفار، يكون لسانه رطبًا من ذكر الله، هكذا المؤمن.
وسبق الحديث: يقول ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قالوا: يا رسول الله، ما المُفَرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذَّاكرات، سبقوا يعني: سبقوا إلى كل خيرٍ، سبقوا إلى أسباب النَّجاة والسَّعادة بكثرة ذكرهم لله بالقلب واللسان والعمل.
فالمؤمن ذاكرٌ لله بقلبه، ذاكرٌ لله بلسانه، ذاكرٌ لله بجوارحه، ليس بغافلٍ.
فالمشروع لك أيها المؤمن أن تكون مُتأسِّيًا بإخوانك المؤمنين السَّابقين إلى الخيرات، المسارعين إلى أنواع الفضائل، تتأسَّى بهم في طريقك، في مسجدك، في بيتك، على فراشك، في كلِّ مكانٍ.
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(التاسعة والستون: أنَّ للذكر من بين الأعمال لذَّةً لا يُشبهها شيءٌ، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر والنعيم الذي يحصل لقلبه لكفى به، ولهذا سُميت مجالس الذكر "رياض الجنة".
قال مالك بن دينار: "ما تلذذ المُتلذذون بمثل ذكر الله ".
فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤنةً منه، ولا أعظم لذَّةً، ولا أكثر فرحةً وابتهاجًا للقلب.
السبعون: أنه يكسو الوجهَ نضرةً في الدنيا، ونورًا في الآخرة، فالذاكرون أنضر الناس وجوهًا في الدنيا، وأنورهم في الآخرة، ومن المراسيل عن النبي ﷺ قال: مَن قال كل يوم مئة مرة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، أتى الله يوم القيامة ووجهه أشد بياضًا من القمر ليلة البدر.
الحادية والسبعون: أنَّ في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة، فإنَّ البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ۝ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ۝ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ۝ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:1- 5]، فروى الترمذي في "جامعه" من حديث سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة قال: قرأ رسولُ الله ﷺ هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا، قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ.
والذاكر لله في سائر البقاع يكثر شهوده، ولعلهم أو أكثرهم أن يُقبلوا يوم القيامة، يوم قيام الأشهاد وأداء الشَّهادات؛ فيفرح ويغتبط بشهاداتهم).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: فهذه الفوائد في الذكر تقدَّم الكثير منها فيما تقدَّم، فذكر الله جل وعلا من أهم العبادات وأفضلها، ويكون باللسان، ويكون بالقلب، ويكون بالجوارح، وله من الآثار العظيمة والمصالح الكبيرة ما لا يُحصى، تقدَّم أنَّ مَن ذكر الله ذكره الله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، فذكر الله جل وعلا من أسباب ذكر الله للعبد، ومن أسباب توفيق الله للعبد، فللذكر لذَّةٌ في القلوب لا يُشبهها شيء، تسبيح الله، وتحميده، وذكره، واستغفاره، ودعاؤه، واستحضار عظمته، والتَّلذذ بمناجاته، وهكذا بقية العبادات البدنية من صلاةٍ وغيرها، كلها لها آثارٌ عظيمةٌ في القلب إذا أخلصها العبدُ لله، وصدرت عن رغبةٍ، وعن إخلاصٍ، فلها من الآثار العظيمة في اللذة والسُّرور والبهجة والحبرة ما لا يُشبهه شيء.
ثم العبد بإكثاره من ذكر الله تشهد له البقاع بما شهد عليها، وما قال عليها، كما في قوله جل وعلا: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]، ويذكره الله فيمَن عنده في الملإ الأعلى.
فينبغي للمؤمن أن يُكثر من ذكر الله: كالتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، كذلك الإكثار من قول "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" مئة مرة، لها فضل عظيم، وتقدَّم قوله ﷺ في الحديث الصحيح في "الصحيحين": مَن قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في اليوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقابٍ، وكتب الله له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر من عمله.
ويقول عليه الصلاة والسلام: أحبُّ الكلام إلى الله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذه الكلمات الأربع أحب الكلام إلى الله جل وعلا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهي الباقيات الصالحات مع قول "لا حول ولا قوة إلا بالله"، يقول ﷺ: الباقيات الصَّالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله يعني: من الباقيات الصَّالحات، فالأعمال الصالحة كلها من الباقيات الصَّالحات، وهذا الذكر من الباقيات الصالحات.
كما أنَّ ذكر الله يُشجِّع العبدَ على أعمال الخير، فيُشجعه على الصَّدقة، وعلى كثرة العبادة العملية من صلاةٍ، وصومٍ، وعيادة مريضٍ، وحضور مجالس العلم، إلى غير ذلك، فالإكثار من الذكر يُشجِّع على كل خيرٍ، فهو يُذكِّر بالله، وبحقِّه، وبالأعمال التي تُرضيه، فيكون صاحبُ الذكر المكثر منه في غايةٍ من القوة والنشاط في بقية أعماله الصَّالحات.
نسأل الله للجميع التوفيقَ والهداية.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(الثانية والسبعون: أنَّ في الاشتغال بالذكر اشتغالًا عن الكلام الباطل، من: الغيبة، والنميمة، واللغو، ومدح الناس وذمّهم، وغير ذلك، فإنَّ اللسان لا يسكت البتة: فإمَّا لسانٌ ذاكرٌ، وإمَّا لسانٌ لاغٍ، ولا بدَّ من أحدهما، فهي النفس إن لم تشغلها بالحقِّ شغلتك بالباطل، وهو القلب إن لم تسكنه محبةُ الله سكنته محبةُ المخلوقين ولا بدَّ، وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو، وهو عليك ولا بدَّ، فاختر لنفسك إحدى الخُطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين.
الثالثة والسبعون: وهي التي بدأنا بذكرها، وأشرنا إليها إشارةً، فنذكرها هاهنا مبسوطةً؛ لعظيم الفائدة بها، وحاجة كلِّ أحدٍ -بل ضرورته- إليها، وهي: أن الشياطين قد احتوشت العبدَ، وهم أعداؤه، فما ظنُّك برجلٍ قد احتوشه أعداؤه المُحنقون عليه غيظًا وأحاطوا به، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى، ولا سبيلَ إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله ؟
وفي هذا الحديث العظيم الشريف القدر الذي ينبغي لكل مسلمٍ أن يحفظه، فنذكره بطوله لعموم فائدته وحاجة الخلق إليه، وهو حديث سعيد بن المسيب، عن عبدالرحمن بن سمرة بن حبيبٍ قال: خرج علينا رسولُ الله ﷺ يومًا، وكنا في صُفَّةٍ بالمدينة، فقام علينا وقال: إني رأيتُ البارحة عجبًا: رأيتُ رجلًا من أمتي أتاه ملكُ الموت ليقبض روحَه، فجاءه برُّه بوالدته فردَّ ملكَ الموت عنه. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد بُسط عليه عذابُ القبر، فجاءه وضوؤه واستنقذه من ذلك. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد احتوشته الشياطينُ، فجاءه ذكرُ الله فطرد الشيطانَ عنه. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد احتوشته ملائكةُ العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيتُ رجلًا من أمتي يلتهب -وفي روايةٍ: يلهث- عطشًا، كلما دنا من حوضٍ مُنع وطُرد، فجاءه صيامُ شهر رمضان فأسقاه وأرواه. ورأيتُ رجلًا من أمتي ورأيتُ النبيين جلوسًا حِلَقًا حِلَقًا، كلما دنا إلى حلقةٍ طُرد، فجاءه غسلُه من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي. ورأيتُ رجلًا من أمتي بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن يساره ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، فهو مُتحيِّرٌ فيها، فجاءه حجُّه وعمرتُه فاستخرجاه من الظُّلمة وأدخلاه في النور. ورأيتُ رجلًا من أمتي يتَّقي بيده وهج النار وشرره، فجاءته صدقته فصارت سترةً بينه وبين النار وظلَّلت على رأسه. ورأيتُ رجلًا من أمتي يُكلِّم المؤمنين ولا يُكلِّمونه، فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المسلمين، إنَّه كان وصولًا لرحمه فكلِّموه، فكلَّمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد احتوشته الزَّبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة. ورأيتُ رجلًا من أمتي جاثيًا على ركبتيه، وبينه وبين الله حجاب، فجاءه حُسنُ خلقه فأخذه بيده فأدخله على الله . ورأيتُ رجلًا من أمتي قد ذهبت صحيفتُه من قِبَل شماله، فجاءه خوفُه من الله فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه. ورأيتُ رجلًا من أمتي خفَّ ميزانه، فجاءه أفراطُه فثقَّلوا ميزانه. ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه في الله فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد أهوى في النار، فجاءته دمعتُه التي بكى من خشية الله فاستنقذته من ذلك. ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على الصراط يرعد كما ترعد السّعفة في ريحٍ عاصفٍ، فجاءه حسنُ ظنه بالله فسكَّن رعدته ومضى. ورأيتُ رجلًا من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا ويتعلَّق أحيانًا، فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته. ورأيتُ رجلًا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغُلِّقت الأبوابُ دونه، فجاءته شهادةُ أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبوابَ وأدخلته الجنة».
رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الترغيب في الخِصال المُنجية والترهيب من الخِلال المُردية"، وبنى كتابه عليه، وجعله شرحًا له، وقال: هذا حديث حسن جدًّا، رواه عن سعيد بن المسيب عمرُ بن ذرٍّ، وعلي بن زيد بن جدعان، وهلال أبو جبلة.
وكان شيخُ الإسلام ابنُ تيمية قدَّس الله روحه يُعظِّم شأنَ هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: "شواهد الصحة عليه".
والمقصود منه قوله ﷺ: ورأيتُ رجلًا من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكرُ الله فطرد الشيطانَ عنه، فهذا مطابقٌ لحديث الحارث الأشعري الذي شرحناه في هذه الرسالة، وقوله فيه: وآمركم بذكر الله ، وإنَّ مثل ذلك كمثل رجلٍ طلبه العدو، فانطلقوا في طلبه سراعًا، وانطلق، حتى أتى حصنًا حصينًا فأحرز نفسَه فيه، فكذلك الشيطان لا يُحرز العبادُ أنفسَهم منه إلا بذكر الله .
وفي الترمذي: عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن قال –يعني: إذا خرج من بيته- بسم الله، توكلتُ على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال له: كُفِيتَ وهُدِيتَ ووُقِيتَ، وتنحَّى عنه الشيطان، فيقول لشيطانٍ آخر: كيف لك برجلٍ قد هُدِيَ وكُفِيَ ووُقِيَ؟، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداه.
أمَّا بعد: هذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث الدالة على فضل ذكر الله، كلها تُوجب للمؤمن العناية بهذا الأمر، وأن يعلم أنَّ كل طاعةٍ لله وكلَّ قُربةٍ لله تُعيذه من النار ومن الشياطين، وتُقرِّبه من الجنة ومن الرحمن .
ومن أعظم فوائد الذكر: أنها تشغل لسانَك وجوارحك عمَّا يضرك، فإنَّ اللسان كثير الحركة، فإذا لم تشغله بذكر الله والاستغفار والدعاء وقع في أمرٍ آخر من الباطل: كالغيبة، أو النميمة، أو السّب، أو غير هذا من الباطل.
فمن فوائد الذكر: أنَّك تشغل هذا اللسان عمَّا لا ينبغي، فتكسب حسنات، وتُكفِّر سيئات، أمَّا إن غفلت وتركت ولم تتكلم فلا لك ولا عليك، لكن في الغالب هذا اللسان لا يسكت، بل يتكلم ويتحرَّك.
فاشتغل بذكر الله حتى تمتنع من الكلام الذي يضرّك، فمَن شغله ذكرُ الله عن بقية الأشياء الضَّارة وعن المكروهة وعن المباحة التي تشغله بدون فائدةٍ أفلح كل الفلاح، ولهذا يقول في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ۝ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41، 42]، ويقول النبيُّ ﷺ: سبق المُفَرِّدون، قيل: يا رسول الله، ما المُفَرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات، رواه مسلم في "الصحيح".
ومن فوائد الذكر: أنه يطرد الشياطين، والشياطين محتوشة بابن آدم ومحيطة به، ومعه شيطانٌ أيضًا قرينٌ له، فهذا الذكر يطرد عنك الشيطان، ويكفيك شرَّه، كما قال الله : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، فدلَّ على أن مَن لم يغفل يُكفَى هذا الشيطان، ويُحال بينه وبينه، ومَن غفل هجم عليه عدوُّ الله، فالعناية بذكر الله تطرد عنك الشياطين.
ومن هذا حديث عبدالرحمن بن سمرة الطويل العظيم، ففيه أنَّ العبد تحتوشه الشياطينُ، وتحرص على إضلاله، ومن أعظم أسباب نجاته: الإكثار من ذكر الله، ولهذا رأى النبيُّ ﷺ في النوم هذا الرجل الذي احتوشته الشياطين، فجاءه ذكرُ الله فطردها عنه، فدلَّ على أنَّ ذكر الله يطرد الشياطين: كالتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، وهكذا الأعمال الصَّالحات: الصلاة، والصوم، والصَّدقات، من أسباب العافية، فالصدقة لها شأنٌ، والصوم له شأنٌ، وبرّ الوالدين والوضوء الشَّرعي والغُسل من الجنابة وصيام رمضان، والإكثار من الصلاة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى غير هذا من وجوه الخير، كلها من أسباب وقاية عذاب الله، ومن أسباب سلامته من شرِّ أعداء الله، شياطين الإنس والجن.
وبرّ الوالدين والإحسان إليهما من أعظم الأسباب في طول العمر في خيرٍ وعافيةٍ وعملٍ صالحٍ.
فجديرٌ بالمؤمن وينبغي له أن تكون أوقاتُه مشغولةً بذكر الله: بالتسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، والدعاء، وبالأعمال الصَّالحات من: صلاةٍ، وصومٍ، وصدقاتٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، ودعوةٍ إلى الله، وعيادة مريضٍ، واتِّباع جنازةٍ، إلى غير هذا من وجوه الخير، فيحرص على أسباب الخير، وعلى أعمال الخير، حتى يصون جوارحه ولسانه عمَّا يضره، وحتى يُبعِد شياطين الإنس والجن عنه، فكلما زاد من العمل الصالح والذكر ابتعد عنه أعداء الله من شياطين الإنس والجن، وكلما غفل سُلِّط عليه أولئك الأعداء بحسب غفلته وإعراضه وتساهله.
وفَّق الله الجميع.

الأسئلة:

س: صحة الحديث؟
ج: ذكر بعض سنده رحمه الله، لكن أبا موسى المديني قوَّاه في كتابه "الترغيب والترهيب"، والشيخ تقي الدين قوَّاه، وشواهده كثيرة من الأعمال الصَّالحات القولية والفعلية، وأنَّه من أسباب حفظ الله للعبد من جميع الآفات، وحفظه من الشيطان، فالخوف من الله، وحسن الظن به، والعناية بالصلاة، والصوم، والصَّدقة، كل هذه الأعمال الصَّالحات، وكلما زاد فيها جدًّا ونشاطًا ومحبةً زاد قربُه من الله، وبُعده من الشياطين -شياطين الإنس والجن- نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
س: بالنسبة للقرين، إذا اتقى الإنسانُ اللهَ ، وذكر الله كثيرًا، هل يمكن أن يُسلم القرين؟
ج: الله أعلم.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(وقد تقدَّم قوله ﷺ: مَن قال في يومٍ مئة مرة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، كانت له حرزًا من الشيطان حتى يُمسي.
وذكر سفيان، عن أبي الزبير، عن عبدالله بن ضمرة، عن كعبٍ قال: "إذا خرج الرجلُ من بيته فقال: بسم الله، قال المَلَكُ: هُديتَ، وإذا قال: توكلتُ على الله، قال المَلَكُ: كُفيتَ، وإذا قال: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، قال المَلَكُ: حُفِظْتَ، فيقول الشياطين بعضُهم لبعضٍ: ارجعوا، ليس لكم عليه سبيل، كيف لكم بمَن كُفِيَ وهُدِيَ وحُفِظَ؟!".
وقال أبو خلاد المصري: "مَن دخل في الإسلام دخل في حصنٍ، ومَن دخل المسجدَ فقد دخل في حصنين، ومَن جلس في حلقةٍ يُذكَر الله فيها فقد دخل في ثلاثة حصونٍ".
وقد روى الحافظُ أبو موسى في كتابه من حديث أبي عمران الجوني، عن أنسٍ ، عن النبي ﷺ قال: إذا وضع العبدُ جنبَه على فراشه فقال: بسم الله، وقرأ فاتحة الكتاب؛ أَمِنَ من شرِّ الجن والإنس، ومن شرِّ كل شيءٍ.
وفي "صحيح البخاري" عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: ولاني رسولُ الله ﷺ زكاةَ رمضان أن أحتفظ بها، فأتاني آتٍ فجعل يحثو الطعامَ، فأخذتُه، فقال: دعني فإني لا أعود .. فذكر الحديث، وقال: فقال له في الثالثة: أُعلِّمك كلماتٍ ينفعك الله بهنَّ: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنَّه لا يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربُك شيطانٌ حتى تُصبِح، فخلَّى سبيله، فأصبح فأخبر النبيَّ ﷺ بقوله، فقال: صدقَك وهو كذوبٌ.
وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا أوى الإنسانُ إلى فراشه ابتدره مَلَكٌ وشيطانٌ، فيقول المَلَكُ: اختم بخيرٍ، ويقول الشيطانُ: اختم بشرٍّ، فإذا ذكر الله تعالى حتى يغلبه –يعني: النوم- طرد المَلَكُ الشيطانَ وبات يَكْلَؤُه، فإذا استيقظ ابتدره مَلَكٌ وشيطانٌ، فيقول الملكُ: افتح بخيرٍ، ويقول الشيطانُ: افتح بشرٍّ، فإن قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعد موتها ولم يُمتها في منامها، الحمد لله الذي يُمسك التي قضى عليها الموت ويُرسِل الأخرى إلى أجلٍ مسمَّى، الحمد لله الذي يُمسِك السَّماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده، الحمد لله الذي يُمسِك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، طرد المَلَكُ الشيطانَ وظلَّ يكلؤه.
وفي "الصحيحين" من حديث سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: أما لو أنَّ أحدَكم إذا أتى أهلَه قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطانَ وجنب الشيطانَ ما رزقتنا، فيُولد بينهما ولد، لا يضره شيطانٌ أبدًا).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذه الأحاديث والآثار فيما يتعلَّق بفضل الذكر، والتعوذ بالله، والعناية بذكر الله، وأنَّ ذلك من أسباب السلامة من الشيطان، فذكر الله جل وعلا يطرد اللهُ به الشيطانَ، كما قال جل وعلا: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، فدلَّ على أنَّ العبد إذا غفل عن ذكر الله هجم عليه عدو الله، وما دام يشتغل بذكر الله فإنَّ الله يحميه من مكائد عدوه، والأحاديث الصَّحيحة في هذا كافية.
والمؤلف قد يذكر بعضَ الأحاديث الضعيفة، وكان الأولى به رحمه الله أن يقتصر على الأحاديث الصَّحيحة، ففيها الكفاية.
فالسنة للمؤمن إذا أوى إلى فراشه أن يقول: "بسم الله"، "باسمك ربي أحيا وأموت"، "باسم الله أموت وأحيا"، كما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصَّالحين، ويُسبِّح الله ثلاثًا وثلاثين، ويحمد الله ثلاثًا وثلاثين، ويُكبِّر الله أربعًا وثلاثين، كما علَّم النبيُّ ﷺ عليًّا وفاطمة عند النوم، ويقرأ آية الكرسي كما في هذا الحديث، وأنه لا يزال معه من الله حافظٌ، ولا يقربه شيطانٌ حتى يُصبِح، ويُستحبّ له مع هذا أن يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين ثلاث مراتٍ عند النوم.
كل هذه أمور ثابتة تُغني عن الآثار الضَّعيفة، أمَّا قراءة "الحمد" فلم يثبت فيها شيءٌ عند النوم، بل هو حديث ضعيف، وعند استيقاظه يذكر الله ويقول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو على كل شيءٍ قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، هكذا علَّم النبيُّ ﷺ مَن تعارَّ من النوم أن يقول هذا، وأنه متى قال ذلك إن دعا استُجِيب له، وإن صلَّى قُبِلَتْ صلاته.
فالمؤمن يتحرَّى هذه الأذكار، ويقول: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، الحمد لله الذي ردَّ عليَّ روحي، وعافاني في جسدي، وأَذِنَ لي بذكره".
والمقصود أن الأحاديث الصَّحيحة كافية في هذا، وإذا قال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" مئة مرةٍ في اليوم كانت له عدل عشر رقابٍ يُعتقها، وكتب الله له مئة حسنةٍ، ومحا عنه مئة سيئةٍ، وكان في حرزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثرَ من عمله، فهذا فضلٌ عظيمٌ.
وفي قصة أبي هريرة مع الشيطان دلالة على أن الشياطين قد يظهرون ويتمثَّلون بالإنس، فالشيطان جاء أبا هريرة، وأبو هريرة مُوكَّلٌ على صدقة زكاة الفطر، فكان يأتي إليه ﷺ جمعٌ من الصَّدقات، تُجمَع ثم يُوزِّعها النبي ﷺ على الفقراء، فوكَّل أبا هريرة عند جمعها، فجاء شيطانٌ يحثو من الطعام، فأمسكه أبو هريرة، وكأنه جاء في صورة إنسانٍ؛ لأنَّ أبا هريرة أمسكه على أنه إنسانٌ جاء يسرق من الطعام، فقال: دعني، أنا ذو عيالٍ، ذو حاجةٍ، فرحمه أبو هريرة وتركه، فلما أصبح وأتى النبيَّ ﷺ قال له: ما فعل أسيرُك يا أبا هريرة؟ قال: زعم أنَّ له عيالًا، وأنه ذو حاجةٍ، فرحمتُه وأطلقته! قال: كذب وسيعود، فعرف أبو هريرة أنه سيعود؛ فجعل يرصده، فجاء ثانيةً ليأخذ من الطعام، فأمسكه، فقال: دعني، أنا ذو عيالٍ، وأنا فقير، وأنا كذا، لا أعود، فرحمه أبو هريرة فأطلقه، فلمَّا أصبح أتى النبيَّ ﷺ فقال له: ما فعل أسيرُك؟ قال: قال: كذا وكذا، قال: كذب وسيعود، فعاد الثالثة، فأمسكه، فقال: دعني أُعلِّمك كلماتٍ إذا قلتها يحفظك الله، تقرأ آيةَ الكرسي عند النوم: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إلى آخرها -هذا يقوله الشيطان لأبي هريرة- إلى قوله: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، فإنَّك إذا قلتها لا يزال معك من الله حافظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تُصبح. فلما قال لأبي هريرة هذا أطلقه، فلمَّا أصبح أخبر النبيَّ ﷺ، فقال له النبيُّ: صدقك وهو كذوب، يعني: صدقك في هذا الكلام، فهو كلام صحيح، لكن الشيطانَ من طبيعته الكذب، لكن لمصلحته أتى بهذا الحقِّ.
فهذا يُفيد أن الشيطان قد يقول الحقَّ لمصلحةٍ يريدها، وهو كذَّابٌ داعٍ إلى الباطل، كما فعل هذا الشيطان مع أبي هريرة، حيث أخبره بآية الكرسي، وأنَّ الإنسان إذا قرأها عند النوم لا يزال معه من الله حافظٌ، ولا يقربه شيطانٌ حتى يُصبح، فقال له النبيُّ ﷺ: صدقك وهو كذوب.
وفي هذا من الفوائد: أن الإنسان يحرص على الفائدة، فأبو هريرة حرص على الفائدة، وفعل ما فعل من أجل الفائدة.
وفيه: أن الحقَّ يُقْبَل ممن جاء به، وإن كان الذي جاء به ليس بصاحب حقٍّ، لكن الحقَّ مقبولٌ.
وفيه من الفوائد: أنَّ الجنيَّ قد يتمثَّل بالإنسي، وقد يراه الإنسي، وقوله جل وعلا: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] يعني: هذا هو الغالب، ولكن قد يتراءى الجنيُّ، وقد يتصور بصورة إنسانٍ، كما تصوَّر في عهد النبيِّ ﷺ لما أتى قريشًا وقال لهم: "افعلوا كذا، وافعلوا كذا" في قتل النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وكما جرى يوم بدرٍ؛ حيث جاءهم في صورة سُراقة وقال: "افعلوا، وافعلوا" وأوصاهم.
فالشياطين قد تتمثل بالإنس، وتبرز ويراها الناس على أنها إنسي، وهو شيطان؛ ليضل الناس، إمَّا بدعوته إلى باطل، وإمَّا بتثبيطٍ عن حقٍّ، وهذا يقع كثيرًا في كل زمانٍ، وفي كل مكانٍ.
فليحرص الإنسانُ على البُعد عن شرِّ شياطين الإنس والجن، فشياطين الإنس قد يضرون ويُؤذون بمشورتهم، وبما يُدْلُون به، وبما يتكلَّمون به، وهكذا شياطين الجنّ كذلك، ولهذا قال جل وعلا: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
المقصود أن يحذر الإنسانُ من شياطين الإنس وشياطين الجن.
والشيطان هو المتمرد، فشيطان كل قومٍ -كل جنس- هو المتمرد منهم -الخبيث منهم- يُقال له: شيطان إذا تعدَّى طوره، وصار يُؤذي، فشياطين الإنس مردتهم، وشياطين الجن مردتهم، وشياطين الكلاب خُبثاؤها وأسودها، وهكذا. نسأل الله السلامة.
وفَّق الله الجميع.
 
قال الحافظ ابنُ القيم رحمه الله تعالى في فوائد ذكر الله تعالى:
(وذكر الحافظُ أبو موسى: عن الحسن بن عليٍّ قال: "أنا ضامنٌ لمَن قرأ هذه العشرين آية أن يعصمه اللهُ تعالى من كلِّ شيطانٍ ظالم، ومن كل شيطانٍ مريد، ومن كل سَبُعٍ ضارٍ، ومن كل لصٍّ عادٍ: آية الكرسي، وثلاث آياتٍ من الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف:54]، وعشرًا من الصَّافات، وثلاث آياتٍ من الرحمن: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الرحمن:33]، وخاتمة سورة الحشر: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [الحشر:21]".
وقال محمد بن أبان: "بينما رجلٌ يُصلي في المسجد إذا هو بشيءٍ إلى جنبه، فجفل منه، فقال: ليس عليك مني بأس، إنَّما جئتُك في الله تعالى، ائتِ عروةَ فسله: ما الذي يتعوَّذ به؟ يعني: من إبليس الأباليس. قال: قل: آمنتُ بالله العظيم وحده، وكفرتُ بالجبت والطَّاغوت، واعتصمتُ بالعروة الوثقى لا انفصامَ لها، والله سميع عليم، حسبي الله وكفى، سمع الله لمَن دعا، ليس وراء الله مُنتهى".
وقال بشر بن منصور: عن وهيب بن الورد قال: "خرج رجلٌ إلى الجبَّانة بعد ساعةٍ من الليل، قال: فسمعتُ حسًّا أو أصواتًا شديدةً، وجيء بسريرٍ حتى وُضِع، وجاء شيءٌ حتى جلس عليه. قال: واجتمعت إليه جنودُه، ثم صرخ فقال: مَن لي بعروة بن الزبير؟ فلم يُجبه أحدٌ حتى تتابع ما شاء الله من الأصوات، فقال واحدٌ: أنا أكفيكه، قال: فتوجَّه نحو المدينة وأنا ناظرٌ، ثم أوشك الرجعة، فقال: لا سبيلَ إلى عروة، قال: ويلك لِمَ؟ قال: وجدتُه يقول كلماتٍ إذا أصبح وإذا أمسى، فلا نخلص إليه معهن. قال الرجل: فلمَّا أصبحتُ قلتُ لأهلي: جهِّزوني، فأتيتُ المدينة، فسألتُ عنه حتى دُلِلْتُ عليه، فإذا شيخ كبير، فقلت: أشيئًا تقوله إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ؟ فأبى أن يُخبرني، فأخبرتُه بما رأيتُ وما سمعتُ، فقال: ما أدري، غير أني أقول إذا أصبحتُ: آمنتُ بالله العظيم، وكفرتُ بالجبت والطَّاغوت، واستمسكتُ بالعروة الوثقى التي لا انفصامَ لها، والله سميع عليم. إذا أصبحتُ قلتُ ثلاث مرات، وإذا أمسيتُ قلتُ ثلاث مرات".
وذكر أبو موسى: عن مسلم البطين قال: قال جبريلُ للنبي ﷺ: إنَّ عفريتًا من الجن يكيدك، فإذا أويتَ إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامَّات التي لا يُجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجرٌ من شرِّ ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شرِّ ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شرِّ فِتَن الليل والنهار، ومن شرِّ طوارق الليل والنهار، إلا طارقًا يطرق بخيرٍ يا رحمن.
وقد ثبت في "الصحيحين" أنَّ الشيطان يهرب من الأذان، قال سهل بن أبي صالح: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام –أو: صاحب- لنا، فنادى منادٍ من حائطٍ باسمه، فأشرف الذي معي على الحائط فلم يرَ شيئًا، فذكرتُ ذلك لأبي، فقال: لو شعرتُ أنك تلقى هذا لم أُرسلك، ولكن إذا سمعتَ صوتًا فنادِ بالصلاة، فإني سمعتُ أبا هريرة يُحدِّث عن رسول الله ﷺ أنه قال: إنَّ الشيطان إذا نُودي بالصلاة ولَّى وله حصاص، وفي روايةٍ: إذا سمع النِّداءَ ولَّى وله ضراط، حتى لا يسمع التَّأذين الحديث).

الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعد: فهذه الآثار التي جاءت عن بعض السلف في بعض الدَّعوات أو بعض الأذكار وما جاء عن النبيِّ ﷺ في ذلك كلها تدل على أنها تطرد الشيطان، وأنَّ العبد إذا شغل نفسَه بذكر الله كان هذا من أسباب إبعاد الله له من الشيطان، وعصمة الله له من الشيطان.
وفيما صحَّ عن النبيِّ ﷺ ودلَّ عليه القرآنُ كفاية عن غير ذلك، فكلام السلف ليس بحجةٍ في هذه المسائل، وإنما الحجَّة قال الله وقال الرسول، فالمؤمن يتحرَّى ما قاله الله ورسوله، ويستمسك بذلك، ومن ذلك: الإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن، فإنَّ هذه من أسباب صلاح القلوب، ومن أسباب السلامة من أعداء الله من شياطين الإنس والجن: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] هكذا يقول الرب جل وعلا.
فالمؤمن يحرص على شغل قلبه ولسانه وجوارحه بذكر الله، هذا هو طريق النَّجاة، فمَن اتَّبع هدى الله نجا وسلم، ومَن تمسَّك بسنة الرسول ﷺ أفلح.
فينبغي للمؤمن دائمًا أن يكون مشغولَ القلب واللسان والجوارح بذكر الله، وطاعة الله، والاستقامة على أمر الله، والبُعد عن محارم الله، فهذا هو طريق النجاة، وطريق السلامة في الدنيا والآخرة.
والذكر هو طريق العافية من شرِّ الشياطين، وهكذا التَّعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق تكفي عمَّا ذُكر عن عروةَ وعن غير عروة، يقول النبيُّ ﷺ: مَن نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التَّامَّات من شرِّ ما خلق، لم يضرّه شيءٌ حتى يرتحلَ من منزله ذلك، وأمر مَن خاف الشياطين أن يتعوَّذ بكلمات الله، يقول: أعوذ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شرِّ ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شرِّ ما يَلِجُ في الأرض وما يخرج منها، ومن شرِّ فتن الليل والنهار، ومن شرِّ كل طارقٍ، إلا طارقًا يطرق بخيرٍ يا رحمن.
فالمقصود أن التعوذ بكلمات الله التَّامات كافٍ شافٍ، مع الإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن في ليلك ونهارك، في السفر والإقامة، في المنزل، في الطريق، في البر، في البحر، في الطائرة، في أي مكانٍ.
فعلى الإنسان أن يُكثر من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، ويستعمل الأذكار الشَّرعية، فهذا هو طريق النَّجاة في الدنيا والآخرة، وطريق العافية من شرِّ شياطين الإنس والجن، ومن ذلك آية الكرسي: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] بعد كل فريضةٍ، وعند النوم، كذلك قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين، كما صحَّ عن النبي ﷺ، يقرأها ثلاث مراتٍ عند النوم، وصباحًا، ومساءً، فيقرأها بعد الفجر، وبعد المغرب، كل هذه من أسباب العافية من كل سوءٍ.
رزق الله الجميعَ التوفيقَ والهدايةَ، وأعاذنا وإيَّاكم من شرِّ شياطين الإنس والجنِّ جميعًا.